تنامي القوة الاقتصادية للصين


فهد المضحكي
2024 / 6 / 8 - 13:49     

على مدى أكثر من عقدين من الزمن، أثار الأداء الاقتصادي الصيني إعجاب جزء كبير من العالم وقلقه، بما في ذلك الولايات المتحدة، أكبر شريك اقتصادي تجاري للبلاد. ولكن منذ عام 2019، دفع النمو الصيني المتباطئ عديدًا من المراقبين إلى استنتاج مفاده: بأن الصين بلغت بالفعل الذروة كقوة اقتصادية. وقال الرئيس جو بايدن ذلك في خطابه حالة الاتحاد الذي ألقاه في مارس الماضى: «لقد سمعت على مر سنوات عديدة من أصدقائي الجمهوريين والديمقراطيين يقولون إن الصين آخذة في الصعود، وإن أمريكا تتخلف عن الركب، لقد فهموا الأمر بطريقة خاطئة».

تلك المقدمة أشار إليها الخبير الاقتصادي الأمريكي نيكولاس آر لاردي في بداية تحليله المُترجم من قبل مجلة فورين أفيرز الأمريكية، نُشر على موقع «INDEPENDENT» عربية، وهو تحليل موضوعي، يرسم لنا صورة واضحة عن تنامي قوة الصين تنمويًا، في السنوات الأخيرة. ويطرح سؤالًا على درجة كبيرة من الأهمية، وهو لماذا تقدمت الصين اقتصاديًا وتنمويًا؟

يعطي لاردي اهتمامًا لهذا السؤال، وفي التحليل يقول: يستند أولئك الذين يشككون في استمرار صعود الصين إلى ضعف الإنفاق الأسري في الولايات المتحدة، وتراجع الاستثمارات الخاصة، والانكماش الاقتصادي الراسخ. وهم يزعمون أنه قبل أن يتسنى للصين التقدم اقتصاديًا على الولايات المتحدة، ستدخل على الأرجح في ركود طويل، قد يستغرق عقدًا كاملًا من الزمن.

لكن هذه النظرة المستخفة بالبلاد تقلل من قدرة اقتصادها على الصمود. صحيح أن الصين تواجه عديدًا من الرياح المعاكسة المؤكدة، بما في ذلك ركود سوق الإسكان، والقيود التي تفرضها الولايات المتحدة على القدرة على الوصول إلى بعض التكنولوجيا المتقدمة، لكن الصين تغلبت على تحديات أكبر عندما بدأت مسيرتها على طريق الإصلاح الاقتصادي في أواخر سبعينيات القرن العشرين. وفي حين تباطأ نموها في السنوات الأخيرة، من المرجح أن ينمو بمعدل يساوي ضعف معدل النمو الأمريكي في السنوات المقبلة.

يذكر لاردي، ثمة عديد من المفاهيم الخاطئة التي تدعو إلى التشاؤم في شأن إمكانات الصين الاقتصادية. ثمة، مثلًا، الاعتقاد الخاطئ السائد على نطاق واسع بأن تقدّم الاقتصاد الصيني نحو التقارب مع الولايات المتحدة على حجم الاقتصاد توقف. صحيح أن الفترة من عام 2021 إلى 2023 شهدت تقلص الناتج المحلي الإجمالي الصيني من 76 % من نظيره الأمريكي إلى 67 % منه. وصحيح أيضًا أن الناتج المحلي الإجمالي الصيني كان بحلول عام 2923 أكبر بنسبة 20 % مما كان عليه عام 2019، عشية الجائحة العالمية، في حين نما الناتج المحلي الأمريكي بنسبة ثمانية في المئة فقط خلال الفترة نفسها.

لخَّص لاردي فكرته في عبارة واضحة، إذ يرى أن تفسير هذه المفارقة الظاهرة تعود إلى أنه على مدى السنوات القليلة الماضية، سجل معدل التضخم في الصين أقل منه في الولايات المتحدة. فالعام الماضى، نما الناتج المحلي الإجمالي الاسمي الصيني بنسبة 4.6 %، في مقابل 5.2 % سجلها الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي. في المقابل، وبسبب ارتفاع معدل التضخم، نما الناتج المحلي الأجمالي الاسمي الأمريكي عام 2023 بنسبة 6.3 %، بينما نما الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي بنسبة 2.5 % فقط.

وفي تقديره، يسود اعتقاد خاطئ ثان ٍ مفاده بان الضعف يشوب داخل الأسر والإنفاق، وثقة المستهلك في الصين. لا تدعم البيانات هذا الرأي.العام الماضي، ارتفع نصيب الفرد من الدخل القومي الحقيقي بنسبة 6 %، أي أكثر من ضعف معدل النمو عام 2022، عندما شهدت البلاد إغلاقات، وزاد نصيب الفرد من الاستهلاك بنسبة 9 %. وحين تكون ثقة المستهلك ضعيفة، تقلص الأسر الاستهلاك، وتعزز مدخراتها بدلًا من ذلك. لكن الأسر الصينية فعلت العكس العام الماضي: لقد نما الاستهلاك أكثر من الداخل، وهو أمر ممكن فقط إذا خفضت الأسر حصة دخلها الموجهة إلى المدخرات.

ثمة اعتقاد آخر خاطئ وهو بأن انكماش الأسعار أصبح راسخًا في الصين، مما يضع البلاد على المسار الصحيح نحو الركود. نعم، زادت الأسعار الخاصة بالمستهلكين 0.2 % فقط في العام الماضي، مما أثار مخاوف من أن تخفض الأسر استهلاكها انتظارًا لأسعار أدنى - وأن تخفض بالتالي الطلب وتبطئ معدل النمو. لكن هذا لم يحدث ذلك؛ لأن الأسعار الأساسية الخاصة بالمستهلكين (أي أسعار البضائع والخدمات إلى جانب الغذاء والطاقة) زادت بالفعل بنسبة 0.7 %.

وعلى الرغم من أن الصين تعاني عديدًا من المشكلات، بما في ذلك تلك الناجمة عن الجهود التي يبذلها الرئيس الصيني شي لممارسة قدر أعظم من السيطرة على الاقتصاد، لا تخدم المبالغة في تقدير هذه المشكلات أحدًا، بل وقد يؤدي ذلك إلى رضا عن الذات في مواجهة التحديات الحقيقة التي تفرضها الصين على الغرب.

وينطبق هذا في شكل خاص على الولايات المتحدة. من المرجح أن تستمر الصين في المساهمة بنحو ثلث النمو الاقتصادي العالمي مع زيادة بصمتها الاقتصادية، ولاسيما في آسيا. وإذا قلل واضعو السياسات الأمريكيون من شأن ذلك، من المرجح أن يبالغوا في تقدير قدرتهم على الحفاظ على تعميق العلاقات الاقتصادية والأمنية مع الشركاء الآسيويين.

ومما ينبغي التوقف عنده في مسألة تنامي القوة الاقتصادية للصين، ما تطرقت إليه المجلة الأمريكية «فورين بوليسي»، وهو يشترك العديد من الدول في المنظور الصيني، وخاصة في الجنوب العالمي، إذ تفتقر إدعاءات الغرب إلى التمسك بنظام قائم على القواعد إلى المصداقية. ليست المشكلة فقط في أن العديد من الحكومات لم يكن لها رأي في إنشاء هذه القواعد، وبالتالي تعتبرها غير شرعية. المشكلة أعمق: تعتقد هذه الدول أيضًا أن الغرب طبق معاييره بشكل انتقائي وقام بمراجعات بشكل متكرر لتلائم مصالحه الخاصة.

ومن وجهة نظرها، هناك العديد من العوامل والتغييرات غير المرئية التي دفعت إلى صعود الصين كقوة عالمية في مواجهة حالة عدم الوضوح، أبرزها:

سياسات اقتصادية متطلّعة إلى الأمام:

لعبت سياسات الصين الاقتصادية ذات الرؤية المستقبلية دورًا حاسمًا في استعدادها لعالم مضطرب. من خلال إعطاء الأولوية للابتكار والبحث والتطوير والاستثمارات الاستراتيجية، بنت الصين أساسًا متينًا للنمو المستقبلي. مبادرة «صنع في الصين 2025»، على سبيل المثال، حفزت التقدم في صناعات التكنولوجيا الفائقة، مثل الذكاء الاصطناعي والطاقة المتجددة والتكنولوجيا الحيوية. سمح هذا النهج المستقبلي للصين بتقليل اعتمادها على التصنيع التقليدي وتطبيق اقتصاد قائم على المعرفة بشكل كبير.

التخطيط الإستراتيجي طويل المدى:

تركيز الصين على التخطيط الإستراتيجي طويل الأمد جعلها بعيدة عن الطبيعة التفاعلية للسياسات الأمريكية. حددت بكين خططًا طموحة طويلة المدى، مثل «مبادرة الحزام والطريق» و«معايير الصين 2025»، التي ترتكز على تعزيز الاتصال وتوسيع النفوذ الدولي ووضع معايير عالمية. من خلال هذه المبادرات، أثبتت الصين نفسها لاعبًا استباقيًا في تشكيل الجيوسياسي والاقتصادي في المستقبل.

تغيير التحالفات العالمية وتأثيرها:

يمكن أن يُعزى النفوذ العالمي للصين إلى تحالفاتها وشراكاتها الإستراتيجية. من خلال تعزيز العلاقات مع الدول النامية والمساعدات الاقتصادية ومشاريع البنية التحتية والاتفاقيات التجارية، وسَعت الصين من مجال نفوذه. في الوقت نفسه، إذ شاركت الدولة بنشاط في منصات متعددة الأطراف، مثل منظمة شنغهاي والبنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية، لتحدي الهيمنة التقليدية للولايات المتحدة وعززت مكانتها كرائد عالمي.

كانت قدرة الصين على التكيف مع الظروف المتغيرة مفتاح نجاحها في الاستعداد إلى عالم مضطرب. أظهرت بكين مرونة من خلال الإصلاحات وتعديل السياسات لمواجهة التحديات الناشئة، مثل التدهور البيئي وعدم المساواة الاقتصادية والاضطراب التكنولوجي. ساهمت هذه القدرة في تكيف الصين وبقائها في الطليعة وإدارة حالات عدم اليقين في العالم الحديث بشكل فعّال.

فإذا ما أردنا معرفة لماذا يتمسك العالم بتفاؤله تجاه الآفاق الاقتصادية للصين التي حددت - وفق تقرير عمل الحكومة نَشرته وكالة الأنباء الصينية «شينخوا» في مارس الماضى - هدفها للنمو الاقتصادي لعام 2024 عند حوالي 5 في المائة، علينا أن نعرف لماذا خبراء ومطلعون في هذا المجال بجميع أنحاء العالم أعربوا عن تفاؤلهم بشأن الهدف وأعربوا عن ثقتهم في النمو الاقتصادي طويل الأجل للصين، قائلين إن الهدف يتماشى مع واقع التنمية الاقتصادية في الصين ويظهر الحوكمة الاقتصادية العقلانية والموضوعية والبرغماتية للحكومة الصينية.

فقد قال لويس فرنانديز، كبير الباحثين في مركز البحوث العالمية بجامعة هافانا: «إن هدف النمو هذا مناسب تمامًا للظروف الوطنية للصين: فقد قامت الصين بوضع نمط تنمية اقتصادية عالية الجودة للمرحلة الحالية، نمط يناصر الاقتصاد الأخضر وتطوير التكنولوجيا الفائقة. وهذا من شأنه أن يضخ حيوية قوية في الاقتصاد العالمي».

ومن جانبه لفت جيفري ساكس، أستاذ الاقتصاد ومدير التنمية المستدامة في جامعة كولومبيا، إلى التقدم التكنولوجي الذي حققته الصين سريع جدًا و«أوجه التطور هذه وضعت الصين في مكانة عالمية قوية للسنوات المقبلة».

وبالمثل، أشار جان كرستوف إيسيو فون بفيتن، رئيس معهد الدراسات الإستراتيجية للشرق والغرب في بريطانيا، إلى أن قرارات جيدة مثل الاهتمام بالاقتصاد الخاص وتعزيزه هي قرارات تلقى ترحيبًا ليس فقط من قبل الصينيين أنفسهم وإنما أيضًا من قبل رجال الأعمال الأجانب.

ووفقًا لما أشار إليه المنتدى المالي الدولي، ساهمت الصين بنسبة 32 % في النمو الاقتصادي العالمي في عام 2023 ولاتزال المحرك الأكبر للتنمية العالمية.