الجنائية الدوليّة تضع الغرب على المحكّ


حسن مدن
2024 / 5 / 28 - 14:55     

وضع المدعي العام في المحكمة الجنائية الدولية، كريم خان، الولايات المتحدة ودول غربية أخرى حليفة لها على المحكّ القانوني والأخلاقي، حين طلب من المحكمة إصدار مذكرات اعتقال بحق كلّ من رئيس الوزراء ووزير الدفاع الإسرائيليين بنيامين نتنياهو ويواف غالانت، بتهم جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية. ورغم أن خان حاول التخفيف من حدّة ردة فعل حلفاء تل أبيب الغربيين تجاه هذا الأمر، حين أضاف إلى طلبه أسماء ثلاثة من قادة حركة حماس: يحيى السنوار، محمد الضيف، إسماعيل هنية، ليشملهم أمر الاعتقال، إلا أن ذلك لم يقلل من ردّة الفعل الإسرائيلية والغربية تجاه هذا الطلب، الذي لا يزال مجرد طلب، ولم يقرّه قضاة المحكمة بعد.

الغرب الذي لم يتسع الفضاء لبهحته حين أصدرت ذات المحكمة قرارها بإلقاء القبض على الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على خلفية الحرب في أوكرانيا، وهي بهجة جاءت مشفوعة بحالٍ من الشماتة، لأن ذلك الطلب وضع بوتين، وروسيا عامة، في خانة "المنبوذين" دولياً، رغم معرفة الغرب أن القبض على بوتين، وإحالته إلى المحكمة مستحيلان في ظل التوازن الدولي الراهن، وأتى طلب خان ليظهر، وبشكل ساطع، للمرة الألف، لا إزدواجية المعايير لدى واشنطن وبعض حلفائها فقط، وإنما ما هو أخطر، والمتمثّل في المعلومات التي كشف عنها المدعي العام للمحكمة، عن تعرّضه للتهديد بسبب طلبه إصدار مذكرات الاعتقال الأخيرة، مشيراً إلى أنّ أحد السياسيين الغربيين قال له إن هذه المحكمة "أنشأت من أجل إفريقيا ومن أجل (السفاحين) مثل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين"، بحسب تعبير هذا السياسي، ما يعني افتراض أن القادة الغربيين، ومثلهم قادة إسرائيل، في حماية من أية مساءلة بصرف النظر عما يرتكبوه من جرائم ضد الإنسانية، وهي جرائم يشهد بها الحاضر، نراها في غزّة والضفة الغربية المحتلة، كما شهد بها الماضي فيما ارتكبته القوات الأمريكية التي غزت واحتلت عدّة بلدان، بينها فيتنام وأفغانستان والعراق وسواها.

التهديدات الأمريكية التي تلقاها خان تمثلت في مواقف رسمية معلنة، بينها تهديد وزير الخارجية بلينكن بإيقاف الدعم المالي الذي تقدّمه واشنطن للمحكمة، فيما بعث عدد من أعضاء الكونغرس، وأغلبهم من الجمهوريين، رسالة لخان جاء فيها: "استهدفوا إسرائيل وسنستهدفكم. إذا مضيتم قُدماً في الإجراءات، فسنتحرك لإنهاء كل الدعم الأمريكي للمحكمة الجنائية الدولية، ومعاقبة موظفيكم وشركائكم، وحظركم وعائلاتكم من الولايات المتحدة. لقد تمّ تحذيرك"، وكأن لسان حال واشنطن يقول لخان: لقد خرجت عن الهدف الذي من أجله أسسنا هذه المحكمة، وهي معاقبة روسيا، والزعماء الأفارقة "المارقين"، فحسب الخارجية الأمريكية أنه من حقّ المحكمة أن تلاحق روسيا، ولكن لا يمكنها أن تلاحق إسرائيل.

تذّرع المتحدث باسم الخارجية الأمريكي ماثيو ميلر بأن اختصاص المحكمة الجنائية الدولية يشمل الحالات التي يعتبر أحد أطراف النزاع عضوا في المحكمة، زاعماً أنه في الحالة المتعلقة بإسرائيل وفلسطين لا يشمل اختصاص المحكمة أي طرف، وفي الحالة المتعلقة بأوكرانيا وروسيا فهي من اختصاص المحكمة لأن أوكرانيا تعترف بها، لكن المحكمة قضت بأن لديها السلطة القانونية لمقاضاة الأعمال الإجرامية في الحرب لأن الفلسطينيين موقعون عليها.

وبصرف النظر عن القرار الذي ستنتهي إليه المحكمة الجنائية الدولية عند نظرها في طلب خان، ورغم أنّه ثبت تاريخيا أنّ تنفيذ أوامر المحكمة، التي تعتمد على وكالات إنفاذ القانون في الدول الأعضاء فيها البالغ عددها 124 دولة، أمر بالغ الصعوبة، فإنه يسجل لكريم خان موقفه في تخطي "الخطوط الحمر" التي وضعها الغرب، وتشديده على أن التهديدات "لن تثنيه عن عمله، لأننا علينا أن نفي بمسؤولياتنا كمدعين عامين، بالإخلاص للعدالة". والمؤكد أن طلب خان أضاف تحديّات جديدة لحلفاء إسرائيل الغربيين، الذين يواصلون دعمهم العسكري والمادي للدولة اليهودية، رغم الحرج الذي توقعهم فيه الأدلة المتزايدة على جرائم الحرب في العدوان المستمر منذ أكثر من سبعة أشهر، ويسعون للتغلب عليه بتصريحات خجولة، لا ترتقي إلى مستوى الإدانة المنشودة من دول تزعم التزامها بحقوق الإنسان، وتضع نفسها في مكان الوصيّ على مدى تقيّد الدول بها، وفي حال أصدرت المحكمة أمرها الفعلي باعتقال نتنياهو ووزير دفاعه، سيجد هؤلاء الحلفاء أنفسهم في وضع أكثر دقّة، خاصة مع تصريحات حكومات بعض هذه الدول عن التزامها بما يصدر عن المحكمة من قرارات.