العلمانية والأديان ورواد التنوير
فهد المضحكي
2024 / 5 / 11 - 12:23
ظلت مسألة العلاقة بين الحداثة - المعاصرة والتراث، وبين الدنيا والدين، وبين الجديد والقديم بوجه عام، موضع جدل في مصر منذ القرن العشرين، وإن كانت أصولها تعود إلى نحو قرن قبل ذلك.
في مقال له، نُشر بمركز الأهرام للدراسات السياسية والإستراتيجية،تحدث الكاتب والمفكر المصري د. وحيد عبدالمجيد عن العلمانية والأديان وعن رواد التنوير في مصر بين العلمانية واللادينية.
يقول في مقدمة المقال، لقد خلقت تداعيات الحملة الفرنسية (1798-1801) تحديًا ثقافيًا غير مسبوق، أثير في سياقه ضمنًا أو صراحةً سؤال كبير عن المنهج الذي يتعين انتهاجه لتحقيق تقدم اطلع المصريون على بعض تجلياته الغريبة خلال تلك الحملة، وتوسعت معرفتهم به تدريجيًا خلال القرن التاسع عشر، فتبين لهم بوضوح لم يكن مسبوقًا حجم الفجوة التي تفصلهم عن الغرب المتقدم.
كان إرسال بعثات تعليمية إلى الغرب، واستقدام علماء وخبراء غربيين في مجالات مختلفة، منذ عهد محمد علي، أحد التعبيرات المبكرة عن إدراك هذه الفجوة التي ازداد الوعي بها عن طريق خبرات بعض المبعوثين وكتاباتهم عن أنماط الحياة التي شاهدوها، وبعض الأفكار التي اطلعوا عليها. وتزامن ذلك التطور في مصر مع انفتاح مثقفين دول عربية أخرى على أنماط الحياة الحديثة في الغرب وثقافته وأفكاره الجديدة، الأمر الذي جعل تحدي اللحاق بركب التقدم مسألة أساسية ازداد الاهتمام بها تدريجًا في المنطقة وحولها حتى شملت عموم العالمين العربي والإسلامي.
خلق التحدي الثقافي الناتج عن الاحتكاك المباشر مع الغرب حاجةً في بدايته إلى معرفة هذا الآخر الغربي. واستمر التعرف عليه طول القرن التاسع عشر، الذي قد يجوز أن نعده مرحلة انتقال تبلور خلالها بطريقة تراكمية السؤال عن الطريق التي ينبغي أن يسلكها المصريون نحو التقدم، وبالتالي كيفية التعامل مع الغرب وأفكاره الحديثة. وكان طبيعيًا، وضروريًا، في مثل هذا السياق أن تنشأ تدريجيًا معضلة العلاقة بين التراث والأفكار الحديثة الغربية، وتصبح محور السؤال عن المسار الذي يقود إلى التقدم. سؤال طُرح، وأعيد إنتاجه، بصياغات متعددة في ظروف متغيرة منذ مطلع القرن العشرين، ولم يجد جوابًا مُتفقًا عليه أو موضع توافق عام، وتفرعت عنه أسئلة من أهمها سؤال عن موقع الدين في الدولة الحديثة ونظامها السياسي، وهو السؤال الذي حدث حوله جدل لم ينتهِ حتى اليوم، وفُتحت في سياقه معارك لم تُغلق بعد، حول العلمانية وموقفها تجاه الأديان حينًا، وموقف الأديان إزاءها أحيانًا.
ومن بين عوامل عدة أطالت أمد هذه المعارك، إلى امتداد ذلك الجدل لأكثر من قرن من الزمان، يبدو أن الخلط بين العلمانية واللادينية كان الأكثر تأثيرًا. وإذا صح هذا الاستنتاج، يصبح ضروريًا إعادة طرح السؤال عن العلاقة بين العلمانية والأديان انطلاقًا منه، ومن ثم الرجوع إلى بعض المصادر الفكرية الأولى للمسألة العلمانية في بدايتها لدى مفكرين وفلاسفة تنويريين في الغرب، والعودة إلى من يُعدون رواد التنوير في مصر في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين.
وينقلنا هذا إلى الحديث عن العلمانية والأديان كما يرى عبدالمجيد، إن العلمانية تتضمن مبادئ عدة قد يختلف على فهم بعضها أو تأويله. ولعل أهم ما يحدث اختلاف بشأنه موقفها تجاه الأديان، وموقع الدين في حياة الإنسان حين ينشط في المجال العام، لأن الإيمان الديني من عدمه أمر شخصي يتعلق بالمجال الخاص الذي لا تُعنى به العلمانية، أو بالأحرى تعُده جزءًا من حرية كل شخص واختياره الذي لا يجوز لأحد أن يتدخل فيه.
تفيد العلمانية في مهدها الأوروبي أنها تطبعت في كل بلد بطابعه، واختلفت بالتالي في بعض تفاصيلها من دولة إلى أخرى، على النحو الذي نجده في المقارنة بين فرنسا وبريطانيا على سبيل المثال.
وإذا كانت العلمانية تُعد الدين شأنًا خاصًا أو شخصيًا، فلا يعني هذا أنه محض داخلي لأنه يؤثر في التفاعلات الاجتماعية أو بعضها. والعلمانية بهذا المعنى لا تستبعد الأديان من المجال العام في مجمله، بل من المجال السياسي على وجه التحديد. ولهذا، يُعد الفصل بين السياسة والدين، على نحو يحول دون خلطهما، ويمنع الاستخدام السياسي للدين، أحد مبادئ العلمانية المُتفق عليها.
ولا يصح، وفق هذا المبدأ، أن تستخدم سلطة الدولة، أو الفاعلون في المجال السياسي أحزابًا وجماعات وأفرادًا، الدين في أي عمل أو نشاط أو تصرف سياسي. ولا ينطوي هذا المبدأ على موقف ضد الدين، بل معه سعيًا إلى المحافظة على قدسيته وسموه، وعدم الزج به في صراعات قد تنال منه. وتلتزم سلطة الدولة، بموجب هذا المبدأ، بالحياد بين الأديان، والوقوف على مسافة واحدة تجاهها من حيث حقوق المؤمنين بكل منها وواجباتهم، وضمان حريتهم في ممارسة شعائرهم الدينية، وعدم التمييز لمصلحة أي دين أو ضد آخر. وفي هذا المبدأ اعتراف واضح تمامًا بالأديان واحترام لها، بعكس النزعة اللادينية.
وتوضيحًا لذلك، عندما نرجع إلى مفكرين وفلاسفة غربيين ساهمت أفكارهم في بلورة ملامح العلمانية،نجد أن بعضهم تشربوا روح المسيحية الحقة بعد تحريرها من سطوة الكنيسة ومن التعصب الديني الذي أنتج حروبًا في القرنين السادس عشر والسابع عشر.
وعبَّر آخرون من رواد التنوير الغربي عن احترام الإيمان الديني ووجدوا صلة تربطه بالعقل الذي رأوا أنه أساس معرفة الإنسان بالله، مثل الفيلسوف الفرنسي فولتير (1694-1778) الذي سعى إلى استخلاص ما رأى أنها نواة عقلانية موجودة في الأديان كلها، فضلًا عن أبعادها الأخلاقية. كما كان تصور معاصره جان جاك روسو (1712-1778) في هذا المجال، إن الأديان كلها توجه الناس إلى ما فيه خير المجتمع، وأن الإيمان الديني يخلق وحدة إنسانية حين يكون متحررًا من سطوة طغاة استخدموه للسيطرة على العقول.
ولكن اتجاهًا ثانيًا بين رواد التنوير الغربي مضى في مسار آخر، ولم يجد أركانه في الأديان مثل هذه الفوائد. غير أن أكثرهم لم يرفضوا الأديان، أو يتخذوا مواقف عدائية تجاهها، إذ التزموا الصمت بشأنها نتيجة انشغالهم بغيرها، أو ذهبوا إلى أن الدين حالة شعورية عند الفرد المؤمن قائمة على شعور شخصي أخلاقي بفكرة الواجب التي تأخذ صورة إيمان بوجود كائن أعلى ينظّم الكون، وفق تصور إيمانويل كانط (1724-1804) الذي بنى هذا التصور على عدم إثبات وجود عالم ما وراء الطبيعة (الميتافيزيقا)أو نفي هذا الوجود.
وقليل كانوا رواد التنوير الغربي الذين عبروا عن عدم إيمانهم بالأديان، ولكن بدون أن يناصبوها العداء أو يُروجوا صراحةً للإلحاد مثل دينيس ديدرو (1713-1784). ومن أهم كتاباته في هذا المجال ما جاء في حوار يُرجح أنه كان متخيلًا مع شخص متدين أسماه المارشال، وسعى خلاله إلى إقناع محاوره بأن الإنسان المُلحد يمكن أن يكون خلوقًا وشريفًا أو لا يكون، مثله في ذلك الإنسان المؤمن. وكان اهتمام ديدرو الأساسي في هذا المجال مُنصبًا على كشف رجال الدين وأساليبهم في السيطرة على عقول الناس، في إطار سعيه إلى تحرير العقل الإنساني.
وتعليقًا على ذلك، يرى الكاتب، ربما تكفي هذه الأمثلة لاستخلاص ما يمكن أن نعده قاعدة عامة في مسألة العلاقة بين العلمانية والأديان، وهي أنه إذا لم يكن موقف العلمانية تجاه الدين إبجابيًا، فهو ليس معاديًا والإ خرج في هذه الحالة من نطاق العلمانية إلى منطقة فكرية أخرى هي اللادينية.
أما فيما يخص علمانية رواد التنوير في مصر، فإن أهم ما أشار إليه، هو عندما نستحضر بدايات التنوير الثقافي والفكري في مصر في مطلع القرن التاسع عشر، يحسن التمييز بين العلمانيين من رواد هذا التنوير، واللادينيين الذين كانوا أقل عددًا. وحين نتأمل أنماط تفكير الرواد الذين عبروا عن توجه علماني، بدون أن يسموا أنفسهم علمانيين أو يدعوا بشكل صريح إلى العلمانية إلا فيما قل أو ندر، نجد أن أكثرهم كانوا مؤمنين، وإن بعضهم كانوا متدينين. فلم يكن العقل الذي آمنوا بقيمته السامية في رقي الإنسان وتقدمه يتعارض مع الدين. ومنهم على سبيل المثال أحمد فتحي زغلول، وأحمد لطفي السيد، ود. محمد حسين هيكل، ود. طه حسين، وعباس العقاد. ومازالت أعمال بعضهم تُعد من أهم ما كتب في التاريخ الإسلامي.
وكذلك الحال بالنسبة إلى رواد الحركة الفنية في الرسم والتصوير الحديث، والنحت، إذ لم يُعرف عن أي منهم رفضه للأديان مثل محمد ناجي، وأحمد مجدي، ويوسف كامل، وغيرهم. وقُل مثل ذلك عن رواد التجديد الأدبي القصصي والروائي والشعري، فإلى جانب إسهامات د. محمد حسين هيكل، ومحمود عباس العقاد، ود. طه حسين في هذا المجال يذكر توفيق الحكيم ونجيب محفوظ.
لقد كان رواد التنوير في هذا الجيل العبقري علمانيين في تفكيرهم وسلوكياتهم وأنماط حياتهم وأعمالهم، ولكنهم لم يكونوا اللادينيين بأي حال. لم يُبَّشروا بالعلمانية، أو يدعوا إليها، بشكل صريح.ولكنهم آمنوا بمبادئها، والتزموا بهذه المبادئ، وعبروا عن جوهرها بدون أن ينطقوا بها، كما حدث، على سبيل المثال، عندما عارض د. طه حسين النص على أن الإسلام دين الدولة في دستور 1923، فقد حرص على توضيح أن هذا ليس موقفًا ضد الإسلام، بل خوفًا من أن يصبح مصدر فُرقة بين المسلمين أنفسهم، وليس بينهم وبين ذوي الأديان الأخرى فقط، لأنهم لا يمكن أن يفهموه على وجه واحد، أو يتفقوا على النتائج التي يجب أن تترتب عليه، فضلًا عن أن هناك من يفهمون هذا النص أو يؤولونه بطريقة تؤدي إلى اتخاذه تكئة يعتمدون عليها في تحقيق ضروب من المطامع والأغراض السياسية وغير السياسية.
كما كان طه حسين أكثر رواد التنوير اهتمامًا بالحث على تنزيه الدين عن أي خلافات سياسية أو اجتماعية أو علمية ؛ إذ كتب مقالة عام 1923 دعا فيها إلى رفع الدين ونصوصه بعيدًا عن اضطرابات العلم وتناقضه، لأن الدين مُطلق ثابت والعلم نسبي متغير. وقد أعاد نشر هذه المقالة في كتاب بعد ذلك. ولكن وضوح موقفه على هذا النحو لم يعفه من الهجمة التي تعرض لها عقب إصدار كتابه «في الشعر الجاهلي» عام 1926، واتُهم خلالها بالخروج من الإسلام.
ويتعين الحذر من الخلط بين هذا الاتجاه العلماني واتجاه آخر تبنى نزعة لادينية وساهم بعض أركانه في التنوير الثقافي والفكري أيضًا، وكان أبرز رواده من الشواَّم شبلي الشميل وفرح أنطون، فيما يُعد سلامة موسى من رواده المصرييين.
ولكن بعض من أرخوا لسلامة موسى قدموا صورة مختلفة، لأن كتاباته عن الأديان كانت حماًَلة أوجه، ولكنها لم تكن عدائية. فقد ذهب د. أحمد ماضي، مثلًا، أن لدى سلامة موسى نظرية في الدين تقوم على فهمه بعقل منفتح وبطريقة موضوعية، بعيدًا عن الاستئثار والإقصاء والبُعد الواحد، وسعيًا إلى تنقيته مما أسماه خرافات وعقائد بالية، بحيث لا يصطدم بالعلم. ووجد ماضي في قراءته لأفكار موسى أنها تتضمن توافقًا بين الدين وأصل الخلق فيه. وبين نظرية التطور (النشوء والارتقاء) شغلت الكثيرين في أوائل القرن العشرين.
وتعليقًا على ذلك، يقول عبدالمجيد: يظل التمييز بين العلمانيين واللادينيين ضروريًا في دراسة المرحلة التأسيسية في مصر، وروادها الذين كان أكثرهم علمانيين يؤمنون بالأديان ويفصلونها عن السياسة، وأقلهم لادينيين لا يؤمنون بها ولكنهم لا يعادونها.
العلمانية، إذن، واللادينية تياران مختلفان يتوازيان ولا يلتقيان إلا في بعض قضايا التنوير الثقافي والفكري. ولكن كثيرًا ما يحدث خلط بينهما. ويؤدي هذا الخلط في أحد تجلياته، إلى تمييز غير دقيق بين علمانية جزئية وعلمانية شاملة، لأن، وفق تعبير عبدالمجيد، ماتُسمى العلمانية الشاملة إنما هي في حقيقتها اللادينية التي تقوم على استبعاد الدين من المجال العام بطريقة شاملة بما في ذلك التفاعلات الاجتماعية والعلاقات بين الأفراد، وهو ما يختلف تمامًا عن العلمانية التي هي بطابعها جزئية لأنها لا تستبعد الدين الإ من المجال السياسي، أي مؤسسات الدولة والأحزاب والانتخابات العامة وكل ما يرتبط بالتفاعلات السياسية صراعيةً كانت أم تعاونية.