كيف ترى ما بعد الإنسانية مستقبل الانسان
إلياس شتواني
2024 / 4 / 15 - 10:20
تدور أفكار ما بعد الإنسانية (Posthumanism) بشكل رئيسي حول علاقة الانسانية، كمفهوم عام وشامل، بالتطورات التكنولوجية والعلمية الهائلة التي حققها الانسان العاقل، خصوصا فيما يتعلق بالذكاء الاصطناعي، وعلم الوراثة، والكيمياء الحيوية. تطرح ما بعد الانسانية مناقشات فلسفية واجتماعية وثقافية مستمرة، فهي تحاول بشكل حازم تفكيك مفهوم الإنسان، وتحاول رصد أهم متغيراته من خلال ربطه بمحيطه؛ أي بشبكة من العلاقات المتشابكة والديناميكية والمعاني المتغيرة. في ضوء هذه الرؤية الجديدة، فإن الحدود بين البشر ومحيطهم (المادي والرمزي) لم تتغير فحسب، بل أصبحت أيضا تشكل مركز التقاء وتفاعل هام.
في عصرنا الحالي؛ عصر النزعة الإنسانية التقنية، لا تعني ما بعد الإنسانية سوى بحث البشر عن الكمال والاستثنائية في الوجود. وبما أن الذاتية والفاعلية ليستا من سمات البشر فقط، فإن المظهر الأكثر استبانة لما بعد الإنسانية يضعها في مواجهة سلسلة من القضايا والمطالب الأخلاقية الملحة. ان كانت ما بعد الانسانية تكشف عن أي شيء فهي تكشف فعلا عن هشاشة ووهن الإنسان، وتعتبر بذلك اعتماد البشر على غير البشر أمرا لا مندوحة منه، والأهم من ذلك، أمرا غير محدود وغير مشروط بتاتا؛ طامسة بالتالي حقيقة أن الانسانية هي نتاج خطاب جمعي وتعددي.
وبغض النظر عن كيفية تصور مستقبل البشر في ارتباطه بالتكنولوجيا، الا أن هنالك عوامل كثيرة قد تجعله يبدو مثيرا للجدل ومليئا جزئيا بالمخاوف. فالمتفق عليه أن البشر قد سعوا دائما إلى تحقيق الربح والازدهار (وذلك على حساب الطبيعة وعلى حساب بعضهم البعض أيضا) وحاولوا توظيف الصناعة والتكنولوجيا لمصالحهم ولأغراضهم الخاصة. مع أخذ ذلك في الاعتبار، من المرجح أن ينظر ما بعد البشر (Posthumans) إلى البشر "القدامى" على أنهم "الآخر" (Other) الجديد. البشر العاديون (الطبيعيون) هم أكثرية خاضعة، قابلة للاستغناء، ترضخ للعنف وللترهيب، ولا تصلح إلا للقهر والاضطهاد. أليس من الممكن أن يلعب ما بعد البشر دور الأسياد الجدد؟
اذا سادت ما بعد الإنسانية، فإن الإنسانية التقليدية سوف تضطر إلى اعتبار الادراك الذاتي للوجود مجرد مرحلة انتقالية ثانوية، فالوعي الانساني سيصير بما لا يقبل الشك "ما بعد انسانيا"؛ أي سيصير حكرا على الأفراد الذين ينحدرون من نسل البشر ولكنهم لم يعودوا بالضرورة بشرا؛ أي الأفراد الذين يمتلكون قدرات تتجاوز حدود الطبيعة البشرية. ولكن مع كل ذلك قد لا يزال يُنظر إلى ما بعد الإنسان، رمزيا على الأقل، على أنه إنسان.
ولكي نكون صادقين، فالحجة هنا هي في صالح مستقبل ما بعد الإنسانية، لأنه، بكل بساطة، مفيد للبشر ولرفاهيتهم، ولكن في نفس الوقت تشير هذه الرؤية الى عالم متقلب وسريع التغير؛ عالم يكون فيه التفاعل مع الآخر (سواء آلة أو جسما عضويا) هو الهدف الديناميكي الوحيد للوجود. في هذا الفضاء الهجين، تتفاعل أشكال مختلفة من المادية مع بعضها البعض (الانسان مع الحيوان أو الانسان مع الآلة على سبيل المثال)، والبشر، في كل هذا، جزء لا يتجزأ من هذه الشبكة المعقدة من العناصر والدلالات.
يعتقد أنصار ما بعد الإنسانية أن أهمية الإنسان وما بعد الإنسان مترابطتان ومتساويتان. ومن خلال تبني وجهة النظر ما بعد الإنسانية، يبدو أن مستقبلنا يتجه نحو أخلاقيات إنسانية أكثر شمولا وأكثر انفتاحا؛ أخلاقيات من شأنها أن تحتضن الأشخاص المعدّلين تكنولوجيا وجينيا في المستقبل بالإضافة إلى البشر من النوع المعاصر. يقول جورج أورويل "إذا كنت تريد أن تستشرف صورة المستقبل، تخيل حذاء يدوس ويدمغ وجه إنسان إلى أبد الآبدين". بالرغم من أن عالم ما بعد الإنسانية يعدنا بمزيد من الحرية والتقدم الإنساني، الا أن ارتباط الثورة الانسانية، نسبيا على الأقل، بالحرية الفردية (كركيزة الانسانية الليبرالية) يجعلنا نفكر مليا في أسس، وأهداف، ومستقبل التكنولوجيا ككل. ولذلك يجب أن نقولها بكل جرأة: التكنولوجيا إما أنها ستحررنا أو ستستعبدنا.