في أربعين هبة حاج عارف: أن لا ننسى
ياسين الحاج صالح
2024 / 4 / 8 - 18:27
هل سبق أن خَبِرنا شيئاً شبيهاً بمقتل السيدة هبة حاج عارف في بلدة بزاعة القريبة من مدينة الباب شمالي حلب، المنطقة الواقعة تحت سيطرة «الجيش الوطني» التابع لتركيا؟ حاج عارف سبقَ أن تَلقَّت تهديدات تتّصل بعمَلِها العام كعضو في المجلس المحلي في بلدتها، وكناشطة نسوية. والجناة بذلوا جهدهم كي يَظهَر مَقتلُها انتحاراً، وهو ما سارعت مديرية أمن الباب إلى التصديق عليه، قبل أن تعيد التصديق مُجدداً على ما قالت بعصبية مُريبة. المديرية لم تكتف بنفي أي ارتباط بين مقتل حاج عارف و«أي عمل له علاقة بالشأن العام»، بل إنها اتّهمت نشطاءَ ووسائل إعلامية في المنطقة بأنهم «جهات مشبوهة» تسعى لجعل القضية «قضية رأي عام». ورغم وجود والد الضحية وزوجها، فقد جرى اعتمادُ رفض خالها لتشريح جثتها. ويبدو أنه حتى ذلك جرى بعد تضليل مُتعمَّد، حيث أُبلغت الأسرة بأن فقيدتها قُتِلت ولم تنتحر، فلم يجد الخال سبباً لتشريح الجثة ما دام الاغتيال ثابتاً. بعد ذلك أصدرت مديرية الأمن البلاغ الكاذب الذي يُقرّر أن الضحية ماتت انتحاراً.
هناك إجماع واسع اليوم، ومنذ اليوم الأول لمقتل حاج عارف، على أن الأمر يتعلق بجريمة قتل متعمّدة، جرى تمويهها بصورة ركيكة انكشفت بسرعة. لا تنتحر امرأة شابة مُسالمة، مسلمة مؤمنة، بل و«منقّبة»، «تحب الحياة» بشهادة مَعارف لها، أمٌّ لطفلين صغيرين وزوجة (لرجل ذي احتياجات خاصة كانت تتولى رعايته كذلك). وهي كانت يوم اغتيالها نفسه تخطط لـ«أسابيع وأشهر قادمة»، بحسب بعض معارفها، ومما كانت تخطط له الانتقال من بلدة بزاعة، حيث تعرّضت لتهديدات من فرقة الحمزات، إلى مكان آخر في شمال غربي سورية. وهذا رغم أن أكثر ما كان يُضايقها هو أنه «إذا طلعت من المنطقة بدي أرجع من الصفر، يعني هاد التهديد أبشع تهديد أجاني، إنه أرجع من الصفر» على ما قالت لبعض مُحادِثاتها. وليس في محيط حاج عارف شخصٌ واحدٌ صدّقٌ قصة الانتحار، لكن في القتل والتمويه ما يدلُّ على عزم وإرادة للتخلُّص منها كناشطة سياسية ونسوية. كانت حاج عارف قد أُجبِرَت على الاستقالة بضغط من آخرين في مجلس بزاعة المحلي، ولا يبدو أن ذلك حدث لأنها امرأة، فهناك سيدتان غيرها في المجلس، ولكنهنّ «لسنَ نسويات، وإنما يعملن في سلك التعليم ولا شأن لهنّ بالسياسة»، بحسب مُقرَّبات من الحاج عارف. ويبدو أنه حلَّ محلها في المجلس شخص أميّ كان هو من يقود التحريض عليها.
هذا اغتيال سياسي مُدبَّر لامرأة، ناشطة نسوية، متّصل بنشاطها العام. كان يُنظَر إلى المغدورة كقيادية وناشطة في المنطقة، بخاصة من قبل النساء، وقتلُها قد يكون «رسالة لإسكات النساء وإبعادهنّ مجدداً عن الشأن العام» بحسب ناشطة محلية اعتمدت لنفسها اسم سلام تادفي، قالت كذلك إن غرض الجريمة هو إرجاعُ النساء «إلى نفق التهميش».
إذن، هل مرَّ علينا ما يشبه هذا السيناريو من قبل؟ بالتأكيد، عام 2013، قبل عشر سنوات ونيّف. في أواخر أيلول (سبتمبر) من ذاك العام الرهيب، جرى تهديد رزان زيتونة، المحامية والكاتبة والناشطة الثورية ومديرة مركز توثيق الانتهاكات، وقت كانت تُقيم في دوما، حيث كان جيش الإسلام سلطة الأمر الواقع في المدينة والمُنازِع على السلطة في الغوطة الشرقية. بعد نحو شهرين ونصف اختُطِفت رزان من مكتب مركز توثيق الانتهاكات مع كل من سميرة الخليل ووائل حمادة وناظم حمادي، ولا يزال مصير الأربعة مجهولاً إلى اليوم. اختطاف المجموعة جاء في إطار فرض نظام حزب واحد في دوما، التي كان الأربعة لاجئين فيها، ومن المعلومات الأكيدة لدينا منذ سنوات أن سمير كعكة، «شرعي» جيش الإسلام، هو الذي أمر تَابِعهُ حسين الشاذلي بتهديد رزان.
كعكة وفلول جيش الإسلام مستقرّون في الباب منذ تهجيرهم من دوما في ربيع 2018، وهم جزءٌ من الجيش الوطني التابع للسلطات التركية، وفي سجلّ هذا الجيش من الانتهاكات ما يضعه في مصاف عصابة مجرمين ولصوص، على ما شهد تقرير نُشِرَ مؤخراً لهيومان رايتس ووتش.
هذا ليس لتوجيه الاشتباه نحو كعكة وجماعته، إذ ليس هناك ما يُرجِّح هذا الاشتباه. الغرض فقط إظهار أوجه شبَه بين الإعدام الوحشي لهبة والاختطاف الوحشي لرزان وشركائها الثلاث. والغرض من وراء إظهار الشبه تبيّنُ استعدادات ميليشوية إجرامية بلا حدود، لم نتصورها من قبل، ولا يبدو إلى اليوم أن لدينا العدة الفكرية والنفسية لفهمها. هذا إن كان يمكن أن يُفهَم يوماً الاغتيالُ الحقود لامرأة شابة مسالمة من قبل رجال مسلحين. قد يكون الصواب في مثل هذا الموقف أن ندعَ الجريمة تستوقفنا، تَسكُننا وتقضّ مضاجعنا، أن لا نترُكها تمضي. الواقع أن كثرة الجرائم تُطبِّعها وتُطبِّعُنا معها حتى نفقد الحسّ أو نستسلمَ لضربٍ من الخدر الأخلاقي، حيث يقلُّ أثر أي جريمة إضافية في نفوسنا وصولاً إلى أن لا تترك أي أثر. كان هذا تفاعلي الشخصي الأول مع مقتل السيدة هبة حاج عارف، لكن هذا هو بالضبط ما يجب ألّا يحدث. فالجريمة قد تأتي من الاعتياد وعدم الخشية من العواقب، ومن سكوتِ أو تهاونِ المتضررين المحتملين. لو عُوقِبَ من أمروا بقتل محمد أبو غنوم وزوجته الحامل في 7 تشرين الأول (أكتوبر) 2022، وتحديداً قيادة فرقة الحمزة، لنجت هبة الحاج عارف على الأرجح.
في قتل رجل مع امرأته الحامل بكواتم الصوت، لأنه «هيك بدو المعلم»، على ما اعترفَ أحد منفذي العملية أنور محمد سلمان، والمقصود بالمعلم على الأرجح سيف بولاد أبو بكر قائد التشكيل، ثم تعليق امرأة من عنقها بعد خنقها، ما يشير إلى بشاعة متطرفة، إجرام آمن و«سادر في غِيّه»، هو السائدُ اليوم في مناطق شمال غربي سورية على ما شهد تقرير هيومان رايتس ووتش المومأ إليه أعلاه.
هل يُحتمَل وجود دوافع دينية وراء مقتل هبة الحاج عارف؟ ضربٌ من فتوى من أمثال كعكة تستهدفها كناشطة سياسية ونسوية؟ في محادثات لها ذَكَرت حاج عارف شيئاً عن «شيخ جامع (…) بخطبة جمعة وقف وصار يحكي ضد النسوان، يعني بالأخص هدول وحدة دعم وتمكين المرأة، يعني كتير حرض علينا هدول أهل الدين». هل إلى درجة فتوى بالقتل؟ ينبغي أن يكون هذا مُستبعَداً، فهي امرأة متديّنة ومنقّبة، فوق أنها محلية، قُتلت في منزلها وبلدتها، خلافاً لما كان الحال في خطف وتغييب رزان وسميرة ووائل وناظم. مع ذلك، يَلفِتُ النظرَ أنه لم يُسمَع استنكار من جهات دينية، سياسية أو دعوية، تُدين الجريمة. في آب (أغسطس) 2021 كان أسامة الرفاعي، رئيس المجلس الإسلامي السوري، يخطب في أعزاز ويحذّر ممّن يعملون على «إفساد نسائنا» باسم «تحرر المرأة» و«الجندر»، مع اعترافه بأنهم من «أبناء جلدتنا، يتكلمون بلغتنا». لمجتمعنا جوهرٌ خاص، يُمثّله لسبب غير معلوم الرفاعي وليس هبة حاج عارف، سمير كعكة وليس رزان زيتونة وسميرة خليل. ليس هذا للقول إن الرفاعي ومجلسه وراء قتل حاج عارف، لكنه للإشارة إلى أن القتلة لا يخشون من جهة أمثال الرفاعي ومجلسه شيئاً، هذا إن لم يجدوا في مثل تلك الأقوال ما سهَّلَ لهم عملهم، وما خلقَ بيئةً صعبةً لعمل هبة حاج عارف وأمثالها.
باستشهادها تنضمّ هبة حاج عارف إلى كوكبة من الشهيدات والمُغيَّبات، ممّن هنَّ رموزُ المقاومة النسوية لسلطات سياسية ودينية واجتماعية متوحشة. لا ينبغي ترك هذه الكوكبة تُنسى.