قصيدة -الفضاء- مأمون حسن
رائد الحواري
2024 / 4 / 4 - 00:13
بصيرة الشاعر في قصيدة "الفضاء"
مأمون حسن
"شمّ الهواء
أراه كما كان أول أمس نقيًا قليلا
اشم فأدركه من بعيدِ،
عبوسًا ثقيلًا
أحدق بالغيم
أراه كما لم يكنْ
دخانًا كثيفًا،
جراحًا لنا
وخزيًا لأعدائنا
ووردًا على ذكر أسلافِنا
وبدرًا على ليلِ أطفالِنا
ورعبًا لأفئدة القوم يملأ أيامهم بالصراخً طويلًا طويلا ،
بكاءً تفجّر في غدهم
وبؤسًا وحزنًا وبيلا
أرى الغيم فوق الرؤوس كصبّار بستاننا
- ولو كان ذاك قليلا- .
فلا تحزنوا يا صغار البلابل؛
إن الفضاء لكم كان بيتًا وكان السبيلا."
الشاعر الحكيم هو الذي يتحدث عن الواقع بما هو ابعد مما نراه، نعيشه، فيرسم لنا مستقبل أبعد وأعمق مما هو ظاهر لنا، الشاعر "مأمون حسن" يتجاوز الواقع، واقعنا البائس وما فيه من قتل ودمار، ليكون بشكل آخر مغاير تماما لما نعيشه من تخاذل وتآمر.
يبدا الشاعر القصيدة بتناول حاستين، الشم والبصر، فهما ركيزة الفعل/الرؤية عنده، فكل ما هو متعلق بالنظر والشم استخدمه الشاعر (لإنتاج) ما هو جميل ومفرح، فهو يخرج الجمال من الخراب، والأمل من اليأس.
الواقع القاسي نجده من خلال: "نقيلا قليلا، عبوسا ثقيلا، دخانا كثيفا، جراحا لنا" لكن الأمل/الفرح نجده فيما هو متعلق بنا: "ورودا، وبدرا" وما هو متعلق بأعدائنا: "وخرابا لأعدائنا، ورعبا لأفئدة القوم، بكاء تفجر في غدهم، وبؤسا وحزنا وبيلا" فكرة القصيدة تجاوز للحاضر/للواقع وتجعل المتلقي ينتشي بما جاء بها من رؤية تحمل الفرج والنصر القادم الذي نجده في: "صغار البلابل، الفضاء لكم" وهذا البصيرة التي رآها الشاعر في الأطفال كافية لتجعلنا نقول: إننا أمام حالة فرح وأمل، رغم الشدة والقسوة التي نمر بها.
لكن الذي يميز القصيدة ليس الفكرة فحسب، بل الألفاظ التي تكونها، فنجد بناء القصيدة بمجمله متعلق بالنظر/بالمشاهدة/بالبصر: أراه/أرى، (مكرر ثلاث مرات)، أحدق" وكأنه من خلال هذه الألفاظ يشير ـ بطريقة غير مباشرة ـ إلى أنه توقف وتأمل وفكر قبل أن يخرج لنا برؤيته لما هو قادم.
فتكرار المشاهدة/أرى ثلاث مرات يأخذنا إلى الرقم ثلاثة وما يحمله من معنى الاستمرار والقدسية، ويعطي دلالة إلى أن فعل "أحدق" متعلق بدقة المشاهد والتركيز فيما يراه الشاعر، فهو لم يكن ينظر نظرة عابرة، بل يشاهد ببصيرة ثاقبة، وهذا ما يجعل رؤيته صحيحة وسليمة لا يمكن نقضها، أو تفنيدها.
ونجده متعلق بالشم: "شم (مكرر)، فوجود ألفاظ تابعة ولاحقة للنظر: "نقيا، بالغيم (مكرر)، دخانا، كثيفا، جراحا، وورودا، بدرا، بكاء" وأخرى تابعة ومتعلقة بالشم: "دخانا كثيفا، ورودا" تجعل رؤية الشاعر مبنية/معتمدة على ما هو مادي/مشاهد، وما هو محسوس/مشموم، لكن نتائج هذه الرؤية لا تُحس ماديا: "وخزيا، ورعبا، وبؤسا، وحزنا" فهي نفسية/ داخلية، وإذا علمنا أنها متعلقة بالأعداء، نصل إلى رؤية الشاعر التي اعتمدت على ما هو المادي لتصل إلى ما هو نفسي/فكري/عقائدي.
ونلاحظ أن هناك علاقة وترابط بين المشموم والمُشاهد "الهواء، الغيم، دخانا" من جهة، وبين البصيرة/الروية التي وصل إليها الشاعر من جهة أخرى: "إن الفضاء لكم كان بيتا وكان السبيلا" فهما متعلقان بما هو فوق الأرض، بما هو سماوي، وهذا يجعل رؤيته تتجاوز السطح/الواقع.
القصيدة منشورة على صفحة الشاعر.