ماذا تعني العدالة الاجتماعيه؟
فهد المضحكي
2024 / 3 / 30 - 11:03
أصدر المؤتمر 111 لمنظمة العمل الدولية تقريرًا بعنوان «الدفع قدمًا بالعدالة الاجتماعية»، ويرى التقرير أن تحقيق هذه القضية يشكل الأساس لبناء سلام عالمي. فيما يلي نستعرض أو بالأحرى نسلط الضوء على أهم ما جاء في التقرير المذكور - وفق ما نُشر في بعض الإصدارات السياسية والصحف المتخصصة - بشأن تعريف العدالة الاجتماعية.
يمكن وصف المجتمعات والسياسات والمؤسسات بأنها عادلة أو غير عادلة. ولكن، ما هو مفهوم العدالة الاجتماعية الذي يقوم عليه التقييم؟ وكيف يمكن لهذا المنظور أن يوجه العمل المستمر والمتضافر بإتجاه تحقيق العدالة الاجتماعية؟
تتجلى العدالة الاجتماعية في تطلُّعٍ مفاداه أن «البشر، أيًا كان عرقهم أو معتقدهم أو جنسهم، الحق في العمل من أجل رفاهيتهم المادية وتقدمهم الروحي في ظروف توفر لهم الحرية والكرامة والأمن الاقتصادي وتكافؤ الفرص» «إعلان فيلادلفيا الجزء ثانيًا أ» وهي تقوم على القيمة الجوهرية لكرامة الإنسان، كما ينص عليها المبدأ التأسيسي لمنظمة العمل الدولية بأن «العمل ليس سلعة» «إعلان فيلادلفيا الجزء أولًا أ».
ويتعلق الأمر بالإنصاف والمساواة وقدرة كل شخص على إسماع صوته وتحديد شكل الحياة التي يريدها لنفسه. وينطوي ذلك على النفاذ إلى فرص العمل والحصول على مستوى عيش مناسب ليتمكن كل فرد من أن يعيش حياة منتجة وكريمة. علاوة على ذلك، تعني العدالة الاجتماعية تقاسم الرخاء وتوفير الأمن عند فقدان الدخل أو عدم كفايته أو تقطعه. ومع ذلك أنه يبدو من المسلّمات، ترتبط العدالة الاجتماعية بسيادة القانون والنفاذ إلى العدالة داخل المجتمع.
والعدالة الاجتماعية ليست واجبًا أخلاقيًا، بل إنها تمكّن المجتمعات والاقتصادات من العمل بشكل أكثر تماسكًا وفعالية. فهي تطلق عنان القدرات الإنتاجية للبلدان والأشخاص وتهمد الطريق أمام الحدّ من الفقر وإنعدام المساواة بشكل مستدام، وهو شرط أساسي لتحقيق النمو الشامل. والعدالة الاجتماعية تولدّ السلام والاستقرار والتضامن بين الأجيال.
وبشكل عام، يمكن تعريف العدالة الاجتماعية على أنها تتسم بأربعة أبعاد.
البعد الأول هو: حقوق الإنسان العالمية والقدرات. وتشمل حقوق الإنسان العالمية، على سبيل المثال لا الحصر، النفاذ إلى مستوى آلعيش المناسب والتعليم والرعاية الصحية والضمان الاجتماعي. كما تشمل الحرية النقابية التي ترسي أسس المشاركة الديمقراطية والحوار الاجتماعي. وتتجلى هذه الحقوق في شتى الصكوك بما فيها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر في عام 1948، والعهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية للأمم المتحدة، والعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية في عام 1966، وإعلان منظمة العمل الدولية بشأن المبادئ والحقوق الأساسية في العمل «1998» بصيغته المعدلة في عام 2022، إلى جانب صكوك آخرى. ويتمحور هذا البعد بشكل أساسي حول التعبير عن هذه الحقوق العالمية في الصكوك الدولية، بما فيها معايير العمل الدولية، وتطبيقها في التشريعات والسياسات والمؤسسات على المستوى الوطني، بما يضمن على سبيل المثال النفاذ الفعلي إلى الخدمات العامة من جهة و إعمال الحقوق التمكينية على غرار الحرية النقابية من جهة أخرى.
ويمكن اعتبار حقوق الإنسان العالمية حقوقًا في بعض القدرات الأساسية، فنهج القدرات، الذي كان له أثر لافت على المداولات في منظمة العمل الدولية بشأن نهج محوره الإنسان في مستقبل العمل وفهم التنمية البشرية داخل منظومة الأمم المتحدة، ينظر إلى القدرات وإلى الفرص الفعلية لاستخدامها على أنها شرط أساسي للدفع قدمًا بالعدالة الاجتماعية.
من هذا المنظور، فإن الإذلال والبؤس الناجمين عن الفقر لا يشهدان فقط على إنعدام الدخل، بل على الحرمان من القدرات أيضًا، على غرار الحرمان من التغذية المناسبة والرعاية الصحية والتعليم الجيد، وكلها عناصر ضرورية لضمان كرامة الإنسان والمشاركة المنتجة في الاقتصاد والمجتمع.
أما البعد الثاني فيما يتعلق بالتكافؤ في النفاذ إلى فرص الاستخدام والأنشطة الإنتاجية، التي تمكن الأشخاص من العمل من أجل رفاهيتهم المادية في ظروف توفر الأمن الاقتصادي، ويركز هذا البعد على الفرص الفعلية لانخراط الأشخاص في الأنشطة الاقتصادية والحصول على مكافآت مجزيه مقابل جهدهم في العمل، بما في ذلك فرصة الوصول إلى عمل فعلي والإسهام في المجتمع. ويستند هذا البعد إلى مبادئ «التكافؤ العادل في الفرص» والمعاملة على قدم المساواة، ويشير بشكل أساسي إلى السياسات والتدابير التي توفر النفاذ إلى فرص عمل منتجة ومختارة بحرية.
ويشمل البعد الثالث مفهوم التوزيع المنصف الأوسع نطاقًا، إذ يتمحور حول الإنصاف في توزيع الدخل، بما في ذلك تخصيص قسط عادل من فوائد النمو الاقتصادي لأكثر الفئات حرمانًا أو استضعافًا في المجتمع.
وبالطبع، لا تقتصر العدالة الاجتماعية على ماهية أفضل الطرق لتقاسم الفوائد الناجمة عن مكاسب الإنتاجية، لا بل تتعلق بالطريقة الصحيحة للاعتراف بالعمل الذي يحافظ على المجتمعات ويدعم سير عمل الاقتصادات على أساس يومي وتقديره، على غرار عمل الرعاية مدفوع الأجر. ويتعلق هذا البعد بشكل أساسي بالمؤسسات التي تواجه انعدام المساواة وتعزز الإدماج وتقاسم الازدهار، من خلال سياسات التوزيع المسبق وإعادة التوزيع. ويثير هذا البعد السؤال حول تأثير الاختلال في موازين القوة على توزيع الدخل وعلى المؤسسات التي تعوّض هذه الاختلالات.
ويتعلق البعد الرابع بالانتقالات العادلة. يرصد هذا البعد كيفية تأثير التحولات الكبيرة على رفاه الأشخاص مع مرور الوقت، ومنها التحولات ذات الصلة بالعولمة والتحولات التكنولوجية والديمغرافية والبيئية، وغيرها، بالإضافة إلى الأزمات المتفاقمة. ويتناول هذا البعد القدرات الضرورية لبناء مجتمعات واقتصاديات قادرة على الصمود. وينعكس ذلك في إعلان مئوية منظمة العمل الدولية من أجل مستقبل العمل «إعلان المئوية» الذي اعتمده مؤتمر العمل الدولي عام 2019، في خضم التركيز على نهج متمحور حول الإنسان في مواجهة التحولات الجارية في عالم العمل. ويركز هذا البعد بشكل أساسي على السلبيات والتدابير التي تتيح الاستفادة إلى أقصى حد من الفرص، وتخفف المخاطر بشكل يسمح للأشخاص بمواجهة الانتقالات الناشئة عن هذه التحولات والأزمات المتفاقمة.
وهذه الأبعاد الأربعة مترابطة ومتعاضدة فيما بينها، وتظهر في المجتمعات بحسب الطريقة التي يحكم فيه كل مجتمع نفسه، ولا سيّما من خلال الخيارات المتخذة في مجالات ذات صلة بتصميم السياسات وتطبيقها. ومن شأن هذه الخيارات أن تعكس العقد الاجتماعي الضمني في أي مجتمع.
وفي ذات السياق، فإن العدالة الاجتماعية، كما يُعرِّفها الاقتصادي المصري إبراهيم العيسوي، هي تلك الحالة التي ينتفي فيها الظلم والاستغلال والقهر والحرمان من الثروة أو السلطة أو من كليهما، وهي التي يغيب فيها الفقر والتهميش والإقصاء الاجتماعي وتنعدم فيها الفروق الفردية غير المقبولة اجتماعيًا بين الأفراد والجماعات والأقاليم داخل الدولة، والتي يتمتع فيها الجميع بحقوق اقتصادية واجتماعية وبيئية متساوية وحريات متكافئة ولا تجور الأجيال الحاضرة على حقوق الأجيال المقبلة، والتي يعم فيها الشعور بالإنصاف والتكامل والتضامن والمشاركة الاجتماعية، والتي يتاح لأفراد المجتمع فرض متكافئة لتنمية قدراتهم وملكاتهم ولإطلاق طاقاتهم من مكامنها ولحسن توظيف هذه القدرات والطاقات بما يوفر لهؤلاء الأفراد فرص الحراك الاجتماعي الصاعد، وبما يساعد المجتمع على النماء والتقدم المستدام، وهي أيضًا الحالة التي لا يتعرض فيها المجتمع للاستغلال الاقتصادي وغيره من آثار التبعية لمجتمع أو مجتمعات أخرى، ويتمتع بالاستغلال والسيطرة الوطنية على القرارات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية.