فرانسيس مرّاش.. أحد رموز التنوير العربي
فهد المضحكي
2024 / 3 / 9 - 11:54
تميز النصف الثاني من القرن التاسع عشر بظهور شخصيات وحركات تنويرية عدّة في الولايات العربية التي كانت تحت حكم السلطة العثمانية، بل وحتى تركيا نفسها، انشغلت تلك الحركات والشخصيات بصورة خاصة بالسؤال الشهير: لماذا تقدم الغرب وتأخرنا ؟! وهو ما سمي لاحقًا «سؤال النهضة».
في مقال له نُشر بموقع «مركز الإعلام التقدمي» يذكر الباحث السوري طارق عزيزة، إن إطلاق صفة «عصر النهضة» على المرحلة في الأدبيات العربية، نتيجة منطقية لنوعية الحراك الفكري التنويري واتجاهاته، والذي تبنّاه أعلام تلك الفترة وروادها من تنويريي العرب الأوائل في التاريخ الحديث روّج له وعملوا من أجله، وسط محيط الجهل والظلامية والتأخر في المجالات كافة، خصوصًا بعد قرون مديدة ثقيلة من الحكم العثماني المنتمي للقرون الوسطى.
كثيرة هي الأسماء التي ذاع صيتها واقترنت بها الدراسات والأبحاث التي تناولت «النهضة»، وتتبنّاها كتب التاريخ المدرسية الرسمية، كرموزٍ وعناوين لإرهاصات النهضة العربية مطلع ألف القرن الماضى وأواخر القرن الذي سبقه، من أمثال: عبدالرحمن الكواكبي، رفاعة الطهطاوي، محمد عبده، رزق الله حسون، بطرس البستاني، خير الدين التونسى، شبلي شميل وغيرهم.
كثيرة أيضًا الأسماء التي كان حظّها من الشهرة أقل مقارنة بمن ذكرنا، رغم أن بعضًا يكاد يطويهم النسيان هم المؤسسون لما بنى عليه الأعلام المشاهير، وكان تأثيرهم واضحًا وجليًا على من جاء بعدهم من الرواد ونتاجاتهم.
الباحث عزيزة سلط الضوء على رجلٍ كرّس حياته القصيرة زمنيًا (37 عامًا)، والطويلة الممتدّة في تأثيرها وعطائها، في خدمة التقدم من خلال التنوير والعقلانية، ومحاربة الجهل والتخلف الذي ساد عصره. إنه فرانسيس مرّاش (1836- 1873) ابن مدينة حلب السورية.
في عام (1850) وقعت في حلب انتفاضة شعبية ضد السلطة العثمانية، تشبه إلى حدّ ما ثورات (1848) في أوروبا. تلخّصت مطالب انتفاضة حلب بمسألتين أساسيتين: إلغاء التجنيد الإلزامي المطبّق على المسلمين، وإلغاء الجزية التي كان يدفعها المسيحيون للسلطات العثمانية.
في تلك الفترة بالذات (1850) سافر فرانسيس مرّاش إلى باريس للمرة الأولى مع والده المثقف المهتم بالشعر والأدب (فتح الله مرّاش )، حيث أقام فيها لأكثر من عام تعرف فرنسيس خلاله عن قرب - وهو المتقن للغة الفرنسية في زمنٍ عزّ فيه على السواد الأعظم معرفة القراءة أو الكتابة في لغتهم الأم- إلى نتاج عصر الأنوار والنهضة الأوروبية، وتأثر بها تأثرًا بالغًا رافقه مع عودته إلى حلب، حيث بدأ التبشير والدعاية للأفكار التي حملها معه من هناك. سيذكر في كتابه (رحلة باريس) أن عام (1850) كان «مفصلًا خطيرًا» في حياته لما له من أثر على عمله الفكري.
يعود إلى فرنسا مجددًا بعد ذلك بسنوات (1866) لدراسة الطب. لكنه سيغادرها إلى حلب دون أن يتمكن من إكمال دراسته بسبب إصابة أعصاب عينيه بالشلل، فيفقد بصره نهائيًا إثر ذلك. من ذلك الوقت بدأ يملي على الآخرين لتدوين أفكاره التي نشرها في الكتب والمقالات، ذلك أن فرانسيس مرّاش خلال مسيرته حياته نشر في الصحافة التي كانت في حينها في بداياتها الأولى في المنطقة العربية،وكان ينشر بشكل خاص في المنابر التي تتبنّى أفكارًا تنويريةً كجرائد: (مرآة الأحوال)، (الجنان)، (النحلة)، (الجوانب). كما نشر العديد من المؤلفات أبرزها (غاية الحق) حلب 1865 وهي كما يراها عدد من النقاد أول رواية عربية، (المرآة الصافية في المبادئ الطبيعية) حلب 1865، (رحلة باريس) بيروت 1867، إضافة إلى ديوان شعر له بعنوان (مرآة الحسناء).
ينتمي فرانسيس مرّاش إلى أسرة مسيحية من طائفة الروم الملكيين. وعلى اعتبار أن المسيحيين كانوا في وضعية اجتماعية أكثر سوءًا من نظرائهم المسلمين في ظل دولة الخلافة الإسلامية - العثمانية، فقد كان التمييز ضدهم يبدو جليًا في تبوّؤ المناصب الحكومية أو في بعض مجالات النشاط الاقتصادي، وفي التضييق على ممارسة شعائرهم الخاصة، ناهيك عن الضريبة / الجزية التي كانت تُجبى منهم فقط لأنهم مسيحيون.
سبّب ذلك تعميق الانقسام الديني والطائفي المكرّس أصلًا من قبل سلطة الاستبداد، وتحولت «مجتمعات» الطوائف - وما أكثرها في المنطقة - إلى ما يشبه «الغيتوهات». عزّز ذلك نفوذ طبقة رجال الدين وسيطرتهم بما لهذا من أثر في تكريس قراءتهم وفهمهم للدين ونصوصه، وفرضها حتى بالقوة على أتباعهم المؤمنين، أضف إلى لذلك التخلف والجهل السائد عمومًا آنذاك لتكتمل الصورة المزرية للحال التي كانت عليه الأفكار السائدة.
لم يمنع هذا الوضع فرانسيس مرّاش بفكرة النقدي وعقله الحرّ من تناول وبحث مسائل كانت - ولازالت - تُعد مقدسة ولا يجوز المساس بها. اتهم بالإلحاد من قبل الإكلوس في حلب بسبب مقالات نشرها في (الجنان) يتحدث فيها عن «نظرية النور» التي ظهرت في ذلك الحين وتبنتها الأوساط العلمية في أوروبا.
إن الاقتراب من مسلّمات مقدسة بهذه الجرأة العلمية والرؤية النقدية، في مجتمع متخلف ومتدين، يؤكد عمق اقتناع المفكر بدوره التنويري، وأهمية المواجهة والابتعاد عن مسايرة السائد ومجاملة طمأنينة المجتمع لمعتقداته المتخلفه، كما يعكس مدى استيعابه لأسس النهضة الأوروبية وعلى رأسها ضرورة «الإصلاح الديني». ونشير هنا إلى كتابه (المرآة الصافية في المبادئ الطبيعية) الذي يتضح من خلاله الوعي العقلاني لديه وأهمية العلم في صياغة منهجه الفكري.
وبالانتقال إلى جانب آخر لدى فرانسيس مرّاش نجد أن مفاهيم كـ: «المجتمع المدني»، «دولة التمدّن»، «الخير العام» و«الرابطة الوطنية» هي مفاهيم أساسية تتكرّر في معظم كتاباته، وهي دليل على تبنّيه لنظرية «العقد الاجتماعي» لروسّو، حتى أن الباحث (جمال باروت) وهو من أهمّ دارسي فرانسيس مرّاش يعتبره «يكاد يكون أول منوّر استوعب نظريتي (الحق الطبيعي) و(العقد الاجتماعي) التنويريين على نحو منظومي مترابط». ورغم انتماء المرّاش إلى عائلة مسيحية كما أسلفنا وخلافًا لنسبه لا بأس بها من المسيحيين الذين اعتبروا أو اعتبروا أنفسهم تحت حماية الدول الغربية، تبعًا للامتيازات التي حصلتها تلك الدول من السلاطين العثمانيين لحماية الأقليات المسيحية، إلا أن فرانسيس مرّاش بحسه الوطني العالي كان يرفض هذه الحالة جملة وتفصيلًا، وبحسب الأستاذ (باروت) فإن مرّاش يرى أنه «مادام الأجانب يستغلون التناقضات المللية والمذهبية والطائفية كذرائع لتوسعهم فإن حل هذه التناقضات بواسطة إرساء دعائم المجتمع المدني يفوّت عليهم هذه الذرائع». نعتقد أن في ذلك مؤشّرًا على أن المرّاش سبق عصره من حيث قدرته على التمييز بين الغرب الذي أنتج قيم الحرية والعدالة وحقوق الإنسان وأعلى من شأن العقل وبين الغرب المستعمر الذي أعمل نهبًا واستغلالًا للبلدان المتخلفه.
كتب الصحفي والمخرج السنمائي السوري دلير يوسف، في روايته الصغيرة «غابة الحق»، والتي لا تتعدى صفحاتها ذات القطع المتوسط المئة صفحة، يبدأ مرّاش بسرد حلمه، معتمدًا على هذا «التكنيك» من أجل طرح أسئلته الكبرى، فيقول إنه، وعندما «غمرتني لجج الرقاد، وجدت ذاتي أتخطر في برّية واسعة وكان يظهر لي عن بُعد غابة ذات أشجار ضخمة عالية بأغصان متكاثفة الأوراق ملتفّة بعضها على بعض». وفي هذه الغابة التي يراها في الحلم يبني قصة روايته.
ينصب الكاتب في الغابة هياكل التمدّن القائمة على أركان الحرية والحكمة، وشعارها «العقل الحكيم، والعلم يغلب»، وفي مقابل مملكة التمدّن تقع مملكة العبودية القائمة على مبادئ الجهل والكبرياء والبخل والضغينة والنميمة والكذب والخيانة.
في حين أن الباحث عزيزة يرى، أن مرّاش في كتابه (غابة الحق) يربط الانتقال «من مملكة التوحش والعبودية إلى التمدّن»حسب تعبيره بتطبيق «شرائع التمدّن وقوانينه» والتي من خلالها يتحوّل «مجتمع التوحّش» من «مجتمع فسيفسائي إلى مجتمع مدني»، إنها بلاشك أفكار تتبنّى بوضوح العلمانية.
وللمرّاش ريادة وأسبقية في إثارة موضوع تعليم المرأة كمقدمة أولى لتحررّها. يقول: «ولا يعتدّ بهؤلاء المتظاهرين بالتمدّن، إذا كانت رؤوس تشعشع بأنوار الأحجار الكريمة ذات الثمن الوافر والعديمة الثمرة، ولم يكن في تلك الرؤوس أدنى شعاع العقل والأدب. بل يعتدّ بهم إذا رفعوا تلك الظواهر الخالية وأثبتوها للنفقة على تعليم نسائهم وتهذيبهن ّ». وهو في كلامه لا يكتفي بالتنظير ثم يدير ظهره ليسلك نقيض ما يفكّر كمعظم مثقّفي هذه الأيام، بل يقدّم نموذجًا في الانسجام بين الفكر والممارسة حين يدعم رغبة أخته ماريانا مرّاش (1849-1919) في متابعة دراستها في لبنان، لتعود فيما بعد إلى حلب وتفتح صالونها الأدبي وتصبح من الشاعرات المميزّات في عصرها.
في زمن الإنحدار هذا الذي نعيش، يبدو أننا أحوج ما نكون إلى إعادة الاعتبار لتراث التنوير العربي الحديث، والتعرف بمبدعيه. أم أن التراث حكرُ على خطاب معيّن وأوصياء غير معيّنين؟!