رواية عتبة الجنون ماجد أبو غوش
رائد الحواري
2024 / 2 / 4 - 17:27
في النصف الثاني من القرن الماضي انتشرت الرواية السياسية العربية، طبعا والمقصود بالسياسية التنظيمات القومية واليسارية التي كانت سائدة ومؤثرة حينها، فغالبية كتاب الرواية العرب كانوا يتبنوا الطرح الاشتراكي واليساري مما جعل أعمالهم قريبة من تلك التي صدرت في الاتحاد السوفييتي، خاصة فيما يتعلق بالفكرة/المضمون.
"ماجد أبو غوش" في رواية "عتبة الجنون" يقربنا من جديد إلى تلك الحقبة من الأعمال الروائية، مضيفا إليها الحب، فبطل الرواية "غسان/نعمان المنتمي للحزب الشيوعي الفلسطيني يقدم مجموعة أفكار متعلقة بالحزب، بالحب، بمواجهة المحتل، ونظرته للحرية الشخصية من خلال علاقته بجمانة، ومن خلال موقفه من "عبد الله" ذلك المناضل الذي صمد أمام الجلاد وتجاوز التعذيب وفترة التحقيق المريرة، ليتم طرده من الحزب بعد أن أفشى الاحتلال علاقته المثلية بفرنسي، فأمسى رجل يعيش حالة من العزلة والزهد، بعد أن نبذه الحزب الذي آمن بأفكاره وتفانى في خدمته.
أعتقد أن هذه الرؤية التي يتبناها بطل الرواية "غسان/نعمان" بحاجة إلى وقفة ونقاش، خاصة بعد طرد "عبد الله" من الحزب رغم أنه فاعل ومتفاني في خدمة الحزب وأهدافه.
السرد الروائي
إذن نحن أمام رواية اشتراكية بقالب عصري، فالسرد توزع على أكثر من شخصية، "غسان/نعمان، جمانة، حسن، عبدالله، وإذا ما توقفنا عند شخصيات الرجال سنجدها بمجملها تنتمي للحزب الشيوعي الفلسطيني، ورغم أن حجم السرد الأكبر كان من نصيب "غسان/نعمان" إلا أن "عبدالله" أخذ أطول فصل في الرواية (11) من صفحة 57 وحتى صفحة 77، وهذا يشير إلى انحياز السارد "لعبدالله" حيث اعترف بأنه يشعر بالظلم الذي وقع عليه بعد أن تم طرده من الحزب، فبدا حجم السرد الطويل الذي أعطاه "لعبد الله" كتكفير عن طرده من الحزب.
وإذا ما توقفنا فصول الرواية سنجد أن السارد بدأها بمقاطع شعرية أو مقاطع غنائية، وهذا ما أعطى الرواية لمسة ناعمة لما فيها من مزج بين النثر والشعر، وهذا انعكس ـ أحيانا ـ على لغة الرواية التي بدت لغة شعرية: "هنا يموج البحر كلما تنهدت عاشقة لوعها الغياب، هنا في مدن السواحل تسكن آلهة الحب" ص24و25، وهذا ما جعلنا نقول إننا أمام رواية كلاسيكية بمنظور معاصر حديث.
الكاتب والسارد
"ماجد أبو غوش" شاعر وروائي، وهذا ما جعلة يتمسك بالشعر في رواية "عتبة الجنون" من خلال وجود مقاطع شعرية، كما أننا نجده (يكرر) تجربته التي جاءت في رواياته "عسل الملكات، سارة حمدان، قلب الذئب" حتى أننا نجد عين المشهد اعتقاله وهو يستقل السيارة بجانب "جمانة" ونجده يستخدم ألفاظ "الذئب" كما فعل في الشعر والرواية:
"ماذا يفعل الذئب
دون الركض في البراري
دون ملمس العشب الطري
ورائحة الخطر؟
يملأ الغرف المكيفة عواء
أو...
يصبح كلبا)
والذئب أو الذئبة لا يقترب من المحارم، ولا مارس تعدد الزوجات، وبار بوالديه، ويتلبسه الحزن الشديد إذا فقد زوجته أو إذا فقدت الذئبة زوجها" ص8و9، هذا الطرح يتماثل تماما مع قصائد وروايات "ماجد أبو غوش" التي يمجد فيها الذئب، وما وجود رواية قلب الذئب" إلا أفضل دليل على هذا الانحياز للذئب الذي نجده حاضرا في العديد من أعماله الروائية والشعرية.
رؤية السارد
يقدم السارد مجموعة من الأفكار منها ما هو متعلق بالحب الذي يراه بهذا الشكل: "والمحب لا يكتفي بنصف حياة، لا يكتفي بنصف حب، المحب يسعى ويركض خلف حياة كاملة، حياة حقيقية.. نافرة في حريتها، نصف الحياة أو ما يشبه الحياة للناس العاديين الذين حرموا نعمة الحب والشوق واللهفة، نصف الحياة للذين حرموا نشوة المشي حفاة على رمال شاطئ البحر اللاسعة أو الرطبة، شبه الحياة للذين استمرؤوا العبودية وقبلوا بفتيات الملقى على جوانب الطرقات واسفل موائد الأغنياء" ص7و8، نلاحظ أن هناك أفكار تتجاوز الطرح السائد/العادي، وهذا يقودنا إلى الأفكار التي يريد طرحها السارد، فهو لا يقدم عملا ترفيهيا، بقدر عمل يحمل أفكاره رؤيته للحياة/للحب، من هنا وجدناه يقدم في رؤيته في الحب والحياة.
أما فيما يتعلق بالحزب فيراه بهذه الشكل: " ـ وما لنا نحن الفقراء بالجنة والنار، نحن نكتوي بالنار منذ ولادتنا، ولا أظن أنه سيكون لنا مكانا في الجنة إلا إذا احتوت الجنة على سوق الخضار واحتاجوا لعتالين هناك.
ـ يخرب بيتك يا عبدالله، صاير شيوعي؟
ـ ليس بعد، لكنني سأصير
ـ لقد جننت يا عبدالله.
ـ لماذا يا صديقي؟ دلني على العقل فيما نحن فيه" ص70و71، من خلال الحوار نلاحظ فكرة الحزب من الدين، وتأكيده فكرة الصراع الطبقي كعامل أساسي في حياة المجتمع، وهذا الطرح يشير إلى البعد الإيديولوجي الذي تحمله الرواية، ودوره في رفع الحس الطبقي عند المتلقين.
وفي رؤيته للمواجهة يقول: "حيوات عديدة كنت فيها حرا إلى درجة تعدد ميتاتي فيها، تشنقا على أيدي قطاع الطرق في صحراء النقب عندما أبيت التنازل لهم عن وجودي، وحرقا على أيدي مطاردي الساحرات عندما تصديت لجرائهم بإحراق امرأة بريئة كل ذنبها أنها نزلت النهر عارية في ليلة مقمرة في ضواحي مدريد، وصلبا بمسامير ومطارق بطاركة أنطاكيا عندما اتهموني بالتجديف، عندما قلت أن الله ليس بحاجة لحراس وخدم ومنزلا ضخما مزخرفا لعبادته، ورميا بالرصاص ببنادق المستعمرين الإنجليز في جبال الخليل عندما رافقت القائد الشيوعي "فؤاد نصار" في حربه ضد الغزاة والمستعمرين" ص 20و21، نلاحظ وجود البعد الأممي والوطني، فهو يتناول تاريخ الكنسية وما فيه من قمع واضطهاد لكل من لا ينسجم في سلوكه أو قوله معها، ونجده يتحدث عن الاحتلال الإنجليزي والصهيوني، (متجاهلا) البعد القومي العربي، وهذا ما يجعل الرواية تحمل أفكار "نعمان/غسان" عن الحزب الشيوعي الفلسطيني الذي غير اسمه إلى حزب الشعب الفلسطيني.
المكان
اللافت في الأدب الفلسطيني تركيزه على المكان، وهذا يعود إلى استيعاب الأديب/الكاتب الفلسطيني لطبيعة الصراع مع العدو الصهيوني، فالجغرافيا/المكان أحدى أهم عناصر الصراع مع المحتلين، من هنا نجد السارد يذكر أكثر من مكان في الرواية، حتى أنه يتنقل من شمال فلسطين إلى جنوبها، ومن شرقها إلى غربها، وفي أكثر من فصل وموضع في الرواية، وما يمز رواية "على عتبة الجنون" أنها تقدم المكان ببعده الاجتماعي وعلاقته بالإنسان الفلسطيني: "هنا في مدن السواحل أبواب مقفلة ومفاتيحها في مخيمات اللجوء، هنا العتبة الكبرى من عتبات الجنون، (لمن أراد ذلك) هنا يموج البحر كلما تنهدت عاشقة لوعها الغياب، هنا في مدن السواحل تسكن آلهة الحب... يقول (حمودي الريحاوي) الغواص وصياد السمك: إن العكي برفض ويقاوم الإغراءات والتهديدات اليومية بترك بيته المتواضع لقاء مبالغ طائلة من المال، يقاوم التضييق عليه في لقمة العيش، ومسكنه وحياته اليومية، لسبب بسيط جدا، أن العكاوي إذا غادر المدينة يختنق، هل شاهدتم سمكا يعيش خارج الماء؟" ص23و24، فهنا قدم السارد صورة وافية عن معناته الفلسطيني في وطنه وخارجه، فالمهاجر ما زال يحن ويريد العودة إلى المكان الذي أجبر على تركه مكرها، والمتبقي في وطنه يتعرض لمضايقات من ترهيب وترغيب لترك بيته، لكن الفلسطيني يعرف طبيعة الصراع لهذا حسم فكرة المغادرة نهائيا، لأنها تعني الموت بالنسبة له، ونلاحظ أن السارد يربط الفلسطيني بالمكان من خلال أقران "حمودي" بأريحا "الريحاوي" وهذا ما يوصل فكرة ارتباط الفلسطيني بوطنه/بالمكان الذي ولد فيه.
الاحتلال
بما أن هناك احتلال فلا بد من التوقف عند ما يقوم به من جرائم بحق الفلسطيني، يحدثنا السارد عن العديد من هذه الجرائم، منها الاعتقال: "توقفنا جانبا بناء على إشارة الجندي (الذي بدى غاضبا ومدججا بالسلاح) لنا بالتوقف، مرت دقائق طويلة وثقيلة قبل أن يدنو من نافذة السيارة وجه قبيح وكريه، يرافقه عدد من الجنود المصوبين بنادقهم إلينا ... وجه كان يطل علينا من نافذة الزنزانة الضيقة في معتقل رام الله العسكري نهاية السبعينيات ... دفعوني إلى ظهر عربة عسكرية مكشوفة، صعد (أبو مالك) إلى جانب السائق أمرا إياه بالتحرك" ص37و39، وقع هذا الاعتقال ثقيل جدا على "غسان" لأنه جاء أثناء عودته إلى بيته مع رفيقته "جمانة" وجاء دون اقترافه أي ذنب، فالاحتلال يريد أن يعرف من "غسان" كيف يدخل ويخرج "محمد عادل" الذي انقطعت علاقته به منذ زمن طويل، فيقبع شهرا كاملا تحت التعذيب وفي ظروف قاهرة دون أي تهمة ودون أن يقابل أي محامي.
أما عبدالله" فيتحدث عن اعتقاله وكيف عُومل في المعتقل: "بدأ المحقق يصرخ مثل المجنون، اسحبوا هذا الكلب من هنا، في الخارج، لا تقدموا له الطعام ولا الماء، لا تدعوه يقضي حاجته إلا في ثيابه، أخبروا كل المعتقلين أنه شرموط، ربما أمضيت عدة أيام نصف معلق إلى عمود في ساحة عارية أمام خيمة المعتقلين، ارتجف من البرد والبلل والتعب والجوع" ص77، هكذا يعامل الاحتلال الفلسطيني، فكل من يدخل الزنزانة عليه أن يواجه هذه الأساليب غير الإنسانية، وما على الفلسطيني إلا الصمود والثبات والاستمرار في مقاومة المحتل.
الرواية من منشورات مكتبة كل شيء ناشرون، حيفا، الطبعة الأولى 2024.