المعنى والرمز في نص(يوم في العاصمة) للشاعر علاء سعود الدليمي

الشعراء المبدعون، كما لسواهم من الكاتب، لهم خاصية أو ميزة، تميّزهم عمن سواه من المبدعين؛ والميزة هذه هي لونهم الخاص بهم، حيث إنّ لكل واحد طريقته المعينة، التي أتخذها لنفسه. طريقة مختلفة تواكب سير إبداعه، وميوله في هذا الخضم، بمعنى آخر هي السمة البنائية التي يجيدها المبدع، ونراها حاضرة في خياله، وهو دائم التحكم فيها، وخصوصية توصل إليها بعد معاناة، ومواصلة دؤوبة بقراءات مركّزة، وتفكير عميق.
وانطلاقاً من هذا المبدأ، هناك ميزة تميّز الشاعر علاء سعود الدليمي بها، ميّزته عمن سواه، من الشعراء الآخرون، المعاصرون له، هو أنّه يركب صهوة ابداعه، حاملا مع يراعه، يجوب النهارات، بحثا عن ظله الذي أختفى خلف جدار الشمس، خصوصًا في هذا النص الذي هو الآن بين يدينا.
وثمّة ميزة أخرى، تميّز بها هذا العاشق العنيد، وأحيانا المسالم الطيّب الوديع، الذي يهفو إلى صوت الحبيبة المغرّد، من خلال قصائده التي يبوح بها كرسائل، والحبيبة تنتظر هطولها بشغف، من بين تلك الغيوم النابضة بالدهشة. قصائده التي تجلس على حافة البحر تناغم طيف الحبيبة، كالأمواج الجذلى الساطعة بضياء هادر، ينساب بتلذذ إلى القلوب الحانية بشوق عذب.
"النهارُ شتاءً
لكنهُ دافئٌ
فالشمسُ تدورُ
تصاحبُ ظلي
تسبقني بخطوةٍ
بل خطوتين أو ثلاث
فهي الدفءُ
وأنا خضرةُ القريةِ"
فحينما يترجم الشاعر قصائده إلى عواطف دافئة، سوف يصبح أفق خياله شعلة متأججة تأخذ بمشاعره الجياشة نحو الأبعاد، إلى مناطق أكثر سخونة، ذلك لأنّ القصائد الأكثر بوحًا تغتزل الطرق النائية، لتصل، بالتالي، إلى جُل القلوب النابضة بالحب، المتشبثة بالوئام؛ على اعتبار الشعر هو رسول سلام يشيع الجمال في كل مكان من العالم. والشاعر علاء سعود الدليمي؛ جعل الشمس تصاحب ظله، فلولا هذا القلب الخفاق الذي يمتلكه هذا العاشق الوله، لما انصاعت له تلك الشمس وأطاعته، وصاحبته كحبيب منصاع لحبيبه.
"لا بردَ في العاصمةِ
النوارسُ حولَ الجسرِ
تستمتعُ بالجمهورِ
يُطعِمُها قُبلًا
فتحلقُ حولهُ
بصخبِ الحبِّ"
الصورة التي يبنيها الشاعر لنا، هنا، نستطيع القول عنها أنها مغايرة جدًا، ومخالفة لما يكتب الكثير من الشعراء، من ناحية الرمز الصوري والبناء الهيكلي العام للقصيدة، أستطيع أن اسميه "سردًا" إن جاز لي التعبير هذا، كون السّرد هو من خصوصية الرواية والقصة، كما أعتقد؛ وهذا البناء يعتمد على فضاء الأفق الذي يتمتع به المبدع/ الشاعر. فالصورة التي يصورها الشاعر- بهذا النص – (النورس هو الذي يتمتع بحضور الجمهور)، ولو أنّه، أي الشاعر، قال العكس لتهشمت تلك الصورة، ولم يبق لها أي معنى، وأصبحت حطاما يذروه الإهمال.
فضلا عن كل ذلك، ثمة كثافة بالمعنى، وزحام في اللغة التي أسّس لها الشاعر، لتكوين الصورة التي رسمها بريشة ابداعه، فجاءت طبق الأصل لما رسمها مسبقاً في خياله، وهذه الخصوصية قد يُقال: – وهي مقولة صحيحة – إن جميع الشعراء يفعل ذلك؟. تمام، إلّا أنّ ثمة تفاوتا، والتفاوت هذا يكمن بعمق ابداع الشاعر/ المبدع، بمعنى أنها المَلكَة التي يمتلكها، ويعالج فيها قضاياه بحرفية عالية. فالصورة الجمالية تشع بنورها حينما يسكب الشاعر زيت ابداعه على لظى مشاعره، فتأتي الصورة تعج بالحيوية والانطلاقة الجياشة صوب التوهج، الواضح في ايقاع القصيدة.
"أدورُ أدورُ
بينَ أزقةِ بغدادَ
أزاحمُ الهواءَ
أصففُ شعرها
قبل أن يلمسهُ زجاجُ النافذةِ"
المعطيات للنص، هنا، ترفل بالنزوح حول (أزقة بغداد – الهواء – وزجاج النافذة) فثمة ترابط جمع الأضداد، لتكوين جملة شعرية أتسمت بجمالية المعنى، الذي يريده الشاعر، ولها امتداد لمخياله. كلّ هذا جعل من تلك المعطيات تنصاع لجمال الصورة الشعرية، وترضخ لأمر الشاعر. وصفوة القول أن مخيال الشاعر في تكوين الصورة، يبدو مختلفا جدا وباذخ، أعم من المبدع الآخر؛ كالكاتب والمفكر ومن كان على شاكلتهما. فهو، أي الشاعر، المعاني حاضرة دائما عنده، ويستطيع جلبها في الوقت المناسب، وهي بطبيعتها مختلفة لما تفيض من جعبة الكاتب والمفكر، فالحقل الذي يجيد العمل فيه الشاعر مختلف جذريا عنهما، وادواته تفترق عن أدواتهما، فالجملة الشعرية هي ليست كالجملة الفلسفية، أبدا، والعكس ليس صحيحًا، فهناك بون شاسع.
قليل من الشعراء الذين أقروا باعترافاتهم، خارج نصوصهم، وربما داخلها يوجد الكثير؛ عكس الفلاسفة فهناك يوجد العشرات منهم مَن اعترف على نفسه، وأقرّ بذلك. وهنا نجد اعتراف شاعرنا الدليمي من نوع آخر، اعتراف مختلف جاء في داخل مضمون نصه الشعري؛ وهذا المقطع هو ذيل النص وفيه خاتمة موفقة، عبّر فيها الشاعر عن فيض من فيوضات إبداعه، انسجمت هذه الفيوضات وما يشكوه من ولهٍ بغانيته التي هي بغداد، بلا شك، مدينة الشاعر الهائم بتجليات معانيها المموسقة، وجمالها الأخاذ، فهي حبيبته التي في كل حين يمطرها بالقُبلات. وأخيرًا؛ فنص الشاعر يتم فيه تجلياته الكامنة في لهفة الشوق لدنو تلك الحبيبة.
"قبل اليوم لم افقه موسيقى النبض
صاخبةٌ... دافئةٌ... رقيقةٌ كالنسمةِ
تلكَ القبلةُ التي تاهتْ بــنصفِ المسافةِ
ما أسرع الوقتُ
سبقني النهارُ
لا بدَّ أن اعودَ لأرضي
كي أغرسَ ثغركِ فيها".