سورية وفلسطين وما وراء نموذج الإبادة السياسية
ياسين الحاج صالح
2024 / 1 / 2 - 16:27
تأتي من غزة كل يوم صور "سورية": أجساد محطمة، دمار كاسح، وانهيار متفاقم للحياة المدنية، حتى أن بعض الصور السورية فعلاً نسبت إلى غزة، بما في ذلك من قبل مساندين للحكم الأسدي. على أن هناك فارقاً في كثافة إنتاج الموت والدمار بين سورية وغزة. خلال شهرين ونيف حققت إسرائيل بسلاح متفوق ودعم غربي فاجر ما احتاج إلى سنوات من الحكم الأسدي وحماته، ثم أن مساحة القطاع الصغيرة قياساً للقوة النارية الإسرائيل تيسر بدورها فارق الكثافة. لكن وصف المحصلة لا يختلف: استباحة للبشر بلا حدود، وسط ما يتراوح بين اللامبالاة والدعم الدولي، كأنما المستباحين خارج العالم، جنس غريب خطير.
الكلام على فلسطنة السوريين بوصف إسرائيل نموذجاً شرقأوسطياً للإبادة السياسية يقيم علاقة بنيوية بين القتل الجماعي للسوريين والفلسطينيين، ويحوز ميزة تفضيلية على تصورين منافسين. تصور أول إيديولوجي يمانع جمع بلد عربي يجاهر بممانعته لإسرائيل مع إسرائيل ذاتها في نموذج إبادة سياسية يشملهما. لكن من شأن نظرة إلى الزمنية المتوسطة، نصف قرن وزيادة من الحكم الأسدي أو العقود الستة للحكم البعثي، أن يوضح كفاية تعرض المجتمع السوري لقطع رأس سياسي متكرر، يحاكي ما تعرض له الشعب الفلسطيني. ونعرف بعد ذلك أن المثال السوري مندرج كذلك في نظام إبادة سياسية أوسع انتشاراً في المجال العربي، هو بمثابة إعادة إنتاج لإسرائيل في بلداننا كلها بدرجات متفاوتة. والتصور الثاني هو افتراض تفاهم تحت الطاولة بين الحكم الأسدي وإسرائيل، بحيث يبقى النظام وتتدمر سورية، وقد يحال إلى تصريحات إسرائيل متكررة بالفعل عن أنه ليس لديهم مشكلة مع نظام بشار الأسد، أو حتى أن إسرائيل تريده أن يبقى. لا ضرورة لافتراض اتفاق سري، والتصريحات المذكورة لا تحيل حتماً إلى شيء كهذا. تحيل بالأحرى تقدير إسرائيلي عقلاني بأن نظاماً لا يكف عن اإبادة محكوميه الذي تربطهم بالفلسطنيين روابط كثيرة وعميقة هو شيء طيب.
وفضلاً عن ذلك فإن الكلام على فلسطنة السوريين، وهو يعود فيما يخص كاتب هذه السطور إلى عام 2015 على الأقل، يمكن أن يكون ركيزة لنضال مشترك، وبالتأكيد لرفض صراع المظلوميات الذي يريد البعض هنا وهناك تنشيطه.
على أن فلسطنة السوريين تحتاج بعد غزة إلى تكميلين. أولهما أننا نرى اليوم ضرباً من "سرينة" الفلسطينيين، استباحتهم العلنية الفاجرة التي يحدث أن يسوغ متكلمون إسرائيليون بالذات بما قام بها النظام الأسدي بمحكوميه، بما يضفي مزيداً من الوجاهة على فكرة أن النظم الشرق أوسطية، ونظم العالم ككل، تصنع ممكنات لبعضها، وصولاً إلى صنع مستحيلات، أو ما كان يبدو كذلك قبل قليل. فإذا أمكن هنا قتل الناس بعشرات الألوف ومئاتها بالتعذيب، أو بالسلاح الكيماوي أو بالبراميل، وبالفوسفور الأبيض والقنابل الفراغية، فلماذا لا يمكن هناك؟ والتكميل الثاني يتمثل فيما يبدو من أن نموذج الإبادة السياسية بالذات يقوم على أرضية اجتماعية فكرية سياسية، تشرِّع الإبادة: قتل البرابرة أو الهمج أو غير المتحضرين، أو الإرهابيين في لغة الأسديين والإسرائيليين على حد سواء. هذه الأرضية ليست حديثة جداً، فهي تتلامح باتساع منذ عقود، منذ ثمانينات القرن العشرين على الأقل، لكنها تلقت دفعاً حاسماً مع فشل الثورات العربية، أي فشل التحول الديمقراطي في منطقتنا، ثم عبر صعود التيارات القومية والدينية اليمينية في الغرب، مستفيدة جزئياً على الأقل من "أزمة اللاجئين".
في المجال العربي يأخذ هذا النموذج الاجتماعي الفكري السياسي الجديد شكل حداثة فوقية بلا سياسة ولا حقوق ولا نقاش عام ولا حتى مجتمع، ومثاله الإمارات العربية المتحدة، وبصورة مطردة السعودية اليوم. ولا يقع نظاما بشار الأسد وعبد الفتاح السيسي خارج هذا التكوين، وأن تكن مناهجهما في نزع السياسة والحقوق والنقاش والاجتماع مغايرة، وتقوم أساساً على النظر إلى السكان كفائض بشري يعامل بفائض من العنف الخام. وفي بلدان الغرب يأخذ النموذج شكل النزعة الحضارية، التي تدافع عن أوربا بيضاء ومسيحية أو مسيحية يهودية، وتضع المهاجرين واللاجئين تحت الرقابة، على نحو ربما تشغل ألمانيا موقعاً طليعياً فيه. بعد غزة ثمة تآكل للنقاش العام في بلدان قامت نظمها الديمقراطية على النقاش العام، وهناك ترسخ للصوت الواحد في أنظمة الصوت الواحد مثل بلداننا. طريق التجاوز، تجاوز محدودية النقاش باتجاه إشراك الغائب: المهاجرين، الملونين، النساء، الفقراء، والبيئات الحية، مسدود.
ما يميز هذا النظام هو أنه يقوم على نزع إنسانية القطاعات غير صاحبة الامتيازات من البشر وجعلهم فائضين أو نافلين، على طريقة الأنظمة الشمولية حسبما حللتها حنة آرنت. لكن لسنا حيال شكل جديد من الشمولية اليوم، بل ببساطة شكل جديد من الحكم الطبقي المتطرف: حكم أرستقراطيات ممتازة، تجنح لأن تكون وراثية، سواء كانت الوراثة عائلية (سورية)، أم عسكرية (مصر)، أم إثنية دينية (الهند وإسرائيل) أم "حضارية" (في الغرب)، يجمعها معاً شرط اللابديل والعمل على تأبيد الحاضر. وهذا أخطر ما في الأوضاع الراهنة، لأنه يعني بصور مختلفة حرباً مفتوحة ضد المستقبل، على نحو ما نعرف من المثال السوري. يجمعها كذلك استهتار متزايد بالحياة البشرية يبدأ في الغرب من اللاجئين والمهاجرين الذين اقترح زعيم حزبي ألماني قبل قليل نقلهم إلى رواندا (سائراً على خطى حكومة المحافظين البريطانية)، لكن لا يحتمل أن يقف عندهم، بعد السوريين والفلسطينيين والأفغان يأتي دور عموم المسلمين، بمن فيهم الأتراك، وبعدهم ربما الأفارقة... وعموماً، لا يبدو أنه مر وقت منذ الحرب العالمية الأولى على الأقل كانت "الجماهير" عبر العالم كله تقريباً بلا وعود وبلا اعتبار، تعيش حاضراً ضحلاً عنيفاً لا ينتهي، وتعاني من الاستباحة والقتل الجماعي.
فإذا صح ذلك كانت الفلسطنة نموذجاً يتعمم شرق أوسطيا وعالمياً، ويتوافق مع بنى اجتماعية تقوم على الامتياز وعلى تأسيس فكري لللامساواة (البيان المشين لهابرماز وأخرين يمكن فهمه كمساهمة في هذا التأسيس عبر المجاهرة بالدعوة لتضامن انتقائي). وكانت الإسرلة القائمة على إخراج الفلسطينيين من الحقوق والسياسة والنقاش، وتفتيت مجتمعهم، وأكل كيانهم، الوجه الآخر للفلسطنة إقليمياً وعالمياً. وتقوم الدول أكثر وأكثر بدور حراسة هذا النظام الجديد، فتسحق المتمردين عليه، وتؤلف قلوب قطاعات من النخبة، وتجعل حياة القطاعات غير القابلة للرشوة أشد صعوبة. ولعل زمن الاغتيالات ليس بعيداً جداً.
الغرض أن المسألة أوسع من سورية وفلسطين، وأن هناك عمق استراتيجي عالمي لللاستباحة والإبادة الجارية، يتثمل في تحول عالمي محافظ، أسفر عن وجه رجعي وعدائي بعد غزة. وأن التعامل مع البشر كفائض يستحسن التخلص منها بفائض من العنف قد يصير سياسية مقبولة بذارئع مختلفة.
وعل نطاق أضيق، الغرض هو المساهمة في إعادة التأسيس الفكري لخطاب الربيع العربي على نحو يعيد الربط بين قضية الديمقراطية والتحرر من الطغيان بالتحرر الفلسطيني ومقاومة الاستعمار بصوره القديمة والجديدة. منذ سبعينات القرن الماضي أخذ يتلامح هذا الربط، وإن لم يصغ في صورة جذرية تظهر أسرلة الحاكمين وفلسطنة المحكومين. قبل قليل استطاع حرباء متلون وعاشق لنفسه أن يصف الربيع العربي ككل (وليس الثورة السورية وحدها) بـ"الربيع الغربي". عدا عن نزعة اتهام وكراهية مميزة للحكم الأسدي والثقافة الأسدية، وعدا عن إرسال الكلام كيفما اتفق دون نقاش ودون برهنة، هذا جزء من الهجوم الإيديولوجي الذي تطلع دوماً إلى تخوين النضال الديمقراطي، مرة باسم العلمنة، ومرة باسم القومية، وفوقهما اليوم ركون تام إلى الاستعمار الإيراني وأدواته ومنابره الطائفية.