أجندة أمريكية تقوّض السلام
فهد المضحكي
2023 / 11 / 25 - 12:21
يتفق معظم المراقبين على أن منطقة المحيطين الهندي والهادي «الإندو باسفيك» سيكون لها دور كبير في تشكيل معالم النظام القادم، لما لها من ثقل اقتصادي وسياسي وديموغرافي وأمني متزايد، وفي الوقت الذي تنتقل فيه «حلبة الصراع الدولي» إلى الشرق، مع تسارع وتيرة التنافس الاستراتيجي بين الولايات المتحدة والصين في منطقة المحيطين الهندي والهادي، إذ تركز واشنطن جهودها بشكل أساسي على تشكيل تحالفات ضد الصين. تذهب بعض التحليلات إلى أنه في الوقت الذي تتقدم فيه الولايات المتحدة ادعاءات رنانة بشأن «تعزيز السلام والازدهار والتقدم في منطقة آسيا- الباسيفيك من خلال قوة الشراكة، تعمل فعليًا على تأجيج الانقسام والتحريض على المواجهة وتقويض السلام في المنطقة. تهيمن بشكل أساسي عقلية الحرب الباردة ومبدأ «أمريكا أولاً» على «القيادة الأمريكية» بغض النظر عن مصالح حلفاء الولايات المتحدة، ويظهر ذلك بشكل أساسي في هيئة «الدبلوماسية القسرية». فيما يتعلق بالنواحي السياسية العسكرية، لم تتوقف الولايات المتحدة قط عن تشكيل تكتلات من خلال إجبار الآخرين على الانحياز إلى جانب، والضغط من أجل تسلح عسكري بين دول آسيا - الباسيفيك لا يفيد سوى واشنطن فقط. من الناحية الاقتصادية، استخدمت الولايات المتحدة بشكل متكرر التفوق العالمي للدولار الأمريكي لتصدير أزماتها إلى الأسواق الصاعدة والبلدان النامية في المنطقة، تاركة تلك الأسواق والدول تتحمل العبء الأكبر. فضلًا عن ذلك، للحد من نفوذ الصين في المنطقة، كثفت الولايات المتحدة وحلفاؤها جهودهم لاستغلال مفهوم «الأمن الوطني» بهدف إضعاف علاقات الصين بالاقتصادات الصاعدة غير المنحازة.
تشير إحدى الدراسات، تكتسب منطقة الإندو باسيفيك أهمية استراتيجية لدى القوى الكبرى المتنافسة على قمة النظام الدولي، لاسيما أن الصين تعتبرها مجالًا حيويًا لتحركاتها الخارجية في مبادرة الحزام والطريق التي تسعي من خلالها لعزيز مكانتها الاقتصادية، في حين تعتبرها الولايات المتحدة وحلفاؤها في تلك المنطقة فرصة للحد من الصعود الصيني، وتوظيف التحالفات الرامية للاستفادة من الموارد الاقتصادية الضخمة التي تزخر بها تلك المنطقة، خاصة وأن الإندو باسيفيك تمتد جغرافيا عبر المساحة الواصلة بين المحيطين الهندي والهادئ. والمنطقة كما كتب الباحث د. مبارك أحمد، بها نصف سكان العالم، حيث تضم أكبر دولتين من العالم من حيث عدد السكان الصين والهند، وتمتلك 40 % من الناتج الأجمالي العالمي، إذ بها ثاني وثالث أكبر اقتصادات العالم الصين واليابان، وبها عدد من الممرات المائية البحرية الحيوية مثل مضيق ملقا الذي يربط بين المحيط الهندي وبحر الصين الجنوبي. تتنوع دوافع الصراع في منطقة الإندو باسيفيك، وهو ما يمكن ابراز أهم الدوافع في التالي:
أولاً، الحد من الصعود الصيني: يعكس التوجه الأمريكي إزاء آسيا بشكل عام وإزاء منطقة الإندو باسيفيك تحديدًا سعيًا للحد من الصعود الصيني في ظل تعاظم القدرات الاقتصادية للصين التي ترشحها تقديرات الهيئات الاقتصادية، التي تمثل الآن ثاني أكبر اقتصاد في العالم مرشحة لأن تكون أكبر اقتصاد في العالم بحلول عام 2035. لذلك تعتبر الولايات المتحدة أن سياسة الصين في تلك المنطقة تضر بمصالحها، وتقوّض تحالفاتها وشراكتها في المنطقة، بما يؤثر على مكانتها الدولية. في حين ترى الصين أن منطقة آسبا- الباسيفيك أو آسيا - الهادئ أرضًا واعدة للتعاون والتنمية وليست رقعة شطرنج للمنافسة الجو سياسية.
ثانيًا، تعزيز الهيمنة الأمريكية: وفقًا لوزير الخارجية الصيني وانج يي فإن الهدف الحقيقي لإستراتيجية الإندو باسيفيك، هي إنشاء نسخة للناتو في تلك المنطقة، التي تسعى إلى الحفاظ على نظام الهيمنة الذي تقوده الولايات المتحدة، وتقويض بنية التعاون التي تركز على الآسيان، معتبرًا تلك الإجراءات الضارة تتعارض مع الطموح المشترك للمنظمة في السلام والتنمية والتعاون وتحقيق نتائج مربحة للجميع، وتعزيزًا لتلك الهيمنة جعل الرئيس الأمريكي السابق «دونالد ترامب» الإندو باسيفيك على قمة أولوياته من خلال طرح مبادرة، لإنشاء منطقة الإندو باسيفيك حرة مفتوحة تقوم على احترام سيادة واستقلال جميع الدول في المنطقة والحل السلمي للخلافات، وتجارة حرة وعادلة ومتبادلة قائمة على الاستثمارات المفتوحة. وقد تعزز هذا التوجه بتغيير اسم قيادة الباسيفيك أو المحيط الهادئ إلى القيادة الأمريكية للإندو باسيفيك عام 2018 ومركز قيادتها «هونو لولو» عاصمة جزر هاواي. وهي واحدة من بين 6 قيادات عسكرية أمريكية منشرة عبر العالم، وسعيًا للحفاظ على الهيمنة الأمريكية في منطقة الإندو باسيفيك أعلن الرئيس جو بايدن عن مبادرة اقتصادية للتجارة الإقليمية عرفت بإطار العمل الاقتصادي لمنطقة الإندو باسيفيك من أجل الازدهار، والذي يضم 12 دولة هي: الولايات المتحدة، وأستراليا، وبروناي، والهند، وإندونيسيا، وكوريا الجنوبية، وماليزيا، ونيوزيلاند، والفلبين، وسنغافورة، وتايلند، وفيتنام.
ثالثًا، توظيف التحالفات الدولية: تشكل التحالفات الدولية أحدى وسائل واشنطن للحفاظ على مصالحها ودعم مصالح حلفائها في منطقة الإندر باسيفيك. لذلك أعلنت الولايات المتحدة في سبتمبر 2021 عن تحالف «أوكوس» ليتشكل من الولايات المتحدة وبريطانيا وأستراليا، ويقوم التحالف على إمداد أستراليا بتكنولوجيا الغواصات النووية وتبادل المعلومات في المجالات الأمنية والدفاعية والتكنولوجية والذكاء الاصطناعي، وقد اعتبرت بعض التقديرات أن تشكيل التحالف من واشنطن، لإعادة ترتيب هيكل القوة في منطقة الإندو باسيفيك، لاسيما أنه يعد بمثابة حوافز أمريكية لحلفاء واشنطن لمواجهة الصين. كما قام الرئيس جو بايدن بإعادة تفعيل تحالف «كواد» أو الحوار الأمني الرباعي الذي يضم إلى جانب الولايات المتحدة كلاً من الهند واليابان وأستراليا، لمواجهة التمدد الصيني والحد من صعوده. وتعزيزًا لدور تلك التحالفات، فإن كتاب «مايك بومبيو» وزير الخارجية الأسبق الصادر في 2023 بعنوان «لا تنازل عن شبر في القتال لأجل أمريكا التي أحبها» أظهر أهمية الحليف الهندي الذي يعد نقطة ارتكاز في مواجهة الصين نظرا لموقعه الاستراتيجي في جنوب شرق آسيا، معتبرًا أنه سيكون للكتلة المضادة للصين المكونة من الولايات المتحدة والهند واليابان وأستراليا وكوريا الجنوبية والمملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي وزن اقتصادي لايقل عن ثلاثة أضعاف وزن الصين.
رابعًا، تسليح حلفاء واشنطن: أضحى الاتجاه نحو عسكرة منطقة الإندو باسيفيك ملمحًا رئيسيًا لسياسات القوى الرامية إلى تعزيز تنافسها وحماية مصالحها الإستراتيجية، كان من أبرز تلك التوجهات السياسية الدفاعية اليابانيه الجديدة، التي تضمنت تعزيز قدراتها العسكرية وزيادة حجم إنفاقها العسكري إلى 320 مليار دولار خلال الخمس سنوات المقبلة، التي بُررت لمواجهة التحدي الاستراتيجي الأكبر ممثلًا في الصين في إطار استراتيجيتها الجديدة للأمن القومي التي أعلنتها في العام الماضي. مجمل القول إن مستقبل الصراع في الإندو باسيفيك سيتوقف على مدى قدرة القوى الكبرى على إدارة تناقضات مصالحها بما لا يخل بالأمن الإقليمي للمنطقة، لاسيما أن تلك القوى على رقعة شطرنج الإندو باسيفيك، وما تزخر به تلك المنطقة من موارد اقتصادية تجعل من التعاون بديلًا مناسبًا للصراع الدولي.