حامد عمار.. شيخ التربويين العرب


فهد المضحكي
2023 / 11 / 11 - 11:34     

برحيل شيخ التربويين د. حامد عمار (1021-2015) يكون الجيل الثالث من الآباء المؤسسين للتربية العربية قد أفل. في مقال رصين للدكتور محسن خُضر يذكر فيه: إذا اعتبرنا أن الجيل الأول يمثله الشيخ رفاعة الطهطاوي وعلي مبارك، وهما المؤسسان للجيل التنويري المصرى، فالأول نشر جيل التعليم الحديث فى مصرح «المرشد الأمين في تعليم البنات والبنين» والثاني أصدر لائحة رجب المانيفستو الأب لحق أبناء المصريين في التعليم المجاني، فإن طه حسين وعبدالعزيز جاويش وإسماعيل القباني ونبوية موسى وانصاف سري يشكلون الجيل الثاني من أجيال الآباء المؤسسين في التربية الحديثة في مصر، في حين يمثل د. حامد عمار و د. عبدالله الدايم (سوريا) الجيل الثالث من المؤسسين للتربية العربية الحديثة.

إن حامد عمار من قرية سلوا بأسوان إلى جامعة لندن «1950” وازت رحلة رفاعة الطهطاوي من طهطا إلى باريس، ورحلة طه حسين من المنيا إلى جامعة مونبلييه الفرنسية، وهي رحلة الوعي المفارق لوضعية التخلف إلى عتبة الأنوار، وحيث سيعود كل منهم إلى مصر وقد حمل مشعلاً يضيء به ظلمات الواقع إلى نور اليقظة.

ويروي د. خُضر: كنت محظوظًا أنني زاملت حامد عمار في نفس القسم» قسم أصول التربية «بعد عودته من إعارته مستشارًا تربويًا بالأمم المتحدة لمنطقة غربي آسيا، حيث عمل في مكتبها في بغداد وبيروت، قبل أن يحط الرحال في كليته وجامعته من جديد، وكان من دواعي فخري أن رأس القسم الذي ضم بين جنباته شيخ التربويين العرب ورائدها في سنواته الأخيرة».

كان حامد عمار أحد رواد علم الاجتماع العرب، حيث مثّل اسهامه في تحليل الثقافة المصرية، ونقد الشخصية الإنسانية أو الطابع القومي للشخصية في رؤية متكاملة وازت الرؤية الموسوعية لسيد عوض وسليمان حزين وجمال حمدان وعبدالعزيز الدوري «العراق» والسيد حسين وأحمد أبوزيد أصحاب الرؤية الإبداعية في قراءة الشخصية الثقافية للشعب. وكتابه «في بناء الإنسان المصري» «1966» يمثل الحجر الأساسي في بنية صلبة تطورت لاحقًا، ليواصل تنظيره ونقد الثقافة المصرية، ونقد السمات السلبية في الشخصية، وخاصة أن كتابه اللافت صدر في مرحلة التحول الاشتراكي في الحقبة الناصرية لينبه إلى التراكم السلبى في سمات المصريين التي تعوق بناء المجتمع الاشتراكي، وخلال الثمانينات وتتسع قراءته ليصدر مؤلفه المهم «في بناء الإنسان العربي» عن منظمة الاكيلو العربية من تونس، ثم تتوالى مؤلفاته الغزيرة التي يزاوج فيها بين النقد الاجتماعي والنقد التربوي كأحد أبرز المفكرين التربويين النقديين العرب، وليخطّ مسارًا نقديًا في التربية العربية.

مثل حامد عمار المثقف بحق فكانت مؤلفاته ومقالاته وندواته وإشرافه على الرسائل الجامعية، ومشاركته في رسم السياسة التعليمية مستشاراً لوزير التعليم، كما نشط في معهد البحوث والدراسات العربية، وهو المعهد التابع لجامعة الدول العربية وفي أنشطة المعهد القومي للتخطيط، وفي مؤتمرات ومشروعات منظمة الأليكسو العربية. وعلى الصعيد البيولوجي اعتبر حامد عمار أن «الشخصية الفهلوية»كانت ثمثل المعوق الرئيسي للتعبير في حقبة ثورة يوليو، ثم أضاف إليها «شخصية الهباش» في حقبة الانفتاح الاقتصادي «حقبة السادات،ثم أضاف إليها شخصية» البلطجي المجرم «في الحقبة المباركية للتعبير عن التدهور الذي ترتب على تآكل المنظومة القيمية، وحالة التجريف التي أصابت السمات الإيجابية للشخصية المصرية، وعدد عمار سلبيات التفكير في العقل المصرى التي تحوُل دون اشتغال العقل المصرى على أسس علمية مثل التفكير من خلال الأسطورة،والتفكير من خلال الخوارق، والتفكير من خلال الكاريزما،والتفكير من خلال الزمن وغيرها.

أحتضن عمار مشروعًا فكريًا من خلال إشرافه على سلسلة» آفاق تربوية «التي تصدر عن الدار المصرية اللبنانية، والدار العربية للكتاب،عبر عقد ونصف، نشرت العديد من المؤلفات النقدية في الفكر التربوي وكان حريصًا على كتابة مقدمة لكل كتاب كانت نصًاموازياً للكتاب الأصلي. دافع عمار بصلابة عن مجانية التعليم، والعدالة التربوية، وبين حقوق المصريين في تعليم راق ومجاني، وعن دور الدولة المركزي في التعليم، كما كان مدافعًا صلدًا عن الحرية الأكاديمية وقيم الاستنارة العقلانية، ولم لا وقد كانت أطروحته في الماجستير بجامعة لندن عام 1950 عن إنعدم تكافؤ الفرص في التعليم المصري، وهو ما عرضه للمساءلة من قبل فؤاد سراج الدين وقتها. ناهض عمار خصخصة التعليم، والتوسع في التعليم الخاص والأجنبي وتعدد أنواع التعليم، والتبعية الثقافية في التعليم، والاتجاه الكمي في البحوث التربوية، وهاجم مبكراً الاتجاه الوظيفي والسلوكي في التربية، معتبراً أن وظيفة التربية هي التحرير لا التثبيت والتجميد والتوازن. قيض للرجل أن يحصل على أرفع الجوائز العربية: جائزة النيل التقديرية والعلوم الاجتماعية، وجائزة جامعة الدول العربية في التربية في طبعتها الأولى مناصفة معد. محمد جواد رضا» العراق «وجائزة الكويت للتقدم العلمي.يذكر بعض المتخصصين، لقد آمن حامد عمار بأن وظيفة التعليم هي السعي إلى تغيير الأوضاع السياسية والاقتصادية السائدة، والتغيير في قوى المجتمع بما بسمح بتحقيق الآمال المنشودة للجماهير في آلحياة الكريمة بحيث تكون إشاعة الحرية والديمقراطية هي مسئولية التعليم بالدرجة الأولى. تلك كانت رؤية حامد عمار لوظيفة التعليم، وهي الرؤية التي كرس لها كل حياته.

مزج حامد عمار بين الأبعاد الوطنية والقومية والإنسانية، كان منفتحاً على الإنسان في كل مكان، باعتباره وحده الجنس البشري. باسم المثقف النقدي، كان اشتباكه الدائم مع قضايا مجتمعه، وكان حريصًا على اصطحاب مؤلفات المفكر التربوي البرازيلي» باولو فريري «الأخيرة، ودفع بها إلى تلاميذه لترجمتها، وكان نهجه في تعليم الكبار نهجًا تحريرياً يحرر به المتعلم والمعلم معاً، كما كان يكتب دوماً في قضايا العروبة، ولعل كتابه» من القدس يبدأ السلام «عنوان لإيمانه بعدالة القضية الفلسطينية، وكان محرضاً دوماً على التفكير خارج الصندوق، والتفكير في اللا مفكر فيه، وضرب جواد الفكر الكسول بسوط ليفيق من غفوته كما يقول» سقراط «.

ناقش عمار باستفاضة توجهات التفكير لعالم المستقبل، وهو ما أشار إليه في مقال نُشر في أحد أعداد مجلة» العربي «الكويتية يذكر فيه، إن للقدرات العقلية مظاهر متعددة متمثلة في أنواع التفكير والتدبر، وكائنة بالقوة، تبرز وتتجلى بالفعل والتنمية، وتوظف في سياقات واحتياجات ومقاصد مجتمعية. وإذا كان لبعض الحيوانات قدرات على التذكر إلا إنها محدودة بحكم تكوينها الفسيولوجي الغريزي واحتياجاتها المقتصرة على البقاء أو الدفاع عن نفسها. وهي إمكانات لا تتغير ولا تنمو إلا في محيط ضيق لا تتعداه. بيد أن قدرات التفكير لدى الإنسان متعددة ومتطورة ومتشعبة، حتى ليقال احياناً بأن الإنسان يفكر ايضاً بقلبه ومشاعره، وأحياناً أخرى بكل أعضاء تكوينه البدني، ونتذكر هنا مقولة ديكارت الشهيرة» أنا أفكر.. إذن أنا موجود «. وهذا ينقلنا إلى نقطة أخرى وهي فواعل التفكير، إذ يرى إن الإنسان لا يفكر لشخصه، وإنما يفكر للتواصل غيره ممن يتفاعل معهم من البشر، وبما يضطرب فيه من الأحوال والمعطيات المادية ومجريات الأحداث المجتمعية، ومن ثم فإن الفهم والتشخيص في التفكير يتطلبان مقاربات منهجية متعددة، فهناك الباحثون في علم النفس المعرفي وفي علم النفس العصبي ممن يرصدون عمليات التفكير وموقعه في المخ. ثم إنه لعمليات التفكير البشري تاريخ، مما يتميز به عن الكائنات الأخرى. وهو ممتد عبر آلاف السنين، حيث المظاهر المتباينة لهذا التاريخ في تجسدها عبر ثقافات وحضارات متعددة في ظروفها وأوضاعها، وتوجهاتها الاقتصادية والاجتماعية والأخلاقية.

ومن ثم فإن تنمية قدرات فكرية ومعرفية معينة، أو التركيز عليها، أو طمس بعضها وتجاهله، إنما هو فعل ثقافي اجتماعي بالدرجة الأولى، تتوالى فيه المبررات لأهمية بعض القدرات، كما تقدم الأعذار لتفادي غيرها. ويقوم بتزكية المنشود منها المؤسسات التربوية بدءًا من الأسرة والمدرسة والجامعة، فضلًا عن وسائل الإعلام، والخطاب السياسي.