عن الآيخمانية في ازدهارها الراهن
ياسين الحاج صالح
2023 / 10 / 22 - 08:20
في مقالة نشرت للتو في مجلة "نيويوركر" الأميركية، كتبت سوزان نيمان، الفيلسوفة الأميركية المقيمة في برلين، أن الألمان تحولوا، بينما هم يواجهون تاريخهم الإجرامي ويستأصلون منه معاداة السامية، إلى ضرب من المكارثية المحبة للسامية، تهدد حياتهم الثقافية الغنية. المقالة مكتوبة قبل عملية "طوفان الأقصى" التي أظهر التفاعل الألماني معها مدى من تلك المكارثية قد يكون غير مسبوق، أقله من حيث اقترانه بمعاداة موتورة ومسعورة للفلسطينية، إلى درجة ملاحقة علم فلسطين وتحريم الكوفية ومحو كتابات تتضامن مع غزة على الجدران، وفض أي تجمعات متضامنة مع الفلسطينيين الذين يتعرضون لعدوان إبادي، بمساندة واسعة من القوى الغربية. ما طفا على السطح خلال الأيام الماضية هو التطرف البنيوي للدولة الألمانية والدول الغربية الأخرى حيال القضية الفلسطينية، تطرف مغاير نوعياً لضروب التطرف التي تظهر في المجال العربي، حيث يغلب أن يكون التطرف انفعالياً، انفجارياً، يولده ضغط مستمر، ويتوجه ضد الأقوياء المتحكمين، إن من جهة أطقم السلطة لدينا أو القوى الدولية. هنا في ألمانيا والغرب، التطرف في شان قضية فلسطين بنيوي، متصل بمزيج من تكوين استعماري غير مُراجع، ومن تعصب ثقافي مشترك (التراث اليهودي المسيحي) ومن شعور بالذنب على إبادة ملايين اليهود على يد النازيين أثناء الحرب العالمية الثانية. التيار السائد في الغرب عدمي بخصوص القضية الفلسطينية بقدر لا يقل عن العدمية العالمية للسلفية الإسلامية.
ما ظهر بفجاجة مثيرة للاحتقار خلال عشرة أيام هو عجز مطبق عن التفكير من منظور الآخرين، الفلسطينيين المحاصرين، المعرضين لنظام أبارتهايد، بحسب تقرير شهير لمنظمة العفو الدولية، والواقعين تحت استعمار استيطاني نووي، صفيق، وبالغ العدوانية. العجز عن التفكير من منظور آخرين هو ما أقامت حوله حنه أرنت فكرتها عن "ابتذال الشر"، على نحو ما شخصته في رصدها لمحاكمة أدولف أيخمان، الضابط النازي الذي كان مسؤول عن نقل يهود أوربا إلى معسكرات الإبادة. التفكير بحد ذاته هو حوار مع النفس بحسب آرنت وقبلها أفلاطون، نستدخل فيه آخر مغايراً لنا، وليس شبيهاً أو مماثلاً، ما يعني أن العجز عن التفكير من موقع شخص آخر هو عجز عن التفكير بحد ذاته، وفشل في تكون الضمير في رأي آرنت. آيخمان لم يستطع قط التفكير من موقع اليهود، لم يشعر بهم، كان ضالعاً في نزع إنسانيتهم وصناعة القتل التي أقامها النظام الهتلري لهم، ولغيرهم، في النصف الأول من أربعينات القرن الماضي.
هذا للقول إن هناك إنتاج واسع للآيخمانية في الغرب بمجمله، بما في ذلك ألمانيا بالذات، التي تجامل نفسها كثيراً بالاعتقاد أنها رتبت علاقة طيبة مع الماضي بالانتقال من معاداة السامية إلى هذا الضرب من المحبة المكارثية للسامية بحسب نيمان. الآخر اليوم هو المهاجر، وهو اللاجئ، وهو "الملون"، وفي السياق الراهن هو الفلسطيني تحديداً، والضمير يتكون بأثر التدرب على التفكير من موقع هذا الآخر، مع ما يقتضيه ذلك من سماع صوته، والترحاب بتعبيراته عن نفسه. ما يحدث هو تماماً عكس ذلك، على نحو ما مثله سحب جائزة للروائية الفلسطينية عدنية شبلي، كان يفترض أن تمنح لها في معرض فرانكفوت للكتاب الجاري اليوم، وهذا لأن صحفييْن مخبرين دسّا على روايتها "تفصيل ثانوي" أنها... "معادية للسامية". في شأن فلسطين، التيار السائد في ألمانيا استمرار لأدولف أيخمان وليس قطيعة معه، ولعله يتجسد بصورة خاصة في في أورسولا فان درلاين، وزيرة الدفاع الألمانية السابقة ورئيسة المفوضية الأوربية، وهي شخصية مسعورة في دعمها لإسرائيل وامتناعها المطلق عن النظر إلى ما يجري بعين فلسطينية. التفكير حصراً من موقع اليهودي، اليوم، ليس له العائد الضميري الذي كان يحوزه قبل ثمانين عاماً حين كان يهود أوربا هم الضحايا المطلقون. هو بالعكس إعلان حب للنفس، مونولوغ وليس ديالوغ، اعتقاد متعصب وليس تفكيراً أخلاقياً مولداً للضمير.
إلى ذلك، لا تشكل محبة السامية اليوم قطيعة مع مناهضة السامية أو كره اليهود قبل ثلاثة أجيال، بل هي أقرب إلى استمرار بنيوي لها عبر التمركز الحصري حول اليهود وإفرادهم عن غيرهم، بل ونزع إنسانيتهم، وإن في اتجاه فوق إنساني هذه المرة وليس دون إنساني مثلما كانت الحال أيام النازية. يحتج عقلاء اليهود، ومنهم نيمان، على ذلك، بينما يبتهج به الصهيونيون واليمين الديني الإسرائيلي بأنانيته المشهودة، وكرهه لجميع العالم على ما كان يكرر إسرائيل شاحاك يوماً.
على أن العجز عن التفكير من موقع الغير لا يقتصر على ألمان وغربيين، بل هو راسخ الأسس لدينا، هذا إن لم يكن أرسخ من الغرب، يحجبه ضعفنا وهوان أمرنا. على أن جذور العجز مختلفة هنا. فالعائق الأساسي دون التفكير من موقع الآخرين في مجالنا هو المظلومية، وما تدفع إليه من حرون وحرد من العالم، ومن انحباس داخل النفس، مع إعطائها كامل الحق في فعل أي شيء ضد الأعداء المتصورين، ومع الميل إلى اعتبار العالم كله معادياً (مثل عتاة اليمين الديني والصهيوني بالمناسبة). لسان الحال يقول: أنا مظلوم، إذن أنا على حق. لكن هذا باطل كل البطلان، فجرائم المظلومين لا تشكو من القلة في الماضي وفي الحاضر، واقتران المظلوميات بالتوحش والإجرام براحة ضمير تدل عليه سيرة الشيعية السياسية في سورية مثل نظيرتها السنية، والنظام الأسدي مثل إسرائيل.
أما في الغرب فيصدر العجز عن التفكير من موقع الغير عن استبطان عقيدة تفوق وسيادة، تعكس سيطرة الغرب العالمية وثراءه وقوته خلال القرون الأخيرة. لا يخرج السيد المتفوق من نفسه لينظر إلى نفسه من موقع من هم أدنى منه، وهذا مثلما لا يستطيع "التابع" الذي تمكنت منه المظلومية من الخروج من سجن نفسه ليراها بعين غيره. ليس الأمر حتمياً، فهناك عادلون هنا وهناك، لكننا حيال شرط بنيوي قوي التأثير.
إسرائيل بالذات مزيج غريب من المظلومية والتفوق، من وراثة حية للاضطهاد اليهودي المديد الذي توجه الهولوكوست ومن عقيدة تفوق ديني وأخلاقي وثقافي يعززها السند الغربي. هنا يمكن الكلام على حاجزين في وجه التفكير من موقع الغير، الفلسطيني والعربي بالذات، حاجز المظلومية وحاجز التفوق، وليس حاجزاً واحداً. وما يحدسه المرء من وجود برنامج إبادي مستبطن في الكيان الإسرائيلي يجد جذوره في هذه الحاجزين. هناك وعد مظلم في هذا الحل النهائي للحل النهائي. فإن كان لوعد غير إبادي أن يكون ممكناً فما يلزم هو إعدام الآيخمانية بعد ستين عاماً من إعدام إيخمان.
ويبدو أن الامتناع عن التفكير من موقع الغير يدفع الذات باتجاه تعريف نفسها تعريفاً قبلياً أو هوياتياً، وليس تعريفاً بحقوق قواعد مطردة تعم الجميع. بقدر ما تحكمت المظلومية في مجالنا، فقد أخذت تنعقد على الدين الذي صار يوفر تسويغاً لأي أفعال متوحشة تمارس من طرفنا. سورية مختبر رهيب في هذا الشأن. وفي الغرب تتوافق السيادة المتفوقة مع الحضاروية والدفاع عن الاستعمار، ومع الاسرائيلية الجامعة.
ومع القبَلية يحضر الثأر وليس العدل، والحرب وليس السياسة والحلول السياسية، والانفعال وليس الفكر الصاحي. إسرائيل بالذات دولة إثنية دينية، دولة ثأر وانتقام مستمر، قبيلة ناقمة بلا نهاية.