تيه
مأمون أحمد مصطفى زيدان
2023 / 5 / 7 - 18:18
حسنا - قال لنفسه.
ولماذا حسنا؟ سأل نفسه.
الأمور كلها مختلطة، مجزرة خلف مجزرة، دماء تصبغ الأرض والتراب، وموت يطارد الأشياء، رائحة الجثث تشق شاشات الرائي، تتكون مخلوقا يدخل إلى أعماقنا، فينتشر فيها، يتحرك، يتلوى، يشد بأضراسه الدامية على تيجان القلوب، ويضغط بأسنانه الواهنة على أوسمة الروح.
اشعر بالغضب يتحول إلى عجز، إلى قهر، تضعف مفاصلي، وأغرق في دوامة البكاء الصامت.
نعم عليك أن تبكي. تحدثه نفسه.
وما نفع البكاء؟ يسأل نفسه.
يخرج إلى الشارع وهو يضغط بقوة على جبهته، يحس بان نهرا عاصفا يضرب جدران الجمجمة، وحرارة لاهبة تدفع اللحم المغطي للرأس نحو الذوبان، ينتابه شعور الخوف مرة واحدة.
نعم، يجب أن تشعر بالخوف. تحدثه نفسه.
كيف يتكون الخوف دون عتمة؟ يسأل نفسه.
يدخل المقهى وهو مرهق، يطلب فنجان شاي بالنعنع، يحدق بوجه النادل، يرى تشابها كبيرا بين وجهه وبين الموت الذي دخل أعماقه منذ لحظات، يحاول الفصل بين الوجه وبين الموت.
يفشل.
تبدأ وجوه المقهى بالتحرك نحوه، بطريقة تثير الرعب، وتستفز المشاعر لتتأهب جيدا، فكلما اقتربت الوجوه المعلقة على أوراق اللعب وأحجار النرد من أنفاسه، كلما برزت الحاجة للانطواء والتوحد.
يجب أن تقاوم. حدثته نفسه.
بالانطواء أم بالتوحد؟ سال نفسه.
لم يتلق أي جواب، شعر بالقلق يتسرب إلى ذاته، غادر المقهى، بعد أن فلتت الوجوه من رؤوسها، لتتعلق في فضاء المقهى، وتبدأ الدوران المتواصل في حلقة بدأت تضيق شيئا فشيئا حول عنقه.
مر من شارع ينتصب فيه مذياع، أتاه الصوت من بعيد، وفجأة أحس بأرواح الضحايا تتسرب من المذياع لتدخل في أذنيه، ومن ثم تنهال في قلبه المتوج بالقلق والكآبة.
أن تشعر بالروح شيء مقبول. قالت نفسه.
وكيف تكون الروح؟ سأل نفسه.
خرجت وجوه المارة من أمكنتها، وبدأت تحلق في الجو ناسجة صورة غريبة، لا تتوافق مع المشهد الذي بثه الرائي، كما يبث فخذا نابضا بالشبق من اجل تسويق نوعا من العطور الفاخرة.
ولا تتشابه في فحيحها مع فحيح المذيع الذي نقل الخبر عبر المذياع لينتقل بعدها إلى حوار مع ممثلة تتقصد التأوه والغنج بأسلوب جنسي تتمتع ببراعتها وتفوقها فيه.
لم تكن دورة وجوه المارة تشير إلى رعب قد يشق طبقات الهواء لينتشر برائحة البارود والموت، ولا بعويل أم فقدت أولادها الستة.
كانت تدور في فراغ، باحثة عن فخذ مثقل بالإثارة، مهزوز بالخبرة، وعن غنج وتأوه يقود نحو الفخذ.
اصطدم بأحد الوجوه الهائمة، فوقع في قلبه نوع من الفزع المؤقت، لكنه خرج من الشارع كله، فخرج الفزع من مكانه.
هو الشعور بالانحطاط. قالت نفسه.
وكيف يكون الانحطاط. سال نفسه.
سأله احد المارة باستغراب واستهجان، لماذا تبدو كمن يغرق في اللون الأصفر.
اندفع نحو صالون الحلاقة، وحدق بالمرآة، لم يجد اصفرارا بوجهه، بل ألفاه معتقا بالتورد.
هل يسأل أحد المارة عن لونه؟ وفيما الأفكار تدور برأسه، وقع على خبر فوق صحيفة مفتوحة.
الموت يقبع في الشوارع، في الأزقة، في الجدران، في السهول والجبال والأودية، والنساء تتساقط على باب مسجد النصر، لتحمي جدرانه من موت محقق.
لكن الجدران سقطت، فتدلت المئذنة نحو الأرض لترى الموت الساكن في أجساد النساء والأطفال.
لماذا علينا أن نحيا مع الموت؟ سأل نفسه.
ولماذا تسأل؟ حدثته نفسه.
بدأ الشعر المحلوق بالارتفاع، مشكلا دائرة عصية، تتوزع في المكان، بين السقف والأرض، للتوزع في ثنايا نفسه وتتناثر هناك تناثر الرمل في نواة زوبعة.
قادته قدماه نحو السهل، أحس بشيء يتساقط من جسده، كانت النسمات ترتد عن جلده، وتنعطف لتمر دون أن تلامسه، وغاضت المياه بأوردة التراب، وانسلت نحو المجاري المتشكلة بين الصخور، واختفت ومرة واحدة كل العصافير التي كانت تملأ السهل غناء.
أين. سأل نفسه.
شعر بالضيق يقتحم نفسه من جديد، لماذا؟ لا يعرف. لكنه يستطيع أن يحس بان تحولا ما يتكون منذ دخول الشعر فيه، تحولا غريب الملامح، بل بدون ملامح.
وصل الجبل، فرآه منخفضا عما كان، متآكل الأطراف، حتى الأشجار بدت وهي تتمايل، تكاد تسقط، تنخلع من جذورها، لكنها تتمسك بجذورها، فتنتصب من جديد، فينهض الجبل إلى ارتفاعه المعهود.
لماذا لا تسقط الأشجار؟ سأل نفسه.
وجد نفسه يتنسم رائحة ما، وجلده متماسك، غير قابل للتساقط، لكن الرائحة غريبة، لا، ليست غريبة، هي معهودة، ولكن من أين تبعث بأنفاسها؟
وحين اسقط رأسه بين كفيه، عرف مصدر الرائحة، فهو يجلس على مزبلة، تفوح رائحتها فتدخل بأعماقه، والديدان تزحف مزهوة على ساعديه وقدميه.
لماذا أنا وسط المزبلة؟
أجابته نفسه:
لأنك هنا تستطيع أن تشم وتحس.
مأمون احمد مصطفى
فلسطين - مخيم طول كرم
النرويج – 16-11-2006