معركة الاستقطاب بين موسكو والغرب تفجر الاحتجاجات في جورجيا

تامر خرمه
2023 / 3 / 17 - 13:45     


التظاهرات الليلية التي تشهدها العاصمة الجورجية، تبليسي، لاتزال مستمرة منذ السابع من الشهر الجاري، رغم تراجع الحكومة عن المضي في إجراءات فرض قانون “العملاء الأجانب”، الذي كان السبب في تفجير هذه التظاهرات، حيث يطالب المحتجون، الذين تشكل الحركة الطلابية غالبيتهم العظمى، باستقالة بعض أعضاء البرلمان الذين صوتوا لصالح مشروع هذا القانون من مناصبهم في الجامعات، إضافة إلى مطالبهم المتعلقة بالإفراج عن كافة المعتقلين على خلفية الاحتجاجات، والتراجع عن قوانين أخرى تعتزم الحكومة سنها، وفي مقدمتها قانون التجنيد الإجباري.
قانون العملاء الأجانب، أو القانون الروسي على حد تعبير المتظاهرين، الذي طرحه حزب الحلم الجورجي الحاكم، وهو نسخة عن قانون فرضته موسكو في العام 2012 بهدف قمع المعارضة، يصنف أية مؤسسة تحصل على تمويل خارجي بما يزيد عن 20٪ من وارداتها المالية تحت بند “العملاء الأجانب”، الأمر الذي اعتبره المحتجون محاولة لفرض الرقابة على المنظمات غير الحكومية، وتقويض الحريات الصحفية. كما وصفت رئيسة البلاد، سالومي زورابشفيلي، هذا القانون بأنه “لا يمكن أن يكون قد جاء إلا بإملاءات من روسيا”، وقالت في رسالة مسجلة وجهتها للمتظاهرين، أثناء تواجدها في مدينة نيويورك بالولايات المتحدة: “أقف إلى جانبكم لأنكم تمثلون اليوم جورجيا الحرة. جورجيا ترى مستقبلها في أوروبا، ولن تدع أي أحد يسلبها هذا المستقبل”.
معركة الاستقطاب المستمرة بين موسكو والغرب في دول الاتحاد السوفياتي السابق، والتي كانت أفدح نتائجها الحرب الدائرة في أوكرانيا منذ سنة، بدأت تلقي بظلالها على بلاد القوقاز، ولاسيما في هذا البلد الذي تحتل روسيا 20٪ من أراضيه منذ العام 2008، حيث وجه كثير من المتظاهرين أصابع الاتهام إلى مؤسس حزب الحلم الجورجي، بيدزينا إيفانيشفيلي، ذلك الملياردير المثير للجدل، الذي كون ثروته في روسيا وتربطه علاقات ودية مع الكرملين، والذي بات متهما اليوم بمحاولة “فرض أجندة روسية في بلاد يدعم شعبها المقاومة الأوكرانية دعما غير مشروط”.

مصادفة أم أجندة روسية؟

إحدى المتظاهرات، صوفو سخيرتلادزي (24 عاما)، قالت إن: “الحكومة لا تسمع الناس، وقد خرجت للتعبير عن رأيي وإيصال أفكاري لمن هم حولي، وآمل أن يصل صوتي، هذا القانون مشابه لما تم فرضه في روسيا، ليس مقبولا أن يتم اتهام من يتلقى تمويلا من الجهات المانحة بأنه عميل. الحكومة تريد إرضاء الروس، لكننا نرفض ذلك”.
وأضافت: “لقد تحقق لنا ما نريد وتم سحب مشروع هذا القانون، لكننا مستمرون في التظاهر ضد قوانين أخرى، كقانون التجنيد الإجباري الذين يريدون فرضه حتى على الطلبة خلال العطل الفصلية، كما نطالب بإجراء إصلاحات فيما يتعلق بمنظومة المواصلات، وكذلك القوانين المتعلقة بالفن، والتعليم، فنظامنا التعليمي ليس كما ينبغي، ناهيك بأن الرسوم الجامعية مرتفعة، ومساكن الطلبة ليست في وضع لائق”.
الناشط في منظمة “الحركة الشبابية من أجل مستقبلنا” غير الحكومية، نيكولوز سولافا (20 عاما) أكد أيضا إصراره على مواصلة التظاهر، وقال: “كل ما تقوله أو تفعله حكومة الحزب الحاكم هو تطبيق لإملاءات موسكو، فلطالما كانت روسيا، تاريخيا، تحاول فرض نفوذها وقوانينها مستغلة الفساد لتحقيق ذلك”. وتابع: “روسيا تريد فرض هيمنتها على جورجيا، لكننا نرفض ذلك، ونريد استعادة أراضينا المحتلة في أوسيتيا وأبخازيا”.
كما نوّه سولافا بأن الدعوات المبكرة للتظاهرات كانت تنادي بالسلمية، والتعبير عن الرأي دون اللجوء إلى العنف، متّهما من وصفهم بالمخربين وبعض المؤيدين للحركة القومية الجورجية بأنهم من كان وراء محاولة اقتحام مبنى البرلمان، وإلقاء الحجارة والزجاجات الحارقة على رجال الشرطة، الذين لجأوا إلى تفريق المتظاهرين باستخدام خراطيم المياه، والغاز المسيل للدموع.
وأوضح أن منظمته تسعى للحصول على تمويل من أجل المضي في مهامها، والتي تتضمن تقديم المساندة القانونية للجورجيين المعتقلين في المناطق التي تحتلها روسيا، وتأمين التعليم لأهالي تلك المناطق، وكذلك السكان في المناطق الحدودية مع روسيا، إضافة إلى تقديم المساعدات العلاجية للجورجيين القاطنين خارج البلاد. وأضاف: “نحن جورجيون نريد مساعدة شعبنا، لأن حكومتنا لا تقوم بذلك، بل على العكس، ها هي تحاربنا وتريد اتهامنا بأننا عملاء”.
يذكر أن الغالبية العظمى من الشعب الجورجي تريد الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، وتعتبر روسيا التهديد الأكبر لسيادتها ووحدة أراضيها، وفي هذا الصدد قال سولافا: “لا شك بأن الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي أفضل من التبعية للهيمنة الروسية، لكن الحل الأمثل هو تشكيل اتحاد قوقازي يحقق آمال شعوب هذه المنطقة المرتبطة تاريخيا وثقافيا ومصيريا”.
وكان المعهد الجورجي للسياسة قد نشر بيانا[i] وقعته 286 منظمة حقوقية ومدنية جاء فيه: “نحن، شعب جورجيا، نعارض بشدة مشروع القانون الذي طرحه أعضاء الأغلبية البرلمانية.. ونعلن أن محاولات تبني هذا القانون الروسي لا تهاجم منظمات المجتمع المدني المستقلة ووسائل الإعلام الناقدة فحسب، بل تهاجم شعب جورجيا نفسه”. كما شدد البيان على أن مشروع هذا القانون “يهدف إلى ترك الأطفال والنساء المعتدى عليهم بلا حماية، وكذلك ذوو الإعاقة، والأقليات”، إضافة إلى “عدم تقديم المساعدة للأسر الضعيفة، والمزارعين، وعمال المناجم، والمشردين، والمحتجزين، وغيرهم من الأشخاص الذين يقاتلون من أجل حقوقهم”.

مخاوف من البديل الأسوأ

على أي حال، سحب مشروع هذا القانون لم يفض إلى وقف الاحتجاجات المرشحة للاستمرار. ليس هذا فحسب، بل من المحتمل أن تستغل المعارضة، الموالية للغرب، اتهام المحتجين لحكومة الحزب الحاكم بالتبعية لموسكو من أجل فرض مشروع تبعي آخر، تشير بوصلته إلى واشنطن، ويعبر عنه الرئيس الأسبق، المسجون حاليا، ميخائيل ساكاشفيلي، المتورط بقضايا فساد، وتعذيب، حيث كان يتهم كل من يعارضه بأنه “عميل روسي” لفرض سطوته شبه المطلقة آنذاك.
في ذات الليلة التي اندلعت فيها المظاهرات في العاصمة تبليسي، صرح رئيس الحكومة، إيراكلي غاريباشفيلي، بقوله: “إن الزمن الذي كان فيه السياسيون، والسلطات الجورجية، يخدمون مصالح الدول الأجنبية قد انتهى في بلدنا. إننا نخدم مصالح جورجيا.. وعلى الجميع أن يتذكر ذلك جيدا، وألا يحاول التدخل في الشؤون الداخلية لبلدنا”.
جاء ذلك في رده على على قرار البرلمان الأوروبي الصادر في شهر شباط الماضي، والذي وصفه “بالمخزي”، لأنه يُحمّل بيدزينا إيفانيشفيلي، رئيس الوزراء السابق ومؤسس الحزب الحاكم المسؤولية عن الظروف الصحية المثيرة للجدل للرئيس السابق ساكاشفيلي، الذي يقضي عقوبة السجن جراء ما اقترفه خلال حكمه للبلاد، والذي يعد الحليف الأول للغرب. كما نوه غاريباشفيلي بـ “تجاهل بعض أعضاء البرلمان الأوروبي لرأي الشعب الجورجي، ولقضايا تعذيب الناس، وقتلهم، والإرهاب، والقمع الكامل لحرية الإعلام خلال فترة حكم الحركة القومية. وأضاف أن قرار البرلمان الأوروبي يبين “أن ساكاشفيلي هو عميلهم”[ii].
في النهاية، تراشق الاتهامات بالعمالة لروسيا أو الغرب، ليست ذريعة لمحاولة جر البلاد إلى حكم استبدادي، سواء بزعامة حزب الحلم الجورجي أو الحركة القومية، فحسب، بل هو تعبير عن استمرار معركة الاستقطاب بين القوى المهيمنة، والتي تتجاوز حدود أوكرانيا إلى كافة دول الاتحاد السوفياتي السابق. الحزب الحاكم في جورجيا اليوم بات متهما بمحاولة فرض أجندة روسية، لكن سلفه الذي كان يدور في فلك واشنطن، كان أبعد منه بكثير عن ضمان الحريات الديمقراطية وحقوق الإنسان.