محمود أمين العالم


فهد المضحكي
2022 / 12 / 3 - 11:47     

غني عن التعريف، له اسمه «العالم» النصيب الأوفى، يعانق في ممارساته الفكرية والإبداعية «النظر» و«العمل»، دون أن ينتمي إلى مفكري «البرج العاجي»، ولا إلى «نفعية» رجل السياسية، قادر دائما على ممارسة «النقد الذاتي» على المستويين النظري والعملي، ولعل هذا هو الذي مكن له سبيل الحماية من التقهقر عما يؤمن به، فلم يرتحل من «اليسار» إلى «أقصى اليمين» كما حدث لبعض أقرانه، ولم يدخل في سلسلة «التنازلات» اندماجًا في «الأمر الواقع» كما حدث ويحدث للكثيرين. إنه مفكر صهرته التجارب، وعلمته الحياة أن الفكر إن لم يكن متجذرًا في أرض الواقع جنح إلى اليوتوبيا. هذه الحياة الثرية التي تمتد من الجامعة إلى المعتقل، ومن رئاسة مجلس إدارة أكثر من مؤسسة صحفية وثقافية «دار الكتاب العربي، ومؤسسة المسرح والموسيقى، وأخبار اليوم» إلى المعتقل مرة أخرى. هاجر من الوطن حيث عمل في إنجلترا في كلية القديس أنطون، ثم رحل إلى باريس حيث عمل مدرسًا، فأستاذًا مساعدًا بجامعة باريس، وهناك قام بإصدار مجلة شهرية باسم «اليسار العربي» ثم عاد إلى مصر عام 1984. أشرف على إصدار «قضايا فكرية» كتاب غير دوري. كان الأكثر حضورًا وعمقًا في الحياة الثقافية والأدبية والفكرية، أمتد نشاط العالم، الفكري، ليشمل الفلسغة والفكر السياسي والنقد الأدبي والإبداع الشعري، من «فلسفة المصادفة» إلى «في الثقافة المصرية» و«تأملات في عالم نجيب محفوظ»، تتنوع الكتابات بين «معارك فكرية» و«الثقافة والثورة» و«الوجه والقناع في المسرح العربي المعاصر» و«توفيق الحكيم مفكرًا وفنانًا» ويطول بنا المقام لو عكفنا على تعداد إسهاماته في مختلف المجالات. لكن أهم ما يميز محمود أمين العالم أنه ينتج خطابًا «مفتوحًا» ولعل سر الاحترام الذي يتمتع به من خصومه قبل مريديه، والخطاب المفتوح هو نقيض الخطاب المغلق المتعصب، لأن الأول يتجدد من داخله بحكم قدرته على نقد ذاته والاستماع إلى نقد الآخرين، في حين أن الخطاب الثاني يتٱكل بفعل الصدأ الناتج عن عدم قدرته على التجدد والنمو، ولأن خطاب العالم من النوع الأول، فإنه يتمتع على المستوى الشخصي بحيوية ونضارة يحسده عليها الشباب العاشق للحياة ونضارة العقل المنفتح دوما للجديد والقادر دائما على النفي والإلقاء بكل ما يثبت زيفه إلى سلة المهملات.

هذا ما ذكره د. نصر حامد ابوزيد في حوار أجراه معه نُشر في أحد اعداد مجلة «العربي» الكويتية. يشير «العالم» إلى أن التاريخ لم يصل إلى نهايته، إذا كانت له نهاية اللهم إلا نهاية كونية فاجعة! وما يقوله فوكوياما هو موقف فكري أيديولوجي يسعى به لتكريس وإعطاء مشروعية كلية مطلقة للنمط الليبرالي الرأسمالي. على أن الصراع الطبقي لم يتوقف على مستوى كل بلد وعلى مستوى العالم أجمع، ويتخذ هذا الصراع أشكالاً مختلفة وطنية وقومية وعرقية وأيديولوجية، والنظام الذي يسمى بالجديد لم تتحدد معالمه النهائية بعد، فالعالم يمر في مرحلة انتقال معقدة تعاد فيها صياغة أشكال العلاقات والهيمنة الدولية السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والعلمية والتكنولوجية، ويتداخل فيها مفهوم الهيمنة الدولية بمفهوم المشروعية الدولية، ولاتزال الاشتراكية كخبرة وفكر وأفق وصراع تشكل قسمة من قسمات الواقع الراهن، وإن تكن قد فقدت مكانتها السابقة بعد انهيار المنظومة الاشتراكية، على أن مستقبل الاشتراكية رهن بتطور الصراعات العالمية الوطنية والاقتصادية والمصلحية عامة، فضلاً عن الدور الكبير الذي تلعبه الثقافة عامة والعلم والتكنولوجيا بوجه خاص. ومن توقعاته، قيام أممية جديدة يغلب عليها الطابع الشعبي الديمقراطي ولا تكون خاضعة لمركز واحد، كما الشأن من قبل، بل تكون أقرب إلى التحالف مع مختلف القوى الديمقراطية والوطنية والتقدمية في العالم بما في ذلك قوى السلام وحقوق الإنسان والقوى المدافعة عن البيئة إلى غير ذلك. ولن يتخذ الأمر صورة استقطاب بين شمال وجنوب، ففي الشمال جنوب كما أن في الجنوب شمالاً، وإنما سيكون نضالاً عالميا مشتركا من أجل دمقرطة العلاقات العالمية، والقضاء على الهيمنة والتسلط، وإقامة نظام عالمي يقوم على التكافؤ والتنوع والتعدد والتضامن الإنساني، ولن تكون الاشتراكية بعيدة عن المشاركة في صياغة هذا العالم الجديد.

ومن أهم ما أشار إليه المفكر الراحل هو أن هناك محاولة أيديولوجية مقصودة تبذلها القوى الرأسمالية العالمية المهيمنة لتضخيم ما يسمونه بالخطر الإسلامي واعتباره العدو الأيديولوجي البديل بعد انهيار المنظومة الاشتراكية، ولكن لاشك أن في العالم الراهن صدامات وصراعات دينية وعرقية وقومية وثقافية، نتيجة لاختلال التوازن الدولي الراهن، وانهيار الحدود والأنظمة السياسية التي تشكلت نتيجة لاتفاقات ما بعد الحرب العالمية الثانية، فضلا عن تفاقم الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية وازدياد الهيمنة الأمريكية على مناطق عديدة في العالم، والحركات الإسلامية السياسية جزء من هذه الظاهرة الشاملة، ولكن في تقديره أن النظام الرأسمالي وعلى رأسه الولايات المتحدة الأمريكية تسعى لتضخيم ما تسميه بالخطر الإسلامي الذي يهدد الحضارة الأوروبية، كجزء من الأيديولوجيا التي تخفي بها عدوانيتها العالمية من ناحية، وكجزء من سياستها العالمية كذلك لإدارة أزمتها من ناحية أخرى، فليس خافيا ما تعانيه البلدان الرأسمالية من أزمة اقتصادية حادة، ومن صراعات فيما بين بعضها البعض، والواقع التاريخي والعملي يشهد أن البلدان الرأسمالية، وبخاصة أمريكا، على علاقة طيبة مع البلدان الإسلامية في مختلف المجالات السياسية والاقتصادية والعسكرية، بل كانت وراء إنشاء بعض الأحلاف الإسلامية في الماضي، أما حركات الإسلام السياسي ذات الممارسات الإرهابية، فإنها تغطي على الصراعات السياسية والاقتصادية والاجتماعية في بلادها وتشغل هذه البلاد عن قضاياها الأساسية، بما تستفيد منه النظم في هذه البلاد بدعم مشروعيتها، وهذا ما تستفيد منه كذلك الدول الرأسمالية في إدارتها لأزمتها، وهناك من الشواهد التي تدل على تغذية بعض الدول الرأسمالية هذه الجماعات الإسلامية بالمال والسلاح مباشرة أو غير مباشرة.

وحين ناقش أبعاد العولمة أوضح أنه بعد ما سادت الرأسمالية العالمية وسيطرت وقمعت كل من يعاديها، جاءت العولمة - المتوحشة - التي هي أعلى صورة تستخدمها الرأسمالية العالمية ذات الطابع الإمبريالي، بعد انفراد هذا النظام بالعالم وأسواقه، وبعد تفكك التجربة الاشتراكية السوفيتية، أيضا حدث ذلك في ظل الثورة المعلوماتية الهائلة التي نعيشها الآن، وما يتم من هيكلة العالم وتشكيله والهيمنة عليه، رغم تعدد أنماط الرأسمالية، إلا أن العالم كله قد تهيكل في إطارها. وهناك ميزة مهمة أيضا، أن العالم قد توحد، لكنه توحد شرًا، من خلال الهيمنة التي تقودها ثماني دول على الأكثر، فالهيمنة ليست امريكية خالصة، بل أنها لن تنتهي بنهاية أمريكا. التي لا بد تاريخيًا من نهايتها. بل ستستمر «العولمة» كظاهرة موضوعية إلى أن يحدث تغييرا آخر لا نعرفه الآن. وعندما تحدث «العالم» عن أنماط الإنتاج التي تتحكم فيها العولمة وتحددها، فلا يعني الاقتصاد فحسب، بل الإنتاج الفكري والسياسي والإعلامي والفني وغيره. فالعولمة هي محاولة تنشيط العالم بما يتفق مع الرأسمالية العالمية، من خلال أدوات عديدة منها حلف «الناتو» وأجهزة الأمم المتحدة وأجهزة الإعلام الكبرى وغيرها. ويرى «العالم» ثمة صراع حاد بين هذه الدول (صاحبة اختراع العولمة)، حول كل شيء، وذلك يرجعنا إلى الطابع التنافسي للرأسمالية، وجوهر هذا الصراع اقتصادي، وإن اتخذ أشكالا مختلفة. هذه العولمة هي الأشد خطرا على الحضارة الإنسانية، وعلى الرأسمالية نفسها ومن خلال العديد من المظاهر: «التلوث. الأزمة الأخلاقية. انتشار الأمراض. روح الربحية للسيطرة. دعارة الأطفال. صناعة السلاح» التي تستخدمها أمريكا لإدارة أزمتها، هذه العولمة خطر على البشرية ككل، فلا يوجد الآن شمال متحضر وجنوب متخلف، بل القضية موحدة، ولا أحد ضد العولمة لذاتها، لكننا ضد الهيمنة، والقضية هي كيف نحول العولمة من الشراسة وسيطرة روح الهيمنة إلى عولمة إنسانية، تستفيد من تعدد الخبرات وأشكال التفكير، وتحترم الخصوصيات وتقوم على المشتركات الإنسانية وليس الهيمنة.