ماذا تخبرنا التدخلات الروسية في سورية وأوكرانيا عن العلاقة بين بوتين والغرب؟

تامر خرمه
2022 / 4 / 25 - 20:16     


منذ قيام الجيش الروسي بعبور الحدود الأوكرانية في 24 شباط- في غزو غير مبرر كان معظم المحللين يعتبرونه مستبعدا للغاية، والأوكرانيون ينالون التعاطف من كافة أنحاء العالم. التضامن كان واسعا: آلاف المتطوعين سافروا إلى الحدود البولندية الأوكرانية لمساعدة اللاجئين الفارين من الحرب، واستمر تقديم التبرعات للمنظمات غير الحكومية التي تقدم المساعدات الإنسانية لهذا البلد الذي مزقته المعارك، وحتى مقاتلون من دول أخرى انضموا إلى الجيش الأوكراني للدفاع عن المدن التي تتعرض لهجوم الجيش الروسي.

بقلم غابرييل هولاند

إحدى لفتات التعاطف المؤثرة مع الشعب الأوكراني جاءت من قبل الدفاع المدني السوري (المعروف أيضا باسم “الخوذ البيضاء”)، وهو تلك المنظمة التي تعمل منذ العام 2014 على إنقاذ وإخلاء وتقديم الرعاية الطارئة للسوريين الذين كانوا يتعرضون للهجوم على يد نظام الأسد وحلفائه الروس خلال الحرب الأهلية السورية. وقد أنتجت هذه مقاطع فيديو تشرح كيفية إنقاذ الناجين من المباني المدمرة، وما يمكن توقعه من الجيش الروسي بعد غارة جوية. كما تطوعت “الخوذ البيضاء” لإرسال عمال إنقاذ إلى أوكرانيا لمساعدة فرق الدفاع المدني المحلية.
السوريون يعرفون تماما ماذا يعنى التعرض للهجوم من قبل روسيا. منذ أيلول 2015، عندما أمر الرئيس فلاديمير بوتين الجيش الروسي بالتدخل في الحرب الأهلية السورية، تعرض السوريون الذين يعيشون في مناطق سيطرة المعارضة لآلاف الغارات الجوية التي شنتها الطائرات الروسية، حيث نفذت روسيا أكثر من 4000 غارة جوية في سورية، متسببة بمقتل وتشريد مئات الآلاف، معظمهم من المدنيين (1).
بوتين كان قد قرّر التدخل في سورية بعد أن طلب صديقه الديكتاتور السوري بشار الأسد المساعدة في العام 2015. كان النظام السوري يعاني من نكسات، وكانت الروح المعنوية لقواته تنهار. وفي الجهة المقابلة، كانت كتائب الثوار تتقارب في مجموعات أكبر، وتحرز تقدما ملموسا على الأرض. في آذار 2015، انتزع تحالف يضم كتائب علمانية وإسلامية معتدلة مدينة إدلب من سيطرة الحكومة. وفي أيار استولى تنظيم الدولة الإسلامية على مدينة تدمر، وتقريبا في نفس ذلك الوقت، طرد الجيش السوري الحر قوات الأسد من مواقع مهمة في جنوب سورية.
نتيجة لذلك، توقع عدد من المحللين أن سقوط الأسد كان وشيكاً. ولم تكن تلك هي المرة الأولى التي يحتاج فيها الديكتاتور السوري إلى مساعدة خارجية للبقاء في السلطة واحتواء التمرد الذي بدأ في بلاده في آذار 2011، ففي عام 2013، أرسل “حزب الله” اللبناني آلاف المقاتلين للقتال إلى جانب الجيش السوري ضد المتمردين.
أحد جوانب الأعمال الروسية في سورية، والذي نشهده في أوكرانيا اليوم، هو افتقار الجيش الروسي إلى التمييز بين المقاتلين المسلحين والمدنيين. في سورية، أصابت الغارات الجوية الروسية الأسواق والمباني السكنية والمستشفيات بشكل عشوائي. ورغم رواية بوتين بأن التدخل الروسي في الدولة الشرق أوسطية كان يهدف إلى احتواء “داعش”، إلا أن معظم التقارير الواردة من الصحفيين والناشطين على الأرض تكشف قصة مختلفة. كانت القنابل الروسية تصيب المدنيين في مناطق تسيطر عليها فصائل معارضة غير “داعش”، حيث تمثل هذه الجماعات الأكثر اعتدالا خطرا أكبر على نظام الأسد من التنظيم السلفي المتطرف.
الحديث بأن روسيا قامت عمداً بمهاجمة البنى التحتية المدنية في سورية تدعمه مئات مقاطع الفيديو والتقارير الصادرة عن مصادر مختلفة. على سبيل المثال، “فورينسيك آرتشيتكتر”، وهي مجموعة بحثية متعددة التخصصات مقرها في جولدسميث، بجامعة لندن، بيّنت كيف شنّت الطائرات الروسية، في شباط 2016، هجوما في منطقة الحميدية بسورية، أسفر عن تدمير مستشفى وقتل العشرات من الأشخاص (2).
وتستمر روسيا اليوم في مهاجمة مناطق سيطرة الثوار، لا سيما في محافظة إدلب، حيث تتركز الآن معظم الفصائل المتمردة المتبقية. إحدى الغارات الجوية الروسية الأخيرة على المنطقة وقعت في كانون الثاني 2022، حيث أصابت محطة ضخ مياه، إلى جانب منشآت أخرى (3).
الحالة السورية تقدم رؤية قيّمة حول كيفية استجابة الغرب لسياسة روسيا الخارجية العدوانية. مع إكمال غزو أوكرانيا لشهره الأول، بات العالم يشاهد، غير مصدّق، تدمير المدن الأوكرانية، وهروب اللاجئين اليائسين إلى بر الأمان في بولندا ودول أخرى. قلّة من المحللين اعتقدوا أن الرئيس الروسي سيأمر بغزو واسع النطاق. إلا أنه من الصعب للغاية فهم عقل الديكتاتور، معظم المراقبين اعتقدوا أن بوتين كان يخادع، وأنه لن يهاجم أبداً بلد تجمعه العديد من الروابط الثقافية والتاريخية بروسيا.
كما حدث عندما تدخلت روسيا في سورية عام 2015، يرد القادة الغربيون بتردد على غزو أوكرانيا. في عام 2015، كان الرد “الغربي” يتألف من بضع عقوبات محدودة ضد الأفراد والكيانات الروسية. الخطاب الشديد الذي استخدمه المسؤولون الأمريكيون في ذلك الوقت لإدانة روسيا لم تتم ترجمته إلى إجراءات فاعلة لإجبار بوتين على تغيير مساره. كان يمكن أن تنضوي مثل هذه الإجراءات على حزمة عقوبات شاملة ضد قطاع الطاقة في روسيا، وتطبيق سياسات، ليس من شأنها فقط تقليل اعتماد الاتحاد الأوروبي على النفط والغاز الروسي، بل أيضا (والأهم من ذلك) تسريع الانتقال إلى الطاقة النظيفة. كان يمكن أن يشمل أيضا زيادة كبيرة في الدعم العسكري للمتمردين السوريين.
حسابات إدارة أوباما كانت بسيطة: سورية ليست دولة ذات أهمية استراتيجية بالنسبة للولايات المتحدة، فهي ليست شريكا تجاريا، ولا دولة غنية بالموارد الطبيعية التي تعتبر أساسية للاقتصاد الأمريكي. الولايات المتحدة لم تكن مستعدة لدفع ثمن عملية عسكرية واسعة النطاق في الشرق الأوسط، في وقت كانت تنفصل فيه عن المنطقة. كان الرئيس أوباما على استعداد لـ “السماح” لروسيا بإبقاء سورية تحت نفوذها حتى تتمكن حكومته من التركيز على قضايا أخرى.
الوضع الآن مختلف، ففي أيار 2014، تم توقيع اتفاقية الشراكة بين الاتحاد الأوروبي وأوكرانيا، ومنذ ذلك الحين، بات الاتحاد الأوروبي أكبر شريك تجاري لها. هذه الاتفاقية، التي جاءت إلى حيز التنفيذ في أعقاب الإطاحة بالرئيس الموالي لروسيا، فيكتور يانوكوفيتش، كانت علامة على إعادة توجيه الاقتصاد الأوكراني نحو الاتحاد الأوروبي، بعيدا عن روسيا. رغم ذلك، وحتى لو كان حجم العقوبات المفروضة على روسيا أكبر الآن، فلا الولايات المتحدة ولا الاتحاد الأوروبي على استعداد للمضي قدما في معاقبة روسيا، أو تقديم دعم عسكري كبير للمقاومة الأوكرانية. إن الخوف من الاضطرار إلى الدخول في حرب مع روسيا، من ناحية، واعتماد الاتحاد الأوروبي على الطاقة الروسية، من ناحية أخرى، يفسران هذا القرار إلى حد كبير.
الاستراتيجية الروسية الحالية في أوكرانيا غير واضحة، كما أنه ليس واضحا ما إذا كانت الحكومة الروسية قد غيرت أهدافها منذ بداية الغزو أم لا. ما هو مؤكد أن الغزو لن يسير كما كان مخططا له. في سورية كان الهدف واضحا: الإبقاء على حكومة تابعة في السلطة. روسيا كانت بحاجة لمساعدة نظام الأسد على هزيمة الانتفاضة التي بدأت كثورة ديمقراطية، وتطورت إلى حرب أهلية وحشية نتيجة للعنف الذي مارسه النظام السوري ضد المتظاهرين السلميين.
في أوكرانيا، كانت خطة بوتين الأولية هي تشكيل حكومة تابعة له. تصريحات الرئيس الروسي بأن “الاعتراف” بأوكرانيا كدولة ذات سيادة كان خطأ، وأن الحكومة الأوكرانية الحالية فاشية، تعكس حقيقة أنه كان يخطط لتغيير الحكومة في كييف. لكن الآن، من المستحيل التنبؤ بما إذا كان بوتين سيصل إلى هذا الهدف أم لا. ومع ذلك، من المرجح أن يمضي الرئيس الروسي قدما في ضم دونيتسك ولوغانسك، إما كمقاطعات روسية جديدة، أو جمهوريات “مستقلة” تابعة. وقد تلجأ الحكومة الروسية أيضا إلى إلحاق أكبر قدر ممكن من الضرر بالبنى التحتية الاقتصادية والعسكرية الأوكرانية، لإجبار الرئيس الأوكراني على توقيع “اتفاق سلام” تتخلى فيه أوكرانيا عن أي استقلالية حقيقية في المستقبل القريب.
حجة بوتين بأن منظمة حلف شمال الأطلسي (الناتو) تمثل تهديدا وجوديا لأمن روسيا هي أيضا موضع شك، فرغم أن أوكرانيا أقامت شراكة مع الناتو في أوائل التسعينيات، إلا أن مسألة اندماجها في حلف شمال الأطلسي العسكري لم تكن على جدول الأعمال. وفقا لعالم الاجتماع الأوكراني فولوديمير أرتيوخ فإن: “معظم عمليات توسع الناتو حدثت بعد العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، خلال فترة ولاية بوتين. ولم تؤد التحركات الأولى لهذا التوسع إلى أي رد عنيف من روسيا. في السنوات الأخيرة، لم يكن هناك توسع كبير من قبل الناتو. ولم تكن أوكرانيا قريبة بأي حال من الأحوال من أن تصبح دولة عضو. جميع القادة السياسيين كانوا يعبرون بوضوح عن أنه لن يتم قبول أوكرانيا في الناتو في المستقبل القريب. لذا، يمكن القول أن هذا التوسع أسهم بالطبع في زيادة التوتر في المنطقة، لكنه لم يكن سببا مباشرا لاندلاع الصراع” (4).
إلى جانب ذلك، فإن بعض مهام الناتو الأخيرة، كالتدخل في ليبيا عام 2011، وعملية “درع المحيط”- التي أطلقت عام 2009 لمحاربة القراصنة على الساحل الصومالي – تشير إلى أن الحلف يعمل حصريا في البلدان المحيطية التي تشهد صراعات تمثل تهديدا لاستقرار النظام النيوليبرالي. على سبيل المثال، للساحل الصومالي، الذي يقع على طريق شحن رئيسي، أهمية إستراتيجية للتجارة العالمية. والدول الغربية لن تتسامح في مسألة تعطيل التجارة التي تمر عبر قناة السويس. وفي ليبيا، كان يتم النظر إلى الحرب الأهلية على أنها تهديد محتمل لإمدادات أوروبا من النفط والغاز. علاوة على ذلك، فإن دور ليبيا فيما يتعلق باحتواء تدفق المهاجرين إلى الدول الأوروبية يثير قلق قادة الاتحاد الأوروبي، الذين ضغطوا من أجل التدخل ضد القذافي. ولكن، رغم خطاب بوتين المعادي للغرب، والهجمات الإلكترونية الروسية ضد الولايات المتحدة، لم يتم النظر إلى الحكومة الروسية على أنها تهديد وجودي لاستقرار العالم حتى الآن.
الدمار البشري والمادي الناجم عن غزو أوكرانيا لا يمكن حصره. عدد القتلى وصل بالفعل إلى الآلاف، ويقدر بعض الاقتصاديين أن الاقتصاد الأوكراني سينخفض ​​بأكثر من 50٪ في عام 2022. كما أن الدمار في سورية بات واقعا. ستحتاج البلاد إلى عقود حتى تلتئم، وتنهض من ركام الصراع المستمر منذ أكثر من 11 عاما، مع ما يقرب من مليون حالة وفاة، وملايين المواطنين النازحين داخليا وخارجيا، ومئات الآلاف من المختفين، أصبحت سورية الآن ظلّاً مشوها للبلد الذي كانت عليه من قبل. مئات الآلاف من الأطفال السوريين فقدوا طفولتهم وأسرهم وتعليمهم، وهم الآن مصدومون جراء الحرب المروعة.
مصير أوكرانيا سيكون مشابها، رغم وجود اختلاف في تعامل الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي ومعظم المنظمات الدولية مع حرب شنت في الشرق الأوسط، في دولة ذات أغلبية مسلمة، وأخرى في أوروبا. على الرغم من هذا الاختلاف، الذي يمكن رؤيته في مقدار التغطية الإعلامية التي تلقاها الصراع الأوكراني وتعبئة دول الناتو لحماية حدودها، فإن ما يسمى بـ “المجتمع الدولي” فشل مرة أخرى في منع الحرب. وكما هو الحال في سورية، مستقبل أوكرانيا يكمن إلى حد كبير في صمود شعبها.

ملاحظات:

(1) https://airwars.org/news-and-investigations/after-six-years-of-russian-airstrikes-in-syria-still-no-accountability-for-civilian-deaths/



(2) https://forensic-architecture.org/investigation/airstrikes-on-al-hamidiah-hospital



(3) https://www.reuters.com/world/middle-east/russian-jets-bomb-rebel-held-idlib-syria-witnesses-say-2022-01-02/



(4) https://www1.folha.uol.com.br/mundo/2022/03/putin-quer-aumentar-area-de-influencia-nao-impedir-avanco-da-otan-diz-analista-ucraniano.shtml?utm_source=sharenativo&utm_medium=social&utm_campaign=sharenativo&fbclid=IwAR3-fflC55XhM3Sj1kQP0Ok3n_OkbVe6XFpG0W_a6YPKzn7jmI1ruBOfo2Q

ترجمة تامر خرمه
مراجعة فيكتوريوس شمس