منطق تجميع القوى والقضية السورية اليوم
ياسين الحاج صالح
2022 / 4 / 9 - 17:47
نُشرت قبل أسابيع عريضة كتبها معارضون سوريون تدعو إلى "منع النظام الروسي من التصويت في مجلس الأمن"، و"إحالة الملف السوري إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة تحت شعار الاتحاد من أجل السلام"، و"تعليق عضوية نظام الأسد في الأمم المتحدة" و"تشكيل هيئة حكم انتقالي"، و"إحالة مرتكبي جرائم الحرب في سورية إلى المحكمة الجنائية الدولية". جاءت العريضة التي وقع عليها مئات السوريين على خلفية الغزو الروسي لأوكرانيا، ويبدو أنها أرسلت إلى الأمين العام للأمم المتحدة، وإلى ممثلي الدول الأعضاء في مجلس الأمن، ولعدد من ممثليات الجمعية العمومية، كما للممثل السامي للاتحاد الأوربي، والأمين العام لجامعة الدول العربية، والأمين العام لمنظمة التعاون الإسلامي" وغيرهم.
يعطي عنوان العريضة، "إلى موقف موحد"، وأسماء الذين اعتنت بجمع توقيعاتهم، قبل أن يتاح التوقيع للعموم، فكرة عن روحية تجميع القوى التي ما زالت تحكم عمل المعارضة السورية بعد 11 عاماً من بدء أكبر حدث عرفته سورية في قرن ونيف من تاريخها. من المفهوم، بل من الضروري، العمل بمنطق تحالفات واسعة في أزمنة استثنائية، مثل الثورة أو الحرب أو الأزمات الوطنية الكبيرة، وذلك بغرض تحقيق الهدف، انتصار الثورة أو كسب الحرب أو التغلب على أوضاع الأزمة بخسائر أقل. لكن ليس هذا هو وضعنا اليوم ومنذ سنوات، إن لم يكن منذ 2013 فمنذ 2016 وسقوط حلب على الأقل. لسنا في وضع تعبئة عامة تغض النظر مؤقتاً عن فوارق وخصومات من أجل تحقيق هدف كبير مشترك. لقد خرجنا خاسرين ومحطمين من صراع كبير، كان بعض الموقعين على العريضة في موقع العداوة والكيد، وليس مجرد الخصومة، لموقعين آخرين، أو لتياراتهم. وأعني بالتحديد الإسلاميين من أمثال أسامة الرفاعي وهيثم المالح وبضعة آخرين. في سجل القوى التي حاباها المذكوران وغيرها جرائم موصوفة، أسهمت في إضعاف مجتمع الثورة وفي الإساءة لقضيتها وتقويض معناها.
ولا وجه لتسويغ استمرار هذا المنطق التعبوي بأن العريضة تخاطب "المجتمع الدولي" والعربي والإسلامي، جهات يستحسن أن نظهر أمامها موحدين. هذا لأن ما وراء المظهر معلوم للجميع، ولأن تدني وزن واعتبار المعارضة الرسمية السورية التي كانت وراء هذه العريضة، ليس معزولاً عن تدهور تمثيلها وسوء سمعتها وانقساماتها المعلومة للجميع، ولا عن الجرائم التي ارتكبت من أطراف محسوبين عليها دون أن تستطيع إدانتها، فضلاً عن الانقسامات التي آلت بمعظم المعارضين غير الإسلاميين إلى ترك الجسم المعارض المعترف به دولياً، الائتلاف الوطني، منذ سنوات. والأكيد أن ممثلي القوى العربي والدولية الذين سيخصصون ثلاث دقائق لقراءة العريضة يعرفون جيداً عن تفاهة وتبعية التركيبة السورية المعارضة اليوم وعجزها عن إصلاح ذاتها، وأنه ليس للموقعين بحال "موقف موحد" من أي شأن. لم تكد تصدر العريضة بُعيد الغزو الروسي لأوكرانيا حتى كان أحد الموقعين، المذكورين فوق، يثني على طرد بوتين لعائلة روتشيلد من روسيا (!)، ويدعوه ليتخذ خطوة صحيحة أخرى: "تبني النظام الاقتصادي في الإسلام". مقابل وهم إيديولوجي فشل ألف مرة، الرجل وأشباهه مستعدون للتضحية بأي موقف سياسي وأخلاقي متسق، يمكن أن يجتمع عليه قطاع من السوريين اليوم.
منطق تجميع القوى كان سارياً منذ أيام "ربيع دمشق" 2000-2001، وتكرس في جلسة علنية لمنتدى الأتاسي في دمشق في عام 2005، قرئت فيها ورقة من الإخوان المسلمين من بين أوراق أخرى عن تصور مستقبل السورية السياسي (أغلق المنتدى إثر هذه البادرة)، ثم في "إعلان دمشق" الذي كان الإخوان قوة موقعة عليها وعلى علم مسبق به وقت صدوره. وبعد الثورة لم يكد يعمل أحد على خلق معركة إيديولوجية تُفرِّق خصوم النظام أو تستبعد الإسلاميين. الأخيرون هم من تحولوا خلال أقل من عامين إلى قوة استبعاد وتفريق، وارتكبت بعض تياراتهم جرائم لم يدنها آخرون منهم، بمن فيهم من في الإئتلاف، فضلاً عن المجلس الإسلامي السوري في اسطنبول الذي يعمل على تنصيب نفسه مرجعية طائفية سنية. لا يبدو أنه هناك أصوات عاقلة في هذه التركيبة، تستطيع الكلام بلغة وطنية جامعة، أو حتى تدين أسوأ جرائم الإسلاميين.
تاريخ الإسلاميين في الصراع السوري منذ اكتمال انهيار الإطار الوطني للصراع بعد نحو عامين من بداية الثورة هو تاريخ توزعهم إلى قوى عدمية منضبطة بالنموذج السلفي الجهادي، وقوى تابعة تتمثل أساساً بالإخوان، مع إشغال الأولين موقع معتدين على الجذع الاجتماعي للثورة السورية، والثانين موقع قوة احتيال وتلاعب بالتمثيل السياسي. التخوم بين العدميين والتبعيين اتجهت إلى الامحاء مع الزمن، وبخاصة بعد انكسار داعش. وتبدو الجهة العامة للتحول هي من العدمية نحو التبعية. أحرار الشام وجيش الإسلام لم يجدا مخرجاً من منازعهما العدمية غير التبعية لقوى إقليمية، وبالتحديد لتركيا اليوم، مثلهم في ذلك مثل الإخوان المسلمين. وجبهة النصرة أو هيئة تحرير الشام ذاتها تبدو أقرب من أي وقت سبق إلى موقع كهذا. من العدمية إلى التبعية، الجماعة لم يمروا بالسياسة والمجتمع السوري يوماً. مروا في أحسن الأحوال بمجتمعات محلية بالغة الضيق في بلداتهم الأصلية.
منطق التعبئة وتجميع القوى أخذ يصير عقيماً سياسياً أكثر وأكثر منذ عام 2013 على الأقل. فإذا استمر رغم كل شيء فلأن القوى المعارضة القديمة الإسلامية وغير الإسلامية تبدو في أزمة احتضار، بلا أفق وبلا أفكار وبلا استراتيجية. الإسلاميون يحلون أزمتهم بالتبعية، وغير الإسلاميون يتحللون بفعل عجزهم عن حل مشكلاتهم.
أما وبعد الخسارة المهولة فإن ما يعول عليه ليس بحال منطق التعبئة وتجميع القوى، بل بناء ذاتيات سياسية متمايزة، تعرف نفسها في جغرافيا جديدة، لا تطابق خريطة سورية السابقة بحال. هذه الأخيرة لم تعد تطابق ذاتها بفعل الانقسام الواقعي للبلد لأربعة أو خمسة مناطق، ولوجود سورية لاجئة بكتل مهمة في نحو عشر بلدان، وبطيف انتشار متفاوت الكثافة في 127 بلداً. في الدواخل السورية يصعب بناء قوى سياسية لا تمارس مقادير عالية من الرقابة الذاتية تؤول بها إلى أن تُزوِّر نفسها. وحيث لا يصعب ظهور قوى سياسة خارج سورية، في أوربا بخاصة، فإنه يثور تساؤل عن مدى استحقاقها للصفة السياسية في انفصال عن مجتمع وأرض وحياة اقتصادية متفاعلة.
فإذا كان المسلك العقلاني يقتضي أن نستثمر في أفضل ما يتاح من فرص في جغرافيات سورية العابرة للقوميات اليوم، بحسب ما وصفتها ليلى فينيال في كتاب حديث الصدور، فإن التوظيف في البعد التعليمي الثقافي هو الذي قد يكون أولى بالاهتمام في أوربا. هذا ليس للتقليل من شأن أي مبادرات لإنشاء أجسام سياسية جديدة، هي في أقل الأحوال تجارب على السياسة والتنظيم والتفكير. لكن معضلة المنظمات السياسية في سورية منذ ما قبل الثورة هو الضمور الشديد للبعد الفكري في تكونها. فإذا كانت السياسة كثقافة تحررية هي ما يميز المنظمات السياسية غير الإسلامية (السياسة كدين هي ما يميز الإسلاميين)، وهو ما ميز في واقع الأمر الأحزاب الشيوعية في طور صعودها بين خمسينات وسبعينات القرن العشرين، فإن توسيع مساحة التقاء الفكر التحرر النقدي مع النشاطية السياسية هو ما يمكن أن يكون أساساً لمنظمات جديدة، بشخصية قوية. بدون فكر أو بفكر متقادم، تقوم منظمات ركيكة لا تكاد تتماسك.
السياسة كثقافة تحررية هي استئناف للتجارب الثورية على مستوى السلوك ونظام الشخصية والتنظيم والعلاقات الجندرية، يستوعب تجاربنا المحبطة الأحدث، ويعمل من أجل أن يتجسد فيه التغير الاجتماعي والسياسي المرغوب على المستوى الوطني.
من تجميع القوى إلى فرزها وتمايزها، هذا هو المسلك الأصح اليوم.