الجزر النيلية في مصر والاستثمار العقاري
محمد حسن خليل
الحوار المتمدن
-
العدد: 7164 - 2022 / 2 / 16 - 18:55
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
منذ صدور القرار الجمهوري رقم 18 لسنة 2022 بتخصيص 36 جزيرة نيلية، بالإضافة إلى جزيرة بحرية واحدة للقوات المسلحة، ونشره بالجريدة الرسمية بتاريخ 22 يناير 2022، تداولت الصحف والمواقع الإخبارية النقاش حوله من عدة زوايا: أسباب القرار، ومدى دستوريته، والسياق الذي يأتي فيه من حيث اتساع مستويات الاستثمار العقاري في مصر.
والسبب المعلن للقرار موضح في الكتابات المختلفة من نص الجريدة الرسمية المذكور، حيث كل صفحة من ملاحق القرار (ص 3-59) باسم جزيرة وخريطتها مكتوب في أعلاها عبارة: "لوحة توضح مقترح وزارة الموارد المائية والري نقل ولاية 526 جزيرة نهرية بنهر النيل على مستوى الجمهورية للقوات المسلحة لحمايتها من كافة التعديات". والمفترض، من حيث الشكل، أن نص القرار وملاحقه تتسق مع بعضها البعض، ولكن النص المذكور أعلى صفحات الملاحق يتحدث عن 526 جزيرة نيلية بينما نص القرار ينص على 36 جزيرة نيلية فقط وجزيرة واحدة بحرية.
إلا أن التناقض الأهم هنا هو التناقض بين المبرر المعلن، نقل الجزر للقوات المسلحة لحمايتها، وبين متن القرار بصفحة 2 الذي يقول، حسب نص المادة الأولى: "ووفق على تخصيص الجزر النيلية الموضحة بالكشف المرفق بإجمالي عدد 36 جزيرة نهرية وكذا عدد 1 جزيرة بحرية وفقا للبيان واللوحات وجداول الإحداثيات المرفقة لصالح القوات المسلحة". فهذا لا يعني مجرد "نقل الولاية للحماية" كما طالبت وزارة الري والموارد المائية، بل يتعداه إلى تخصيص الجزر للقوات المسلحة، أي نقل الملكية.
وحتى لا يكون هناك أي لبس في هذا الخصوص، يأتي نص المادة الثانية مؤكدا لهذا بقوله: "يودع هذا القرار وحوافظ بالأبعاد والمساحات التفصيلية للجزر المبينة بالمادة الأولى من هذا القرار بمكتب الشهر العقاري المختص بغير رسوم، ويترتب على هذا الإيداع آثار الشهر القانونية". أي أننا هنا بصدد تسجيل ملكية الجزر للقوات المسلحة وليس مجرد نقل اختصاص حمايتها. ولكن هناك بعدا خطيرا آخر للنص على "آثار الشهر القانونية" بالشهر العقاري حسب نص المادة الثانية التي استعرضناها.
إن تسجيل تلك الملكية للقوات المسلحة بالشهر العقاري يعنى نفي وإلغاء أي ملكية سابقة للجزر. نلاحظ مثلا أن أول جزيرة بالقرار المذكور هي جزيرة القرصاية، وهي الجزيرة التي ثارت منازعة بين الأهالي المقيمين عليها وبين محاولة الجيش إجلاؤهم عنها في الفترة بين عامي 2007 و2010، وانتهى الأمر بحكم قضائي لصالح سكان الجزيرة وأثبت أحقيتهم بها. إلا أن تسجيل الملكية وفق القرار المذكور لصالح القوات المسلحة يلغي ملكية السكان لها، وينقلها للجيش.
والمعروف أن أي قرار أو قانون لا يسري بأثر رجعي، وبالتالي لا يمس الأوضاع المستقرة منذ مدد طويلة. ولكن الكثير من تلك الجزر مأهولة بسكان منذ عقود إلى قرون كما هو ثابت، وقد استقرت أوضاعهم بها، ليس من ناحية السكن فحسب، بل أيضا بارتباطها بنشاطهم الإنتاجي، حيث يعمل السكان في الجزر المأهولة عادة (ومثال جزيرة القرصاية ثابت من وقائعها السابقة) بالزراعة وبصيد الأسماك، وهذا هو نمط حياتهم. وبالتالي فإن إخلاء الجزيرة من سكانها لا يؤثر فقط على المسكن، ولكنه يؤثر كذلك على النشاط الإنتاجي وعلى أسباب العيش والاستقرار، وهو ما يعرف في اللغة الإنجليزية ب (livelihood). أما سريان القرار على الأوضاع القائمة فهو يُعَد في هذه الحالة بمثابة نزع ملكية قائمة ومستقرة، وهذا طبعا في الجزر المأهولة بالسكان.
إذن فإن القرار المذكور هو بمثابة قرار بنزع الملكية ويقع عليه ما يجب أن يخضع له أي نزع للملكية من قواعد. فالملكية الخاصة مصونة بالدستور، ونزع الملكية لا يكون إلا لمنفعة عامة ووفق تعويض عادل. والجزر النيلية المذكورة هي إما جزر بها سكان مستقرون وبأوراق ثبوتية مثلما وضح في القضايا التي تناولت جزر القرصاية والوراق، وإما يقيم ويعمل بها سكان دون أوراق ثبوتية. وهذا ينقلنا إلى جانب هام من جوانب العوار القانوني الذي يشوب القرار المذكور: فقد استقر الفقه القانوني، في مصر وفي غيرها، وفي كل الفترات، على أن الأوضاع المستقرة لسنوات أو لعقود متواصلة من الانتفاع تعطي الحق في الملكية حتى في حالة غياب وثائق ثبوتية مؤيدة للملكية.
إذن فإن وضع سكان الجزر في الجزر المأهولة، سواء تمتعوا بالتغطية القانونية التي تعطيهم حق الملك أو الإيجار المستقر منذ عقود، أو لم يتمتعوا به وكان استقرارهم الطويل بمجرد وضع اليد، فإن إجلاءهم عن تلك الجزر لابد وأن يخضع لقواعد نزع الملكية، حيث يجب توضيح المنفعة العامة من نزعها، ودفع مقابل عادل مقابلها. ولكن القرار والتوضيحات التي نشرت عنه تخلو من مبرر لنزع الملكية، ولا تنص على تعويضات، وبالتالي فهي مشوبة بالعوار القانوني.
وهناك نقطة ذات صلة بهذا الموضوع، ألا وهي أن هناك قرارا آخر لرئيس الجمهورية قد صدر عام 2019 وحمل رقم 380 ونشر بالجريدة الرسمية ووافق على تخصيص عدد 47 جزيرة بالبحر الأحمر للقوات المسلحة كأراضي ذات أهمية استراتيجية. وبالطبع هناك مبرر مشروع لمثل ذلك القرار في تلك الحالة لأن البحر الأحمر هو حدود مصر الشرقية وله أهمية شديدة بالنسبة للأمن القومي لمصر، ولكن ما نستغربه في قرار الخاص بجزر البحر الأحمر هو نص المادة الثانية الذي يقول "يودع بمأمورية الشهر العقاري المختص حوافظ بالأبعاد والمساحات للجزر المبينة"، فالإيداع بالشهر العقاري إثبات للملكية، وهو ما لا تحتاجه الأهمية الاستراتيجية للدفاع، وهو ما لا يُتَّبَع قطعا في معسكرات الجيش أو أي مساحات أخرى مخصصة للقوات المسلحة لأغراض الدفاع والأمن القومي. بل إنه من غير المأمون إيداع خرائط أو أبعاد مساحية لأي أراض خاصة بالقوات المسلحة لدواعي الأمن القومي في الشهر العقاري، وإنما يلزم اتخاذ مختلف الإجراءات للحفاظ على سريتها.
وربما كان المبرر المنطقي لأهمية التسجيل بالشهر العقاري في كلتا الحالتين، جزر البحر الأحمر والجزر النيلية، هو ضرورته في حالة نقل الملكية بالبيع من أجل الاستثمار العقاري، وهو ما تردد عدة مرات في الصحافة في فترات مختلفة، حيث تشمل تلك الأغراض إنشاء منتجعات وحتى الحديث عن إنشاء مركز مالي في جزيرة الوراق ينافس دبي. وفي الحقيقة فإن الاستثمارات العقارية تعد مجالا رئيسيا للاستثمار الخاص في مصر سواء من قبل الدولة (الطرق والكباري والإسكان وغيره) أو من قبل القطاع الخاص، وهو ما يستدعي مناقشة هو الآخر.
لابد وأن نلاحظ أنه منذ ما قبل عام 2011 وحتى الآن يعاني سوق الإسكان العقاري من التخمة وفائض العرض في الإسكان الفاخر، سواء في المدن الرئيسية أو في الساحل الشمالي والشرقي، بينما هناك عجز في الإسكان الشعبي والاقتصادي، وهو ما لا يقبل عليه الاستثمار العام ولا الخاص. ألا تؤدي تخمة السوق بمثل هذا العرض إلى مزيد من الركود والكساد؟
وإذا كانت الدول المتقدمة قد عانت، مثال ذلك أمريكا، من انفجار فقاعة الرهن العقاري الناتجة عن فرط الاستثمار العقاري فوق قدرة السكان على التمويل، وفرط منح الائتمان للمواطنين لشرائها، وفرط توريق وتداول تلك الديون غير المضمونة، فماذا يمكن أن يفعله ذلك التوسع في الاستثمار العقاري الفاخر في بلادنا؟ إن الدول المتقدمة قد عانت من العواقب رغم أنها تملك جهازا إنتاجيا زراعيا وصناعيا متقدما يفي باحتياجاتها ويبقي الكثير منه للتصدير، أما في بلادنا فإن الإسراف في الاستثمار العقاري يأتي ونحن نعاني من أزمة اقتصادية كبيرة قوامها الأساسي نقص الإنتاج، حيث نستورد نحو 60% من غذائنا، كما نستورد المقومات الأساسية لصناعاتنا من آلات ومستلزمات إنتاج، وبالتالي فإن حرف الاستثمار إلى العقارات يهدد بعواقب وخيمة.
كما أن الاستدانة الكبيرة من أجل تلك الاستثمارات العقارية مع عدم وجود فائض إنتاجي لسداد الديون لا يدع مجالا متاحا لسداد الديون سوى ببيع أصول، وهو ما يفتح المجال واسعا للخصخصة التي تتزايد كثيرا في الفترة الأخيرة. ولكن المقام هنا لا يتسع لمعالجة تلك القضية الهامة التي نؤجلها الآن ونكتفي بهذه الإشارة الموجزة.
المصادر
أنظر الجريدة الرسمية العدد 3 مكرر ج بتاريخ 22 يناير 2022، نص القرار ص 3، والملاحق من ص 3-58 عبارة عن أسماء وخرائط وإحداثيات الجزر كملحقات للقرار.
أنظر الجريدة الرسمية العدد 31 مكرر (أ) في 4 أغسطس عام 2019