نظرة تحليلية إلى خطاب الدكتور مصطفى محمود


خالد محمد الزنتاني
2022 / 1 / 26 - 10:49     

في تعليق سابق على منشور حول نقد النظام الليبي ذكرت أن أهم محددات التطور في أي مجتمع هو العقل النقدي وقلت أن إتباع الأسلوب النقدي في الحياة هو القادر على إحداث نقلة سريعة نحو المستقبل وقلت أيضا طالما كانت عقولنا لا تستخدم هذه الآلية سنظل نسير عكس الإتجاه أو على الأقل نراوح في نفس المكان وفي هذه السطور القليلة سأحاول شرح هذه الموضوع بالتطرق إلى مثل واقعي من الحياة ..

من منا لم يسمع بالدكتور مصطفى محمود؟ الشخصية الرصينة صاحب العلم الغزير والثقافة الموسوعية الرجل الذي تحدث في كل شيء وأسرنا بطريقته الساحرة في نقل العلوم الحديثة وأدخلنا إلى ممالك الحيوان والحشرات وقرب لنا الكون بمجراته ونجومه العظيمة .. إستشرف مجاهل المستقبل وأبحر في لغز الحياة وسر الموت ولم يترك شاردة وواردة إلا وأدلى فيها بدلوه ونحن لا نملك إلا الجلوس أمام حلقاته التلفزيونية منصتين إلى مايلقيه على مسامعنا في حالة نادرة من حالات الإعجاب والدهشة

لكن من منا إستطاع في يوم من الأيام التشكيك في الدكتور مصطفى محمود أو إعادة النظر في معلوماته خصوصا وأن الرجل كان يمثل حالة وطنية نادرة وممنوعة من النقد بعد أن سيطر على وعي الملايين وملك قلوب الناس وتمكن منها حتى أصبح ظاهرة لا يأتي ذكره إلا مرفقا بعلامات الإعجاب والإشادة والتقدير
لكن منذ أيام عرضت إحدى القنوات مضمون حلقة قديمة للدكتور (مصطفى محمود) كان يتحدث فيها من موضوعين :

الأول حول سياسة الكيل بمكيالين التي ينتهجها الغرب حيال بعض القضايا الإنسانية والتي روى خلالها الدكتور مصطفى حادثة سقوط قطة من أحد المباني بمدينة نيويورك في الثمانينيات وتكلم بالتفصيل حول كيف أثرت هذه الحادثة على وسائل الإعلام الأمريكية والشعب الأمريكي في حين يقول أن نفس هؤلاء الأمريكيين لم يكلفوا أنفسهم وقفة تعاطف مع ضحايا القنبلة الذرية على اليابان والذين قدرهم حسب قوله (بسبعة ملايين ضحية!) ملقيا باللائمة على أنانية المجتمعات المادية وما تعيشه هذه المجتمعات حسب قوله من أزمة أخلاقية كبيرة!

الموضوع الثاني كان يعلق فيه الدكتور مصطفى محمود عن أحداث حرب البوسنة في التسعينيات ويقول أن الغرب وقف موقف المتفرج من المذبحة التي تعرض لها المسلمون هناك دون أن يفعل أي شيء لأن الأوروبيين حسب زعمه لايهمهم ما يحصل في أي مكان إلا إذا كان الأمر يتعلق بهم وبشعوبهم مفسرا ذلك بعداوة الأنظمة العلمانية للأديان بصفة عامة وللإسلام على وجه الخصوص!
إنتهى المحتوى.

طبعا بعد إجراء بحث صغير جدا على الإنترنت ستجد من الواضح أن هناك مبالغات وردت على لسان الدكتور مصطفى محمود ولهذا وجدت رغبة قوية في الحديث عنها من باب التصحيح فقط نظرا لما يتمتع به الدكتور من شهرة واسعة وتأثير طاغ في العالم العربي لايزال تأثيره باق معنا حتى الآن وهذا ما جعل كل مايتفوه به مسلمة وحقيقة من الحقائق الناصعة التي لا يرقى إليها الشك وهذا في رأيي من أكثر أنواع المغالطات وأكثرها إنتشار


لكن قبل الرد على ماجاء في هذا المحتوى لابد ان أشير إلى أن الزمن الذي طغت فيه برامج وكتابات الراحل مصطفى محمود على العقول لم تكن تتوفر فيه أي مصادر معرفة أخرى غير المصادر المكتوبة ولهذا فقد كانت عملية التحقق من المعلومات تمر بطرق معقدة في البحث لا يمكن لأي شخص عادي القيام بها بعكس الحال الآن بعد توفر وسائل التكنولوجيا السريعة بحيث أصبح بإمكان أي واحد منا إختبار أي معلومة أو خبر بدقة وسرعة متناهية من على شبكة المعلومات دون أن يتكلف أي عناء أوجهد يذكر.

للأسف فإن التشبيه الذي إستخدمه الدكتور مصطفى محمود بين حادثة قطة نيويورك وحادثة رمي القنبلة الذرية على اليابان لم يكن موفق لا من ناحية السياق ولا من ناحية الحقيقية التاريخية .. فمن من ناحية السياق نستطيع القول أن الناس الذين تأثروا من حادثة القطة ليسوا نفس الذين قرروا ضرب اليابان بالقنبلة الذرية لبعد الشقة بين الحادثتين، أما من حيث الحقيقة التاريخية فضرب الولايات المتحدة لليابان جاء في نهاية حرب ضروس سقط فيها عشرات ألاف القتلى من الجانبين أضف إليها الهجوم الإنتحاري الذي قام به اليابانيين على ميناء بيرل هاربر فب وقت سابق وأوقع خسائر كبيرة في صفوف الأمريكيين وكانت مذبحة هزت الرأي العام الأمريكي بإعتبارها الحادثة الأولى التي يتلقى فيها الأمريكيون ضربة إستباقية في عقر دارهم وقد تكون هي الأخري قد سرعت فيما بعد بالبرد الإنتقامي الذي أسفر عن الكارثة النووية المعروفة للجميع.

حقيقة أخرى تبينت من خلال تعليقات الدكتور مصطفى محمود وهي المبالغة التي تعمدها في كلامه عن المأساة اليابانية عندما قال ان عدد ضحايا القنبلة الأمريكية كان 7 مليون ضحية بينما الأرقام الحقيقية تشير إلى 130 ألف أو 230 ألف قتيل كحد أقصى لكن الدكتور مصطفى ضخم العدد لزيادة التأثير على المشاهدين.

الحقيقة الأخرى هي أن حرب البوسنة والهرسك هي حرب قوميات ولا علاقة لها بالدين وقول الدكتور مصطفى محمود أن الغرب لم يقم بدور حقيقي في الدفاع عن المسلمين غير صحيح بالمرة بدليل ان الجيش الأمريكي هو من قام بقصف مواقع الجيش الصربي مما أدى إلى فك الحصار على المدن البوسنية ووضع حد لمأساة الحرب بعيدا عن أي دور للبلدان الإسلامية التي كانت تتفرج على الأحداث من بعيد دون ان تحرك أي ساكن، ولازلنا نتذكر الطيار الأمريكي الذي أسقطت طائرته أنذاك واختفى عدة أسابيع قبل أن تعثر عليه قوات التحالف لاحقا وسط أدغال يوغوسلافيا ونتذكر أيضا كيف تم تعقب كل مرتكبي جرائم الحرب من قادة الصرب والكروات والبوسنيين أيضا والقبض عليهم ومحاكمتهم في لاهاي على مرأى ومسمع من العالم حتى ان زعيم الصرب ورئيسهم ميلوسوفيتش مات في السجن وهو يطالب المحكمة بإطلاق سراحه دون جدوى ..

أما قول الدكتور مصطفى أن العلماني لا يهتم بالمجازر الكبيرة (لأنها مش من مصلحته)! ففيها مغالطة كبيرة وجب تصحيحها وهي أن قلة الإكتراث بالأعداد الكبيرة هي ظاهرة يسميها علماء النفس (بالتخدير النفسي) وهي تحدث لكل البشر بغض النظر عن عقائدهم علمانيين أو متدينين ومسلمين أو مسيحيين ومن الخطأ نسبتها للعلمانية والسبب وراء عدم الإكتراث هذا يفسره العلماء بأن قدرتنا على التعاطف مع الحالات الفردية أكبر مما هي عليه عند التعاطف مع المآسي الجماعية وهذا الموضوع تعرضت له كثير من البحوث والدراسات العلمية (راجع على النت بحث عالم النفس الدكتور Paul Slovic في الخصوص).

ورغم كل ذلك فإن هذه الردود لايمكن أن تقلل من أهمية الدكتور مصطفى محمود كمفكر كانت له مدرسة فريدة في نقل العلوم وتبسيط وصولها للجمهور في وقت لم يكن فيه الحصول على المعلومة بالشيء اليسير ولازلت شخصيا من بين المعجبين بطريقة عرضه وأسلوبه الشيق في الكتابة فهو مثقف متعدد الإهتمامات لا يشق له غبار لكنه رغم كل ذلك كان رجل عصره مثل كثير ممن هم في جيله من قادة الفكر الذين أتحفونا بكتبهم وإبداعاتهم قبل أن تفاجئنا القفزة الحضارية العملاقة في العشرين سنة الاخيرة والثورة التي أحدثها الإنترنت في عالم الأفكار وساهمت في قلب المفاهيم رأسا على عقب بحيث أن العديد من المسلمات التي كنا نطمئن إليها ونحفظها عن ظهر قلب لم تعد كثير منها ترقى إلى مستوى الحقائق في ظل المتغيرات المتسارعة حولنا وأنا هنا سأستعير إحدى مقولات الدكتور مصطفى محمود التي عبر بها بنفسه عن سرعة تقدم العلوم في عصرنا وأنا سأنقلها هنا بتصرف لايخل بالمعنى حين قال في أحد برامجه القديمة : "لو قام أجدادنا الأولين من الموت اليوم وشاهدوا الإختراعات الحديثة فإن إختراع واحد مثل جهاز التلفزيون قادر على جعلهم يقعوا ساجدين لنا لكثرة ما سينتابهم من فزع وخوف"! .. هذا التعبير للرجل نفسه يؤكد إدراكه أن العلوم في تجدد مستمر ولها تأثيرات صادمة لا نتمكن أحيانا من مجاراتها والتكيف معها إلا بعد وقت وجهد في التفكير ولهذا أنا أرى مصطفى محمود كقيمة ثقافية يجب احترامها وعدم التقليل من شأنها فهو قبل أن يكون كاتب فهو مفكر له وزنه ويكفي أن أجيال عديدة نشأت على كتاباته المشوقة وحكاياته في العلم والإيمان التي زرعت فينا حب القراءة والبحث وكثير منا لايزال متأثرا بفلسفته وهدوئه المعهود وهو ينقل لنا التجارب العلمية في دول الغرب ومشاهداته وتعليقاته عليها إلى يومنا هذا. رحم الله الرجل وأبقى إسمه محفورا في سجل الخالدين فقد كان أيقونة في عالم المعرفة وعلم من أعلامها وما تطور الحياة وتجدد الأفكار فيها إلا سنة من سنن الكون ودرس للإنسان حتى يعلم دائما أن فوق كل ذي علم عليم!