دروس الثلاثين سنة على انهيار الاتحاد السوفياتي
الرابطة الأممية للعمال
2022 / 1 / 10 - 10:48
في آب 1991، أطاحت المظاهرات الجماهيرية الحاشدة في موسكو وعبر الاتحاد السوفياتي بأكمله بالنظام الديكتاتوري للحزب الشيوعي للاتحاد السوفيتي. الصيرورة كانت جارية قبل بضع سنوات من ذلك الوقت. بدأت بالتمرد في أرمينيا عام 1988، واستمرت بالنضالات الشعبية في الدول المضطهدة داخل الاتحاد السوفياتي، وفي سياق الحراكات الجماهيرية التي أسقطت جدار برلين عام 1989، كما تضمنت الثورة التي أسقطت الحزب الشيوعي وأعدمت الطاغية تشاوشيسكو في رومانيا عام 1989، وبقية الحراكات التي اجتاحت أوروبا الشرقية وأطاحت بدكتاتوريات الأحزاب الشيوعية التابعة لقيادة موسكو.
عجز الحزب الشيوعي السوفياتي عن منع انهيار الأنظمة الستالينية في الدول التابعة له بأوروبا الشرقية كان بالفعل علامة على الأزمة العميقة داخل روسيا بعد تطبيق البيريسترويكا، التي استعادت الرأسمالية، وتركت المجتمع السوفياتي في حالة تدهور هائل فيما يتعلق بمستوى المعيشة.
صادر عن الرابطة الأممية للعمال_ الأممية الرابعة
عام 1991، في مواجهة محاولة انقلابية من قبل الجناح الأكثر قمعية ودكتاتورية للبيروقراطية، بقيادة ايجور ليغاتشوف، خرجت الجماهير إلى الشوارع لهزيمة الانقلاب وإسقاط الحزب الشيوعي السوفياتي، ما فتح الباب لفترة من الحريات الديمقراطية في الاتحاد السوفياتي. يلتسين تولى زمام الأمور في روسيا، وبعد بضعة أشهر أعلن نهاية الاتحاد السوفياتي في اجتماع جمعه بزعماء أوكرانيا وبيلاروس.
ماذا كانت طبيعة ونتائج هذا الحراك؟ القوى الإمبريالية احتفلت بشدة بسقوط الاتحاد السوفايتي باعتباره انتصارا للرأسمالية، ورثى الستالينيون ذلك على أنه هزيمة للاشتراكية في مواجهة “الثورة المضادة”، لايزال هناك الكثير من الالتباس حول ما حدث بالضبط وكيفية تقييمه..
هل كان الأمر انتصارا أم هزيمة للحركة العمالية؟ مراجعة الحقائق واتخاذ موقف بشأن ما حدث أمر حاسم حتى يكون لدى المناضلين برنامج مناسب للواقع التاريخي.
الرابطة الأممية للعمال_ الأممية الرابعة، وبعد القيام باستجابة أولية تضمنت أخطاء رئيسية، شرعت عام 1997 في تطوير تحليل أكثر عمقا، تم نشره في كتاب “حكم التاريخ”، الذي كتبه الرفيق مارتين هيرنانديز، والذي لا يسلّحنا فقط بفهم صيرورة استعادة الرأسمالية في الاتحاد السوفياتي وأوروبا الشرقية، بل وأيضا في الصين وكوبا. في هذه المقالة، سنقوم باستعراض هذا التحليل، واقتراح بعض الأسئلة الجديدة المنبثقة عنه، من أجل فهم أكثر دقة لتفكك الاتحاد السوفياتي.
ماذا كان الاتحاد السوفياتي عام 1991؟
عام 1917، استولت الطبقة العاملة على السلطة تحت قيادة الحزب البلشفي. لينين وتروتسكي كانا دائما يقولان إن الثورة الروسية ستكون قادرة على مقاومة الضغوط الإمبريالية والوصول إلى الاشتراكية فقط إذا استولت بروليتاريا أكثر الاقتصادات الرأسمالية تطورا على السلطة. الحرب الأهلية الروسية (1917-1923)، التي شهدت تدخل الجيش الروسي الأبيض والغزو العسكري للعديد من الدول الإمبريالية، ودعمت أيضا العديد من جيوش المرتزقة، وجهت ضربات قوية للدولة المتخلفة. جزء كبير من طليعة الطبقة العاملة الروسية، التي استولت على السلطة، فقدوا أرواحهم في الصراع العسكري. الجوع والبؤس وصلا إلى أبعاد كارثية في دولة العمال الفتية.
نجت الثورة، ولكن مع تناقضات عميقة: طبقة جديدة من موظفي الدولة، والتي تضم بعض الأعضاء القدامى من البيروقراطية القيصرية إلى جانب البيروقراطيين الجدد والوصوليين، استولت على السلطة في الدولة العمالية بعد صراع سياسي طويل وعنيف. كان هذا بالتالي أصل بيروقراطية الدولة العمالية: خطوة ملموسة إلى الوراء حدثت بعد صعود ستالين إلى السلطة داخل الحزب والدولة على حد سواء بعد وفاة لينين عام[1] 1924.
الثورة الستالينية المضادة شقت طريقها بدماء الرفاق الذين قاوموا هذا الارتداد. نتيجة للقمع الوحشي، ملأ التروتسكيون وجماعات معارضة أخرى سجون الدولة. منذ ذلك الحين، حولت الطبقة البيروقراطية الجديدة تركيزها إلى مهاجمة المفاهيم الأصيلة والبرنامج اللينيني للحزب البلشفي الذي قاد الثورة. ستالين طور تبريرا نظريا لفرض توجه معاكس لتوجه لينين، لكنه قدمه بشكل مضلل باسمه وباسم الماركسية: “الاشتراكية في بلد واحد”.[2] البيروقراطية فرضت انتكاسة بالمعنى الكامل للكلمة فيما يتعلق بقضايا المرأة والأسرة والمثلية الجنسية، وكذلك بالنسبة للقوميات المضطهدة، وشمل الأمر عودة الشوفينية “الوطنية الروسية” القديمة، ومعاداة السامية، وهي سمات نموذجية للقيصرية.
فكرة ستالين بأن الاتحاد السوفياتي، المنعزل عن بقية العالم، كان قد وصل بالفعل إلى الاشتراكية، لم تكن طوبوية فحسب، بل رجعية أيضا. الجانب الآخر لسياسته كان “التعايش السلمي مع الإمبريالية”. في النهاية، إذا كان من الممكن بناء الاشتراكية في بلد واحد منعزل، فلن يكون من الضروري (أو على الأقل ليس أولوية قصوى) دعم الثورة العالمية.
ما يبرهن هذا هو الاتفاقيات المضادة للثورة التي أبرمها الاتحاد السوفياتي بقيادة ستالين مع القوى الإمبريالية المختلفة.
بهذا، لم يعد الاتحاد السوفياتي منصة للثورة الأممية، وهو ما كان الطريقة الوحيدة للاتحاد السوفياتي نفسه للوصول إلى الاشتراكية. عوضا عن ذلك، بات الاتحاد السوفياتي، عبر قيادته للأممية الثالثة المتعثرة، العقبة الرئيسية التي تعرقل انتصار الثورة الأممية. كانت النتيجة أن الاتحاد السوفياتي استمر في عزلته بمواجهة الإمبريالية، ولاحقا في مواجهة التهديد المباشر للفاشية النازية. بين عامي 1938 و 1940، قام ستالين بإبرام اتفاقية مخزية مع هتلر قسمت بولندا بين الدولتين، واحتلت كل منهما جزء من البلاد. تمت كتابة هذه الاتفاقية بدماء عمال وشعب بولندا.
الغزو النازي للاتحاد السوفياتي عام 1941 كان نتيجة قرار هتلر أحادي الجانب بكسر الاتفاقية. الغزو الألماني أخذ ستالين وبقية القيادة السوفياتية العليا على حين غرة، رغم إبلاغهم مسبقا بتهديد الهجوم من قبل شبكة التجسس الشيوعية بقيادة ليوبولد تريبر، الأوركسترا الحمراء. وما زاد الطين بلة، أن ستالين أمر عام 1938 بتصفية المجموعة القيادية للجيش الأحمر، ما أثر بشدة على القدرات الدفاعية للاتحاد السوفياتي.
القيادة العليا للجيش الأحمر بقيادة توخاتشيفسكي وياكر، وأبطال الحرب الأهلية، تمت تصفيتها في الخفاء. هذا “التطهير” أدى إلى القضاء على 90٪ من الجنرالات و 80٪ من العقداء و 30.000 ضابط من الرتب الدنيا. ترك هذا الجيش الأحمر ضعيفا للغاية عشية الحرب العالمية الثانية. أمام هذه الدرجة من عدم التنظيم في الجيش الأحمر، شعر هتلر بالشجاعة الكافية لمهاجمة الاتحاد السوفياتي.
كان الانتصار على الفاشية النازية في الحقيقة انتصارا للطبقة العاملة والشعب الروسي، وليس انتصارا للبيروقراطية الستالينية. انتصار الشعب السوفياتي جاء على الرغم من الزمرة الحاكمة. المقاومة البطولية للعمال والفلاحين الروس تمكنت من عكس مسار الحرب، خاصة بعد عام 1943، إثر انتصار العمال الروس المدوي في ستالينجراد. هذا الانتصار فتح الباب للهزيمة العسكرية للنازية وقلب موازين الحرب العالمية الثانية، ليس فقط في الاتحاد السوفياتي، بل في كافة أنحاء أوروبا.
ولكن، بدلا من تقديم الدعم لهذا لانتصار العمالي العظيم من أجل إطلاق الثورة العالمية، استمر ستالين في الدفاع عن سياسة استسلام الثورات من أجل توقيع الاتفاقيات مع الإمبرياليتين الأمريكية الشمالية والبريطانية، والتي تم تدوينها في مؤتمري يالطا وبوتسدام. في هذين المؤتمرين، وافق ستالين على بقاء أوروبا الغربية رأسمالية في أعقاب هزيمة النازية.
منذ العام 1945 فصاعدا، عندما بدأت الحركات الثورية في التنامي عبر عدد لا يحصى من البلدان، بما فيها المراكز الرأسمالية الكبرى، كانت الأوامر تصدر للأحزاب الشيوعية في فرنسا وإيطاليا واليونان، والتي قادت مقاومة الفاشية النازية، بتسليم السيطرة على بلادهم للبرجوازية. وبالمثل، تلقى الحزب الشيوعي في الصين أوامر بدعم تشكيل حكومة ائتلافية مع تشيانج كاي شيك.
برز ستالين في موقع أقوى بعد الانتصار على النازية. لكن تزايد ترسيخ البيروقراطية في الاتحاد السوفياتي بعد الحرب، وسلوكها البيروقراطي الكارثي، كان قد أدى إلى تباطؤ النمو الاقتصادي بحلول نهاية الخمسينيات. كان الاقتصاد ينمو، ولكن بوتيرة أبطأ بكثير.
الإصلاح على يد البيروقراطية
هناك فكرة واسعة الانتشار مفادها أن البيروقراطية تحكم الاتحاد السوفيتي بدعم، نشط أو سلبي، من الطبقة العاملة. وكالعادة، يتم التغاضي عن مظاهرات المقاومة التي لا حصر لها من جانب الطبقة العاملة طوال فترة السيطرة الشمولية للحزب الشيوعي. انخفاض مستوى معيشة الجماهير قوبل بمقاومة العمال في كافة أنحاء الاتحاد السوفياتي.
فقط للاستشهاد بإحدى تلك المظاهرات يذكر أنه في عام 1962، في ظل حكومة خروتشوف، اندلع إضراب لعمال المناجم في نوفوتشركاسك، بأكثر من 10,000 عامل، وقد تم سحقه بالقمع الدموي للحزب الشيوعي على يد الشرطة والـ “كي جي بي”. [3] بين عامي 1963 و1968، حاولت البيروقراطية في كافة أنحاء أوروبا الشرقية تمرير إصلاحات لتحسين الوضع. هذه الإصلاحات، التي كانت تهدف من ناحية إلى تحديث ممارسات الإدارة، ومن ناحية أخرى زيادة الاعتماد على التجارة الخارجية لاكتساب التقنيات الجديدة، انتهت بكارثة.
بدأ الاتحاد السوفياتي وكذلك دول أوروبا الشرقية بالدخول في أزمة اقتصادية مع عدم وجود مخرج في الأفق. غزو أفغانستان في العام 1979 جلب تناقضات متفجرة جديدة إلى الواجهة، ما وضع ضغطا كبيرا على كل من جيش واقتصاد الاتحاد السوفياتي، الذي وجد نفسه منغمسا في احتلال عسكري استمر لسنوات عديدة، وهي حملة ذات تكاليف باهظة فشلت حتى في تحقيق بعض الاستقرار في البلد المحتل.
عندما تولى غورباتشوف السلطة عام 1985 بعد وقت قصير من وفاة تشيرنينكو، بات الوضع يخرج عن نطاق السيطرة أكثر فأكثر. أندروبوف، الذي كان رئيس جهاز الـ “كي جي بي” لسنوات عديدة، والذي خلف بريجنيف في الأمانة العامة للحزب الشيوعي، أيد صعود غورباتشوف إلى السلطة. كان لدى أندروبوف بالفعل مشروع ترميمي يهدف إلى إفساح المجال لغورباتشوف، الذي كان من خلفية زراعية، حيث كان مدركا تماما لحقيقة أن الاتحاد السوفياتي كان يخسر قدرته التنافسية أمام البلدان الإمبريالية في هذا القطاع بسبب المشاكل المتعلقة بالجهاز البيروقراطي، فاعتزم فرض مسار جديد باتجاه إصلاح السوق.
لكن تفويض أندروبوف انقطع بسبب المرض، وكان جيل جديد من القادة العازمين على استعادة الرأسمالية سيظهر بعد فترة تشرنينكو القصيرة كأمين عام. قام أندروبوف بتعديل تشكيل اللجنة المركزية للحزب الشيوعي من أجل تمرير إصلاحات مؤيدة للرأسمالية. مهد هذا الطريق لغورباتشوف لتولي أعلى منصب في الاتحاد السوفياتي، ما يؤكد هيمنة الجناح الإصلاحي للحزب الشيوعي على الحزب والدولة.[4] كانت خطة هذا القطاع ذي الأغلبية البيروقراطية هي فتح الاقتصاد أمام الاستثمار الأجنبي والتجارة الخارجية، وإنهاء التخطيط الاقتصادي المركزي، وإقامة روابط مباشرة مع الإمبريالية الأمريكية الشمالية، من أجل الحفاظ على “السلام” و “التعايش السلمي”، عبر الموقف التنازلي الاستسلامي الذي تم التوقيع عليه في قمة ريغان – جورباتشوف.
لم تكن صدفة أنه بعد سنوات قليلة فقط، حصل غورباتشوف على جائزة نوبل للسلام، ولا يزال يحتفى به من قبل الإمبريالية حتى اليوم. في روسيا، من ناحية أخرى، ارتبط اسمه بعصر التقشف والتضخم والبؤس. في النهاية، لم يعد أمام جورباتشوف من خيار سوى الانسحاب من الحياة السياسية.
تطبيق مشروع غورباتشوف الإصلاحي
لكن استعادة الرأسمالية، التي بدأت بجدية في العام 1986، لم تجلب سوى المزيد من الضرر للسكان، وأزمة اقتصادية واجتماعية متفاقمة. أسعار السوق الحرة كانت تعني أن فاتورة تحرير السوق ستدفعها الطبقة العاملة. وما زاد الطين بلة، أن الحرب في أفغانستان استمرت في تجفيف موارد البلاد.
الاستياء تضاعف بشكل متسارع. الدول المضطهدة بقيت مهمشة من قبل روسيا. في هذا السياق، اندلع التمرد في أرمينيا عام 1988.
اندلعت الاحتجاجات المطالبة بالديمقراطية في كافة أنحاء أوروبا الشرقية. عام 1989، بلغت موجة الثورات في أوروبا الشرقية ذروتها: سقط جدار برلين، تلاه سقوط العديد من الأحزاب الشيوعية، وتم إسقاط الدكتاتور تشاوشيسكو في رومانيا، الذي انتهى به المطاف بإعدامه رميا بالرصاص.
امتدت الأزمة إلى البيروقراطية والنظام الدكتاتوري القمعي للحزب الشيوعي السوفياتي نفسه. علاوة على ذلك، فقد أظهر الأخير ضعفه بالفعل عندما عجز، على عكس عام 1956 في المجر و 1968 في تشيكوسلوفاكيا، عن التدخل لقمع الانتفاضات المنتصرة في بلدان أوروبا الشرقية، كما حدث في ألمانيا الشرقية عام 1989.
الثورة الديمقراطية ضد نظام الحزب الشيوعي السوفياتي الدكتاتوري والدولة البرجوازية
هذه الكومة من الأزمات والهزائم أثقلت كاهل الاتحاد السوفياتي بين عامي 1989 و1991. الاتحاد السوفياتي في هذه الفترة كان حقا اتحادا سوفياتيا سابقا، بأجهزة دولة برجوازية تمر بالفعل بمرحلة انتقال إلى الرأسمالية. كان غورباتشوف يخطط لمواصلة التحول إلى الرأسمالية، وقد نفذ عمليات تحرير محدودة للتعبير السياسي، لكن أزمات البلاد العميقة أشعلت شرارة صيرورة لم تتمكن حكومة غورباتشوف من السيطرة عليها.
هذه العملية أدت إلى ظهور قادة من أمثال بوريس يلتسين. قادما من أجهزة الحزب الشيوعي نفسه، بدأ حملة معارضة ليذهب أبعد من غورباتشوف في طريق تسويق الليبرالية والسلام مع الإمبريالية، وتولى مطلب التنازلات الديمقراطية كالانتخابات المفتوحة الفورية للحكومات الإقليمية. زاد هذا من شعبيته، وتأكد موقعه كزعيم للحركة ضد البيروقراطية من خلال انتخابه رئيسا للاتحاد الروسي. بهذا المنصب، تحدى يلتسين سلطة الحزب الشيوعي واقترح إصلاحات سياسية وسوقية أسرع وأكثر قوة.
في هذه المرحلة، كان جناح من البيروقراطية، بقيادة شخصيات مثل ليغاتشوف، يأمل في الحفاظ على السيطرة السياسية عبر القمع العنيف (مثلما فعل دينغ شياوبينغ في الصين خلال التحديثات الأربعة)، ولهذا السبب، عارضوا سياسات غورباتشوف المتعلقة بالحريات الخاضعة للرقابة (المعروفة باسم جلاسنوست)، ودعوا إلى سجن يلتسين وأمثاله.
في 19 آب1991، غزت الدبابات والعربات المدرعة وسط موسكو. استولى الجنود على مباني الدولة وأجهزة الإرسال التلفزيونية ومقار مكاتب البريد. أعلنت مجموعة من كبار قادة الحزب الشيوعي، بقيادة ليغاتشوف، استيلاء لجنة الطوارئ الحكومية على السلطة بسبب “المرض الخطير والمؤسف” للرئيس السوفيتي آنذاك ميخائيل غورباتشوف. لقد كان انقلابا ضد خط غورباتشوف.
عندما حاولت تلك المجموعة من بيروقراطيي الحزب الشيوعي السوفياتي تنفيذ انقلاب، كان هناك رد فعل جماهيري فوري. نزل الناس إلى شوارع موسكو وفرضوا انقساما في القوات المسلحة فور تلقيها الأوامر بقمع الناس. رفض الجيش مهاجمة الحشود أمام البرلمان الروسي، وبالتالي هزم الانقلاب وأجبر قادته على الاستقالة، وسجنوا. لكن السلطة لم تعد إلى غورباتشوف: فقد انهار نظام الحزب الواحد ومؤسساته القمعية، وأزيح الحزب الشيوعي عن السلطة. النضال من أجل الحريات الديمقراطية انتهي بإسقاط النظام.
هزيمة الستالينية كانت انتصارا للعمال
الستالينية كانت مشروعا عالميا، والذي كان بدوره، كما رأينا، حجر العثرة الأساسي أمام الثورات في القرن العشرين. لذا، كانت هزيمة الحزب الشيوعي السوفياتي على يد الجماهير السوفياتية انتصارا على المستوى الأممي، حيث كانت بمثابة ضربة كبرى للستالينية، ولأجهزة الحزب الشيوعي الدولية بأكملها، وبذلك أزيل العائق الرئيسي أمام الطبقة العاملة ومنظماتها الثورية.
لقد أفسح هذا الطريق للانفصال عن الأحزاب الشيوعية في كافة أنحاء العالم، وتحرير القوى لبناء الأحزاب الأممية اللينينية، وتوفير ظروف أفضل لاستئناف الأسلوب والبرنامج الماركسيين في الحركة العمالية، فتح الفضاء لتلك المعركة. لم تحل أزمة القيادة الثورية، لكن هذه المهمة باتت في ظل ظروف موضوعية أفضل.
لكن هذا وحده لم يقض على الجهاز ولا أيديولوجياته الحالية. البرجوازية تواصل حربها الأيديولوجية، وتربط الستالينية والبيروقراطيات بالماركسية والاشتراكية لمحاربتهما. يمكن العثور على الدليل على ذلك في الحملات الدعائية المعادية للشيوعية التي تم إطلاقها منذ سقوط الاتحاد السوفياتي، والتي تقدم هذا الحدث على أنه “ثورة مؤيدة للرأسمالية هزمت الاشتراكية”. الأمر معقود على الثوار لمحاربة هذا التفسير. يتطلب بناء الأحزاب الثورية نضالًا مستمرا مرتبطا بصيرورات الصراع الطبقي والنضال الأيديولوجي ضد البدائل البرجوازية والإصلاحية والستالينية الجديدة.
تفسيرات العام 1991.. بعد 30 عاما
يمكننا تجميع التفسيرين الحاليين لما حدث في فئتين رئيسيتين:
1_ الخط الستاليني التاريخي المتسق: وفقا لهم، فإن مشاكل الاقتصاد السوفييتي ومجلس التعاون الاقتصادي [5] كانت نتاجا أساسيا للتدخل الإمبريالي والحملة الأيديولوجية الغربية التي أثرت في أذهان العمال في الاتحاد السوفياتي وأوروبا الشرقية، التي ابتليت أيضا بالمخربين الذين يعملون لصالح الإمبريالية. فاز الغرب ودعائيته بالتأثير على العمال.
هذه الحسبة إهانة للطبقة العاملة الروسية، التي كانت قادرة على هزيمة الغزو النازي عام 1943 والدفاع عن القواعد الاجتماعية لدولة العمال رغم مسارها الكارثي. والأمر كذلك بالنسبة للطبقات العاملة في المجر عام 1956، وبولندا في 1956 و 1980-1981، وتشيكوسلوفاكيا في عام 1968، والتي كان من الممكن أن تفتح طريقا جديدا لديمقراطية عمالية اشتراكية يمكنها تحرير هذه البلدان من بيروقراطيتها.
لكن هذه الحراكات قد دمرت بالقمع وبغزو القوات الروسية، بذريعة أن هذه الحركات العمالية كانت بقيادة عملاء إمبرياليين، تماما كما حدث للعمال الذين انضموا إلى الاحتجاجات أو الإضرابات في الاتحاد السوفياتي، ومئات الآلاف من المنشقين الذين تم قمعهم واغتيالهم في معسكرات الاعتقال الستالينية ، بدءاً بالقادة البلاشفة الذين قام ستالين بتصفيتهم دون استثناء في نهاية الثلاثينيات.
الاكتشافات المتعلقة بوجود أعضاء من المعارضة في سجون ستالين بين 1930-1939، تم الكشف عنها من خلال الأرشيفات الخاصة بـالـ كي جي بي تحديدا، وعمل بيير بروي [6]، الذي كان يناضل دفاعا عن برنامج اشتراكي وثورة مناهضة للبيروقراطية، ولهذا السبب عانوا على يد أجهزة التعذيب والقمع المماثل في وحشيته بل وأسوأ من القيصرية والفاشية النازية، في معسكرات كمعسكر عمل فوركوتا في سيبيريا.
هذه الرواية الستالينية الجديدة القائلة بأن العمال تم خداعهم بالخطاب الإمبريالي هي محاولة يائسة لإلقاء اللوم عن كاهل بيروقراطية الثورة المضادة، والتي بدأت بستالين، واستمرت مع كروشوف وبريجنيف حتى غورباتشوف، إلى راكوسي في المجر، وغومولكا في بولندا، وتشاوشيسكو في رومانيا؛ هؤلاء هم خونة طليعة الطبقة العاملة في بلدانهم، وأعداء مجموعات المعارضة التي كانت تأمل في وقف مخططات الثورة المضادة. كان هؤلاء القادة البيروقراطيون هم من مهد الطريق للإصلاحية والمضي بها حتى النهاية من 1985 إلى 1986 في كافة أنحاء الاتحاد السوفياتي وأوروبا الشرقية الواقعة تحت سيطرتهم الدكتاتورية.
من ناحية أخرى، يتهم بعض الستالينيين والستالينيين الجدد غورباتشوف، كما سبق وأن اتهموا خروتشوف في خمسينيات القرن الماضي، بالخضوع للضغط والعدوان الإمبرياليين. خروتشوف استلم السلطة في الاتحاد السوفياتي وندّد بجرائم ستالين عام 1956.
في الستينيات، تبنى كل من الماويين والحزب الشيوعي الألباني، وكذلك أتباعهم كالحزب الشيوعي البرازيلي، الخط القائل بأن خرتشوف كان “تحريفيا” داعما للرأسمالية، ونصبوا أنفسهم كمدافعين عن إرث ستالين في وجه تحريفية خرتشوف بسبب كشفه عن جرائم ستالين بعد وفاة الأخير عام 1953.
تأثرا بتعزيز الستالينية بعد الحرب العالمية الثانية، وعلى خطى الثورة اليوغوسلافية وانتصار تيتو، وحتى بعد انتصار الثورة الصينية تحت قيادة ماو تسي تونغ عام 1949، ثم الثورات اللاحقة في جنوب شرق آسيا، تم تفعيل هذا النمط للموقف السياسي بشكل أكبر من خلال الثورة الكوبية في عام 1959، وتكتيكات حرب العصابات التي اتبعها فيدل كاسترو وتشي جيفارا.
رغم أن هذه الصيرورات قسمت الستالينية نفسها، إلا أن مواقفهم لم تتوقف عن كونها ستالينية. بعض القوى، كالكاسترويين والحزب الشيوعي الفيتنامي، انتهى بها الأمر إلى الاصطفاف في خندق البيروقراطية السوفياتية. وأخرى، كالحزب الشيوعي الصيني والحزب الشيوعي الألباني بقيادة أنور خوجا، انفصلت عن الاتحاد السوفياتي وأسست توجها دوليا منفصلا. [7] في ذلك الوقت، شجب الماويون البيروقراطية السوفيتية ووصفوها بأنها مدافعة عن “الإمبريالية الاجتماعية”.
هذا الموقف يستعيد قوته الآن بين أولئك الذين يأملون في رد الاعتبار لستالين باعتباره مدافعا حقيقيا عن الاشتراكية. مثل هذه المجموعات تعترف بوجود بعض المظالم وبأن حتى محاكمات موسكو في الثلاثينيات يمكن اعتبارها أخطاء من قبل زعيم شيوعي ذو توجه صحيح بشكل عام، وبعض “الأساليب الخاطئة”، والذي كان من الممكن أن يقود خصومه الاتحاد السوفياتي إلى كارثة فورية.
تروتسكي قدم تشبيها تاريخيا هاما عندما أوضح أن هذه الأساليب كانت ضرورية لبيروقراطية الثورة المضادة لتأمين هيمنتها. إبادة المعارضة كانت ضرورة لهذه البيروقراطية من أجل تكريس نفسها في السلطة وضمان امتيازاتها، تماما كما كان الثرميدور النابليوني ضروريا لإنهاء الصيرورة الثورية التي بدأت في فرنسا عام 1789.
2_ على مدار الستين عاما التي استولت فيها بيروقراطية الدولة العمالية الروسية على السلطة، كانت هناك مجموعة أخرى من الميول في اليسار الاشتراكي أثارت انتقادات حادة للستالينية والبيروقراطية السوفيتية، لكنها حددت آمالها في التغيير بأمل الإصلاحات الداخلية في الاتحاد السوفياتي، والاستبدال التدريجي للبيروقراطية بقوى التجديد داخل الاتحاد السوفياتي الذي تعتقد أنه يمكن له استعادة اتجاهه السياسي.
في أوقات الاستقطاب، اتخذت هذه الاتجاهات موقفا وسطيا، وأعطت الأولوية لـ “الدفاع عن الاتحاد السوفياتي” قبل أي اعتبارات سياسية أخرى. لقد أخطأوا في الدفاع عن فتوحات الثورة الروسية ودولتها العمالية بالدفاع عن البيروقراطية الستالينية نفسها.
من بين القوى التي شكلت الأممية الرابعة في حقبة ما بعد الحرب، والتي ادعت ارتداء عباءة التروتسكية، كان هذا النوع من التحليل هو السائد لمعظم فترة ما بعد الحرب حتى عام 1991. حتى غالبية التروتسكيين حزنوا على سقوط ديكتاتورية البيروقراطية في الاتحاد السوفياتي. بالنسبة لهم، فقد تم إقناع الجماهير الروسية باستعادة الرأسمالية، وكانت هذه الجماهير تتحمل مسؤولة ذلك من خلال دعمها للحراك.
كانت هناك اتجاهات طائفية، كحزب العمال الاشتراكي البريطاني، الذي لم يستجب لدعوة الدفاع عن الدولة العمالية ضد أي هجمة إمبريالية. قرروا أن الاتحاد السوفياتي كان “رأسمالية دولة”. كان موقفهم خلال أحداث كالحرب الكورية: “لا واشنطن ولا موسكو”. وكانت هناك أيضا قطاعات مثل اللامبيرتية في فرنسا والهيلية في المملكة المتحدة التي لم تعترف بإنشاء دول عمالية بيروقراطية جديدة بعد الحرب العالمية الثانية، وأبقت على تحليلها للفترة ما بين 1952-1980.
لكن القطاع الذي تولى قيادة الأممية الرابعة وتسبب في تشتتها في فترة ما بعد الحرب هو “البابلوية”، التي أعلنت التزامها بتجديد البيروقراطية السوفياتية. لقد خلطت بين اقتراح تروتسكي بشأن “الدفاع عن الاتحاد السوفيتي” والدفاع عن بيروقراطية الاتحاد السوفيتي. رفضت دعم ثورة برلين الشرقية عام 1953، لأنها كانت ضد الاتحاد السوفياتي، وبالتالي ستكون لصالح الإمبريالية.
رغم انفصال بابلو عن التروتسكية، إلا أن حلفاءه في ذلك الوقت كانوا لايزالون يحتفظون بمواقفهم المستسلمة للستالينية. عندما أعيد تنظيم الأمانة العامة الموحدة عام 1963، انتقلت الأحزاب الأوروبية، بقيادة ماندل، وبيير فرانك، وميتان، إلى الكاستروية. لقد أصبحوا مناصرين لحرب العصابات في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، وأبقوا على هذا الموقف حتى بعد رضوخ الحزب الشيوعي الكوبي للجهاز الستاليني.
ماندل والبيريسترويكا
كانت خلفية هذا الموقف لماندل (وقبله بابلو) هي سوء فهم لطبيعة البيروقراطية. كان تحليلهم أن البيروقراطية لها طابع مزدوج: فهي من ناحية كانت ضد العمال، ومن ناحية أخرى كانت بحاجة للدفاع عن الدولة العمالية، لأن هذا كان مصدر امتيازاتها كبيروقراطية.
لذا، كان أهم منظري الأمانة العامة الموحدة، إرنست ماندل، يقول إنه من الخطأ الفادح الاعتقاد بأن البيروقراطية يمكن أن تؤدي إلى استعادة الرأسمالية. [8] عقد الأمل على أن تفتح البيريسترويكا الباب أمام “الإصلاح الذاتي”، واعتبر غورباتشوف عضوا “واعياً بذاته” في البيروقراطية.
هذه الأوهام حول الجناح الإصلاحي للحزب الشيوعي السوفياتي قادت إلى تشوش جماعي في صفوف الأمانة العامة الموحدة، ما جعلهم غير مجهزين للرد على مسألة الثورات في أوروبا الشرقية، وسقوط نظام الحزب الشيوعي.
هذا الارتباك أدى إلى قيام الأمانة العامة الموحدة برثاء نهاية البيروقراطية، والخلط بين هيمنة البيروقراطية والحفاظ على دولة العمال، والتعامل مع سقوط الأنظمة الستالينية في عامي 1989 و1991 على أنه هزيمة تاريخية للاشتراكية والبروليتاريا.
هذا التصور دفع بن سعيد، المنظر الرئيسي للأمانة الموحدة بعد وفاة ماندل، إلى التنظير حول “الحقبة الجديدة” [9]، التي افتتحت بفعل الهزيمة التاريخية المفترضة للحركة العمالية، التي تراجعت بدورها إلى مستوى تنظيمي أكثر بدائية بسبب انتصار الرأسمالية. بالنسبة له، كانت الثورة الاشتراكية خارج إطار الطرح لحقبة تاريخية كاملة.
على عكس تروتسكي، الذي كان يوضح دائما أن الهيمنة المستمرة للطبقة البيروقراطية على الاتحاد السوفيتي ستؤدي إلى استعادة الرأسمالية، تحول هذا القطاع من التروتسكية إلى رفيق للستالينية، بعبارة أخرى، تماثل مع البيروقراطية وشعر بالهزيمة. إضافة إلى ذلك، اعتبر أن هذه الهزائم هي انتصار أيديولوجي للإمبريالية. هذه المواقف هي بذاتها صدى للدعاية الإمبريالية التي تعلن نهاية الاشتراكية و”نهاية التاريخ” الرأسمالي. فماذا كان خطأهم الرئيسي؟
أولا، أيدوا شعار “الاشتراكية القائمة بالفعل”، وهو موقف قد يكون غير مفهوم لجماهير روسيا وأوكرانيا ورومانيا والتشيك وبولندا. قد يقولون “إن الأمر كان سيئا مع ستالين والبيروقراطية، لكنه أسوأ بدونهم”. وهم يتجاهلون تحديد دور الثورة المضادة واستعادة الرأسمالية في نهاية المطاف على يد البيروقراطية السوفياتية، من خروتشوف إلى بريجنيف، ومن أندروبوف إلى تشيرنينكو وغورباتشوف.
كما كتب تروتسكي عن الثورة الإسبانية، بذلت الجماهير أقصى ما في وسعها بدون قيادة ثورية. لم تكن الجماهير هي التي أعادت روسيا إلى الرأسمالية، بل البيروقراطية. الجماهير لم تكن قادرة على ارتجال قيادة خلال سنوات القمع الستاليني. كل محاولات تشكيل معارضة ماركسية للبيروقراطية تعرضت للاضطهاد، وتعرض المحرضون عليها للتعذيب والسجن باعتبارهم “مؤيدين للإمبريالية”. [10] على المستوى الأممي، لم يكن هناك نموذج يحتذى به لقيادة الطريق إلى أي بديل. الحزب الشيوعي الصيني انتقل من كونه أملا جديدا – عندما كان قد هزم الإمبريالية ودميتها شيانغ كاي شيك عام 1949 – إلى بناء بيروقراطية جديدة خاصة به.
الحزب الشيوعي الصيني دخل أيضا في صراع مع البيروقراطية السوفياتية من أجل التحالف مع الولايات المتحدة. ماو قبل اقتراحا من نيكسون لتشكيل جبهة موحدة ضد الاتحاد السوفياتي، حتى أنه أعلن الحرب على فيتنام، التي كانت قد فازت لتوها بتحريرها من القوات الأمريكية، لإبرام تلك الصفقة.
خلال تلك الفترة، ندد الماويون بالاتحاد السوفياتي ووصفوه بأنه “إمبريالية اجتماعية”. بهذا التبرير استداروا ودعموا حتى ديكتاتورية بينوشيه. وأثناء قيامهم بذلك، بدأوا عملية استعادة الرأسمالية الخاصة بهم عام 1978، حتى قبل أن تشرع البيروقراطية السوفياتية بهذا المسار الاقتصادي بشكل جدي.
الحزب الشيوعي الكوبي، الذي تمتع بفترة من الاستقلال في السنوات القليلة الأولى للثورة الكوبية، عندما كان يدعم إنشاء منظمة التضامن لأمريكا اللاتينية، بدأ في السبعينيات بالانسجام مع البيروقراطية الروسية، والمشاركة في التوقيع على جميع سياساتها الدولية، والعمل كجنود مشاة في إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، ودعم قيادة الحركة الشعبية لتحرير أنغولا المتعاونة طبقيا، والمناهضة للمعارضين في أنغولا. في أمريكا اللاتينية، ضغطت كوبا على جبهة التحرير الساندينية حتى لا تنفصل عن البرجوازية في السلفادور، وضغطت على الساندينيين حتى لا يجردوا البرجوازية من أملاكها في نيكاراغوا. وفي النهاية، دعمت القمع الجماعي في تشيكوسلوفاكيا عام 1968 وبولندا عام 1981. بات الحزب حزبا ستالينيا شيوعيا مثل أي حزب آخر يتبع الخط السوفياتي.
من ناحية أخرى، انقسمت غالبية اليسار خلال السبعينيات والتسعينيات بين دعم البيروقراطية الروسية أو الصينية. أو حتى البيروقراطية الكوبية، التي مضت قدما في دعم خط الحزب الشيوعي السوفياتي.[11] هذا يعني أنه لم يكن هناك مثال يحتذى به للعمال أو المثقفين غير الراضين عن البيروقراطية والستالينية من شأنه أن يوفر بديلا اشتراكيا مناهضا للبيروقراطية، ويدافع عن ضرورة الثورة السياسية التي من شأنها أن تفرض الديمقراطية العمالية. حتى الاتجاهات التي وصفت نفسها بالتروتسكية استسلمت في معظمها للستالينية، سواء في تجلياتها الروسية أو الصينية أو الكوبية.
استنتاجات
الواقع القاسي للعالم في ظل الرأسمالية “المنتصرة” هو أزمات اقتصادية واجتماعية عميقة، وبؤس وجوع لمليارات البشر، واضطهاد وعنف مستمرين ضد المرأة، وعنصرية ضد الملونين، واضطهاد للأقليات، وكراهية للأجانب المهاجرين.
كملخص لكل ما تقدمه الرأسمالية للبشرية، نحن في وسط إبادة جماعية صريحة أطلقتها الجائحة الحالية، خاصة بين شرائح السكان الأكثر فقرا. عدم التوازن بين الرأسمالية والبيئة ينقل كوكبنا إلى مستويات متقدمة من التدمير البيئي، ما يضع مسألة بقاء الأجيال القادمة موضع تشكيك. إذا لم تمحى الرأسمالية من على وجه الأرض فلن يكون للحضارة البشرية أي مستقبل.
من المفارقات، أنه في هذا الوضع العصيب، انتقلت الغالبية العظمى من اليسار المزعوم الآن للقول إن الاشتراكية والشيوعية هما يوتوبيا لا توفر طريقا للمضي قدما.
من بين الذين يدعون إلى بديل آخر أولئك الذين يدافعون عن “اشتراكية السوق” على الطريقة الصينية، المعسكر الذي يدعونا للاعتراف بـ “التقدم” المفترض للحكومة الصينية، وأنه من الضروري دعمها باعتبارها المعارضة الوحيدة للولايات المتحدة. سواء أطلق عليها اسم “اشتراكية السوق” (التي تحافظ على استمرارية الدولة العمالية التي تأسست بعد العام 1949) أو “النموذج الهجين”، فمن المفترض أن هذا النظام يلعب دورا تقدميا ضد الإمبريالية.
هذه هي النسخة الجديدة لـ “الاشتراكية في بلد واحد”، لكنها باتت الآن أسوأ: الدفاع عن دكتاتورية رأسمالية تستغل عمالها وفلاحيها، واعتبارها نموذجا يجب على كل الاشتراكيين والنشطاء في كافة أنحاء العالم اتباعه والدفاع عنه. كل أهوال الدكتاتورية الصينية باعتبارها أهون الشرين، تطرح اليوم على أنها الحل الوحيد المتاح.
قسم آخر يجادل بأن الاشتراكية منفصلة عن الواقع، وبأنها شمولية بطبيعتها، وأن أكثر ما يمكن أن نأمله هو إضفاء الديمقراطية الراديكالية على المجتمع القائم (أي المجتمع الرأسمالي). إنهم يخلطون بين الاشتراكية والشيوعية كما حددهما ماركس وإنجلز وبين الدكتاتورية الستالينية.
ربما يكون من المجدي هنا أن نقتبس قول المخرج داميان زيفرون في فيلمه حكايات جامحة: “إذا ذهبت إلى المسرح لمشاهدة هاملت لشكسبير، وحدث أن المخرج والممثلين جميعهم سيئون، فلا يمكنك إلقاء اللوم على شكسبير دون أن تفهم أولا كيف هاجم الطاقم شكسبير نفسه، وحول عملا رائعا إلى ميلودراما من الدرجة الخامسة”.
لكن واقع كوكبنا، مع التزايد المستمر للامساواة، حيث يمتلك 1 ٪ من السكان 50 ٪ من ثروة العالم بين أيديهم، والذي يتأرجح من أزمة اقتصادية إلى أخرى، حيث بات حتى التوظيف المضمون حلما بعيد المنال لمليارات الناس، لا يؤكد إلا كلمات البيان الشيوعي: “الطبقات السائدة ترتجف خوفا من فكرة الثورة الشيوعية. ليس للعمال ما يخسرونه سوى القيود التي تقيدهم. لديهم العالم للفوز به. يا عمال العالم اتحدوا”.
لينين، أثناء تأسيس الأممية الثالثة، أكد أن “الأهمية العالمية والتاريخية للأممية الثالثة، الأممية الشيوعية، تكمن في أنها بدأت تضع أهم شعارات ماركس موضع التنفيذ، شعار استئناف تطور الاشتراكية والحركة العمالية خلال قرن، شعار يمكن التعبير عنه بمفهوم: دكتاتورية البروليتاريا.
هذه النبوءة العبقرية، هذه النظرية، تتحول إلى واقع.. لقد بدأت حقبة تاريخية جديدة. البشرية ستحرر نفسها من آخر أشكال العبودية: العبودية الرأسمالية، أو عبودية الأجر. بتحرير نفسها من العبودية، ستكتسب الإنسانية لأول مرة الحرية الحقيقية.
مازلنا في نفس الحقبة التي وصفها لينين. لايزال السبيل الوحيد للمضي قدما هو الثورة الاشتراكية بقيادة الطبقة العاملة، ومصادرة أملاك البرجوازية، وفرض الديمقراطية العمالية، والتي تستمر في النضال من أجل الثورة والاشتراكية على نطاق أممي. هذا هو الطريق الصحيح لتغيير العالم. إنه البديل الحقيقي الوحيد للمستقبل، والذي سيتم بناؤه من خلال نضالات وتنظيم الطبقة العاملة.
ترجمها إلى العربية تامر خرمه
مراجعة فيكتوريوس بيان شمس
الهوامش
[1]
معركة لينين الأخيرة، عندما كان مريضا، كانت تحديدا ضد الطبقة البيروقراطية الصاعدة.
[2]
هذه الصيرورة موصوفة جيدا في كتاب شيوعيين ضد ستالين، بقلم بيير بروي، الذي حرره مؤخرا ايديتورا سندرمان.
[3]
في مجلة الصراع الطبقي العدد 219 تشرين الثاني2021، الصادرة عن منظمة نضال العمال الفرنسية، هناك مقال يصف هذا الإضراب.
[4]
في الفصل العاشر من كتابه، حياتي، يروي غورباتشوف الصيرورة من تهيئته أندروبوف للقيادة، ووفاته بعد عام قصير، وخلافة تشيرنينكو بعد وفاته، وأخيرا انتخابه في اللجنة المركزية المعدلة بالفعل إلى أعلى منصب في الاتحاد السوفياتي.
[5]
كان هذا هو اسم الكتلة الاقتصادية التي ربطت الاتحاد السوفياتي بدول أوروبا الشرقية تحت سيطرة البيروقراطية السوفياتية.
[6]
يمكن العثور على هذه المعلومات في كتاب “شيوعيون ضد ستالين”.
[7]
في وقت لاحق، بعد زيارة نيكسون إلى ماو واستئناف العلاقات الاقتصادية والسياسية بين جمهورية الصين الشعبية والولايات المتحدة، قام الحزب الشيوعي في الصين والحزب الشيوعي في ألبانيا بقطع العلاقات، مع قيام كلا البيروقراطيتين برسم مساراتها الخاصة نحو استعادة الرأسمالية.
[8]
تم شرح هذه المواقف بشكل جيد في كتاب حكم التاريخ لمؤلفه مارتين هيرنانديز.
[9]
هذا التصور واضح بشكل جلي في مؤلف “الحقبة الجديدة”عام 1995 بقلم دانيال بن سعيد.
[10]
في كتاب بيير برويه، شيوعيون ضد ستالين، هناك وصف حي للعمل البطولي الذي قامت به هذه المعارضة. سمح فتح أرشيف الكي جي بي باكتشاف وجود منظمة سياسية نشطة في السجون الستالينية الرهيبة في الثلاثينيات، بما لا يقل عن 8000 عضو، الذين حكم عليهم النظام الستاليني بأحكام طويلة و / أو بالإعدام.
[11]
القصة التي تجسد هذه العلاقة بشكل جيد هي أنه في عام 1989، كان هناك العديد من القادة المهمين لحزب العمال البرازيلي ومنظمات يسارية أخرى من أمريكا اللاتينية يشاركون في مدرسة الكادر الألمانية الشرقية في برلين ليلة سقوط جدار برلين. لقد تركت هذه الكوادر في حيرة شديدة أمام ما كان يحدث أمامهم. بعد كل شيء، كيف يمكن أن تكون هناك انتفاضة جماهيرية في بلد “اشتراكي”؟
ترجمة ناتاليا استرادا من البرتغالية إلى الإسبانية، وكارلوس سابير من الإسبانية إلى الإنجليزية.