نقاش مع الرفاق في مجموعة “دافع”
محمد حسام
2021 / 12 / 9 - 10:04
لقد عقدت مجموعة “دافع” لقاء علني مثير ومهم حول القضية الفلسطينية، بعنوان “دور المتحررين من الصهيونية”، ناقشت فيه اثنين مِن مَن أسمتهم “المتحررين من الصهيونية”. إننا نحيي هذه الخطوة المهمة، التي تمثل خطوة لكسر الجمود ومحاولة لإحياء التفكير العقلاني ومحاولة للبحث عن حل حقيقي للمظالم التي عاناها الشعب الفلسطيني، حل يتجاوز العصبيات القومية والعسكرية التي ولدتها أكثر من سبعين عاماً من الحرب والظلم من قبل الدولة الصهيونية في حق الشعب الفلسطيني.
في هذا السياق نحيي محاولة الرفاق في مجموعة “دافع” للعودة ومحاولة البحث عن الطرح النظري اليساري والماركسي والعقلاني لحل القضية الفلسطينية، يتجاوز الوقائع والمظالم اليومية التي تغرق وتعمي الكثيرين عن التفكير النظري والعقلاني، وتدفع كثير من العصب لتبني مواقف شعبوية وتقديم تنازلات للقوى الأصولية المهيمنة اليوم في الساحة الفلسطينية.
إن أكثر من سبعين عاماً من الاحتلال أظهرت بشكل جلى عطب تكتيكات كل الفصائل الفلسطينية التي لم تعمد على اتباع سياسة طبقية صحيحة وواضحة، وانزلقت إلى العمل المسلح الاستبدالي الذي أثبت فشله بدل المرة ألف وادخل القضية الفلسطينية في مأزقها الحالي، بدل الدعوة لتسليح الجماهير وانتخاب القيادات وتبني خطاب طبقي وثوري، وحتى تجاه بعضها للخيانة والعمالة الواضحة. اليوم لقاء الرفاق في مجموعة “دافع” هو دليل على بداية اختمار الحقيقة وقابليتها للظهور، حقيقة أنه من الضروري أن يتبنى الماركسيون سياسة طبقية ثورية متجاوزة لكل القوميات والإثنيات والأديان، والعمل من أجل فتح حوار جدي بين الماركسيون و الثوريون في المنطقة، الذين يهدفون لخلق واقع جديد، واقع على أنقاض الرأسمالية ومن أجل الاشتراكية.
وفي هذا الصدد أرجو أن يسمح لي الرفاق في مجموعة “دافع” أن أناقش بعض النقاط التي أثارها اللقاء، والتي أرى أن الصواب لم يجانبهم فيها أو فيها بعض الالتباسات. انقاش هذه النقاط من منطلق رفاقي يهدف لتصليب وجهات نظرنا جميعاً ولتقوية الطرح الماركسي الملتزم لحل القضية الفلسطينية.
الرغبة في انتصار النضال الفلسطيني: هل الدافع الإنساني كافي؟
بدأ اللقاء باستعراض الدوافع التي تسببت في دفع الرفيقين للتحرر من الصهيونية ودعم النضال الفلسطيني من أجل التحرر، التي هي دوافع إنسانية مثل “رفض الظلم” وأنه من حق الجميع أن “يعيش بكرامة”. من وجهة نظري الدوافع الانسانية وإن كانت كافية للنفور من الدولة الصهيونية فهي وحدها غير كافية لدفع نضال الشعب الفلسطيني للأمام، رغم دعمنا وتقديرنا للدوافع الإنسانية الكامنة وراء رفض ظلم الدولة الصهيونية للشعب الفلسطيني.
إن الشعور بالظلم والإضطهاد يحمل بالفعل قوة ثورية هائلة، كما أثبت النضال التحرري الفلسطيني مرات عديدة. نحن كماركسيين نعارض كل ظلم وإهانة ضد العمال والفقراء والمضطهدين. من واجبنا أن نفعل كل ما في وسعنا لفضح وحشية الطبقة السائدة في إسرائيل والدولة الصهيونية في عيون العمال والشباب الإسرائيليين العاديين. لكن الصراع الطبقي والنضال من أجل التحرر الوطني لا يمكن اختزالهما في مناشدات عاطفية. عندما يقول بعض اليساريين “الديمقراطية للجميع” أو “أطفال غزة وبئر السبع يريدون الحياة”، فإننا نتفق تماماً معهم، لكن هذه المطالب ليست كافية في حد ذاتها. القول بأن الاضطهاد والظلم موجود هو فقط هو قول ما هو واضح بالضرورة ولن يغير شيئاً من الوضع.
مهمتنا هي الانطلاق من مثل هذه المطالب لإظهار أن هذه الهمجية والجرائم والقمع والحروب الوحشية ومحاولات نزع ملكية المنازل من أصحابها ليست ممارسات عرضية تتعلق ببعض الأشرار في السلطة الصهيونية، ولكنها متأصلة في المصالح الطبقية للطبقة السائدة في إسرائيل والدولة الصهيونية، والتي تتعارض بشكل مباشر حتى مع مصالح الإسرائيليين العاديين.
لهذا فهذه المطالب والشعارات، من وجهة نظري، هي أقرب لمواقف تطهرية منها إلى مواقف سياسية تدفع نحو حل حقيقي. إن الإبقاء على هذه المطالب الديمقراطية في عزلة من البرنامج والدعاية الماركسية الطبقية يؤدي إلى زرع الأوهام بإمكانية إصلاح الدولة الصهيونية، أو إمكانية إقناع الطبقة السائدة في إسرائيل. فالحل لا يكمن برفع مطالب هي في جوهرها مطالب إصلاحية، وانتظار أن يتم تحقيقها بطريقة ما لا نعلمها ويتم تلبيتها من قبل طرف ما لا نعلمه، برغم علمنا جميعاً باستحالة أن تقدم الدولة الصهيونية على تقديم أدني تنازل للشعب الفلسطيني، على الأقل في المستقبل المنظور، إنما الحل يكمن في العمل من أجل إسقاط الدولة الصهيونية الرأسمالية.
أسباب ضعف اليسار المعادي للصهيونية
وهنا ينتقل الرفاق لمناقشة أسباب ضعف اليسار المعادي للصهيونية في إسرائيل. برغم صحة ما قاله الرفاق حول تلك النقطة، إلى أنه من وجهة نظري هناك أسباب أكثر مبدئية وراء ضعف اليسار المعادي للصهيونية في إسرائيل.
نستطيع تلخيصها في عدة أسباب: الطبقة السائدة في إسرائيل هي قوة إمبريالية ورجعية. وهي ترتكز على ركيزة أساسية في دعايتها، وهي أنها ودولتها تحمي جميع اليهود وتمثل مصالح جميع اليهود بغض النظر عن الطبقة التي ينتمون إليها.
وما ساعد جزئياً على نشر وتدعيم ذلك الوهم هو وجود فترات طويلة من النمو الاقتصادي شكلت كابح لنمو وتطور الوعي الطبقي وظهور التناقضات الطبقية والمجتمعية على السطح، بفعل المساعدات الخارجية السخية وغيرها، وقدرة الطبقة السائدة على تقديم تنازلات لتوفير حياة أقل مهانة لجماهيرها، إذا ما قارنها بمستويات معيشة جماهير المنطقة.
في التحليل النهائي، يعتمد حكم الطبقة الرأسمالية الإسرائيلية على قدرتها على الحفاظ على كذبة أن لجميع اليهود مصالح متشابهة ومتوافقة تتفوق على مصالحهم الطبقية. للحفاظ على هذا الوهم، يتم التمسك بحالة التعبئة الحربية الدائمة وعقلية القلعة المحاصرة التي يتم بثها وتعزيزها في جميع أنحاء المجتمع. هذه وسيلة فعالة لصرف الانتباه عن الصراع الطبقي من خلال خلق استقطاب دائم داخل المجتمع على أسس قومية ودينية، وهو ما لا يسمح في أغلب الأحيان لليسار المناهض للصهيونية بنشر أفكاره، فإن صوت البندقية في أغلب الأحيان يكون أعلى من أي شيء آخر.
إن المهمة الأولى لجميع الثوريين في ظل هذه الظروف، هي على وجه التحديد فضح هذه الكذبة وتفتيتها وإبراز المصالح المتضاربة للبرجوازية من ناحية وجميع العمال والفقراء من ناحية أخرى.
وأسباب قصور ذاتية كامنة في ذلك اليسار ناقشناها أعلاه باختصار، وهي الأسباب الأهم. أن ذلك اليسار لم يهدف لاتباع سياسة لإبراز التناقضات الطبقية وضرورة إسقاط الدولة الصهيونية الرأسمالية. بدلاً من ذلك يجري الاكتفاء بالمنشادات الاصلاحية والإنسانية من أجل “الديمقراطية للجميع”. وهي مطالب لا تتحدى الطبقة الرأسمالية الإسرائيلية ومصالحها. في مثل هذا الظرف الموضوعي أدي غياب الموقف الطبقي بعمل اليساريين المعادين للصهيونية على أراضي فلسطين التاريخية إلى طريق مسدود، وأدى لتنامي شعور اليأس المزمن والإحباط لدى قطاعات واسعة في ذلك اليسار، مما أدى لهيمنة الخطاب الإصلاحي و التطهري عليه، بدافع أننا لا نستطيع إسقاط الدولة الصهيونية فعلينا على الأقل إبراء ذمتنا من جرائمها.
هذا الطريق لا يوفر أي سبيل لإضعاف الدولة الصهيونية، ناهينا عن إسقاطها وانتصار النضال الفلسطيني من أجل التحرر. على اليسار المعادي للصهيونية، الذي يجب أن يكون ماركسي بالضرورة، أن يتبنى سياسة مناضلة تهدف لاسقاط الدولة الصهيونية، العمل على إبراز التناقضات داخل المجتمع الإسرائيلي، تبني خطاب وشعارات تعمل على إضعاف تأثير وهيمنة الفكر الصهيوني على العمال والشباب بشكل خاص، وربط ذلك بالنضال الفلسطيني. لو كان هناك منظمة ماركسية مناضلة لكانت استطاعت الربط بين فضائح الفساد الخاصة بمجرم الحرب بنيامين نتنياهو مع الحرب الإجرامية على غزة ومحاولة طرد أهالي الشيخ جراح من بيوتهم، ربط تلك الأحداث التي تزامنت مع بعضها في خطاب يكشف طبيعة الطبقة السائدة الاسرائيلية ودولتها الصهيونية ودورهما ويعاديهما، مثل هذا الخطاب كان سيجتذب زخم ودعم لدى قطاعات من الفلسطينيين والإسرائيليين، خصوصاً الشباب الذين بدأوا يستخلصون، وإن بشكل طفيف، استنتاجات لا ينقصها سوى منظمة ماركسية تتوجه لهم بالخطاب الصحيح.
هذا بخلاف فشل يسار المنطقة، بمن فيهم اليسار الفلسطيني، في انتهاج سياسة ماركسية وطبقية صحيحة تجاه القضية الفلسطينية تؤدي لإضعاف الدولة الصهيونية. انقسم التيار اليساري في المنطقة إلى معسكرين كبيرين: من جانب اليسار القومي والناصري الذي عمد على رفع شعار “رمي إسرائيل في البحر” وغيرها من الشعارات التي لم تخدم سوى الدولة الصهيونية و مسعاها في تغذية عقلية القلعة المحاصرة والسيطرة على الجماهير، وهذا اليسار تلاشى بشكل شبه كامل ولم يبقى سوى ظله اليوم. وعلى الجانب الآخر العصب اليسارية التي تتبنى مواقف تطهرية بشكل معاكس، لا ترى إمكانية للنفاد إلى المجتمع الإسرائيلي، ولا ترى إمكانية لبناء تيار ماركسي في فلسطين التاريخية وفي المنطقة، وهو ما يدفعهم لتقديم تنازلات للتيارات القومية والإسلامية المهيمنة تحت دعاوى “أهون الشرين”. وهذا هو الحال دائماً، إن لم تبني بديلك فستجبر على الانسياق وراء دعاوى “أهون الشرين” أو الانعزال.
عام 2011 اندلعت مظاهرات مضادة لنتنياهو في تل أبيب، متأثرة بالموجة الثورية في المنطقة، ورفعت شعارات “ناضل مثل مصري” و ” مبارك، الأسد، بيبي نتنياهو”. الطبيعة الطبقية للثورة العربية كانت جلية بوضوح حينها، وهو ما كان له تأثير أيضاً داخل إسرائيل. هذا بالرغم من أن الخطاب الرسمي للثورة المصرية كان خطاب قومي ناصري أو اسلامي، لنا أن نتخيل لو كان على رأس الثورة المصرية حزب ماركسي بخطاب صحيح يعمل على تقسيم المجتمع الإسرائيلي على أسس طبقية ماذا كان سيحدث، الأكيد أن مثل هذا الحزب في مثل هذا الظرف كان سيمثل لحظة فارقة في مسيرة هيمنة الفكر الصهيوني والدولة الصهيونية نفسها.
لو كان هناك تيار ماركسي مناضل وملتزم في المنطقة، وخصوصاً في مصر وفلسطين التاريخية، لكان استطاع الربط بين نضالات جماهير المنطقة وبين نضال الجماهير الفلسطينية وتحركات الجماهير الاسرائيلية البادئة، خصوصاً في الموجة الثورية الأولى عام 2011 التي تأثر بها المجتمع الإسرائيلي أكثر. والحقيقة أن تلك هي مهمة أى تيار ماركسي يريد لنفسه الحياة والنمو والانتصار في المنطقة.
حول إمكانية تقسيم المجتمع الإسرائيلي على أسس طبقية
ثم ينتقل الرفاق، في نفس نقطة أسباب ضعف اليسار المعادي للصهيونية، لنقاش المجتمع الإسرائيلي. وهنا يناقشون، وإن بشكل غير متبلور، إمكانية النفاذ وتقسيم المجتمع الإسرائيلي. اللافت أن هناك إجماع بين الرفاق في اللقاء أن إمكانية النفاذ لوعي المجتمع الإسرائيلي المسيطر عليه من قبل الدولة الصهيونية تكاد تكون مستحيلة، والحق أنهم بهذا الإجماع يجمعون على عطب وشبه إستحالة إسقاط الدولة الصهيونية في نفس الوقت.
يناقش الرفاق مسألة أن مصلحة الجماهير الإسرائيلية متوافقة مع الدولة الصهيونية التي توفر لها حد أدنى من الحياة، مقارنة بما حولها في المنطقة. وهنا للأسف يتم تسييد خطاب الدولة الصهيونية نفسها، أنها تمثل مصالح كل اليهود، برغم أن هذا ليس صحيح، بالنهاية الدولة الصهيونية هي دولة رأسمالية تمثل مصالح الرأسمالية الاسرائيلية.
صحيح أن الدولة الصهيونية استطاعت التحكم في الصراع الطبقي الداخلي لفترات طويلة، لكن أن نقول ذلك ونصمت، مثل أن نقول الكثير ولا ونقول شئ في نفس الوقت.
يخبرنا الديالكتيك أن الأشياء يمكن أن تنقلب إلى ضدها في ظروف معينة. وبالمثل، يمكن أن تنقلب هيمنة الفكر الصهيوني لعكسها وتنحسر في ظروف معينة. الأفكار السائدة في أي مجتمع هي أفكار الطبقة السائدة، التي هي طبقة سائدة صهيونية في هذه الحالة، كما أن انتصارات الدولة الصهيونية في المجالات المختلفة في العقود الماضية دعم ذلك، لذا ليس هناك من مفاجئة في أن الفكر الصهيوني يهيمن على وعي أغلبية الجماهير الاسرائيلية، لكن في النهاية المشروع الصهيوني هو مشروع رأسمالي له حدوده. في كل المجتمعات الطبقية الأفكار المهيمنة هي أفكار الطبقة السائدة. لكن هذا لا يلغي إمكانية الانتفاض، بل على العكس تماماً. لفترات طويلة من الزمن، يمكن أن يظهر المجتمع هادئاً، والطبقة السائدة ثابتة في مكانها وأفكارها مسلم بها من قبل غالبية الجماهير. لكن التناقضات الطبقية تحت السطح تتراكم حتى تصل إلى مرحلة حرجة حيث تتعارض بعنف مع الوضع الراهن. صحيح أن المجتمع الإسرائيلي له خصائصه الخاصة، إلا أنه ليس فوق التناقضات الطبقية.
كل هذا يمكن أن ينقلب إلى ضده، وقد بدأ يحدث ذلك بشكل طفيف بالفعل. أزمة الرأسمالية العالمية التي لها تأثيرها على الدولة الصهيونية والمجتمع الاسرائيلي، بدأت تحجم قدرة الدولة الصهيونية على توفير سبل حياة كريمة وسهلة لجماهيرها مثل الماضي، وهو ما بدأ يظهر منذ العام 2011 ومستمر في التفاقم إلى الآن، أزمة سكن وبداية بروز أزمة بطالة وغيرها، دور الماركسيين أن يعملوا على إبراز تلك الأزمات والتناقضات. وعند نقطة معينة ستضطر الدولة الصهيونية والطبقة السائدة لتنظيم هجمات اجتماعية أكثر شراسة على مستويات المعيشة لتتحكم في الأزمة الاقتصادية، التي بدأت تختمر وتتفاقم بفعل تأثيرات الجائحة، وقتها سيبدأ الصراع الطبقي في الظهور على السطح، ووجود منظمة ماركسية سيكون قوة دفع له.
وفساد كل الأحزاب الصهيونية ودعمها لعصابات المستوطنين الفاشية بدأ يدفع قطاع من الشباب الإسرائيلي للنفور من الدولة الصهيونية، وهو ما يتجلى في الحركة المناهضة للاستيطان والحركة الرافضة للتجنيد في الجيش الصهيوني، التي هي حركات ذات دوافع إنسانية مقدرة ولكنها مجردة ويمكن اعتبارها مرحلة وسيطة يمكن دفع كثير من المنخرطين فيها للأمام وإلى تبني سياسة مناضلة مشتبكة في حالة وجود منظمة ماركسية حقيقية.
صحيح أن هذه سيرورة تبدو بطيئة، وهي كذلك نسبياً، ويبدو أن الدولة الصهيونية قادرة على التحكم في الأمور حتى الآن، لكن هناك تيارات تختمر تحت سطح الأحداث، وتحت وقع أعمق أزمة شهدتها الرأسمالية العالمية والعمل على بناء تيار ماركسي حقيقي في المنطقة، سنستطيع أن نعمل على إزالة تأثير وهيمنة الفكر الصهيوني والدولة الصهيونية على أدمغة ووعي قطاع من الشباب والعمال الإسرائيليين، وتحييد قطاع آخر منهم. كل هذا رهين ببناء وإبراز بديل أمام جماهير المنطقة، بما فيهم الجماهير الاسرائيلية، هذه هي مهمتنا التي لن يضطلع بها أحد غيرنا.
وفي ختام تلك النقطة، يناقش الرفاق سؤال: هل على اليهود الإسرائيليين العودة لبلدانهم الأصلية؟ وهل على المتحررين من الصهيونية القيام بذلك؟ والغريب أن السؤالين تم الإجابة عنهم بالإيجاب.
إن طرح السؤالين والإجابة عنهما بالإيجاب هو دليل على ما ذكرته، أن الدافع الأساسي وراء عمل قطاع من اليسار المعادي للصهيونية هو دافع تطهري بالأساس. هذه فكرة طوباوية للغاية، بعد أكثر من سبعين عاماً هناك أشخاص ولدوا وشبوا وشابوا في تلك الأرض ولا يعرفون مكان آخر غيرها، من المثالية، والإجحاف في الحقيقة، القول بأن عليهم أن يبحثوا عن مواطن جدودهم و يهاجروا إليها!
أما المتحررين من الصهيونية، فهؤلاء هم أكثر الأشخاص الذين ينبغي عليهم البقاء وعدم الهجرة. هؤلاء يمثلون الدليل والبرهان على إمكانية خلق واقع جديد في المنطقة، كما أنهم الأقدر على التأثير في المجتمع الاسرائيلي، إن تبنوا سياسة ماركسية صحيحة. كيف نضحي بكل هذا من أجل موقف تطهري يبدو أنه يريح الضمير الانساني الفردي لكن الأكيد أنه لا يقدم أى طريق للأمام!!!
نرضى بما يرضى به الفلسطينيون؟
هذا هو السؤال الذي طرحه الرفيق المحاور على الرفيقين الآخرين، والذي أجاب الرفيقين عليه بكثير من الصحة، لكنى أعتقد أن هناك حاجة لتناول ذلك السؤال بعمق أكبر. أعتقد أن ذلك السؤال خاطئ من أساسه، لأنه يفترض أن الفلسطينيين كتلة واحدة، وهي نظرة تختلف جذرياً عن النظرة الماركسية لأى مجتمع، التي هي نظرة طبقية وتحليل طبقي. كل مجتمع يتكون من طبقات ذات مصالح متناقضة لا يمكن التوفيق بينها، بما فيها المجتمعات المحتلة والمضطهدة وإن بشكل يبدو مستتر، والطريق للتحرر الوطني يجب أن يكون باتباع سياسة ماركسية وإلا سيتعرض للخيانة من قبل من ينصبوا أنفسهم قادة، وهو ما تبرهن عليه العقود الماضية.
نحن ضد البرجوازية الفلسطينية التي تتعاون مع الاحتلال وتكون ثرواتها بالشراكة مع الاحتلال، وضد السلطة الفلسطينية التي خانت وما تزال تخون وتقمع الفلسطينيين لمصلحة الدولة الصهيونية ومن أجل مصالحها الذاتية، وضد حماس والقوى الأصولية الأخرى التي لا توفر طريق حقيقي للتحرر، والتي لا تسعى في الحقيقة إلا لتحل محل سلطة فتح، أى الحصول على حصرية الامتياز بالتفاوض والتعامل مع الدولة الصهيونية، وبالتالي إثراء أنفسهم وقمع الشعب الفلسطيني، ولا تؤدي دعايتها الأصولية إلا لتقوية اليمين الصهيوني.
نحن مع الجماهير الفلسطينية ومع حقها في الدفاع عن نفسها ونقف بحزم ضد الدولة الصهيونية ونهدف لإسقاطها، ولكن من أجل ذلك لابد من اتباع سياسة ماركسية صحيحة، وربط النضال الفلسطيني بنضالات شعوب المنطقة وبالتشققات البادئة في الظهور في المجتمع الاسرائيلي، وهذه هي مهمة الماركسيين على أراضي فلسطين التاريخية.
حول شعار “دولة ديمقراطية علمانية واحدة”
والآن ننتقل للنقطة الأخيرة المتمثلة في الحل. يرفع الرفاق في مجموعة “دافع” وغيرهم شعار “دولة ديمقراطية علمانية واحدة” كحل للقضية الفلسطينية. لكن من وجهة نظري هذا الشعار يحمل بعض أوجه القصور.
الشعار لا يربط بشكل واضح بين حل القضية الفلسطينية وإسقاط الدولة الصهيونية من جهة وبين من جهة أخرى ضرورة إسقاط الرأسمالية وبناء الاشتراكية، على أراضي فلسطين التاريخية والمنطقة. الصهيونية والقمع الذي تمارسه الدولة الإسرائيلية ضد الشعب الفلسطيني ليسا ممارسات عرضية نتيجة سيطرة بعض الأشخاص أو حتى شعب معين على الدولة، إنهما تعبير عن المصالح الطبقية للرأسمالية الإسرائيلية. إن نتخيل أنه يمكن أن تكون هناك نسخة من الرأسمالية بدون مثل هذا الاضطهاد هو مثالية خالصة. أنا أعلم أن هذا معلوم بالضرورة لدى كثير من الرفاق في المجموعة وفي اليسار بشكل عام، لكني أري أنه لابد من إبراز الطابع المعادي للرأسمالية للنضال الفلسطيني من أجل التحرر، وإبراز تلك المتلازمة بين التحرر الفلسطيني وإسقاط الرأسمالية وبناء الاشتراكية في كل شعاراتنا وكتاباتنا. حتى إن تم إقامة الدولة الفلسطينية بأى طريقة كانت، في ظل الرأسمالية ستبقي الندرة والخصاص في الموارد والوظائف والمساكن والخدمات، وهو ما يعني استمرار الضغائن القومية والتنافس، وبالتالي استمرار وجود الدولة الصهيونية التي ستتحول تلك الدولة الفلسطينية المستقبلية في ظل الرأسمالية لمجرد تابع لها، وضع مشابه تماماً لوضع السلطة الفلسطينية في رام الله اليوم.
من أجل تحرر الجماهير الفلسطينية يجب إسقاط الدولة الصهيونية، ومن أجل إسقاط الدولة الصهيونية يجب إسقاط الرأسمالية، التي تمثل الدولة الصهيونية ذاتها قاعدة دعم عسكرية متقدمة للدفاع عنها في المنطقة، ومن جهة أخري من أجل إسقاط الرأسمالية في المنطقة يجب إسقاط الدولة الصهيونية. هذا هو الجانب الأهم، والذي يجب أن يكون واضحاً وبارزاً في شعارات وبيانات التيار الماركسي الذي يطمح حقاً لتقديم حل للقضية الفلسطينية والعمل من أجله.
ثانياً، من وجهة نظرنا من الضروري عند رفع شعارات حول الحل أن يتم مراعاة ميراث الحرب الطويلة والشكوك المتبادلة. كما قلت، من أجل إسقاط الدولة الصهيونية يجب أن تتبنى المنظمة الماركسية خطاب وسياسة تهدف لتقسيم المجتمع الاسرائيلي على أساس طبقي وربط ذلك بالنضال الفلسطيني من أجل التحرر، في هذا السياق من الضروري إعطاء انطباع أن للجميع مكان على أراضي فلسطين التاريخية بعد اسقاط الدولة الصهيونية، انطباع يراعي الميراث الطويل من الشكوك ويعمل من أجل إزالة عقلية القلعة المحاصرة. لهذا نرى أنه من الضروري التأكيد على الطابع الفدرالي الاشتراكي للدولة المستقبلية، كحل مرحلي، وكجزء من فدرالية اشتراكية للشرق الأوسط وشمال أفريقيا.
دولة واحدة بنظام فدرالي يتمتع فيها الفلسطينيون واليهود الإسرائيليين بحقوقهم اللغوية والثقافية والدينية والحكم الذاتي، خصوصاً في المدن ذات الأغلبية القومية الساحقة. دولة اشتراكية بحكومة مشتركة واحدة تعمل على ضمان مستويات معيشة عالية ووظائف جيدة للجميع ورعاية صحية مجانية وتعليم، كما تضمن توزيع واستغلال عادل للموارد في سياق خطة اقتصادية اشتراكية مركزية ومخططة ديمقراطياً، تقضي على الفروقات التي تؤبدها وتزيدها وستخلفها الدولة الصهيونية بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وتضمن حرية الحركة، وتطلق برنامجاً للتصنيع والتحديث، وهو ما سوف يهيئ الأرضية للفلسطينيين المهجرين في الخارج للعودة للبلاد إن أرادوا.
دولة فدرالية اشتراكية واحدة بحكومة مشتركة مقرها القدس تضمن الحقوق الثقافية والدينية واللغوية للجميع، وتعمل على تجاوز ميراث الأحقاد القومية عن طريق العمل على توفير حياة لائقة وإنسانية للجميع بغض النظر عن الإثنية والدين واللغة، إعتماداً على الاقتصاد الاشتراكي المخطط ديمقراطياً. لينين قال ذات مرة “أن المسألة القومية هي في جوهرها مسألة الخبز”، وهكذا نستطيع أن نتأكد أن كل الأحقاد القومية والشك المتبادل وميراث الحرب الطويلة سيصبحان من الإرث الغابر، بعد جيل أو جيلين على الأكثر، ليحل محلهما التضامن والتعاون بين جميع من يعيش على أراضي فلسطين التاريخية والشرق الأوسط وشمال أفريقيا.
وعلى أساس هذه السياسة وهذا المنظور يمكن خلق واقع جديد في المنطقة، يتجاوز الرأسمالية التي لم تنتج لنا غير الدولة الصهيونية وأنظمتنا الديكتاتورية وسجل حافل من الحروب والمآسي والنكبات. على أساس هذا المنظور سيصبح في إمكان جميع شعوب المنطقة من التمتع بالحكم الذاتي في سياق فدرالية اشتراكية للشرق الأوسط وشمال أفريقيا. لكن كل هذا رهين ببناء منظمة ماركسية على أراضي فلسطين التاريخية تكون جزء من تيار ماركسي إقليمي وأممي يرفع راية الأممية العمالية الحقة وقادر اتباع سياسة ماركسية صحيحة وملتزمة وتكتيكات مناسبة وخطاب مناسب لقيادة جماهير المنطقة من أجل وضع حد للبربرية التي نعايشها ونشهدها يومياً في منطقتنا والعالم. هذه هي المهمة التي نضعها على عاتقنا في التيار الماركسي الأممي ونعمل من أجلها، وندعو كل من يتوافق معنا للإنضمام إلينا في هذه المهمة التاريخية وفي هذا النضال العظيم الذي يتوقف عليه مستقبل البشرية.
عاش نضال الجماهير الفلسطينية من أجل التحرر!
من أجل إسقاط الرأسمالية الاسرائليلة ودولتها الصهيونية!
من أجل وحدة نضال عموم عمال وشباب المنطقة!
من أجل فدرالية اشتراكية للشرق الأوسط وشمال أفريقيا!