مسلسل الزير سالم، كليب وزيره الحاقد وكلبهما النابح

فيما عدا الحكواتي الذي يظهر في بداية كل حلقة، لم يرد في مقدمة مسلسل الزير سالم ما يشير إلى طريقة المعالجة الدرامية التي تم اتباعها في العمل، هل هي مطابقة للسيرة الشعبية أم هي معالجة تاريخية تبحث عن أفضل الروايات وأرجحها حول حرب البسوس التي ورد عنها شذرات في كتب التاريخ هنا وهناك، وعالجها العديد من الباحثين والكتاب والأدباء.
تحتمل السيرة الشعبية الكثير من التزيُّد والخيال فهي مادة مفتوحة للإضافة والحذف مثل الأغاني والحكايات الشعبية، وإنما تأتي التعديلات من أجل إرضاء السامعين الباحثين عن صور البطولة والقوة الخارقة والتسلية بعيدا عن قيم الحق والعدل والمنطق. أما البحث التاريخي فيعتمد على المقارنة بين الروايات، وترجيح ما يوصلنا إلى أعلى درجات التناسق والتراكب بين أجزاء القصة ضمن رؤية واضحة، ومعالجة ذكية تراعي عقل المشاهد كما تراعي الموضوعية العلمية.
إذا كان مسلسل الزير سالم محاكاة خالصة للسيرة الشعبية، تلك التي ساهمت في تشكيل العقل العربي عبر قرون طويلة، فما هي الإضافة التي يقدمها العمل؟
كنت قد شاهدت المسلسل قبل ما يزيد على عام، وامتعضت بشدة في الدرجة الأولى بسبب الصورة القميئة التي قدمها العمل ل "جساس بن مرة"، ولما شرعت في كتابة مراجعة للعمل، توفي حاتم علي، فأبطأت عن الكتابة لئلا يظن البعض أنَّ ما ذكَّرني بالأمر هو وفاة المخرج.
لدى مراجعة كتب التراث، نجد أن جساس بن مرة هو واحد من فرسان العرب المشهورين بشجاعتهم، وقد اشتهر عنه أنه:" كان فارساً شهماً أبياً، وكان يلقب حامي الجار، ومانع الذمار" فلماذا أصر العمل على تقديمه بهذه الصورة: مُكَحَّلَ العَينين بشكل لافت للنظر، ضعيف البنية، يهرب من أمام الزير مثل دجاجة، بل إن الأزياء التي فُصِّلَتْ له في بعض المشاهد تُظهِرُه كَغَجَريٍّ تافه؛ وليس كشخص من سادات قومه كما هو واقع الحال، فمن أينَ عَرَفَ المُؤَلف والمُخرج أنَّ جساسَ بن مرة كان غجرياً على هذا النحو وهو ابن مرة البكري الفارس بن الفارس والسيد بن السيد.
ألم يبحثا عن التعريف بجساس في كتب التراث:
" جساس بن مرة بن ذهل بن شيبان، من بني بكر بن وائل. شاعر شجاع من أمراء العرب في الجاهلية. وهو الذي يسمى الحامي الجار المانع الذمار لقتله كُليب وائل بن ربيعة بسبب ناقة البسوس بنت المنقذ بن سلمان المنقذي جدة جساس، وكان ذلك سبب نشوب الحرب بين تغلب وبكر وكان جساس آخر من قتل في هذه الحرب والتي دامت أربعين سنة. معجم الشعراء العرب.
"وأما جساس بن مرة فكان من أبطال بكر في الجاهلية وفُتاكها، وهو قاتل كُليب وائل سيد بني تغلب، ومسبب حرب وائل التي أتت على الفريقين". نشوة الطرب في تاريخ جاهلية العرب، المؤلف: ابن سعيد الأندلسي.
"وفيهَا: عُقد لِعيسى بن الشَّيْخ بن السَّلِيل من ولد جساس بن مرّة بن ذهل بن شَيبَان على الرَّملة فَجهز نَائِبه أَبَا المعتز إِلَيْهَا لما كَانَت فتْنَة الأتراك بالعراق تغلب ابْن الشَّيْخ على دمشق وأعمالها وَقطع مَا كَانَ يحمل من الشَّام إِلَى الْخَلِيفَة". كتاب تاريخ ابن الوردي، الجزء ١ بيعة المعتز بن المتوكل.
وفي الاقتباس الأخير يظهر أن نسل جساس لم يتحوَّلوا غجر كما أوحى المسلسل من خلال الملابس والمكياج والكحل الذي أحاط به عيني جساس.
لا بدَّ أن العمل اتكأ على الرواية الشعبية التي تصف جساس بن مرة بأنه "أبو الغجر"، وهو تعبير نابع من انصياع الناس وإذعانهم للسُّلطة الذي يحوِّل كل من يفكر بالثورة والتغيير إلى غجري تافه.
هلْ قَتَلَ جَساس كليباً بسبب ناقة وحسب؟
كانت ناقة البسوس عتبة التراكمات الكمية لظلم كليب وعجرفته الظاهرة التي بلغت منع الناس من ورود الماء أو رعي العشب حيث يصل صوت نباح كلبه. وإنما جساس بقتله كليبا يعلن ثورة على الظلم والتجبر والطغيان. فما الذي جعل العقل الشعبي العربي ينحاز للطاغية؟ وما الذي جعل مُخرج العمل ومُؤلِّفة ينساقان وراء العقل الشعبيّ؟
لقد زرعت السلطة الطاغيةُ المُستَبِدَّةُ عبر العصور الإذعانَ للطغيانِ من خلال الحكواتي الذي كان يسلي الجائعين في سهراتهم البائسة بعد أن يدفعوا للسلطان كلَّ ما أنتجوه من كدحهم وشقائهم؛ فينام أولادُهم جائعين عرايا؛ بينما يَتَكرَّس في عُقولِهِم احتقار الغجري الضعيف جساس الذي قتل البطل كُليباً غِيلَةً، كما تَتجذر في أذهانهم بطولات الماجن الملقب بالزير، بل إن نباح كلب الطاغية يصبح معيارا للحق! فتعتاد الأجيال على التعاطف مع المجرم واحتقار الضحية.
اعتاد عامة الناس على الحكم على الأعمال التلفزيونية من حجم العمل، فعدد الممثلين وعدد الكومبرز في المعارك والأسواق والساحات وعدد الحلقات والضخ الإعلامي هي المعايير العامة للحكم على العمل، وقد اعتاد العامة أن تتسرب إليهم الأفكار من الأعمال الفنية مستمتعين بالإثارة والمعارك والتشويق الدرامي. ولكن، هل ينطبق الشيء نفسه على المؤلف والمخرج؟ وهل كانا يعرفان أنهما يكرسان الإرث الطويل من تغول السلطة على الناس ويعززانها؛ فإذا كانا يعرفان فتلك مصيبة، وإذا كانا لا يعرفان فالمصيبة أعظم.
إذا كان المخرج والمؤلف لا يعرفان بأنهما يعززان إذعان الناس للطاغية، وإساءتهم لكل من يدافع عن حقهم في الحياة والعدالة؛ فليت الحكواتي يعود لأنه يجمع الناس على الأقل في مكان واحد لتلتقي ابتساماتهم وانفعالاتهم، وربما يكشف ذكي سفالة اللعبة التي يتم طبخها في قدر قذرة هي قدر التسلط والدكتاتورية.
وإذا كان المؤلف والمخرج يدركان أنهما يعززان دوام إذعان الأمَّة للتَسلُّطِ والسُّكونية القاتِلة التي تسيء للثائر وترفع مكانة الظالم، فإنَّما هُما جُزء مِن آلة الرَّجعية والتَخلُّف والثبات القاتل لروح الأمة، وحاجتها للتَّغيير والتَّقدم. وهم بالتالي أدوات في يَدِ النُّخَبِ تُكرِّسُ الوضع القائم وتحافظ على التخلف لخدمة أغراضِها ومصالِحها لا أغراض الشعوب ومصالحهم.
وعلى الرغم من الكُحلِ والمَلابِس الرثة يا جساس، أنتَ البطلُ الهُمام، وَليذهب كُليب وَزِيرُهُ الحاقِدُ، وَكَلبُهُما النّابح إلى الجحيم.