مصر: استراتيجية الديكتاتورية لحقوق الإنسان
محمد حسام
2021 / 10 / 29 - 22:00
أعلن الديكتاتور عبد الفتاح السيسي يوم 11 سبتمبر/أيلول عن استراتيجية وطنية لحقوق الإنسان، في حفل مهيب كعادته، حفل حضره كل الضباع والانتهازيين من الداخل والخارج. تحدث فيه الديكتاتور بطريقته المعتادة التي يحاول بها ارتداء ثوب الحكمة الغائبة عنه، تحدث عن رؤيته ورؤية الدولة المصرية عن مستقبل حقوق الإنسان في مصر.
هذا المؤتمر يعد أول تأطير نظري وعلني لمنظور الدولة المصرية الفريد لما يسمى “حقوق الإنسان” لكن على الطريقة المصرية. هذا المفهوم الذي تحدث عنه الكثيرين من محللين وأبواق النظام طيلة سنوات، عن فقه الأولويات وخصوصية المجتمع المصري، أى لا نستطيع أن نطبق حتى الديمقراطية البرجوازية ومفاهيم الحداثة في المجتمع المصري، تلك الأهداف التي كان يطمح لها المثقفون البرجوازيون الصغار ويرونها المنتهى، الدولة المصرية تقول أنها لا تسمح بتطبيق تلك المفاهيم لأن المجتمع هو الذي لا يريد ولا يتحمل تطبيق تلك المفاهيم أصلاً!!!
سبب توجه الديكتاتورية
ليس خفيا على أحد أن النظام أفرج عن عدد من المعتقلين السياسيين في الأشهر القليلة الماضية، اغلبهم من غير المعروفين، وهذه خطوة جديدة نوعياً. أنا غير آسف لكبت فرحة وزهوة الانتهازيين من أمثال محمد أنور السادات، أرى أن هذا التحرك الأخير والمستمرة أصدائه حتى الآن لم يكن بسبب مجهوداتهم في تملق النظام ووهمهم في نجاحهم في خلق قناة تواصل مع النظام العسكري.
كانت هناك علامات واضحة منذ فترة على هذا التوجه، وهو ما ظهر في أحاديث عدد من محللي النظام الأكثر ذكاءً. هناك توجه من حول الدولة ومن داخلها أصبح يرى أن النظام لم يعد يحتاج لغل يده بقوة مثل السنوات الماضية.
النظام كان سيصل لهذه النقطة بأي حال من الأحوال، لكنه كان ينتظر التوقيت المناسب. النظام تحين الفرصة المناسبة لكي يبدو أنه يفعل ذلك بدافع ذاتي ومن تلقاء نفسه وليس رضوخاً لرغبات وضغوطات داخلية أو خارجية، انتظر حتى اختفى الحراك الجماهيري -ظاهرياً- واستتبت سلطته واكتسب ثقة كبيرة في نفسه، حتى أن هذه الوثيقة كانت هناك اخبار عنها منذ عدة شهور، وعلى الأغلب كان ينتظر النظام أن يرى ما ستؤول إليه العلاقة بينه وبين الإدارة الأمريكية الجديدة، وهنا جائت الحرب الصهيونية الأخيرة على قطاع غزة كفرصة ذهبية للنظام المصري لتوفيق أوضاعه مع إدارة جو بايدن.
الدولة المصرية تعلم أن تشدق الدول الامبريالية بحقوق الإنسان ومزاعمهم في الدفاع عن حقوق الإنسان ما هي إلا نفاق محض، وأن هذه الدول في النهاية لا تعبئ إلا بما يحقق مصالحها، فأراد نظام عبد الفتاح السيسي أن يثبت للإدارة الأمريكية الجديدة أن لا سبيل إلا التعامل معه ودعمه، وكانت الإدارة الأمريكية سوف تدرك ذلك بأى حال من الأحوال.
كما قلت الديكتاتورية العسكرية المصرية كانت ستصل لهذه اللحظة، لحظة بسط يد القمع قليلاً، النظام رأى أنه لا حاجة له للقمع السافر بعد أن توطدت دعائمه واطمئن لذلك. لكنه في نفس الوقت أراد أن يستفيد دعائياً من تلك الخطوة، وهو ما يخدم أساليب وهدف بونابرت مصر، عبد الفتاح السيسي، للظهور بمظهر راعي الأمة المصرية، الذي يحنو حتى على “المارقين” الذين اخطئوا. مستخدماً في ذلك أكثر شرائح البرجوازية الصغيرة انتهازية، لمحاولة تسويق تلك الخطوة في سياق الاستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان داخلياً وخارجياً، محاولة تصوير تلك الوثيقة كتحول سياسي، تعلم الجماهير جيداً أنه لن يعدو كونه حبر على ورق.
التسول كوسيلة “نضال” البرجوازية الصغيرة
خرج علينا محمد أنور السادات في لباس عراب التفاهمات مع الأجهزة الأمنية ليعلن بزهو أن جهوده أتت ثمارها. أعلن عن تشكيل مبادرة الحوار الدولي، التي تتكون من مجموعة من الحقراء الانتهازيين، مثل الإعلامي محدود الموهبة يوسف الحسيني وممثل عن الإسلاميين من حزب النور وممثلين عن حزب الدولة الوليد “مستقبل وطن” وشخصية “معتدلة” اعتبارية مثل مشيرة خطاب. مبادرة، كما قال، هدفها مساعدة المحبوسين وتقريب وجهات النظر.
إن محمد أنور السادات وإبراهيم عيسي وغيرهم هم من أبرز ممثلي البرجوازية الصغيرة وسماتها الانتهازية. والحقيقة أنهم اعتادوا التسول كوسيلة لفعلهم السياسي، يهدفون منه الوجاهة الاجتماعية كمثقفين، والنظام المصري يستغل تلك النزعة الانتهازية المتأصلة فيهم لإضفاء نوع من الشرعية الدعائية على خطواته، لكنه سيفشل في ذلك لأن هؤلاء الحقراء ليس لديهم أى مصداقية أو دعم لدى الجماهير المصرية، ولا حتى في بعض الأوساط الراديكالية للمثقفين والبرجوازيين الصغار أنفسهم، وهو ما يدركه محمد أنور السادات، ما جعله يؤكد في نفس الحوار أنه “لا يعمل مخبر لدى الأمن الوطني”.
أمام التشكك وعدم اليقين اضطر محمد أنور السادات أن يخفض سقف أمانيه ويقول أن هناك “قيود ومحاذير”، لدرجة اعترف أن النظام يستخدمه عندما يحتاجه. ثم يذهب ويراهن على ذكائه الفذ وأن “العبرة في النهاية لمن يستطيع أن يحقق النجاح”، والحق أن المرء يلزمه كثير من التوحد والانفصال عن الواقع ليظن أن التسول يمكن أن يؤدي للنجاح والتغلب على النظام العسكري الحاكم في مصر.
دستور “نضال” هؤلاء الحقراء يتلخص فيما قاله محمد أنور السادات في نفس الحوار:
“ولفت السادات هنا إلى أنه وخلال سنوات ماضية كان في “معسكر المعارضة”، حتى اكتشف أن المواجهة المباشرة مع نظام “قوى زى القطر بيهرس أي حد” لن تفلح، ومن هنا جاءت الحاجة إلى طريقة مغايرة للتفكير “لسنوات طويلة ظلت الحركات المدنية في خانة إصدار البيانات والشجب والتنديد، وهو ما لم يثمر عن فائدة، بالعكس كانت الأمور تزيد سوءًا، فالاشتباك مع الواقع بطريقة مختلفة هو الحل لمساعدة الآخرين، والوصول لفتح قنوات اتصال حقيقية بين الطرفين”.
أى أنه يطالبنا بأن لا نعارض النظام ونتحول لمتسولين ونحاول استعطاف النظام لكي لا يقمعنا ويفقرنا، وننتظر أن يتكرم علينا بعطاياه، لأن غير التسول هو جنون بالنسبة له ولامثاله، النضال في الشوارع والمصانع هو انتحار بالنسبة لهؤلاء المثقفين الأثرياء الانتهازيين. ببساطة هو وأمثاله لا يرون أفق لمواجهة نظام “قوى زى القطر بيهرس أى حد”، إذاً الحل في المهادنة واستجداء عطفه، الحل كما يرونه وينفذونه هو في تقديم أنفسنا كمحلل لعلاقات النظام الخارجية ومحسن لصورته داخلياً وخارجياً.
والحق أن هؤلاء الانتهازيين الأثرياء يرون في أنفسهم أفضل ممثلين للنظام الرأسمالي، وكل عيبهم على النظام العسكري أنه لا يستفيد منهم، فراحوا يثبتون له أنهم مهمين ومفيدين له، هم يرون في أنفسهم أنهم أفضل من ممثلي الدولة الحاليين، وكل عيبهم على النظام أنه لا يسمح لهم بمشاركته في استغلال وخداع الجماهير. إنهم لا يمتعضون من الهجمات الاجتماعية وإفقار الجماهير وتحمليها ثمن أزمة الرأسمالية المصرية، وجميعهم يجمعون على “الانجازات الاقتصادية” التي لم تؤثر على ثرائهم، وكل ما تقدموا به في مؤتمر الإعلان عن الاستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان وغيرها هو توسلات لرأس النظام ليرخي قبضته قليلاً، بجانب بعض الجوانب الثقافية مثل حرية العقيدة -من السخف الاعتقاد أن النظام المصري يدفع نحو مزيد من العلمانية- وغيرها، يستطيع النظام دائماً استيعابها والتغاضي عنها ما لم تشكل خطراً على هيمنته السياسية والاقتصادية.
في أعقاب كل الثورات المنهزمة في التاريخ دائماً ما ينشط انتهازيون برجوازيون صغار، يظهرون كما لو أنه ليس هناك غيرهم، يحاولون الظهور بمظهر قادة الجماهير وقادة العمل السياسي، مثقفي ومفكري الأمة، دائماً ما ينشط أمثال هؤلاء باسم “الواقعية” السياسية ويطالبون العمال والشباب بالتعقل وعدم الاندفاع. لكن عقود من “نضال” التسول هذا ستدهسه الجماهير تحت أقدامها بمجرد أن تبدأ في التحرك والهجوم. هذا ما حدث في عهد الديكتاتور محمد حسني مبارك، لم تؤدي جميع الالتماسات والتوسلات من أجل مزيد من الديمقراطية ومن أجل منع مشروع توريث السلطة إلى شيء، وفقط عندما بدأت الجماهير في التحرك في 25 يناير وفي ظرف 18 يوم حققت ما لم يستطع هؤلاء المثقفون البرجوازيون الصغار والحقوقيون من تحقيقه طيلة عقود من “نضالهم” البالي والبائس، طرحت الجماهير مفهوما لحقوق الإنسان يتجاوز المفهوم الليبرالي الحقوقي المجرد، مفهوم لا يفصل بين الحقوق الديمقراطية والاجتماعية والاقتصادية.
وحتى بعد أن هزمت الثورة واعتلى الديكتاتور العسكري السلطة، كانت دائماً الجماهير هي من تفرض على النظام التراجع وتقديم التنازلات وليست توسلات الحقراء وبيانات الجمعيات الحقوقية. الاحتجاجات الشعبية في الشوارع هي من أجبرت النظام على التراجع عن تنفيذ قانون التصالح، نضال الطبقة العاملة هو ما يمثل حجر عثرة اليوم أمام تنفيذ خطة خصخصة لم تشهد البلاد لها مثيل من قبل، نضال كثير من الشابات الثوريات لسنوات هو الذي أجبر النظام على تقديم تنازلات كلامية وقانونية لقضية اضطهاد النساء، وإن كانت تنازلات بلا مضمون ولا أفق لتنفيذها بشكل واسع، ولن يستفيد منها النساء العاملات والفقيرات بشكل حقيقي.
باختصار النظام أراد استخدام بعض أكثر الانتهازيين حقارة من أمثال ابراهيم عيسى ومحمد أنور السادات وشخص مستغل جنسياً مثل خالد يوسف كان يبحث عن فرصة للرجوع، النظام استخدمهم كالعادة للظهور بمظهر حامي “مدنية الدولة”، في نفس الوقت الذي يفرج فيه عن عدد من المعتقلين الذين لا جدوى من بقائهم داخل المعتقل، لأن النظام العسكري يرى أنه قوي ولا حاجة له الآن للقمع السافر، لدرجة أنه وللمرة الأولى منذ سنوات يرفع حالة الطورائ عن البلاد، سوف يهلل بعض السذج والأغبياء لهذا الإجراء، رغم أنه إجراء موجه للخارج بشكل أساسي، ونحن نعلم أنه حبر على ورق، وأن حالة الطوارئ هذه لا تقرها قوة القانون وإنما قانون القوة، وأن النظام يملك من القوة الفعلية المسلحة وحتى من القوانين ما يجعله لا يحتاج لإعلان حالة الطوارئ بشكل دائم، وأنه يستطيع التراجع عن هذا الإجراء في أي وقت يريد.
هل هناك انفراجة سياسية في مصر؟
الإجابة على هذا السؤال واضحة لا تخطئها عين: لا يوجد انفراجة سياسية في مصر في المستقبل المنظور، والواقع هو من يفرض تلك الإجابة رغم الأوهام حول التحول البطيء، أو الدعاية حول العلمانية والمدنية.
واقع آلاف المعتقلين من العمال والشباب/ات الثوري/ات الذين يعانون في السجون يؤكد ذلك، كما أعلن الديكتاتور بسخرية من الانتهازيين بعد المؤتمر بأيام عن نيته افتتاح أكبر مجمع سجون في مصر مبني على طراز “الديمقراطية” الأمريكية. واقع الحرب الاقتصادية والاجتماعية التي تشن على الجماهير من ارتفاع أسعار وضرائب ورفع الدعم عن السلع والخدمات وخصخصة وبيع ممتلكات وثروات الجماهير لذئاب رأس المال في الداخل والخارج يؤكد ذلك، اضطهاد وقمع أفراد مجتمع الميم من قبل الدولة وتحريض المؤسسات الدينية والإعلامية ضدهم/ن، خصوصاً أصحاب الموقف السياسي المعارض منهم/ن، يؤكد ذلك، الحرب الروتينية من الحين للآخر ضد الإلحاد في مصر تؤكد ذلك.
النظام الرأسمالي المصري، خصوصاً في مرحلة الأزمة، أضعف من أن يوفر حتى الديمقراطية البرلمانية البرجوازية الشكلية، النظام يعلم أن أي مقدار من الحرية والديمقراطية النسبيين يمكن أن يفتح الباب للجماهير لتمد تلك الحرية والديمقراطية للمجال الاقتصادي والاجتماعي في المصانع وأماكن العمل والجامعات وغيرهم، وهو ما لا يمكن أن يسمح به النظام العسكري الحاكم ولا تستطيع أن تتحمله الرأسمالية المصرية المأزومة. النظام يقف على قاعدة دعم يمكن أن تهتز بسهولة، لذلك لا يمكن أن يسمح بحد أدني من الجدل، وكل الخطابات عن العلمانية ومدنية الدولة لا تهدف سوى لمغازلة الدول الامبريالية في الغرب وابتزازها وشراء ولاء المثقفين البرجوازيين الصغار.
الديكتاتورية العسكرية الحاكمة لن تسمح بما ينازع سيطرتها وسطوتها عن طيب خاطر، وفقط النضال الجماهيري والثوري، مثل نضال الجماهير ضد قانون التصالح، ونضال الطبقة العاملة من أجل الدفاع عن ظروف معيشتها وعملها، مثل إضراب عمال “يونيفرسال”، ونضال وصمود الشباب/ات الثوري/ات والعمال في المعتقلات هو ما يظهر الطريق الصحيح لانتزاع المكاسب وتحقيق المطالب، حتى تندلع الثورة الآتية لا محالة.
الحرية للمعتقلين!
تسقط الديكتاتورية العسكرية الحاكمة!
تسقط حكومات رجال الأعمال!
لا حل سوى انتصار الثورة الاشتراكية بقيادة حكومة عمالية!