العولمة توسع الفجوة بين اسرائيل والعالم العربي


حافظ عليوي
2006 / 8 / 20 - 11:05     

دخل عهد العولمة الى الشرق الاوسط من اوسع ابوابه بعد هزيمة العراق مطلع عام 1991 . وكان مؤتمر مدريد الذي انعقد في تشرين اول ( اكتوبر ) من العام نفسه ، التعبير السياسي للنظام الاقتصادي الجديد الذي أخذ يسيطر شيئا فشيئا على دول المنطقة . واصبح التطبيع مع اسرائيل مثابة الجواز الذي يتيح للدول العربية امكانية الانخراط في الاقتصاد الرأسمالي العالمي .
ولا يمكن فهم طبيعة الاتفاقات التي أبرمتها اسرائيل مع الاردن والفلسطينيين بمعزل عن فهم التحولات العاالمية التي انبثق عنها نظام العولمة الذي تنفرد امريكا بقيادته منذ مطلع التسعينات . فقد كانت اسرائيل المستفيدة الكبرى من ثمار هذا النظام بسبب قدرتها على الاستجابة لمتطلبات الوضع الجديد ، ودخولها الاتفاقات مع الدول العربية وتعديلها بعض المسلّمات السياسية القديمة ، مثل رفضها التعامل مع منظمة التحرير الفلسطينية . وكانت النتيجة تغيير مكانة اسرائيل في الاقتصاد العالمي ، وكسر المقاطعة العربية لها ، وزيادة ملموسة في حجم الاستثمارات الاجنبية فيها .

الدول العربية – جمود وتخلف

الدول العربية تأثرت هي الاخرى بالتحولات التي أعقبت حرب الخلي ، الامر الذي انعكس في تغييرات بنيوية في جهازها الاقتصادي . قبل الحرب ، وتحديدا في الثمانينات ، اتسم اقتصاد الدول العربية بالتعاون فيما بينها والاعتماد الى حد كبير على اموال النفط التي ساعدت على سد احتياجات هذه الدول . فعلى سبيل المثال ، كان الاردن يصدر للعراق 50% من مجمل صادراته ، الامر الذي قد يفسر تأييد الملك حسين للعراق ابان حرب الخليج . وكانت مصر ، حتى مشاركتها في الحلف الامريكي ضد العراق ، تعتمد على ايرادات العمال المصريين الذين عملوا في دول النفط ، وتحديدا في العراق حيث عمل اكثر من مليون ونصف مصري .
بعد هزيمة العراق انخفضت اسعار النفط ، وطرأ تراجع عام على الاقتصاد العربي . فبالاضافة الى مصر التي فقد مستودعاً هاما لتشغيل عمالها ، تضرر الاردن كثيرا لعدة عوامل ، احدها : فقدان اهم سوق لصادراته ، وثانيها : تدفق اللاجئين الفلسطينيين من الكويت الى اراضيه مسبّبين ارتفاعا في نسبة البطالة . وقد دفع هذا الفراغ الاقتصادي الدول العربية للارتماء في احضان صندوق النقد الدولي الذي اصبح مصدرا بديلا للاقتصاد العربي التعاوني .
في عام 1991 تبنّت مصر برنامج الاصلاح الاقتصادي الذي وضعه صندوق النقد الدولي ، بهدف جذب الاستثمارات الاجنبية لتطوير الاقتصاد المصري . ويعتمد هذا الاصلاح الذي تفرضه الادارة الامريكية من خلال المؤسسة العالمية ، على خصخصة مرافق الانتاج ( من المصانع وحتى شركات الكهرباء والاتصالات ) ، وتقليص برام الضمان الاجتماعي ، والغاء الجمارك التي تحمي الانتاج المحلي ، واعفاء المستثمرين من دفع الضرائب .
في العام نفسه انتقلت الجامعة العربية من تونس الى القاهرة ، وكان في ذلك تعبير عن انتهاء المقاطعة العربية لمصر التي أُعلنت منذ اتفاق كامب ديفيد عام 1978 . وعادت مصر لتلعب الدور المحوري في السياسة وامريكا ، بل من اجل تمهيد الطريق للدول العربية الاخرى لتطبيع علاقاتها مع اسرائيل والرضوخ لاملاءات امريكا ، خاصة تلك المتعلقة بالحصار المفروض على العراق . منذ انتقالها للقاهرة اصيبت الجامعة العربية بالشلل التام وانقلبت على اهدافها الاصلية ، ولم تعد جهازا يخدم الشعوب العربية ، بل اداة اضافية بيد الاستعمار الامريكي لفرض هيمنته على المنطقة .

مقارنة بين الاقتصاد الاسرائيلي والعربي

رغم تعاونها الكامل مع امريكا في حربها على العراق ، لم تتلق الدول العربية ما وُعدت به من استثمارات اجنبية بل ازداد اقتصادها تدهورا . وبالمقابل ، توجهت الاستثمارات الامريكية لاسرائيل مفضلةً السوق المتطورة خاصة في المجال التكنولوجي ، على الاسواق العربية التي تعاني من التخلف المزمن والنظام الساسي الاستبدادي الفاسد .
وقد خرجت اسرائيل وحدها منتصرة من المؤتمرات الاقتصادية التي انبثقت عن مؤتمر مدريد وانعقدت في العواصم العربية ( الدار البيضاء ، عمان ، القاهرة والدوحة ) ، وذلك لانها كانت " الدولة " – حسب الافرازات الدولية - الوحيدة التي استطاعت ، في فترات معينة ، ضمان الاستقرار الامني والاقتصادي ، وهو الشرط الاساسي الذي تحتاجه الرساميل الامريكية للاستثمار في بلد ما .
ولضمان هذا الاستقرار كان على اسرائيل الدخول في الاتفاقات مع الدول العربية ، الامر الذي يشير الى العلاقة العضوية بين الجانبين الاقتصادي والامني لاتفاقات السلام . فاتفاق اوسلو مثلا ضمن لاسرائيل الاحتفاظ بالسيطرة الامنية على المناطق المحتلة ، ولكنه كرّس العلاقة الاقتصادية ايضا ، اذ ان الضفة الغربية تعتبر ثاني اهم سوق للصادرات الاسرائيلية ، كما ازداد تعلق الفلسطينيين باسرائيل لانها تشكّل اهم مصدر دخل للاقتصاد الفلسطيني من خلال اماكن العمل التي توفرها للعمال الفلسطينيين .
من جهة اخرى ارتفعت قيمة الاستثمارات الاجنبية في اسرائيل من 537 مليون دولار عام 1992 ( قبل اتفاق اوسلو ) ، الى 3.6 مليار دولار عام 1997 . اما في عام 1998 الذي شهد توترا في العلاقات بين اسرائيل والدول العربية بسبب سياسة حكومة نتانياهو ، فقد تراجعت الاستثمارات الاجنبية لتهبط الى 40% من قيمتها عام 1997 وتؤكد هذه الارقام التي يوردها تقرير منظمة التجارة العالمية ( ايلول 99 ) ، حاجة اسرائيل الماسة للتطبيع مع الدول العربية ، لضمان الاستقرار السياسي والامني المطلوب للاستثمارات الاجنبية في مجمل الدول العربية اربعة مليارات دولار عام 1995 ، وهبطت عام 1996 الى 2.3 مليار دولار . (Middle East Times, 1998, and Washington post, August 1997 ) ولكن الفرق بين اسرائيل والدول العربية لم يقتصر على نسبة الاستثمارات الاجنبية فيها فحسب ، بل على حجم الاقتصاد ايضا . ففي حين بلغ الناتج الاجمالي المحلي الاسرائيلي 97.9 مليار دولار عام 1998 ، والناتج الاجمالي السنوي للفرد 16.400 دولار ، بلغ الناتج الاجمالي السنوي للفرد في مصر 2.800 دولار وفي سوريا 900 دولار ( تقرير منظمة التجارة العالمية ) .
ويبرز الفرق ايضا في مستوى المعيشة , ففي حين يصل الحد الادنى للاجور في اسرائيل الى 650 دولار شهريا , فهو لا يتجاوز في مصر ال20 دولار في الشهر , ويبلغ معدل الاجور في سورية 45 دورلارا في الشهر . وتشير هذه المعطيات الى مدى تخلف الاقتصاد العربي , فبينما تعتمد اسرائيل على تصدير المنتجات التكنولوجية في مجال الاتصالات والادوات الطبية, تعتمد مصر على السياحة ,النفط , قناة السويس وايرادات عمالها من الخارج. وفي حين يضطر العامل المصري للهجرة من بلاده بحثا عن لقمة العيش , فان اسرائيل تستوعب عمالة اجنبية يزيد عددها عن 250 الف عامل اجنبي , علاوة على 100 الف عامل فلسطيني من الضفة الغربية وغزة. (تقرير الادارة الامريكية امام لجنة الخارجية التابعة لمجلس الشيوخ , كانون الثاني 1998)

اعتماد اسرائيلي كبير على السوق الامريكية

تعتبر اسرائيل احدى الدول الاكثر حماسة للاقتصاد الرأسمالي الجديد ، وهي ثاني اكبر دولة في العالم ، بعد كندا ، من ناحية عدد شركاتها الفعالة في بورصة نيويورك ، اذ تضارب في البورصة 100 شركة اسرائيلية نجحت في تجنيد اكثر من ملياري دولارا من خلال بيع اسهمها . كما يتمتع البروفسور يعقوب فرنكل الذي شغل خلال ثمانية سنوات منصب عميد بنك اسرائيل المركزي , بمكانة مرموقة في المؤسسات النقدية العالمية , وهو عضو في مموعة ال30 التي تضم الخبراء الاقتصاديين الذين يوجهون الاقتصاد العالمي , ويترأّس بول فولكر , عميد البنك الفدرالي الامريكي سابقا .
الى جانب الازدهار الاقتصادي الذي جلبته التغيرات البنيوية لنواح معينة الاقتصاد الاسرائيلي , الا انها جلبت ارتفاعا موازيا في نسبة البطالة بسبب انتقال الاستثمار الى مجال التكنولوجيا المتطورة وبرمجة الانترنت من جهة , والتسهيلات الجمركية من جهة اخرى . فقد ضربت هذه المتغيرات الصناعات التقليدية , كانسيج , الحديد , الخشب وصناعة الاحذية التي كانت تشغّل ايادي عاملة كثيرة , وادت الى تقليص في عدد العاملين في مجال الصناعات الجوية والامنية . وشكل دخول العمال الاجانب الى اسرائيل عاملا اضافيا في رفع نسبة البطالة الرسمية لتصل الى 10% ,وبعض البلدان اليهودية البعيدة عن المراكز .
ويشير هذا التغيير الى اتباع اسرائيل منطق رأس المال الامريكي الذي يفضّل شراء شركات التكنولوجيا المتطورة ةاحتواء خبرتها , على الاستثمار في الصناعات المحلية وخلق اماكن عمل جديدة . وقد بدأت اسرائيل تمهد لهذا التطور في السنوات الاخيرة , من خلال تأسيس صناديق استثمار لدعم الاختراعات التكنولوجية ، ووصلت قيمة الاستثمار في هذا المجال 800 مليون دولار عام 1997 , في حين لم تتجاوز ال29 مليون دولار عام 1985
. (the macro view, howard rosenblum , venture update , winter 1997)
وقد عقدت في السنتين الاخيرتين عدة صفقات اشترك فيها شركات أمريكية عدة شركات تكنولوجية متطورة اسرائيلية . وكانت اكبر هذه الصفقات تلك التي اشترت فيها شركة "اينتل " الامريكية للكمبيوترات , شركة دي . اس . بي . الاسرائيلية في تشرين اول (اكتوبر) 1999 , مقابل 1.6 مليار دولار . ويعادل هذا المبلغ الخالي عشرة اضعاف واردات الشركة الاسرائيلية من مبيعاتها في العام الماضي والتي بلغت 155 مليون دولار . ويشار الى ان الشركة الاسرائيلية تأسست عام 1990 بمبادرة بعض خريجي جهاز الاستخبارات الذين اكتسبوا خبرة في مجال التكنولوجية والكمبيوتر , وتشغل اليوم 300 عامل في مجال تطوير برمجة الكمبيوتر والهواتف النقالة .
ان سر النجاح الاسرائيلي لايعتمد على مجهودات ذاتية فقط , بل على خبرة عشرات الاف المهندسين والخبراء الروس الذين قدموا لاسرائيل بعد تفكك الاتحاد السوفيتي . هذا بالاضافة الى المساعدات المالية الامريكية ، والتبرعات من يهود امريكا ، والتعويضات الالمانية ، والقروض السهلة التي تمنح المواطن الاسرائيلي امتيازات خاصة تضمن له مستوى معيشة ارقى من الذي يمكن ان يسمح به الاقتصاد الحقيقي .

الاستثمارات لا تصل الدول العربية

رغم التحولات البنيوية التي ادخلتها اسرائيل على اقتصادها الا انها أخفقت حتى الان في خلق مناخ مريح يجذب الاستثمارات الاحنبية اليها بشكل دائم , وذلك بسبب التوتر الامني المستمر . فخلال السنوات التي أعقبت اتفاقات اوسلو ووادي عربة , ازداد العداء العربي والفلسطيني تجاه اسرائيل , واشتدت الحركة العربية الشعبية والثقافية المناهضة للتطبيق مع اسرائيل والتبادل الاقتصادي معها , على اساس رفض الاتفاقات الاستسلامية . وقد ازدادت حدة هذه المواقف على خلفية انخفاض المستوى الاقتصادي في المنطق المحتلة بنسبة 30% عما كان عليه قبل التوقيع على اتفاقات اوسلو . وتعمّقت التبعية الفلسطينية للاقتصاد الاسرائيلي بسبب امتناع المستثمرين الفلسطينيين والاجانب على سواء عن الاستثمار في مناطق السلطة الفلسطينية , نظراً لطبيعتها الاستبدادية الفاسدة . ولم يجد السلطة في ذلك اعلانها عن تبنيها قوانين السوق الحرة , اذ لم يتماش هذا مع احتكارها اهم المواد الاساسية كالطحين والاسمنت والوقود بهدف تمويل اجهزتها الامنية القمعية .
ويحذر رئيس الوزراء الاسرائيلي السابق شمعون بيرس من الاحصائيات التي تشير الى التكاثر السكاني داخل اسرائيل ومناطق السلطة معا , ليصل عددهم بعد 20 عاما الى 20 مليون نسمة نصفهم عرب ونصفهم يهود , في رقعة ارض لا تتجاوز ال24 الف كيلو متر مربع . ولا يمكن الاستنتاج من الحديث الاسرائيلي عن ضرورة الفصل التام بين اسرائيل والفلسطينيين , ان اسرائيل تنوي منح الفلسطينيين الاستقلال التام ، فذلك امر يهدد امن الكيان الصهيوني والمملكة الاردنية على السواء , بل ما تريده اسرائيل هو كيان فلسطيني ضعيف تابع لها يعيش فيه بضعة ملايين من الفلسطينيين المحرومين من الموارد الاساسية , مثل المياه ولارض والعمل .
ان عدم امكانية اسرائيل استيعاب الشعب الفلسطيني او الانفصال السياسي والاقتصادي عنه , يشكّل مصدر صدام دائم يؤثر بشكل مباشر على العالم العربي . ونظرا لهذه المشكلة المزمنة تعجز اسرائيل عن توفير الاستقرار الامني المطلوب لرأس المال الاجنبي للاستثمار المستقر والثابت الذي يضمن له الارباح . كما ان الرأي العام العربي يرفض التطبيع مع اسرائيل خاصة بعد ان تبين بجلاء المستفيد الوحيد منه هو رأس المال الاسرائيلي ، اما الشعوب العربية فلا تزداد الا فقرا وبطالة .
ولم تكن خيبة الامل من السلام نصيب الفلسطينيين فحسب ، بل طالت الاردن ومصر ايضا ، خاصة على خلفية عدم تدفق الاستثمارات الاجنبية اليها تعويضا على تأييدها للحرب على العراق وتوقيعها الاتفاقات مع اسرائيل . فرغم محاولات مصر التماشي مع املاءات البنك العالمي ، الا انها لم تحظ الا باعفائها من ديونها للولايات المتحدة التي بلغت 6.8 مليار دولار ، وشطب 50% من ديونها لنادي باريس . ( تقرير مجلس الشيوخ ) .
اما الاردن الذي اضطر لقطع علاقاته مع العراق ، فقد سارع لتوثيق علاقاته مع اسرائيل مدفوعا من جهة اخرى في تلقي مساعدات خارجية وجذب الاستثمارات الاجنبية والاسرائيلية لاراضيه ، ولكنه لم يحصل على اكثر من المنطقة الصناعية في مدينة اربد التي تشغّل 6.000 عامل باجور زهيدة . ومنذ عام 1996 توقف النمو
الاقتصادي الاردني ، واقتصرت قيمة التبادل التجاري بين اسرائيل والاردن على 30 مليون دولار فقط
. (Jewish World Review , The Economics of Peace , November 1998 )

التناقضات في المجتمع الاسرائيلي

رغم نجاحها الكبير في مجال التكنولوجيا ، فلا تزال اسرائيل تعاني مشاكل اقتصادية واجتماعية جمة تعرقل سعيها المحموم للانخراط في النظام الاقتصادي الجديد . وتعود هذه العراقيل الى ان اسرائيل هي دولة استيطانية موجودة في مرحلة تكوّن مستمر ، ولم تستتب تركيبتها السكانية بعد ، وهي لا تزال ملتزمة بمتطلبات استيعاب الهجرة اليهودية لإكمال حملتها الاستيطانية .
وعلى المستوى الاقليمي لاتزال اسرائيل بلا حدود محددة ، في تحتل مناطق عربية على الجبهة الفلسطينية والسورية واللبنانية . وتواجه مشاكل على الصعيد القانوني ايضا اذ انها تفتقد الدستور ، والبنية الحزبية فيها متغيرة باستمرار وتشهد ظهور احزاب وزوالها في فترات متقاربة . وعلى المستوى الاقتصادي تتبع اسرائيل النمط الاوروبي القريب من الاحزاب الاشتراكية الديمقراطية ، والتي تلعب فيها النقابات والدولة دورا رئيسيا في الاقتصاد وفي دعم شبكة الضمان الاجتماعي ، الامر الذي يصعّب عليها الانتقال الى اقتصاد السوق الحرة الذي يتطلب خصخصة كل المنشآت الاقتصادية .
وتواجه الحكومة الاسرائيلية صعوبات في الالتزام بتوصيات بنك النقد الدولي , خاصة تلك المتعلقة بعد اجتياز عجز الميزانية نسبة ال2% من الناتج الاجمالي المحلي , وكذلك خصخصة البنوك ومنشات البنية التحتية مثل شركة الكهرباء او سلطة المياه . فانطلاقا من حاجاتها الاستيطانية والامنية , تسعى الحكومة لاحتكار المرافق الاقتصادية الحيوية ، وضمان الحد الادنى من الرفاهية لمواطنيها اليهود لضمان اجتذابهم اليها وبقائهم فيها . كما تحتاج التركيبة السياسية القائمة على الائتلاف مع الاحزاب الدينية والاستيطانية التي تحظى بشعبية وثقل في الشارع الاسرائيلي ، الى انفاق اموال طائلة على هذه الاحزاب لضمان سلامة الائتلاف وبقاء الحكومة .
ان تقيّد اسرائيل بمتطلبات رأس المال الامريكي ، سيدخلها دون شك الى وضع من الاضطرابات الداخلية بين الشرائح الفقيرة التي تضم اليهود الشرقيين ، وبين الشرائح العليا المشكّلة من اليهود الغربيين والروس . ان النظام السياسي الاسرائيلي الهش الذي ادى الى مقتل رئيس حكومة لاول مرة في تاريخ اسرائيل ولا يزال يفرض على الحزب الحاكم الائتلاف مع احزاب مختلفة ومتباينة سعيا لتحقيق الاجماع الصهيوني حول العلاقة مع العرب والفلسطينيين ، لا يطلق العنان امام الاقتصاد الاسرائيلي ليتحول الى رأس مال طبيعي وحر .
ومع هذا ، فلا بد من الاشارة الى النمو الذي طرأ على القطاع الخاص الذي بات يسيطر على فروع كاملة من الاقتصاد في مجال الطاقة ، الصناعات الكيماوية والبلاستيكية ، الاتصالات الخلوية ، النشر والاعلام ، البنوك ، الغذاء والاستيراد . وقد انتقلت ملكية هذه الفروع الاقتصادية من الدولة ( الهستدروت ) الى فئة صغيرة من العائلات الغنية مثل ايزنبرغ ، هاريسون ، دنكنيز ، عوفر وفيشمان وغيرها ، وهي نفس العائلات التي تحتكر وسائل الاعلام ، الامر الذي يضاعف نفوذها وتأثيرها على مجريات السياسة الاسرائيلية . وأدى برنامج الاصلاح والخصخصة الذي تبنته اسرائيل عام 1985 ، الى تغيير جذري في طبيعة المجتمع الاسرائيلي في الاعوام ال 20 الاخيرة ، انعكس في القضاء على الكثير من معالم دولة الرفاه ، مما ادى لاتساع الفجوة بين الشريحة الغنية والشرائح الفقيرة ( الطبقة العاملة الفلسطينية امام تحديات العولمة ) . المعطيات حول دخل العائلة لعام 1998 الذي نشره مكتب الاحصاء المركزي الاسرائيلي ، تحدد الفرق بين الدخل الشهري للعائلات العشر الاغنى في اسرائيل والعشر الافقر بنسبة 12:1 ( 31.426 ) شيكلا دخل العائلة الغنية مقابل 2.655 شيكلا شهريا دخل العائلة الفقسرة – الدولار يعادل حوالي 4 شيكل ) .
يمكن وصف الوضع الذي تعيشه اسرائيل اليوم ، بالانفصام . فهي من جهة متحمسة للعولمة والاقتصاد الجديد ، ولكنها من جهة اخرى تتصرف كقوة استعمارية استيطانية تحتل فيها الاعتبارات الامنية والسياسية اهمية اكبر من الاعتبارات الاقتصادية . وهذا ما يمنعها من التماشي الكامل مع خصخصة الاقتصاد لانها تفترض الغاء المساعدات الاجتماعية وتسبب انخفاضا في مستوى معيشة الطبقة العاملة وتؤدي الى ارتفاع نسبة البطالة .
الوضع الجيوسياسي ، اذن ، والاعتبارات الاجتماعية الداخلية تعرقل امكانية اسرائيل التحول الى دولة رأسمالية على غرار ما تطلبه امريكا ، علما ان مرد وجودها لم يحسم بعد ، رغم الاعتراف الدولي بها والاتفاقات المعقودة بينها وبين الدول العربية والفلسطينيين .

العالم العربي امام مفترق طرق

ان الصعوبات التي يواجهها العالم العربي في سعيه للانخراط بالقرية العالمية ، تختلف عن تلك التي تواجهها اسرائيل . فحتى تُقبل عضوية سوريا في النظام الجديد عليها اولا القبول بالمفهوم الاسرائيلي للسلام ، وفتح ابوابها امام رأس المال الاجنبي والتطبيع مع الدولة الصهيونية . وهو امر قد ينجم عنه انقلاب حقيقي في نظامها الذي يحتكر كل المرافق الاقتصادية ، من وكالات التأمين حتى البنوك .
اما مصر فموجودة في وضع أدق اذ انها تعتبر من اكثر الدول العربية دعما ً للنظام الرأسمالي العالمي ، لذا فان فشلها في التأقلم مع هذا النظام سيزيد الاحتمالات لوقوع زلزال اجتماعي وسياسي غير مسبوق في العالم العربي . ان مايميز النظام المصري اليوم ليس انتهاكه لادنى اسس الديمقراطية فحسب ، بل تفشي الفساد في جهازه السياسي والاقتصادي في آن . واذا اضفنا الى ذلك السياسة الاقتصادية التي تهدف الى تقليص ميزانية الدولة وخصخصة المنشآت الاقتصادية ، فسيصل النظام المصري الى مفترق طرق ليست فيه خيارات كثيرة ، بعد ان قرر تسليم مصالح مصر واقتصادها لقرارات البنك العالمي وصندوق النقد الدولي .
علينا ان ندرك ان الحكومة المصرية تمتلك الكثير من المنشآت الصناعية التي تشغّل 25% من القوى العاملة . ومع ان هذه الصناعات تفتقر لرأس المال المطلوب لتطويرها ، الا ان نقلها للقطاع الخاص سيؤدي الى اغلاق الكثير منها ، مايزيد نسبة البطالة المرتفعة على كل حال ، ويسجّل تدنيا اضافيا في مستوى معيشة شرائح واسعة من المجتمع .
( Le Mond Diplomatic , October 1999 وتقرير مجلس الشيوخ )
ان المطلوب من نظام الرئيس مبارك كشرط لانضمامه لركب العولمة الدولي . هو القضاء على مخلفات النظام الاقتصادي الذي أوجده نظام عبد الناصر . وسيتوجب عليه ، حسب الاملاءات الامريكية ، نقل المنشآت النفطية وقناة السويس الى ايدي الاحتكارات الاجنبية ، والغاء الدعم الحكومي لاسعار الخبز وزيت الطبخ . من هذا يتبين ان ثماني سنوات من اتباع سياسة الخصخصة ، و 20 عامام من الصلح مع اسرائيل ، كانت كفيلة بافقاد النظام المصري مصداقيته في مصر وفي العالم العربي برمّته . ولم يعد هذا النظام يملك الاجابة على حاجات 400 الف مصري يدخلون سنويا سوق القوى العاملة .
يمكن تلخيص الطريق المسدود الذي وصل اليه النظام المصري بالمعادلة التالية : اما ان يرفض الخضوع للقيود التي يفرضها البنك العالمي ، وعندها سيواجه صعوبات اقتصادية داخلية كبيرة بسبب عدم وجود بديل اقتصادي ، واما ان يقرر تطبيق الخصخصة وعندها سيفقد السيطرة على مقاليد الاقتصاد وعلى النقابات العمالية التابعة له . وفي الحالة الثانية ستتسع الفجوة الاجتماعية الى درجة قد تصل للانفجار ، كما حدث في انتفاضة الخبز التي شهدناها في الاردن منذ وقت قصير .
ان اللعبة الراهنة بين النظام المصري والنقابات المعارضة الشكلية ، يمكن ان تستمر ما دام المواطن المصري يجد الخبز وال 20 دولارا في الشهر التي تمكنه من البقاء على قيد الحياة . ولكن اذا تحرر الاقتصاد حسب متطلبات المؤسسة الرأسمالية الجديدة ، فلن يكون بمقدور احد ان يضمن مستقبل النظام الذي لن يكون عليه مواجهة شعب فقير فحسب ، بل جائع ايضا . وقد يصبح تصورنا للازمة الاقتصادية اقرب الى الحقيقة اذا تبنتها الى ان الطريق المسدود الذي دخله النظام المصري ، تقف عنده سائر الانظمة العربية التي تسعى للاندماج في نظام التجارة الحرة تحت الهيمنة الامريكية ومن خلال اقامة علاقات حميمة مع اسرائيل ، وتبدي استعدادا كبيرا لتخطي كل
الخطوط الحمراء على حساب شعوبها .