الماركسية -عرض نقدي (الفصل العاشر من كتاب: الثورة المستمرة)
عادل العمري
الحوار المتمدن
-
العدد: 6869 - 2021 / 4 / 14 - 02:48
المحور:
في نقد الشيوعية واليسار واحزابها
الدفاع عن الماركسية
هو توقيع
لآخر مراحل موتها
ألان باديو
تأتي أهمية تناول الماركسية هنا من أنها أكثر النظريات في التاريخ تأثيرًا في الحركات الثورية في العالم؛ حفرت بصماتها في كل مكان على وجه الأرض بشكل أو بآخر، علاوة على تأثيرها الكبير على كافة العلوم الاجتماعية وحتى علم النفس. ما يفرق الماركسية عن أيّ فلسفة هو أنها ليست فلسفة تأملية، بل مشروع للثورة الاشتراكية، فألهمت كل الحالمين بعالم أفضل وبالخلاص البشري على الأرض لا في مملكة السماء. لهذا سوف نقدم لها عرضًا نقديًّا مركزًا.
لم يؤسس ماركس نظرية تأملية ولا فلسفة شمولية، وكان عمله الرئيسي هو تحليل عمل رأس المال، وموضوعات متناثرة في نقد الفلسفة، الألمانية خصوصًا. لم يقدم ماركس نظرية مكتملة محددة المعالم، بينما لجأ تلاميذه إلى الإضافة والتعديل والتطوير، فأنتج ذلك مدارس وتوجهات متعددة كلها تسمي نفسها ماركسية. بل صارت الماركسية في طبعتها الأرثوذكسية فلسفة شاملة جامعة تشمل منهجًا فلسفيًّا وعلمًا للاقتصاد والسياسة ونظرية للمعرفة، ونظرية في الفن وعلم الجمال، وعلمًا للاجتماع، ونظرية للثورة والتنظيم الثوري، وحتى علمًا للنفس، تحمل الحقيقة المطلقة للعالم والتفسير الصحيح لكل ظواهر الوجود، ومشروعًا للثورة الاشتراكية. وحتى كتابات ماركس نفسها علاوة على أنها لا تشكل كلًا متسقًا (فماركس نفسه كان يطور أفكاره وكثيرٌ من كتاباته كان مسودات) لها قراءات عديدة، حسب خلفية القارئ الفلسفية.
لم يعلن ماركس وإنجلز صراحة أنَّ اشتراكيتهم العلمية - كما سمياها - فلسفة، بل إنها تجاوزت وحلت محل ليس فقط كل الفلسفة المثالية البورجوازية، بل الفلسفة بوجه عام([1]). وهذا معناه الوحيد – تقريبًا – أنهما ينتجان علمًا ذا قوانين. لكن لا يمكن - على رأي كورش([2]) - أنْ نقول إنَّ الفلسفة قد انتهت بمجرد إخفاء اسمها. بل وهناك عبارات شهيرة لماركس تفيد بأنه يقدم فلسفة: “الفلسفة لا يمكن أنْ تختفي قبل أنْ تتحقق”، ” مثلما تجد الفلسفة سلاحها المادي في البروليتاريا، تجد البروليتاريا سلاحها الروحي في الفلسفة”([3]). أما من قدم الماركسية فعليًّا كفلسفة فهو إنجلز، الذي اكتفى بوصف الأمر بأنه مجرد ارتباط بالفلسفة الألمانية، مسميًا هذا بـ الجانب الفلسفي للعلم. وهذا يدل على شعوره بوجود مشكلة ما في نظريته؛ فهو لم يقدم ما يفيد بأنها علم، ولا يريد نعتها بالفلسفة في نفس الوقت، فابتكر هذا التعبير الغريب. وهو من ابتكر تعبير المادية التاريخية([4]) (لم يستخدم ماركس هذا المصطلح، بل استخدم، مع إنجلز أيضًا، مصطلح المفهوم المادي للتاريخ([5])). كما راح يحول الماركسية إلى منظومة فكرية شاملة، تشمل منهجًا للبحث وقوانين عامة للوجود ونظرية في الاقتصاد السياسي، ونظرية في الثورة الاشتراكية. في الواقع يعود الفضل إلى إنجلز في تقديم الماركسية بوضوح وإسهاب للجمهور، علاوة على مساهماته العديدة والجوهرية في إنتاجها، عكسما يتصور جمهور الماركسيين. وقد اعتبر البعض أنه قد طور فكر ماركس بشرح هذه الموضوعات، بينما اعتبر آخرون أنه قد حرف فكر ماركس الأصلي، لكن إنجلز نفسه قد زعم أنَّ ماركس قد اطلع وراجع أعماله في "ديالكتيك الطبيعة" و"ضد درنج"، وهو كتابه الأساسي في الماركسية، ووافق عليها. وما نرى محاولات بعض التلاميذ لإلصاق كل نقاط ضعف الماركسية بإنجلز سوى عملية إعفاء لماركس من المسؤولية، إنقاذًا لسمعة النظرية التي تحمل اسمه. وقد استمر تلاميذ ماركس وإنجلز الأرثوذكسيين في اعتبار أنَّ مذهب ماركس “لكلّي الجبروت، لأنه صحيح، ومتناسق وكامل ويعطي الناس مفهومًا منسجمًا عن العالم، لايتفق مع أيّ ضرب من الأوهام ومع أيّ رجعية، ومع أيّ دفاع عن الطغيان البورجوازي. وهو الوريث الشرعي لخير ما أبدعته الإنسانية في القرن التاسع عشر: الفلسفة الألمانية، الاقتصاد السياسي الإنجليزي، والاشتراكية الفرنسية”([6]).
يمكن تقديم تصور لنظرية ماركس وإنجلز، نقدمه بإيجاز شديد فيما يلي:
1 – منهج الديالكتيك (الجدل) الماركسي:
كتب ماركس نقدًا سريعًا لمذهب هيجل([7])، فانتقد مثاليته؛ جعْلَه الأولوية للفكر على الواقع، وعزْلَه للفكر المجرد داخل نسق غير مرتبط بالواقع المحسوس. باختصار انتقده من وجهة نظر مادية، متأثرًا بفويرباخ. وقد زعم ماركس أنه قد جعل منطق هيجل يقف على قدميه بدلًا من رأسه([8]). والمقصود أنه حوله من منهج مثالي إلى ديالكتيك مادي، يتعامل مع الفكر على أنه نتاج للواقع. وهو يغالط هنا؛ فمنهج هيجل هو رأسٌ محض – إنْ صح التعبير – فهو “حوار العقل الخالص مع نفسه”. الحقيقة أنَّ ديالكتيك هيجل هو لحظة في مذهبه ككل وليس منهجًا صوريًّا للتحليل، يشكل تحليلًا للعقل الخالص وهو في نفس الوقت أداة لتحليله لأنه العقل الخالص نفسه. ومن الناحية العملية، وفي الحقيقة، حول ماركس منهج هيجل – ربما بشكل لاواعٍ - إلى منطق صوري، أدائي، أو طريقة لعرض أفكاره، معتبرًا إياه مجرد منهج للبحث، وطبق هذه الفكرة - إلى حد كبير - في تحليله للرأسمالية. وهو على العموم لم يقدم أيّ عرض نظري واضح لمنهجه، بينما فعل ذلك إنجلز بإيجاز مخل كما سنوضح.
تصور إنجلز الديالكتيك كمنهج يتعامل مع العالم ككلٍ معقد ومتشابك ومتغير حيث تتفاعل أجزاؤه وتتحول من حالة إلى أخرى، ويتسم بالحركة الدائمة في الطبيعة والمجتمع، وصراع المتناقضات. وهذا مما يجعل من الضروري أنْ ندرس الجزء في إطار الكل، ونأخذ في الاعتبار التفاعل والتأثير المتبادل بين الأشياء والظواهر، وأنْ نرى الأشياء وانعكاساتها الذهنية، بصورة أساسية في ترابطها وحركتها وصيرورتها، في نشوئها وزوالها. ولخصه في ثلاثة قوانين (قانون تحول الكم إلى الكيف والعكس بالعكس، قانون تداخل المتناقضات، وقانون نفي النفي([9])) وقد وصفه هكذا: “علم القوانين العامة للحركة وتطور الطبيعة والمجتمع الإنساني والفكر”([10]) كما قدم تعريفًا آخر: “علم الترابطات مقارنة بالميتافيزيقا”([11])، و”علم الديالكتيك”([12]) (التشديد من عندنا). وقد طبق ديالكتيكه على الطبيعة في كتاب مشهور، بطريقة ضرب الأمثلة لا أكثر. كما طبق منهجه على المجتمع مع ربطه بالمادية؛ التصور المادي للتاريخ، أو المادية التاريخية. إذ اعتبر إنجلز أنَّ القوانين الثلاثة قوانين الوجود بأكمله وليست مجرد قوانين للفكر، محولًا منطق هيجل إلى ما يشبه العلم، بدون برهنة كافية على “صحة” تلك القوانين، وبالتالي تكون ميتافيزيقا جديدة وليست علمًا. هنا نستطيع أنْ نجد أنَّ إنجلز قد قسم الديالكتيك إلى قسمين: الأول: قوانين عامة للوجود (تشبه فكرة العقل غير المدرك لذاته عند هيجل)؛ صحيحة، والثاني: طريقة معينة في التفكير؛ منهج صوري أدائي أو بحثي تتفق قوانينه مع العقل الموضوعي أو قوانين الوجود. وهي محاولة لجعل الديالكتيك الهيجلي ماديًّا. لكن الواضح أنَّ الهروب من المثالية الهيجلية لم يتحقق؛ فقد قدم قوانين الجدل لا كرؤيتنا للعالم أو كمجرد صياغة لما نعتبره قوانين العالم القابلة للتغير، بل كقوانين موضوعية تحكم العالم كان علينا اكتشافها فحسب، كما اعتبرها صحيحة بشكل مطلق؛ حقيقة مطلقة. ورغم محاولة إنجلز تحويل جدل هيجل من المثالية إلى المادية أشاد بالمحتوى الثوري للديالكتيك الهيجلي وفلسفته ككل دون الجانب المحافظ، واستفاد منه في وضع طريقة للتحليل تنظر للأشياء في نشوئها وتطورها وتأثرها بمحيطها وفي تفاعل المتناقضات.. إلخ.
وقد اتبع معظم الماركسيين هذا التوجه. فبينما حول ماركس الديالكتيك – عمليًّا - إلى منهج صوري، حوله إنجلز إلى مذهب؛ قوانين الوجود. وكانت تلك هي بداية تحويل الماركسية إلى مذهب مغلق يشمل المادية الجدلية، والمادية التاريخية، والاقتصاد السياسي (تضاف أحيانًا نظرية الثورة الاشتراكية)، حتى جاءت مرحلة النقد وإعادة النظر من قبل كثير من الماركسيين أنفسهم.
2 - التصور المادي للتاريخ:
تتلخص نظرية ماركس المادية التاريخية في عبارته الشهيرة:
“في إنتاج الناس الاجتماعي لحياتهم يدخلون في علاقات محددة، ضرورية ومستقلة عن إرادتهم، وهي علاقات إنتاج تطابق درجة معينة من تطور قواهم الإنتاجية المادية. ويشكل مجموع علاقات الإنتاج هذه البنيان الاقتصادي للمجتمع، أيْ يشكل الأساس الحقيقي الذي يقوم فوقه صرح علوي قانوني وسياسي وتتمشى معه أشكال اجتماعية. فأسلوب إنتاج الحياة المادية هو شرط العملية الاجتماعية والسياسية والعقلية للحياة بوجه عام. ليس وعي الناس بالذي يحدد وجودهم، ولكن وجودهم الاجتماعي هو الذي يحدد وعيهم. فعندما تصل قوى المجتمع الإنتاجية المادية إلى درجة معينة من تطورها تدخل في صراع مع أحوال الإنتاج القائمة، أو بالتعبير القانوني مع أحوال الملكية التي كانت تعمل في ظلها حتى ذلك الوقت. وتتغير هذه الأحوال التي هي قيد على الأشكال التطورية من القوى الإنتاجية”([13]).
وهناك عبارة شبيهة لإنجلز: “لقد اتضح أنَّ كل التاريخ الماضي، باستثناء مراحله البدائية، كان تاريخ صراع الطبقات؛ وإنَّ هذه الطبقات المتصارعة من المجتمع هي دائمًا نتاج أنماط الإنتاج والتبادل. وباختصار، نتاج الظروف الاقتصادية لعصرها؛ فالبناء الاقتصادي للمجتمع يشكل دائمًا الأساس الحقيقي الذي يمكننا على أساسه وضع التفسير النهائي للبنية الفوقية ككل للمؤسسات السياسية والقانونية، فضلا عن الدينية والفلسفية، وغيرها، لكل مرحلة تاريخيه معينة”([14]).
وهذه العبارة وتلك قد استخدمتا كأساس ومنبع لفكرة المادية الميكانيكية (تعتبر الاقتصاد هو المحرك الوحيد للتاريخ وتفسر كل التحولات والأحداث به)، التي سادت بين كثير من الماركسيين، حتى في حياة ماركس نفسه. لكن هناك توكيدات كثيرة من قبل ماركس وإنجلز على دور البناء الفوقي، الفكري والقانوني والسياسي، في عمل البناء التحتي، أيْ الاقتصاد، وأنَّ العامل الاقتصادي ليس العامل الوحيد في حركة التاريخ. بل تبرأ ماركس نفسه من تلك الماركسية المادية الفجة، وسخر إنجلز مرارًا ممن يصرون على التفسير الاقتصادي لكل الوقائع والأحداث. فالعلاقة بين البنيتين هي علاقة تفاعل، ولا يوجد تعاقب زمني بينهما، رغم أنَّ البنية التحتية هي المرجع النهائي؛ “في آخر المطاف” بتعبير إنجلز، والظروف السياسية وغيرها، والتقاليد التي تعشش في رؤوس الناس تلعب هي أيضًا دورًا معينًا، وإنْ لم يكن الدور الحاسم([15]). ونفس الشيء ينطبق على علاقة قوى وعلاقات الإنتاج. وهذه العبارة لإنجلز تحسم الأمر كله بوضوح:
“إنَّ التطور السياسي والحقوقي والفلسفي والديني والأدبي والفني.. إلخ يرتكز على التطور الاقتصادي، ولكنها جميعًا تؤثر كذلك في بعضها وفي البناء التحتي الاقتصادي، ولكنه ليس من الصحيح إطلاقًا أنَّ الوضع الاقتصادي وحده هو السبب، ولكنه هو وحده دون غيره الفعال بينما الباقي كله لا يعدو أنْ يكون نتيجة منفعلة... كلا، فهنا يوجد تفاعل على أساس الضرورة الاقتصادية التي تشق لنفسها دائمًا طريقًا في آخر المطاف”([16]). وهذه المادية تُسمى "جدلية" بخلاف المادية الميكانيكية المشار إليها أعلاه.
ولطالما أبرز وأكد ماركس وإنجلز ومن تلاهم من المفكرين الماركسيين، مثل كاوتسكي وبليخانوف، على هذا المعنى للتصور المادي للتاريخ، وقد أسهبوا في شرحه([17]). وقد ذهبوا إلى أنَّ كون العامل الاقتصادي هو المحرك الأول للتاريخ وأنَّ انقسام الناس إلى طبقات هو أعمق من انقسامهم على أسس أخرى هو الميل العام فقط؛ إذ قد يحدث شيء مغاير. فقد يكون انقسام الناس على أسس دينية أو عرقية أقوى في فترات معينة كما بينت أحداث التاريخ. والمادية الميكانيكية أو التفسير الاقتصادي للتاريخ يعني ببساطة أنَّ العامل الاقتصادي هو دائمًا العامل الحاسم في كل لحظة، لكن هذه المادية الاقتصادية مرفوضة من قبل مؤسسي الماركسية. فالانقسام الطبقي هو الأعمق في المدى الطويل، في الخلفية البعيدة أو العميقة للأحداث وليس في كل لحظة من حياة المجتمع. فقد يلعب الانقسام الديني دورًا غير قليل في حركة التاريخ في فترة ما، لكن مصدر هذا الانقسام نفسه يعود تاريخيًّا وفي النهاية إلى عامل اقتصادي – اجتماعي، من خلال توسطات متباينة، كما أنَّ التغيرات العميقة في النظام الاجتماعي تتحدد وفقًا للعامل الاقتصادي. وتوضح هذه الفقرة رأيَ ماركس بوضوح في الأمر: “إنَّ البنية الاقتصادية للمجتمع هي الأساس الفعلي الذي ترتكز عليه البنية الفوقية الحقوقية والسياسية، والذي تتوافق معه الأشكال الاجتماعية للفكر. فنمط الإنتاج يحدد طبيعة الحياة الاجتماعية والسياسية والثقافية عمومًا. وكل هذا ينطبق على حياتنا المعاصرة، حيث تسود المصالح المادية، لكنه لا ينطبق على العصور الوسطى، حيث سادت الكاثوليكية، ولا على أثينا وروما حيث سادت السياسة... من الواضح تمامًا أنَّه لا العصور الوسطى كانت تعيش على الكاثوليكية ولا العالم القديم كان يعيش على السياسة. بل بالعكس؛ إنَّ نمط اكتسابهم للرزق هو الذي يفسر لماذا كانت السياسة هنا والكاثوليكية هناك تلعب الدور الرئيسي”([18]).
كذلك أكد ماركس وإنجلز مرارًا على أنهما لم يضعا مخططًا عامًا للتاريخ، لكن التلاميذ الأرثوذكس صنعوا مثل هذا المخطط، بل ذهب ستالين إلى ابتكار نظرية المراحل الخمس لتطور المجتمعات([19]). ويكفي أنْ نقرأ هذه العبارة لماركس حتى نفهم موقفه بوضوح: “لو أنَّ روسيا قد اتجهت للتحول إلى أمة رأسمالية على غرار بلدان أوروبا الغربية، وهي قد واجهت الكثير من المشاكل خلال السنوات الأخيرة في هذا التوجه، فهي لن تنجح بدون أنْ يتحول أولًا جزءٌ مهم من فلاحيها إلى بروليتاريا، ثم بعد أنْ ترقد في حضن النظام الرأسمالي، فسوف تعاني بشاعاته مثلما حدث لكل الشعوب التي وقعت في هذا الدنس. هذه هي الخلاصة. لكن هذا لا يكفي ناقدي، فهو يشعر أنه مضطر إلى تحوير مخططي حول نشوء الرأسمالية في غرب أوروبا إلى نظرية تاريخية – فلسفية للمسار العام المحتم لكل الشعوب، بغض النظر عن الظروف الخاصة التي تجد نفسها فيها، في سبيل أنْ تصل في نهاية الأمر إلى شكل من الاقتصاد يضمن، بجانب التوسع الكبير لقوى الإنتاج للعمل الاجتماعي، التقدم الأكمل للبشر”([20]).
ومن المهم أنْ نشير هنا إلى موقف ماركس وإنجلز من الدولة.
لخص إنجلز تفسير نشوء الدولة كالآتي:
“الدولة ليست بأيّ حال قوة مفروضة على المجتمع من خارجه؛ كما أنها ليست كذلك ’واقع الفكرة الأخلاقية’، ’صورة وواقع العقل’ كما يدعي هيجل. بل إنها نتاج المجتمع عند درجة معينة من تطوره؛ الدولة هي إفصاح عن كون هذا المجتمع قد وقع في تناقض مع ذاته لا يمكنه حله، عن أنَّه قد انقسم إلى متضادات مستعصية يعجز عن الخلاص منها، وحتى لا تقوم هذه المتضادات؛ هذه الطبقات ذات المصالح الاقتصادية المتناقضة، باستهلاك بعضها البعض والمجتمع في نضال عقيم، فإنَّ ظهور قوة تقف ظاهريًّا فوق المجتمع، صارت ضرورية لكيْ تلطف التناقض وتبقيه ضمن حدود ’النظام’. إنَّ هذه القوة المنبثقة عن المجتمع والتي تضع نفسها، مع ذلك، فوقه وتنفصل عنه أكثر فأكثر هي الدولة”([21]).
كما رأى ماركس أنَّ “الدولة ليست إلا جهازًا لقمع طبقة أخرى، وهذا ما يصدق على الجمهورية الديمقراطية بدرجة لا تقل إطلاقًا عن صدقه على الملكية”([22])، وقد وصف الدولة بأنها زائدة طفيلية تقتات على حساب المجتمع وتعيق تقدمه الحر. وبما أنَّ الدولة البورجوازية هي جهاز قمع للطبقات الأخرى، فإنَّ تكوينها كجهاز يلائم طبيعة مهمتها، فلا يكفي استيلاء البروليتاريا عليها، بل إنَّ عليها تحطيمها وإقامة دولتها. هذا ما استخلصه ماركس بعد تجربة كوميونة باريس. ويميز ماركس بين جهاز الدولة وأدوات الاستعباد الروحي، والكل أدوات في يد الطبقات المسيطرة.
أما بالنسبة لوضع الدولة بعد الثورة الاشتراكية، فالموقف الأصلي تلخص في ما جاء في البيان الشيوعي في 1848: “فالبروليتاريا ستستخدم سلطتها السياسية لتنتزع من البورجوازية تدريجيًّا، رأس المال كله، ولـتمركز أدوات الإنتاج كلها في أيدي الدولة، أيْ في أيدي البروليتاريا المنظمة في طبقة سائدة، ولتزيد حجم القوى المنتجة بأقصى سرعة ممكنة”. ولم يحدد البيان شكل هذه الدولة؛ فالبورجوازية هي الأخرى منظمة في طبقة سائدة ودولتها هي آلة بيروقراطية - عسكرية قمعية.
وفي نقد برنامج جوتا ورد: “إنَّ الحرية هي في تحويل الدولة من جهاز فوق المجتمع إلى جهاز خاضع بالكامل لهذا المجتمع”.
بدون أيّ إشارة لتحطيم هذا الجهاز.
لكن بعد خبرة كوميونة باريس التي حطمت جهاز الدولة بالفعل تغير موقف ماركس وإنجلز؛ فراح ماركس يمتدح الكوميونة:
ففي 12 أبريل 1871، أيْ في أيام الكوميونة بالذات، كتب ماركس إلى كوجلمان يقول:
“إذا ما تصفحت الفصل الأخير من كتابي 18 برومير ستجد أنَّ المحاولة التالية للثورة الفرنسية لن تكون، كما كان الحال قبلًا، نقل الجهاز البيروقراطي العسكري من يد إلى أخرى، ولكن تدمير هذا الجهاز (التشديد لماركس) وهذا هو الشرط الأول لأيِّ ثورة شعبية حقًّا على القارة. وهذا هو ما يحاول رفاقنا الأبطال في باريس أنْ يفعلوه”. ويقول نص ماركس في 18 برومير: قامت كل الثورات بتعزيز هذه الآلة بدلًا من تحطيمها”([23]). ثم كتب في “الحرب الأهلية في فرنسا”: “وكان لوحدة الأمة أنْ تصبح حقيقة بتدمير سلطة الدولة التي كانت تدعي بأنها تجسيد لتلك الوحدة، ولكنها كانت ترغب في أنْ تكون مستقلة عن الأمة، متعالية عليها. أما في الواقع فلم تكن سلطة الدولة هذه إلا بمثابة زائدة طفيلية على جسم الأمة”– “وهكذا فإنَّ هذه الكوميونة الجديدة التي تحطم سلطة الدولة الحديثة اعتبرت بمثابة بعث لكوميونات العصور الوسطى التي سبقت نشوء سلطة الدولة تلك وكونت أساسًا لها” - “كان أول مرسوم أصدرته الكوميونة يقضي بإلغاء الجيش الدائم والاستعاضة عنه بالشعب المسلح” – “والشرطة التي كانت قبل ذلك أداة في أيدي الحكومة المركزية جردت فورًا من كافة وظائفها السياسية وحولت إلى هيئة للكوميونة مسؤولة يمكن تبديلها في أيِّ وقت كان”.
كما أشار ماركس وإنجلز في مقدمة البيان الشيوعي في 1872 إلى أنَّ برنامج البيان قد شاخ في بعض تفاصيله، مضيفين جملة من كتاب: “الحرب الأهلية في فرنسا”: “لقد أثبتت الكوميونة شيئًا واحدًا بالتحديد، وهو أنَّ الطبقة العاملة لا تستطيع ببساطة أنْ تستولي على آلة الدولة الجاهزة وتستخدمها في تحقيق أهدافها الخاصة”.
ويمكن فهم هذه الجملة على أكثر من معنى: ضرورة تحطيم جهاز الدولة فقط، أو إبداله بجهاز دولة مختلف. والأهم أنه لم يضف هذا النص في متن البيان رغم طباعته مرارًا بعد ذلك. كذلك نستغرب، إذا كان فعلًا ماركس وإنجلز قد قررا الموافقة على الأطروحة الأناركية؛ أيْ ما فعلته الكوميونة، فلماذا لا يقال هكذا صراحة: إلغاء الدولة فورًا؟
كما فعل إنجلز نفس الشيء، زاعمًا أنَّ الكوميونة قد أقامت ديكتاتورية البروليتاريا: “هل تريدون أيها السادة الأعزاء أنْ تعرفوا كيف تكون هذه الديكتاتورية (ديكتاتورية البروليتاريا) فلتلقوا نظرة على كوميونة باريس... لقد كانت هذه هي ديكتاتورية البروليتاريا([24])”.
بعد ذلك نجد تراجعًا عن تحبيذ فكرة هدم جهاز الدولة كليًّا:
“تقع بين المجتمع الرأسمالي والمجتمع الشيوعي، مرحلة التحول الثوري من الأول إلى الآخر. وتناسبها مرحلة انتقال سياسي لا يمكن أنْ تكون الدولة فيها سوى الديكتاتورية الثورية للبروليتاريا”([25]). فمرة أخرى يعود ذكر لفظ “الدولة”، بطريقة عام 1848.
كما قال إنجلز:
“إنَّ الدولة الشعبية الحرة قد تحولت إلى دولة حرة. وإذا تكلمنا بالمعنى النحوي، سنقول إنَّ الدولة الحرة هي دولة حرة إزاء مواطنيها، دولة ذات حكومة استبدادية. ولذا ينبغي التوقف عن كل هذه الثرثرة حول الدولة، ولاسيما بعد الكوميونة التي توقفت عن أنْ تكون دولة بالمعنى الأصلي للكلمة. إنَّ فكرة الدولة الشعبية طالما عرضتنا لأشد الانتقادات من جانب الأناركيين، رغم أنَّ موضوعة ماركس ضد برودون ثم ‘البيان الشيوعي‘ قد أوضحا صراحة أنَّ الدولة ستنحل من تلقاء نفسها وتزول عند إقامة النظام الاشتراكي. وبما أنَّ الدولة ليست سوى مؤسسة مؤقتة تستخدم في النضال، في الثورة من أجل تحطيم الأعداء بالقوة، يكون الكلام عن دولة شعبية حرة مجرد لغو فراغ. وطالما ظلت البروليتاريا تحتاج إلى الدولة، فإنها لا تحتاج إليها من أجل الحرية، بل لقمع أعدائها، وما أنْ يصبح بالإمكان التحدث عن الحرية حتى تزول الدولة بوصفها دولة. ولذا نقترح استبدال كلمة ‘المشاعة‘ Gemeinwesen في كل مكان بكلمة ‘الدولة‘، وهي كلمة ألمانية قديمة ملائمة يمكنها أنْ تقابل كلمة Commune ‘كومين‘ الفرنسية”([26]).
وإنجلز هنا يكتفي بأنْ يعدنا بزوال الدولة بعد تحقيق الاشتراكية، ويفضل استخدام كلمة كوميونة بدلًا منها. هكذا علينا أنْ نعتمد على وعده ونكتفي بتبديل اللفظ.
ثم في 1891 قال إنجلز في مقدمته لكتاب “الحرب الأهلية في فرنسا“ عام 1891:
“والدولة في أحسن الأحوال هي شر ترثه البروليتاريا بعد كفاحها الظافر من أجل السيطرة الطبقية؛ والبروليتاريا المنتصرة، مثلها مثل الكوميونة، لا تستطيع إلا أنْ تبتر أسوأ جوانب هذا الشر في أقرب لحظة ممكنة، حتى يحين ذلك الوقت الذي يستطيع فيه جيل ترعرع في ظل ظروف اجتماعية جديدة حرة أنْ يلقي بزبالة الدولة بأكملها فوق كوم النفايات”(التشديد من عندنا).
وهذه عودة واضحة لـ 1848. فالكلام يدور على دولة لكن من نوع يختلف عن دولة البورجوازية.
أما الشرح الذي استنجد به لينين، من كتاب “ضد درنج” فهو: “تستولي البروليتاريا على السلطة السياسية وتحول وسائل الإنتاج من أول لحظة إلى ملكية الدولة. لكن وهي تفعل ذلك تقضي على نفسها كبروليتاريا، وتقضي على الفروق الطبقية والتناقضات الطبقية، كما تقضي على الدولة بوصفها دولة”([27]). ثم راح يتكلم (إنجلز ثم لينين) عن اتجاه تلك الدولة إلى التلاشي.
هذا الموقف تجاه فكرة حل الدولة كانت موضوعًا للصراع النظري الحاد بين الماركسيين والأناركيين (الفوضويين). وقد افتقد الموقف الماركسي بوضوح إلى أيّ تصور عن إمكانية أنْ تتحول دولة البروليتاريا إلى بيروقراطية متسلطة حتى على البروليتاريا نفسها، وهو ما تصوره الأناركيون. وهل من دولة عبارة عن جهاز مسلح للقمع يمكن أنْ يتلاشى دون أنْ يحاول الاستمرار كقوة مستقلة عن المجتمع! وهنا نتذكر ما يعرف بـ نبوءة باكونين، قبل ظهور الاتحاد السوفيتي بعقود (1873): "دعنا نتساءل؛ إذا ما أصبحت البروليتاريا طبقة حاكمة، فعلى من ستمارس سلطتها؟ باختصار ستظل هناك بروليتاريا أخرى تكون خاضعة للحكم الجديد، لتلك الدولة الجديدة"([28]). يعني أنَّ قادتها سيحلون مكان الطبقة الحاكمة التي حاربوا ضدها.
الحتمية التاريخية:
هذا الموضوع كان دائمًا مثيرًا للجدل بين الماركسيين، وبينهم وبين مخالفيهم. وفي رأينا أنه طرح ملتبس لدي مؤسسي الماركسية.
وهذه الفكرة تختلف عن الحتمية الطبيعية، فقوانين التاريخ لدى ماركس وإنجلز هي ميول أكثر منها قوانين، تختلف عن قوانين الفيزياء. ولا يتحرك التاريخ وفقًا لقوانين فيزيائية، بل بالتفاعل بين الحرية والضرورة، أو “قوانين” التاريخ والاختيار البشري. ومن هنا يأتي الالتباس؛ فالمشكلة تكمن في التوفيق بين قوانين التاريخ والاختيار البشري.
ونجد في كتابات ماركس وإنجلز ما يفيد باعتقادهما بمبدأ الحتمية التاريخية. فالفكرة القائلة بأنه في إنتاج الناس الاجتماعي لحياتهم يدخلون في علاقات محددة، ضرورية ومستقلة عن إرادتهم، تتضمن الحتمية التاريخية، على أساس محصلة إرادات الأفراد التي تتحدد حتمًا تحت ضغط العامل الاقتصادي، وهو ما تضمنته الأدبيات الماركسية مرارًا. ومما قاله إنجلز بهذا الخصوص: “ولذلك كان من الضروري تناول أسلوب الإنتاج الرأسمالي وروابطه التاريخية، وفي حتمية ظهوره في مرحلة تاريخية محددة، ومن ثم، كذلك تناول حتمية انهياره”([29]) (التشديد من عندنا). وهناك إشارات كثيرة في أعمال ماركس وإنجلز عن الدور التاريخي للبورجوازية، وللبروليتاريا بعد ذلك، وعن العلاقة المحددة بين قوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج، منها العبارة الشهيرة حول الطاحونة الهوائية والآلة البخارية: “الطاحونة الهوائية تعطيك مجتمعًا يحكمه السيد الاقطاعي، والطاحونة البخارية تعطيك مجتمع الرأسمالية الصناعية”([30])، والعبارة التي جاءت بعدها بكثير: “من بين كل وسائل الإنتاج، فإنَّ أعظم قوى إنتاج هي الطبقة الثورية نفسها”([31]). لكن نفى دائمًا ماركس وإنجلز وكثير من تلاميذهما المخلصين صفة القدرية عن حركة التاريخ، كما لم ينفوا دور الصدف ودور الفرد، متبعين فكرة هيجل: الضرورة تظهر نفسها في الصدف. والمفهوم من هذا أنَّ الحتمية التاريخية تتعلق بالتحولات العامة وليس بكل لحظة في التاريخ المليء بالصدف. لكنْ فهم معظم التلاميذ أنَّ قوانين التاريخ تشبه قوانين الفيزياء، ومن ثم تمسكوا بأن الماركسية علم حقيقي وليست رؤية.
والمفهوم من عموم كتابات ماركس وإنجلزَ أنَّ الاشتراكية هي مصير البشرية كحتمية تاريخية.
ومع ذلك هناك ماركسيون ينكرون مبدأ الحتمية التاريخية وطرح ماركس له، ويدعي بعضهم – عكس الحقيقة - أنه لم يذكر هذا المصطلح صراحة، ولذلك سنولي الأمر اهتمامًا خاصًّا.
تتضمن نظرية “الاشتراكية العلمية” هذه الحتمية. وهذه الفكرة الجوهرية في الماركسية يُقصد منها شيء مهم؛ أنَّ الماركسية هي علم وحقيقة وليست مجرد وجهة نظر. ومن الأفكار الراسخة أنَّ هذه هي نظرية البروليتاريا، لكنها هي الحقيقة، لأنَّ البروليتاريا تحمل مهمة تاريخية، هي تحرير العالم في سياق تحريرها لنفسها. وقد كتب ماركس وإنجلز مبكرًا: “ليست الشيوعية بالنسبة لنا حالة يجب خلقها؛ مثلًا أعلى على الواقع أنْ يتماثل معه، بل إننا نطلق كلمة الشيوعية على الحركة الواقعية التي تنقض الأوضاع القائمة، وإنَّ شروط هذه الحركة تنتج من الحالة القائمة فعلا”. والمفهوم أنَّ الشيوعية هي مآل الواقع الحالي وليست مشروعًا مفروضًا. أليست هذه مقدمة لفكرة الحتمية التاريخية؟ وينتقل بنا ماركس نقلة أكثر صراحة بعد ذلك: “إنَّ البورجوازية تُنتج، قبل كل شيء، حفّاري قبرها. فانهيارها وانتصار البروليتاريا، أمران حتميّان بنفس القدر”([32]) (التشديد من عندنا)، ثم: “في مرحلة معينة من التطور، تدخل قوى الإنتاج المادية للمجتمع في تناقض مع علاقات الإنتاج القائمة... وتتحول علاقات الإنتاج تلك من الصيغة الملائمة لتطور قوى الإنتاج إلى قيد عليها. ومن ثم تبدأ حقبة ثورة اجتماعية”... ”إنَّ نمط الإنتاج البورجوازي هو آخر صورة تناحرية لعملية الإنتاج الاجتماعية”([33]). وفي رسالة إلى زاسوليتش استخدم لفظ الحتمية التاريخية، فعن نشوء طريقة الإنتاج الرأسمالي قال: “لقد أوضحت أنَّ الحتمية التاريخية لهذه العملية تقتصر فقط على بلدان غرب أوروبا”([34]) (التشديد من عندنا). وفي إحدى رسائله: “صراع الطبقات يفضي بالضرورة إلى دكتاتورية البروليتاريا”([35]). وفي إشاراته القليلة عن طبيعة ودور الحزب الثوري مال ماركس إلى تغليب دور الاقتصاد والعفوية العمالية في الثورة، بما يوحي أنَّ وعي البروليتاريا ونضالها أمر حتمي (سنعود لهذا بعد). وكذلك عند كاوتسكي([36])، وتروتسكي([37]) بعد ذلك. وقد انتقد إنجلز هذا بوضوح في وقت متأخر: “يقع اللوم على ماركس وأنا جزئيًّا لتأكيد الشباب أحيانًا على الجانب الاقتصادي أكثر مما يستحق. لقد كان علينا أنْ نؤكد مبدأنا الأساسي في مواجهة خصومنا الذين أنكروه، ولم يكن لدينا دائمًا الوقت ولا المكان ولا الفرصة لإعطاء العوامل الأخرى التي تدخل في التفاعل حقها من الاهتمام”([38]). والحقيقة أنَّ المسألة لم تكن مجرد نقص الوقت الكافي، بل يجدر بنا أنْ نتذكر نفي ماركس لوجود تاريخ للأيديولوجيا كما أشرنا من قبل: "إنَّ الأخلاق والدين والميتافيزيقا وكل بقية مكونات الأيديولوجيا، وأشكال الوعي المقابلة لها، لم تعد تتمتع بمظاهر الاستقلال. إنها لا تاريخ لها، ولا تطور، لكن الناس إذ يطورون إنتاجهم المادي وعلاقاتهم المادية، يبدلون بالتوازي مع وجودهم الفعلي طريقة تفكيرهم ومنتجات هذا التفكير؛ فالوعي لا يحدد الواقع، بل الواقع هو الذي يحدد الوعي"([39]). وغياب تاريخ للأيديولوجيا يساوي بالضبط أنها تنتج ويعاد إنتاجها بتأثير الواقع المادي، أيْ أنها إنتاجه المباشر في كل لحظة؛ المتغير التابع طول الوقت، لا تؤثر فيه قط.
لكن أكد ماركس وإنجلز مرارًا على أهمية الصراع الطبقي ووعي العمال حتى يتحقق المشروع الاشتراكي. من ذلك الموضوعة الثالثة من أطروحات ماركس حول فويرباخ: “إنَّ النظرية المادية التي تقر بأنَّ الناس هم نتاج الظروف والتربية، وبالتالي بأنَّ الناس الذين تغيروا هم نتاج ظروف أخرى وتربية متغيرة؛ هذه النظرية تنسى أنَّ الناس هم الذين يغيرون الظروف وأنَّ المربي هو نفسه بحاجة للتربية. ولهذا فهي تصل بالضرورة إلى تقسيم المجتمع قسمين أحدهما فوق المجتمع (عند روبرت أوين مثلًا(. إنَّ اتفاق تبدل الظروف والنشاط الإنساني لا يمكن بحثه وفهمه فهمًا عقلانيًّا إلا بوصفه عملًا ثوريًّا”. المفهوم من مجمل كلام ماركس وإنجلز أنَّ الرأسمالية هي آخر أشكال الاستغلال، وأنه لو وعت البروليتاريا بطبيعة هذا النظام وبطبيعة دورها التاريخي في تحرير البشر، ومارست الصراع الطبقي، فسوف تكون النتيجة هي تحقيق الشيوعية. وتنبأ كلاهما بهذه النتيجة بالفعل. إذن لا تتحول الرأسمالية إلى الاشتراكية لدى ماركس وإنجلز تلقائيّا، رغم ضرورة ذلك تاريخيًّا – حسب رؤيتهما - بل لابد أنْ تقوم البروليتاريا الواعية والمنظمة بثورة تطيح بالرأسمالية، حين تعي ذاتها([40]) وتدرك أنَّ دورها التاريخي قد جاء وقته (أضاف كاوتسكي - في مقال ما - أنها ستكون مضطرة إلى القيام بهذه المهمة).
الواضح أنَّ هناك غموضًا حول مفهوم الحتمية التاريخية، وقد قدمت أدبيات الماركسيين المعترضين على هذا المفهوم بعض الكلام العاطفي غير المفهوم عن الاختيار بين الاشتراكية أو البربرية، واعتبار الاشتراكية هي المخرج الوحيد من مصير البربرية ومن مآسي الرأسمالية. كما استخدم البعض مفهوم الحتمية النسبية أو الاحتمالية([41]) باعتباره المقصود بالحتمية التاريخية الماركسية. وهو مفهوم يجمع بين “قوانين” التاريخ وضرورة الوعي بها والنضال من أجل الاشتراكية. والمفهوم أنَّ الحتمية الماركسية تاريخية وليست فيزيائية (بل حتى الفيزياء الحديثة ليست ميكانيكية)، أيْ مجرد ميل وليست قانونًا صارمًا. لكن الواضح في الأدبيات الماركسية هو توقع مؤكد بمآل العالم وهو الاشتراكية.
وقد طال انتظار مؤيدي الحتمية الاقتصادية أو التاريخية دون أنْ تصل الرأسمالية إلى طريق مسدود، ولم تتحقق أيٌّ من تنبؤاتهم؛ فلم تنتصر الاشتراكية انتصارًا نهائيًّا ولم تظهر البربرية بالمعنى الحرفي للكلمة، إلا إذا اعتبرنا الاشتراكية كما طُبقت هي أحد أشكالها. بل نحن نرى أنَّ مجمل تاريخ البشرية هو تاريخ للبربرية. فهل شهد العالم فترة ما دون صراعات وحشية واستغلال بشع وقمع تقوم به جماعة بشرية ضد جماعات أخرى؟
أخيرًا نقول إنَّه إذا لم تكن هناك فكرة الحتمية التاريخية، فما الداعي لكل هذا الديالكتيك والمادية التاريخية وقوانين التاريخ؛ العلاقة بين قوى وعلاقات الإنتاج، والبناء التحتي والفوقي.. إلخ؟ ففي هذه الحالة يصبح المشروع الاشتراكي ببساطته النظرية كافيًا تمامًا كمجرد دعوة إنسانية. وفي نظرنا يأتي اللبس بسبب تمييز الماركسية بين الحتمية التاريخية والحتمية الفيزيائية. فالأولى هي ميل تاريخي قد يمنع تحققه كارثة طبيعية مثلًا، أو حرب إبادة متبادلة بين الدول أو الطبقات كما جاء في البيان الشيوعي، على نقيض الحتمية الفيزيائية. ويجد هذا المفهوم أصله في فكرة المادية التاريخية الجدلية، النافية للمادية الميكانيكية. وقد ضرب ماركس مثالًا رائعًا بروما القديمة، حيث توفرت لها عوامل التحول إلى الرأسمالية، لكن ما حدث في الواقع هو تفكك اقتصادها، “فالمرء لا يمكنه أنْ يصل إلى هناك بجواز مرور لنظرية تاريخية – فلسفية تفسر كل شيء، تتكون من مكون فوق تاريخي”([42]).
وفي الواقع درج ماركس وإنجلز في كتاباتهم على استخدام مفهوم الضرورة التاريخية وليس الحتمية التاريخية، باعتبار الضرورة تتضمن كلًّا من العنصر الموضوعي، وهو تناقضات الرأسمالية، والعنصر الذاتي، وهو وعي العمال. وهذا يعني لنا أنَّ لديهما لبس حول مسألة الحتمية التاريخية، فهناك ما يدل على تبنيها وما يدل على العكس.
وقد برهنت الماركسية على ضرورة (أو حتمية!) الاشتراكية كالآتي:
- إنَّ هناك تناقضًا متفاقمًا داخل الرأسمالية، هو التناقض بين الطابع الاشتراكي لعملية الإنتاج والملكية الفردية لوسائل الإنتاج، وهكذا شرح ماركس هذه العملية: “إنَّ الملكية الرأسمالية، المرتكزة فعليًّا على الإنتاج الجماعي، لا تستطيع إلا أنْ تحول نفسها إلى ملكية اجتماعية”([43])، “إنَّ نمط التملك، الناتج عن نمط الإنتاج الرأسمالي، يخلق ملكية رأسمالية خاصة. وهذا هو النفي الأول للملكية الفردية الخاصة المرتكزة على عمل المالك. لكن الإنتاج الرأسمالي يخلق بقوة قانون الطبيعة الصارم نفيه الخاص. إنه نفي النفي. وهذا لا يعيد خلق الملكية الخاصة للمنتج، بل يمنحه ملكية فردية مرتكزة على ما تم اكتسابه في المرحلة الرأسمالية؛ أيْ التعاون والحيازة الجماعية للأرض ووسائل الإنتاج. إنَّ تحويل الملكيات الخاصة المبعثرة، نتاج العمل الفردي إلى ملكية خاصة رأسمالية، هي بالطبع عملية ممتدة، عنيفة، صعبة لا تقارنها عملية تحويل الملكية الخاصة الرأسمالية المعتمدة على الإنتاج المشرك إلى ملكية اشتراكية. ففي الحالة الأولى تم انتزاع ملكية جماهير الشعب بواسطة قلة من المغتصبين، لكن في الحالة الثانية يتم نزع ملكية القلة من المغتصبين بواسطة جماهير الشعب”([44]). ويوجد أيضًا تناقض بين الطابع المنظم لعملية الإنتاج على مستوى المنشأة وفوضى الإنتاج على مستوى المجتمع. ونظن أنَّ مفهوم ضرورة الاشتراكية مقدم هنا بقانون التاريخ وبمنهج الديالكتيك كذلك، كحل لتناقضات الرأسمالية. وقد أسهب ماركس وإنجلز في شرح هذا التناقض وفي شرح حله عن طريق التحول إلى نمط الإنتاج الاشتراكي.
- التناقض بين مصالح الرأسمالية والبروليتاريا؛ فالإفقار متزايد والثراء أيضًا متزايد([45])، والمقصود هو الإفقار النسبي. كما تصور ماركس أنَّ المجتمع الرأسمالي يزداد استقطابًا باستمرار بتحول البورجوازية الصغيرة أو أغلبها إلى بروليتاريا، ومن ثم يزداد عدد العمال في المجتمع باستمرار، مما يحفز إمكانية انتصارهم (تصور كاوتسكي أيضًا أنَّ كثرة عدد العمال هو سلاحهم الأساسي([46])). فالرأسمالية تنتج حفار قبرها؛ البروليتاريا.
- ومن البراهين الهامة قانون ميل معدل الربح للانخفاض مع الوقت، بفضل زيادة قيمة رأس المال الثابت (المعدات) مقابل الأجور، بغض النظر عن وجود عوامل أخرى عرضية. وقد وضع ماركس عدة نماذج حسابية. فمع التقدم العلمي تزداد قيمة رأس المال المستثمر في معدات الإنتاج بالنسبة للأجور، حيث يكون من الممكن تشغيل قدر أكبر من رأس المال الثابت بنفس عدد ساعات العمل.. الخلاصة أنَّ معدل فائض القيمة (الفرق بين قيمة عمل العامل والأجر الذي يدفع إليه) ينخفض مع تراكم رأس المال وزيادة الإنتاجية، بفضل انخفاض عدد العمال للوحدة من الآلات، وبالتالي ينخفض معدل الربح المنتزع منهم. وبالفعل مع التقدم يستطيع العامل في ساعات عمل أقل أنْ ينتج أكثر ويستخدم آلات أكثر تكلفة، فيزداد التركيب العضوي لرأس المال (= قيمة الآلات بالنسبة لقيمة الأجور لدورة رأس المال). ومع ذلك فقانون ميل معدل الربح للهبوط لا ينفي إمكانية زيادة كمية الربح، وكمية فائض القيمة. فانخفاض معدل الربح يعود إلى انخفاض نسبة رأس المال المتغير (الأجور) إلى رأس المال الثابت([47]).
لكن هناك عوامل أخرى مضادة لميل معدل الربح للانخفاض، ولذلك يكون القانون هو فقط ميل معدل الربح للانخفاض دون كارثة مفاجئة، وهي باختصار([48]):
* رفع معدل استغلال العمال، بزيادة ساعات العمل، وتكثيف العمل، وزيادة إنتاجيته.
* خفض قيمة الأجور لتكون أقل من قيمة قوة العمل.
* خفض قيمة رأس المال الثابت (رأس المال الكلي ناقص بند الأجور) إذا حسبت بساعات العمل، عن طريق رفع الإنتاجية.
* فيض السكان يؤدي لوفرة قوة العمل، وبالتالي يكبح جماح الأجور.
* التوسع في التجارة الخارجية لتوسيع السوق، وبالتالي يصبح من الممكن زيادة حجم وحدة الإنتاج فيمكن تخفيض تكلفة إنتاج البضاعة بالاستفادة من اقتصادية الحجم الكبير. لكن ماركس يعتبر أنَّ هذا يؤدي لارتفاع معدل الربح على المدى القصير، لكن يؤدي لانخفاضه من جديد على المدى الطويل.
وقد أشار ماركس في موضع آخر إلى إمكانية انخفاض قيمة قوة العمل بفضل انخفاض قيمة وسائل المعيشة، مما يؤدي لارتفاع معدل فائض القيمة، ومن ثم معدل الربح([49]).
فالرأسمالي يلجأ إلى رفع معدل الاستغلال، وتخفيض قيمة رأس المال الثابت بالنسبة للمتغير، وتخفيض قيمة قوة العمل، وذلك للتغلب على ميل معدل الربح للانخفاض. كل هذا يشكل عوامل لنمو الصراع الطبقي ووعي البروليتاريا، لكن لم يشر ماركس إلى احتمال حدوث أزمة نهائية للرأسمالية بسبب ميل معدل الربح إلى الانخفاض، ولا تحولها التلقائي إلى الاشتراكية، بل أكد دائمًا على أهمية وعي العمال وكفاحهم للقيام بدورهم التاريخي.
والخلاصة أنَّ نمط الإنتاج الرأسمالي غير مستقر ويحمل في أحشائه عوامل الأزمة، التي لا حل لها – حسب التصور الماركسي - أبدًا سوى الاشتراكية.
3 - الثورة الاشتراكية:
* لم يضع ماركس نظرية متكاملة في الاشتراكية، بل أكد أنَّ مثل هذا العمل هو بمثابة عمل مثالي غير واقعي، وأنَّ كل ما يمكن هو رسم مجرد ملامح أولية للنظام المرتقب. وقد بشر بمرحلتين للنظام القادم: الاشتراكية، حيث تؤمم الملكية الرأسمالية لحساب الدولة، التي ستصبح دولة عمالية، ويعمل كل فرد حسب طاقته ويأخذ حسب عمله، أما المرحلة الثانية؛ الشيوعية، فقد تنبأ أنها عصر ذهبي سيأتي في المستقبل البعيد، حيث تختفي الدولة، وسيكف العمل عن أنْ يكون ضرورة، وحيث كل فرد سيعطي حسب طاقته ويأخذ حسب احتياجاته. ولا يعتبر ماركس الاشتراكية مجرد نظام جديد للملكية، حيث يحصل العامل على نصيب أكبر ولا يكون عبدًا عند الرأسمالي. وليس الهدف هو تحويل ملكية الرأسمالي إلى العمال فحسب. بل إنه نظام يتحرر فيه كل البشر من الاغتراب، حتى الرأسماليين أنفسهم، فيصير الإنتاج موجهًا لإشباع حاجات الناس المادية والروحية، ولا يكون من أجل الربح أو مراكمة الثروة أو حتى زيادة الاستهلاك، بل يكون العمل أشبه بالهواية، يحقق فيه المرء ذاته ويبرز إبداعاته. كما يختفي تقسيم العمل، فيستطيع المرء تغيير عمله وقتما شاء، من مزارع إلى راعٍ إلى فنان.. إلخ. وحيث يختفي السوق (سيحصل كل فرد على ما يحتاجه كما أشرنا) فلا يعود الإنتاج محكومًا بقوانين السوق العمياء، ولا المنافسة، بل لاحتياجات الناس، فيتم الإنتاح بوعي وتخطيط بمشاركة الأفراد، وتختفي صنمية السلع. وباختصار، ستكون الشيوعية عصرًا تخطو فيه الإنسانية أخيرًا خطواتها الأولى في مملكة الحرية، فيبدأ التاريخ الحقيقي للبشر، حيث سيصنعون تاريخهم بوعي، وستقفز البشرية من ملكوت الضرورة إلى ملكوت الحرية.
الملاحظ أنه نعت اشتراكيته بأنها الاشتراكية العلمية مقابل ما أسماه بالاشتراكية الطوبوية. فماركس لم يقدم دعوته إلى الشيوعية من منطلق أخلاقي، “بل أقامها على تقلص نظام الإنتاج الرأسمالي المؤكد”([50]). كذلك أكد إنجلز على هذا المعنى: “الاشتراكية أصبحت المحصلة الضرورية للصراع الطبقي بين طبقتين تكونتا تاريخيًّا”([51])، والمفهوم من “الضرورية” هنا: الضرورة التاريخية؛ التوافق مع قوانين التاريخ، “منذ ظهور نمط الإنتاج الرأسمالي في التاريخ ظلت فكرة سيطرة المجتمع على مجمل وسائل الإنتاج حلمًا راود كثيرًا من الأفراد والجماعات، لكنه بقي مجرد حلم غامض؛ مجرد طموح مستقبلي. لكنه أصبح ممكنًا، بل ضرورة تاريخية فقط حين توفرت شروط تحققه الفعلية. ومثل كل تطور اجتماعي، صار من الممكن عمليًّا، ليس فقط لأنَّ هناك من فهموا أنَّ وجود الطبقات يتناقض مع العدل والمساواة.. إلخ؛ ليس بمجرد الرغبة في إلغاء تلك الطبقات، بل بفضل أوضاع اقتصادية جديدة”([52]) (التشديد من عندنا).
* لابد للبروليتاريا أنْ تحطم جهاز الدولة البورجوازي فور قيامها بالثورة وتقيم دولتها في صورة ديكتاتورية البروليتاريا، وهذا يتطلب العنف، والمقصود العنف الجماهيري لا الإرهاب الفردي. وتحتاج ديكتاتورية البروليتاريا إلى جهاز دولة خاص، لكن جهاز دولة بروليتاري، تكون مهمته تصفية الرأسمالية كطبقة ومؤسساتها جميعًا ثم تضمحل وتتلاشى. ويكون تحطيم جهاز الدولة البورجوازي شرطًا أساسيًّا لنجاح الثورة، حيث إنه بحكم تكوينه الخاص من مؤسسات سلطوية متعالية على المجتمع أهم معاقل الرأسمالية؛ فـ “الطبقة العاملة لا يمكنها ببساطة أنْ تمسك بآلة الدولة الجاهزة وتستخدمها لتحقيق أهدافها الخاصة”([53]). فبداية الثورة البروليتارية هي السياسة؛ الاستيلاء على السلطة السياسية أولًا، لا الاقتصاد كما كانت الثورة البورجوازية. وهنا ينتقدا وبحدة موقف الأناركيين، الذين يريدون إلغاء الدولة فورًا دون إقامة دولة أخرى؛ فيرى ماركس وإنجلز أنَّ الانتقال إلى الشيوعية يحتاج إلى مرحلة انتقالية من ديكتاتورية البروليتاريا. ولكي تنجح ثورة البروليتاريا فإنَّ الظروف الاجتماعية لابد أنْ تكون ملائمة؛ أنْ تصل درجة تقدم قوى الإنتاج أقصى ما يمكن في ظل الرأسمالية، ولذلك انتظرا وتوقعا قيام تلك الثورة في أكثر البلدان الرأسمالية تقدمًا. والثورة البروليتارية ثورة عالمية، فالعمال لا وطن لهم حسب ماركس وإنجلز، وهم يشكلون طبقة عالمية واحدة، ولذلك شاركا في المنظمة الشيوعية العالمية، أو الأممية، الأولى والثانية، لتضم المنظمات العمالية في العالم. فإذا قامت الثورة في بلد واحد يتواصل تعاون عمال العالم سواء في الدولة البروليتارية أو العمال الواقعين تحت نير الرأسمالية، لتستمر حلقات الثورة البروليتارية([54]).
* لم يشرح ماركس وإنجلز بالتفصيل طبيعة الدولة البروليتارية، لكنهما وصفاها بأنها شبه دولة، دولة “تتلاشى” لتفسح الطريق إلى نظام شيوعي بالكامل، حيث يدير الناس شؤونهم بأنفسهم. وقد وصف ماركس كوميونة باريس، مبديًا تعاطفًا كبيرًا مع هذا النوع من الحكومة: إلغاء الجيش الدائم وسلك الموظفين، اختيار مفوضين للشعب (أيْ يمكن سحب الثقة منهم في أيّ وقت) وليس ممثلين له، إقرار الإدارة الذاتية للأقاليم، إختفاء جميع الامتيازات والعلاوات التي كان يتقاضاها كبار موظفي الحكومة مع اختفاء هؤلاء الموظفين. كان يتعين أداء الخدمة العامة لقاء أجرة تساوي أجرة العامل، وكفت الوظائف العامة عن أنْ تكون ملكًا خاصًّا للموظفين الذين تعينهم الحكومة المركزية. وانتقلت إلى أيدي الكوميونة لا الإدارة البلدية فحسب، بل أيضًا كامل المبادرة التي كانت تمارسها الدولة حتى ذلك الحين. وصارت جميع المؤسسات التعليمية مجانية بالنسبة للجميع، ووضعت خارج تأثير الكنيسة والدولة. وفقد الموظفون القضائيون استقلالهم الصوري، وصار عليهم، شأنهم شأن سائر موظفي المجتمع، أنْ يُنتخبوا في المستقبل بصورة مكشوفة، وأنْ يكونوا مسؤولين وعرضة للخلع([55]). يتضمن كل هذا إلغاء مبدأ فصل السلطات. هذه تُسمى أيضًا دولة – كوميونة، وهي أكثر ديموقراطية من الديموقراطية البورجوازية لأنها ديكتاتورية الأغلبية. هذه هي الرؤية الماركسية.
إنَّ ثورة البروليتاريا لا تحرر العمال فقط، بل تحرر المجتمع كله، فتختفي الطبقات في النهاية، وحينذ لا تصبح الدولة ضرورية، فتضمحل مع الوقت([56]).
4 - الاقتصاد السياسي الماركسي:
استعرض ماركس تحليله للرأسمالية في عدد كبير من الكتب، أهمها “رأس المال”، وهو قمة إبداعه النظري.
توجد بذرة الرأسمالية في خلية صغيرة هي السلعة. وهي تتكون من قيمة استعمالية، وقيمة تبادلية، حيث إنها منتجة من أجل السوق. وقد أخذ ماركس بنظرية ريكاردو التي اعتبرت أنَّ قيمة السلعة تتحدد بعدد الساعات المستخدمة في إنتاجها. وباعتبار قوة عمل العامل سلعة، تكون قيمتها محددة بنفس الطريقة. وكانت مأثرة ماركس هي في اكتشافه أنَّ قوة عمل العامل، وليس عمله، هي السلعة التي يبيعها. وهذه السلعة تستطيع إنتاج ساعات عمل أكثر من قيمتها هي بالذات، إذ يحتاج العامل من أجل تجديد قوة عمله إلى استهلاك ما يعادل جزءًا فقط من ساعات عمله، أما الفرق فهو ما يحصل عليه الرأسمالي، ويُسمى “فائض القيمة”. ويحلل ماركس عملية إنتاج فائض القيمة بالتفصيل وتحققه من خلال التبادل، فيصبح ربحًا، ثم تحوله إلى رأسمال في عملية إعادة الإنتاج الموسع أو تراكم رأس المال. وفي التبادل يبدو الأمر كأنه يجري بين أشياء بينما هو يعبر عن علاقة اجتماعية، ويُسمى هذا بـ “صنمية السلعة”. هكذا أوضح ماركس أنَّ الرأسمالية تقوم على استغلال العمال ومراكمة الثروة على حساب جهدهم. وفي هذا النظام ينتج العامل في النهاية رأس المال الذي يقهره، فيكون مغتربًا عن ناتج عمله. ويتحقق تراكم رأس المال من جهة وبؤس العامل من جهة أخرى، وهذا هو التناقض الذي يسم المجتمع الرأسمالي. يضاف أنَّ العامل قد جُرد من ملكيته لصالح الرأسمالي، فقد صارت عملية العمل جماعية، أو اشتراكية، بدلًا من العمل الحرفي القديم، بينما صارت ملكية أدوات الإنتاج في يد قلة. أوضح ماركس أيضًا دور الرأسمالية في تثوير الإنتاج وحفز التقدم العلمي بهدف زيادة أرباحها، وأنَّ هذا كان دورها التاريخي. إلا أنَّ نمط الإنتاج الرأسمالي سيصل إلى مرحلة يصبح عندها أقل قدرة عن تحقيق المزيد من النمو والتقدم ومراكمة رأس المال، حيث يميل معدل الربح إلى الانخفاض، فتصبح الثورة الاجتماعية ضرورية لتغيير علاقات الإنتاج الرأسمالية لاستئناف عملية التطور. فهنا تصبح الرأسمالية مجرد طبقة طفيلية وينتهي دورها التاريخي لتفسح المجال أمام طبقة أخرى. وتكتظ كتابات ماركس الاقتصادية بإبراز آليات عمل رأس المال، من إنتاج فائض القيمة، وتحويله إلى ربح، ثم توزيع الربح إلى ربح للرأسمالي، وإيجار للمالك العقاري، وفائدة بنكية. كذلك آليات عملية التراكم الرأسمالي وجهود الرأسمالية لرفع معدل فائض القيمة بوسائل مختلفة، منها تطوير عملية الإنتاج وغيرها، كما حلل الأزمات الدورية الناتجة عن فوضى الإنتاج التي ينتج عنها فائض سلعي يصعب تصريفه فتحدث الأزمة… في النهاية يكون على البروليتاريا أنْ تحل محل الرأسمالية كطبقة ثورية، محررة نفسها ومعها المجتمع كله من الاستغلال، وحينئذ ستكف عن أنْ تكون بروليتاريا، وكذلك الرأسمالية ستختفي كطبقة، لتزول الطبقية في المجتمع. وهذه هي الاشتراكية.
**********************
ملاحظات نقدية على نظرية ماركس – إنجلز:
1- الديالكتيك ومذهب هيجل:
- ديالكتيك هيجل: تقوم الهيجلية على فكرة أنَّ العالم معقول (دون أيّ تبرير “معقول” لهذه الفكرة نفسها!) أيْ له علة لا تحتاج لتبرير من خارجها، وهو الله نفسه في الفكر الديني. وكان كل هدف فلسفته هو الوصول إلى علة العالم المعقول حسب تصوره. والعقل أو علة العالم في ذاته ليس كائنًا بل عقل محض غير مدرك لذاته، أو “عقل متحجر”، كما وصفه بأنه “قطعة من العظم” (هيجل لا يؤمن بوجود كائن أعلى)، أيْ موضوعي وغير واع، وهو في تحققه يصبح “الروح”، أيْ الكائن البشري؛ الإنسان كنوع. فالعقل يتحول منطقيًّا إلى ضده: الطبيعة، ثم يعود إلى ذاته في “الروح” التي تمثل وحدة العقل الخالص والطبيعة. وفي مرحلة الروح يصير العقل متحققًا؛ عقلًا لذاته، وفي النهاية، في آخر مفهوم في فلسفة هيجل، يصبح مفهوم الفلسفة العقل مدركًا لذاته. فقد اعتبر الوجود ليس إلا الفكر، وما الأشياء الجزئية إلا تمثلات لهذا الفكر، بشكل عرضي غير ضروري منطقيًّا. وكل حركة في العالم ما هي إلا حركة الفكر، فالتاريخ ليس سوى تقدم الفكر، أو تقدم الوعي بالحرية، والإنسان (الروح حسب تسميته) هو الفكرة المطلقة في اتحادها بالطبيعة.
حقق هيجل نقلة في الميتافيزيقا بعد كانط. فالأخير كشف عن مقولات العقل، بينما اعتبر أنَّ ما نعرفه عن العالم هو فقط الذي يتم من خلال التجربة، دون أنْ نصل إلى حقيقة الأشياء، وسمى هذه بـ”الشيء في ذاته”. ما فعله هيجل هو اعتبار مقولات العقل هي نفسها “الشيء في ذاته”، وبذلك لا يعد “في ذاته”؛ فالعقل البشري هو نفسه العقل الموجود في العالم، فالوجود الحقيقي لديه هو فكر. وبفضل هذه الوحدة بين العقلين أصبح من الممكن أنْ نعرف حقيقة الأشياء. ومن المهم هنا أنْ نشير إلى أنَّ مقولات العقل عند كانت هي مجرد أفكار متناثرة لا يربطها رابط، لكن هيجل قرر ربط المقولات في سلسلة متصلة منطقيًّا وعرضها في كتابيه: علم المنطق، وموسوعة العلوم الفلسفية.
وحسب هيجل، الديالكتيك متضمن في المذهب ككل الذي يبدأ بـ علم المنطق؛ وهو ليس منهجًا صوريًّا مثل منطق أرسطو، بل لا يمكن أنْ يتوقف أصلًا إلا في آخر مقولة في فلسفة هيجل؛ فينتقل من الفكرة المطلقة إلى فلسفة الطبيعة، ففلسفة الروح التي تنتهي بمقولة “الفلسفة”؛ فتصير الفلسفة “في بيتها” بتعبير هيجل. وتتضمن عمليات الانتقال المنطقي بين مقولات علم المنطق منهج الديالكتيك. والمقصود أنَّ هيجل – حسب كلامه - لم يبدأ بالمنهج وطبقه لصناعة علم المنطق، بل – وفقًا لمذهبه – راح يقدم علم المنطق مستعرضًا الحركة المنطقية للمقولات. هذه الحركة التي تقوم بها المقولات المنطق نفسها هي الديالكتيك، وبطريقة أخرى نقول إنَّ الديالكتيك هو الطريقة التي تستنبط بها المقولات بعضها من بعض، وما علينا إلا اكتشاف ذلك. فالديالكتيك هو حوار العقل الخالص مع نفسه، ومنهج المنطق هو مضمونه وليس شيئًا مستقلًا عنه. والمقولات تتحرك من الموضوع إلى النفي ثم نفي النفي، من المباشرة إلى التوسط إلى المباشر المتحد بالتوسط، من المجرد إلى مجرد آخر ينفي المجرد الأول إلى العيني (مركبهما)، من الوجود في ذاته إلى الوجود داخل ذاته إلى الوجود لذاته، من الكلي إلى الجزئي إلى الفردي، وهكذا. وهذا الإيقاع الثلاثي هو المنهج الذي تتحرك به مقولات الوجود. ودائمًا تكون اللحظة الأولى في الثلاثية هي لحظة المباشرة، والوجود في ذاته، واللحظة الثانية تكون نقيضها، أما الثالثة فتكون مركبًا منهما. وكل ما يفعله المرء أنْ يكشف عن حركة تلك المقولات من بعضها ابتداءً من “الوجود الخالص”. ولا شيء يختفي من هذه المقولات، بل يتم “تجاوزها” بمعني الرفع والاحتفاظ في نفس الوقت، أيْ الانتقال من لحظة منطقية إلى أخرى تستوعب وتنفي اللحظة الأسبق. الخلاصة أنَّ المنهج متضمن في المنطق وليس مجرد وسيلة لعرضه. هذا هو تصور هيجل عن منهجه ومذهبه. وهو لا يقول بـ “قوانين” للجدل كما فعل إنجلز، بل يتكلم عن مقولات ومفاهيم.
لكن هذا هو ادعاء هيجل نفسه، لكن في الواقع هو لم يكشف عن استنباط ولم يستنبط أيّ مقولات، وكل ما فعله هو تجريد العالم في مقولات ثم نسَّقها بطريقة معينة. وقد استخدم الديالكتيك كمجرد طريقة لعرض فلسفته. فقد قرر منذ البدء أنْ يعرض مقولات الوجود بهذه الطريقة؛ فلا يوجد معنى للقول بأنَّ المقولات تستنبط نفسها، خاصة أنه لم يستنبط شيئًا بشكل مقنع. كما لم تكن استنتاجاته لكل مقولة من التي سبقتها مقنعة أبدًا، مما اضطره للاستطراد وضرب أمثلة من الواقع المادي والذي يعتبره وجودًا غير حقيقي. وقد استخدم لغة صوفية لعرض أفكاره وخالف حتى قواعد المنطق العادي في الاستنباط (الاستنباط يتطلب قضيتين ثم حكمًا وهو ما لم يقدمه). كذلك لجأ إلى استخدام مقولات أكثر عينية؛ أيْ قبل أنْ يستنبطها، لشرح مقولات أكثر تجريدًا، مثل استخدام مقولة “التعين” Determination في أول سطر في متن كتابه “علم المنطق” وهو يعرِّف الوجود المجرد، بينما أتى شرح مقولة التعين في الفصل الثاني من الكتاب! بذلك كان منهجه كما استخدمه فعلًا مجرد طريقة لعرض مقولات العالم التي تم الوصول إليها في الحقيقة بالاستقراء. هذا طبعًا رأينا الخاص، والكثيرون قالوا بنفس الرأي. هذا الرأي يبرر استخدام جدل هيجل لعرض مقولات جزئية مثل مقولات رأس المال، رغم أنه ادعى أنه منهج الفلسفة فقط لعرض المقولات الكلية؛ المستنبطة عقليًّا، زعمًا.
كانت فلسفة هيجل – في تصورنا - هي أقصى محاولة للوصول بالميتافيزيقا إلى منتهاها، وقد حقق ذلك بالفعل، ولكن في اللحظة نفسها أثبتت الميتافيزيقا عجزها النهائي. فالمحاولة الجبارة للكشف عن حقيقة العالم العميقة قد فشلت بوضوح. وحين نقرأ هيجل نصاب بالدوار من الجهد الهائل الذي بذله للكشف عن الحقيقة النهائية، وفي نفس الوقت لا نجد أنه قد نجح في إقناعنا بهذه المذهب. فهو يزعم أنه قد استنبط العالم من مقولة وحيدة بسيطة: الوجود الخالص، ثم سار من مقولة لأخرى زاعمًا أنه يستنبط استنباطًا عقليًّا بحتًا، فإذا به يضطر إزاء استحالة ذلك إلى اللجوء لضرب الأمثلة من الأحداث المادية العادية. وكثيرًا ما كتب شروحات إضافية جانبية اعتبرها – ضمنًا - تقع خارج النسق الذي قدمه، حتى يلتزم بالثلاثية الشهيرة (القضية – نقيضها – المركب منهما)، ومع ذلك لم يستطع أنْ يلتزم بالثلاثية المذكورة في بعض الخطوات([57]). من أبرز الأمثلة على ضعف وتفكك المنهج استنباطه لكل شيء من الوجود الخالص؛ فإذا كان الوجود الخالص مجردًا تمامًا فكيف يمكن له أنْ يحتوي على أيّ شيء آخر؟! ولذلك نشعر في مفهوم “الصيرورة” – مثلًا – وغيره الكثير، أنَّ هيجل قد تورط في هذه المحاولة كلها ولذلك راح يكتب فقرات طويلة أسماها: “إضافات” و”ملاحظات” لتبرير هذه الثلاثية العجيبة، ومنها أول مكونات منهجه ومذهبه: الوجود – العدم – الصيرورة. ومن الغريب أنَّ مقولتي النفي ونفي النفي غير مدرجتين في مقولات المنطق رغم استخدامهما المتكرر في الشرح، ورغم أنَّ كل ثلاثية من ثلاثياته تتضمنهما.
نقطة الضعف القاتلة في فلسفة هيجل – حسب ظننا – هي في الاستنباط المزعوم والوهمي بالكامل للمقولات. وبكشف هذا الوهم تصبح مسألة المقولات نتاج تجريد عادي، وتصبح مسألة أولوية الفكر على المادة مجرد وهم، ويصبح الديالكتيك بالتالي مجرد منهج لتحليل الظواهر وطريقة لعرض نتائج التحليل. لا بأس بذلك، لكنه ليس حقيقة الوجود ولا قانون العالم كما ذهب إنجلز. فالموجودات لا تنتقل من الشيء إلى نقيضه إلى مركبهما، ولا تتضمن لحظة النفي ثم نفي النفي. يمكن طبعًا ضرب أمثلة بالآلاف على صحة كلام إنجلز، لكن يمكن أيضًا ضرب أمثلة مضادة بالآلاف. إنَّ الديالكتيك الهيجلي هو حركة الفكر؛ فكرنا نحن، ونحن نرتب فهمنا للظواهر لا أكثر.
وقفت الهيجلية في النهاية عاجزة أمام العالم الموجود أمامنا؛ فالموجودات المادية ليست حقيقية، أيْ ليست معلولة، وبالتالي فهي ليست موضوعًا للفلسفة، ولا تعتبر بذلك شيئًا قابلًا للفهم العقلي. فالوجود المادي على هذا الأساس هو عبث في عبث، بدون أيّ معني. فإذا اعترفنا أنَّ الفكر ليس إلا نتاجًا بشريًّا يكون الوجود كله عبثًا بلا أيّ علة ولا غاية. وقد شعر هيجل نفسه بالورطة حين طالب الفيلسوف كروج الفيلسوف شيلنج - المثالي هو الآخر - بأنْ يستنبط له قلمه من الفكر المحض، وقرأ هيجل ذلك وظلت الإشكالية عالقة في ذهنه. والرد كان متكررًا: لا يمكن استنباط الأشياء المحسوسة من الفكر المجرد([58]). هذا الرد يتضمن اعترافًا بأنَّ الأشياء المادية هي “الشيء في ذاته” الكانطي الذي كرس هيجل جهدًا كبيرًا لتجاوزه، وبذلك وقع في شباك كانط. ولكنه لم يستسلم، بل اعتبر أنَّ تناول الموضوعات المادية هو موضوع العلم وليس الفلسفة. ولكن هذا “الحل” غير مقنع أيضًا، لأنَّ العلم الفيزيائي لا يعلل الماديات عقليًّا، بل يتبع المنهج التجريبي والملاحظة المباشرة، وبذلك تظل مشكلة “الشيء في ذاته”.
- رفض ماركس - قولًا - جدل هيجل ومذهبه، لكنه اقتنص هذا المنهج وفصله عن المذهب ككل واستخدمه كما لو كان قوانين طبيعية للمجتمع، وطبقه على تحليل الرأسمالية كطريقة للعرض. وهذا أمر مفهوم، لكن القول بأنه جعله يسير على قدميه، وبأنه – أيْ ماركس – قد أزال القشرة الصوفية واحتفظ باللب العقلي للديالكتيك؛ فهذا هو غير المفهوم في كلامه. فهذا مجرد وصف أدبي، وكان المفروض أنْ يقدم على كتابة وشرح منهجه الجدلي المادي المزعوم. ويمكن من تعبير “يسير على قدميه” و”إزالة القشرة الصوفية” استنتاج أنه قد اعتبره قانون العالم مثل إنجلز بالضبط كما سنرى وليس مجرد طريقة للعرض. وفي الواقع لم نر أنَّ ماركس قد عكس حركة أيٍّ من مقولات الديالكتيك قط، ولا حتى إنجلز فعل ذلك، بل لم يقم أيٌّ منهما بتقديم عرض نسقي للديالكتيك كمنهج. أعلن إنجلز بوضوح أنَّ الجدل أداة للتحليل وأيضًا قانونًا للوجود بأسره. ويتعلق الإشكال بهذه الفكرة بالذات. فعلى سبيل المثال كل شيء لدى إنجلز يشير إلى أنَّ الكم يتحول إلى كيف، ضاربًا أمثلة عديدة (يمكن ضرب أمثلة مضادة لها) دون ما برهنة على وجود ضرورة منطقية لهذا القانون المزعوم. وقد رد سارتر وغيره على هذا بالتفصيل([59]). لدى هيجل الكم يتحول إلى كيف كمقولتين ضمن علم المنطق، ولا ينطبق هذا على الأشياء المحسوسة، بل على الفكر المجرد فحسب، ومع ذلك كان يضرب الأمثلة من الجزئيات؛ للتوضيح، زعمًا. وإذا كان من السهل دحض منهج هيجل، فمن الأسهل دحض ديالكتيك إنجلز؛ فهو – ببساطة – لا ينطبق على كل شيء، أيْ لا يمكن اعتباره قانونًا عامًّا. إنَّ منهج هيجل هو منهج للفلسفة فقط ولا ينطبق – حسب كلامه – على الأشياء الجزئية، لكن الماركسيين استخدموه لتحليل الأشياء الجزئية من طبيعة ومجتمع، حتى قبل استنباطه بالاستقراء، مستخدمين ضرب الأمثلة فحسب. الديالكتيك عد هيجل هو الميتافيزيقا؛ علة العالم. وعند ماركس هو أيضًا كذلك دون إفصاح. أما إنجلز فتعامل مع الجدل كميتافيزيقا أيضًا، فحين حاول أنْ يهرب من الميتافيزيقا ذهب إلى ميتافيزيقا أخرى، لكنها للأسف أفقر من ميتافيزيقا هيجل؛ قوانين تقع خارج العالم وتسبقه منطقيًّا، ولا يربطها رابط ولا تُقدَّم بطريقة برهانية، بل بضرب الأمثلة. وقد تهرب إنجلز بوضوح من شرح أصل والعلاقة بين قوانين الديالكتيك الثلاثة مباشرة في مخطوطاته التي طبعت بعد مدة طويلة تحت عنوان “ديالكتيك الطبيعة”: “إننا لسنا معنيين هنا بتقديم كراس عن الديالكتيك، بل نود أنْ نوضح فقط أنَّ قوانين الديالكتيك هي في الحقيقة قوانين تطور الطبيعة، ومن ثم فهي صالحة للعلوم الطبيعية النظرية. ومن هنا لا نستطيع أنْ نتناول الترابطات الداخلية بين هذه القوانين وبعضها البعض”([60]). ونحن لا نستطيع أنْ نتفهم عدم استطاعة إنجلز تناول الترابطات الداخلية بين قوانين الديالكتيك إلا بأنه لا يجد مثل هذه الترابطات؛ فأين المنهج؟ ورغم وجود كثير من المقالات والكتيبات الماركسية عن الديالكتيك المادي المزعوم، لا يحاول أيٌّ منها أنْ يقدمه كمنهج أو كنسق فكري مترابط؛ فقط القوانين الثلاثة وبعض العبارات الشعرية عن اللب العقلي وإيقاف منهج هيجل على قدميه بدلًا من رأسه. ومن الغريب أنْ يسيئ إنجلز فهم الجدل الهيجلي أو يشوه مذهب هيجل بدون أيّ ضرورة، بوصفه بهذه الكلمات على نحو متكرر: فالفكرة المطلقة كانت موجودة في مكان ما وسبقت وجود الأرض وحركتها تجري منذ الأزل في مكان مجهول، والوجود المسبق للمقولات المنطقية... وقد تكررت هذه الأفكار الغريبة في عدد من كتاباته. بينما الحد الأدنى لفهم هيجل يشترط أنْ نعلم أنه يقدم تحليلًا فلسفيًّا منطقيًّا للعالم، بما في ذلك تاريخ البشرية؛ فلم يوجد أيُّ مفهوم قبل الآخر في الزمن، بل في المنطق فحسب، وحتى إنه لم يقدم فلسفة التاريخ حسب التسلسل الزمني، بل المنطقي، من وجهة نظره. فلم يقل أبدًا ما معناه أنَّ الفكرة المطلقة كانت موجودة ثم خلقت العالم.
- إنَّ الكلام عن ديالكتيك (أو جدل) مادي يشبه الكلام عن دائرة مربعة. فالديالكتيك هو حركة الفكر؛ سواء إنتاجنا من الفكر المجرد أو تصوراتنا عن الظواهر وطريقتنا في تحليلها. أما القول بأنَّ الديالكتيك موجود في الأشياء أو في المجتمع والتاريخ فيسوقنا فورًا إلى ميتافيزيقا هيجل وليس إلى مادية ماركس المزعومة. في الواقع العالم هو عبارة عن أشياء توجد في فوضى عارمة وتوازن قُوَى محدود. هذا التوازن – لأنه محدود – لا يمنع الكوارث الكونية، من صدامات وانهيار نجوم ومجرات وتكون ثقوب سوداء ونجوم جديدة، وصدامات بين البشر وموت خلايا وتفكك جينات.. إلخ. وهذا ينطبق على كل نقطة في الكون. أما التوازنات الجزئية فتنجم عن التصادمات التي تحدث طول الوقت مع عجز القوى المتصادمة عن سحق بعضها البعض بالكامل. وينتج عن تلك التوازنات ما نسميه بالقانون، أو القواعد التي تبدو وكأنها تحكم المادة. هذه القواعد هي تصوراتنا نحن ووصفنا لظاهرة التوازنات المذكورة. ولأن معرفتنا بالأشياء والظواهر ناقصة دائمًا فلا يمكننا التوصل إلى صياغة علاقاتها النهائية ببعضها، وكلما عرفنا المزيد تغيرت القوانين التي نصيغها لكي نفهم العالم. لذلك وصفنا الفكرة القائلة بوجود قوانين تحكم الوجود بأسره، مثل الديالكتيك، بأنها ميتافيزيقا.
هذا الكلام لا يقودنا إلى “الشيء في ذاته”، بل إلى أنَّ معرفة الحقيقة لا تكتمل، بل تتقدم – في أفضل الأحوال – دون أنْ تنتهي، فلا يمكن الفصل بين ما ندركه وبين قدرتنا الحالية على الإدراك والتي تتسع مع تقدم العلم والمعارف عمومًا.
- إنَّ التعامل مع الديالكتيك كما هو بالفعل، مجرد منهج أدائي مفيد – ضمن مناهج أخرى ممكنة – يحل المشكلة تمامًا. فلا فكرة مطلقة ولا قوانين كلية ولا روح، بل قوى بشرية حية. أما الربط بين الديالكتيك وحقيقة العالم فيؤدي بالتالي إلى فكرة الغائية في التاريخ، ومن ثم: الحتمية التاريخية. ولو كان ماركس وإنجلز قد اكتفيا باستخدام جدل هيجل كطريقة للعرض والتحليل لكان الأمر واضحًا ومفهومًا. أما الزعم بتحويله إلى جدل مادي يقف على رجليه بدلًا من رأسه، وبأنه قانون عام للوجود، واختصاره في ثلاثة قوانين واستخدام بعض المقولات كلمحقات بتلك القوانين، فهذا ما يثير الإشكاليات التي أشرنا إليها. وبناءً على تطبيق الديالكتيك على الطبيعة والمجتمع كليهما ظهر مفهوم “المادية الديالكتيكية”، الذي لم يستخدمه ماركس ولا إنجلز قط، بل نحته بليخانوف في شرحه للمفهوم المادي للتاريخ ([61])، ثم لينين الذي أسهب في شرح هذه المادية، وقد قدم لينين مادية تستحق النقد كما سنرى. ثم توارثته الستالينية وأنصارها مع بعض التوسيع والإضافات البسيطة. واستخدمت روزا لوكسمبورج مصطلح “المفهوم المادي الجدلي للتاريخ”([62])، وهو أكثر اتساقًا مع روح الماركسية من كل ما سبق.
- ومع ذلك يتسق ديالكتيك هيجل مع مذهبه أكثر مما يتسق مع نظرية ماركس. فالديالكتيك عنده يتعامل مع أفكار مجردة وليس مع أشياء جزئية، ولذلك يمكن الزعم بأنَّ مقولة الكم تتحول إلى مقولة الكيف (مع الإقرار بأنَّ البرهان العقلي لهيجل وهمي تمامًا) لكن لا يمكن البرهنة على أنَّ هذه قاعدة تشمل كل الجزئيات، ببساطة لأنَّ البرهنة عليها لا يمكن أنْ تتم بحيلة الاستنباط الهيجلية، فلا يصلح هنا إلا ضرب الأمثلة كما فعل إنجلز، وهذه برهنة بالغة الضعف أيضًا، لأنَّ الأمثلة المضادة موجودة بكثرة.
- إنَّ نقطة ضعف المنظومتين تكمن في الادعاء بمعرفة الحقيقة بألف لام التعريف. في الواقع نحن نعرف “حقائق” وجوانب ومراحل من حقيقة العالم التي لا تنتهي أبدًا. وقد سبق أنْ تناولنا هذه القضية.
- مع ذلك تختلف الماركسية عن الهيجلية في كلام مؤسسيها عن كيفية اكتشافهم للديالكتيك، فهيجل قد زعم أنه استنبطه، لكن ماركس (وإنجلز بالذات) قد رفض هذا الاستنباط واعتبر الديالكتيك هو قوانين العالم بالاستقراء، حسب كلامه([63])، بينما هو في الواقع اقتنص ديالكتيكه من ثنايا ديالكتيك هيجل وزعم أنه قانون الوجود المادي.
- نختم هذا الجزء بالمقارنة بين الماركسية والهيجلية في مسألة بالغة الأهمية: فعند هيجل تكون الفلسفة هي التحقق النهائي للفكرة المطلقة، أيْ أنَّ الفيلسوف يصير – عمليًّا - هو الفكرة المطلقة متجسدة، وبذلك تتحقق سلطة الفيلسوف على بقية البشر. ورغم انتشار فكرة أنَّ الهيجلية فلسفة تأملية، إلا أنها في الحقيقة لم تكن كذلك فقط؛ إذ قال هيجل بوضوح: “بالنسبة لنا ليست الفلسفة مجرد فن خاص كما كان الحال لدى اليونانيين، بل إنَّ لها دورًا عامًّا، وليس لها أيُّ استخدام إلا في خدمة الدولة”([64]) (التشديد من عندنا). وفي الواقع صار هيجل نفسه فيلسوف الدولة الرسمي. وهنا نتذكر الفكرة المهمة في الماركسية: ربط النظرية بالممارسة. ولدى ماركس وكل الماركسيين من ينتج نظرية البروليتاريا، هم المثقفون وليس العمال، فـالشيوعيون “يتفوقون على الكتلة الأكبر من البروليتاريا بالفهم الواضح للمسار، وللظروف، وللنتائج العامة الأخيرة لحركة البروليتاريا”([65])، كما أنَّ “النظرية تصبح هي أيضًا قوة مادية بمجرد أنْ تستحوذ على الجماهير”([66]). فيكون السيد المثقف هو الذي يحدد لهم “نظريتهم” ويعرف مصالحهم كطبقة أكثر منهم. وهذا مما دفع – مثلًا - منظمات ماركسية في بلدان بدون طبقة عاملة تقرر أنها أحزاب عمالية. وزعم البعض حلًّا لهذه الإشكالية أنها أحزاب تحمل فكر الطبقة العاملة العالمية، وبذلك أصبحت الأحزاب تمثل الفكرة وليس الطبقة نفسها! وإذا استولت تلك الأحزاب على السلطة فإنه – وفقًا لذلك – تصبح الفكرة هي التي تحكم المجتمع، وما الحزب سوى حامل لمشعل الحقيقة، دونما علاقة له بقوى المجتمع القائمة بالفعل. وبذلك تصبح الطبقة العاملة في السلطة قبل أنْ توجد! وقد انتقل لينين - مرورًا بكاوتسكي([67]) – بهذه الفكرة إلى ضرورة أنْ يقوم المثقفون بنقل الوعي للبروليتاريا، لأنها لا تستطيع إنتاج وعيها السياسي([68]). ومن هنا تأتي سلطة المثقفين على جموع العمال. وفي الحالتين تتحقق الروح في التاريخ عبر انتقال الفكر من النخبة إلى الشعب. وكان كل من هيجل وماركس يرى أنْ تتحقق فلسفته، أو تتموضع الحقيقة، في نظام معين، رآه هيجل في حياته وتوقعه ماركس في المجتمع الشيوعي في المستقبل. وفي الممارسة تموضعت الروح في الدولة البروسية الملكية في الحالة الأولى، حيث إنَّ “الدولة هي قوة العقل، محققًا ذاته بوعي”([69])، وفي الدولة السوفيتية (ومثيلاتها) في الحالة الثانية. وحتى نتجنب الظلم نشير إلى أنَّ دولة هيجل كانت أقل بشاعة من دولة ماركس، الذي عين نفسه - متشبهًا بهيجل لكن دون أنْ يدري - فيلسوف الدولة السوفيتية، رغم أنَّ كليهما كان غير مسؤول عن إنشائهما. بل من المؤكد أنَّ الدولة السوفيتية لم تكن حلم ماركس قط، بل نقيضه.
2- المادية التاريخية:
* من أهم الأفكار الماركسية تصور ماركس وإنجلز لـ “منطق” التكوين الاجتماعي ككل. وخلاصة الأمر أنَّ مستوى قوى الإنتاج يحدد علاقات الإنتاج الاجتماعية، مشكلين معًا نمط الإنتاج. ويُسمى نمط الإنتاج بالبناء التحتي، الذي ينتج عنه ما يُسمى بالبناء الفوقي، شاملًا المؤسسات الاجتماعية من دولة وأشكال مختلفة من المنظمات، والأيديولوجيا والبنية الحقوقية. وحين تتقدم قوى الإنتاج إلى درجة تصبح عندها علاقات الإنتاج القائمة معيقة لهذا التقدم تصبح الثورة الاجتماعية ضرورية لفتح الطريق أمام استمرار تقدم قوى الإنتاج وتتشكل علاقات إنتاج جديدة تفتح الباب أمام تقدم قوى الإنتاج، كما يتغير البناء الفوقي ليتلاءم مع البناء التحتي الجديد. فالثورات هي عمل تقدمي لهذا السبب، رغم ما قد تسببه من دمار وفوضى بشكل مؤقت. وقد سار التاريخ - كما يبدو - في اتجاه تقدم القوى المنتجة وإزاحة العلاقات المعيقة له في حالة واحدة فقط: تحول غرب أوروبا إلى الرأسمالية. أما في المجتمعات المشاعية البدائية فلم يحدث تناقض بين قوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج. بل حرك الجشع الإنساني والطمع الصراعات بين القبائل، وهو ما أدى لنشوء الدولة وانقسام الناس إلى طبقات. فلم تكن هناك أيُّ ضرورة موضوعية لهذا التغير التاريخي في النظام الاجتماعي. ففي تلك الحالة سبق تطور قوى الإنتاج تغير علاقات الإنتاج زمنيًّا لكن لم يكن مبررًا ولا سببًا له. وفي أوروبا لم يكن تطور قوى الإنتاج هو الذي أدى لتحول النظام العبودي إلى الإقطاع، بل الغزو الجرماني. لكن التحول الرأسمالي هو الذي تم بفضل تطور الصناعة بعد ذلك. لكن حتى بخصوص الرأسمالية خارج غرب أوروبا فلم توجد علاقة مستقيمة بين قوى وعلاقات الإنتاج على نمط فكرة الطاحونة الهوائية والآلة البخارية سابقة الذكر، بل مجرد ميل فحسب. فقد كانت الصين والهند أكثر تقدمًا من أوروبا قبل تحولها الرأسمالي، ومع ذلك تم هذا التحول في أوروبا. كما أقيمت في الاتحاد السوفيتي علاقات إنتاج بالسخرة رغم استمرار تطور قوى الإنتاج طوال العهد السوفيتي. وقد تم التحديث في البلدان العالمثالثية بفضل الاستعمار وليس بسبب تناقض قوى وعلاقات الإنتاج. ويتفق هذا الكلام مع تأكيدات ماركس على أنَّ مخططه حول نشوء الرأسمالية يقتصر على غرب أوروبا، لكن هذا يناقض كلامه المتكرر عن أنَّ الثورات هي قاطرات التاريخ، وعن العلاقة بين قوى وعلاقات الإنتاج عمومًا، وعبارة مثل: الطاحونة الهوائية تعطيك مجتمعًا يحكمه السيد. كما أنَّ الانتكاسات والثورات المضادة وتأثير الكوارث الطبيعية أمور واردة دائمًا، وقد حدثت مرارًا. كما أنه لا توجد مراحل محددة في التاريخ، ولا توجد نهاية سعيدة أو خلاص للبشرية؛ لا توجد حتمية للتحول الاشتراكي.
* الفرق بين النظم الطبقية هو – مثلما ذهبت الماركسية - شكل الفائض المنتزع، أيْ طريقة النهب. وهذه تتحدد – إلى حد كبير - حسب مستوى قوى الإنتاج؛ فلا يمكن إجبار قن مثلًا على العمل كباحث في علوم الفضاء، مثلما لم يكن من الممكن في بداية تكون المجتمعات بإنتاجيتها المنخفضة للغاية لفرد أنْ يُجبِر أفرادًا على عدم جمع الثمار والتفرغ لإنشاء بيت كبير له، ببساطة لأنهم سيموتون من الجوع فورًا. وحين تتطور التكنولوجيا أكثر بكثير لن تكون هناك ضرورة لطبقة البروليتاريا، وبالتالي ستتهاوى الرأسمالية. هناك إذن علاقة ترابط بين مستوى قوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج. لكن لا يوجد متغير مستقل ومتغير تابع طول الوقت، بل يتم التحول الاجتماعي بشكل شديد التعقيد والتفاوت بدون قانون محدد. فقد يبدأ تغير علاقات الإنتاج قبل قوى الإنتاج أو العكس، بحسب مختلف الظروف والعوامل العرضية في تاريخ المجتمعات. وكل حالة تحتاج إلى تحليل خاص بها. وإذا قارنا بين تحول المشاعات القديمة إلى النمط العبودي، ثم تحول العبودية إلى الإقطاع، ثم تحول الإقطاع في غرب أوروبا إلى الرأسمالية سنقف على فرق واضح في العامل الأول في التحول.
* للبناء الفوقي دور جوهري في إعادة إنتاج البناء التحتي، إذا ما اعتبرنا - مؤقتًا - أنَّ البناء التحتي هو المكون المادي والبناء الفوقي هو المكون الروحي للمجتمع حسب الفهم الماركسي. وهذا ما أشار إليه ماركس وإنجلز مرارًا. فلا يستطيع البناء التحتي إعادة إنتاج نفسه بنفسه في حدود كونه اقتصادًا، وهو في الحقيقة ليس كذلك فقط؛ فقوة العمل ليست مجرد آلة، بل آلة مشبعة بالخبرة والقيم والمفاهيم والمعتقدات التي تعود للبناء الفوقي، وبالتالي يلعب نفس البناء دوره في إعادة برمجة قوة العمل. فكيف يعاد إنتاج قوة العمل بدون التعليم مثلًا؟ فالتمييز بين مكونات التشكيلة الاجتماعية الاقتصادية، من بنية تحتية وبنية فوقية ليس تمييزًا صارمًا وثابتًا بين مؤسسات أو مكونات محددة كما تناولته الماركسية، بل هو تمييز يتداخل مع وظائف هذه المكونات. فتلعب الدولة مثلًا دور قوة إنتاج في المجتمعات النهرية بجانب دورها في البناء الفوقي، وكذلك يمكن أنْ نرصد دورًا في البنية التحتية للعلاقات السياسية والدين (مثلًا تجييش الناس للعمل في خدمة الحاكم باعتباره إلهًا). ومن الظواهر البارزة في مجتمعات عديدة، من أشهرها مصر طوال تاريخها، أنَّ صناعة الثروة تتم بشكل أساسي من خلال الانتماء لجهاز الدولة.
باختصار قد ينتمي نفس الجهاز أو المؤسسة إلى البنائين التحتي والفوقي معًا. وكل مؤسسة أو منظومة تلعب أدوارًا متعددة. فعلى سبيل المثال لا توجد مؤسسة أيديولوجية أو قمعيه خالصة، فحتى أجهزة الدولة القمعية، ومنها الجيش، تلعب أدوارًا أيديولوجيًّة ذات بال، مثلما تمارس المدرسة دورًا قمعيًّا إضافة لدورها التعليمي، فلها دور “تربوي” كذلك؛ تعلم الأطفال السلوك المرغوب من جانب الدولة والمدرسة نفسها. كذلك المؤسسات الدينية في بعض البلدان تلعب أدوارًا بوليسية وقمعية، مثلما كان مسموحًا لهيئة الأمر بالمعروف في السعودية باعتقال الناس وضربهم، وكما يلعب الأزهر مثلًا دورًا في مصادرة الأعمال الفنية وحتى الكتب، ويحرض الدولة على قمع بعض الخارجين على الدين والأخلاق الرسمية. وحين كان يتم جمع الناس للعمل بالسخرة تتم إعادة تأهيلهم ثقافيًّا بشكل مباشر. والجيش يلعب دورًا في إعادة تثقيف المجندين في عملية غسيل مخ. ولابد أنْ نلاحظ أنَّ هناك قدرًا من الاستقلال النسبي لكل مكون للتشكيلة الاجتماعية - الاقتصادية. ولهذا السبب بالذات لا تتغير كل مكونات التشكيلة معًا، بل قد تظل عناصر من البناء الفوقي بعد تغير البناء التحتي لمدد طويلة؛ خاصة الأيديولوجيا. وينطبق هذا على كل مكونات التشكيلة، فعلاقات الإنتاج لها دور أساسي في عمل وإعادة إنتاج قوى الإنتاج، وهناك علاقة تفاعل بين الدين والدولة.. إلخ. أما تحولات البناء الفوقي – بالمعنى الماركسي – فقد حدثت كثيرًا دون تغير في البناء التحتي. ومن أبرز الأمثلة تغير ديانة سكان الشرق الأوسط بعد الغزو العربي مع استمرار البنية التحتية كما هي، تحت تأثير تغير السلطة السياسية وأسلوب الحكم. الخلاصة أنَّ مفهومي البناء التحتي والبناء الفوقي أكثر مرونة مما قدمته الماركسية؛ الجمع والفصل بين مكونات معينة ووظائف.
* لا توجد مبادئ ميتافيزيقية وراء حركة التاريخ؛ فلا قوانين، ولا حتمية، ولا غاية نهائية للتاريخ. كل ما هنالك هو: أولًا: ثوابت (كما قال ألتوسير فيما بعد): ثابت الصراع والتعاون بين الإنسان والطبيعة، وثابت الصراع والتعاون بين البشر، وهناك ثوابت نفسية وبيولوجية لدى البشر. كما أنَّ هناك ثانيًا تصاعدًا في احتياجات البشر المترتبة على بعضها؛ فسد حاجة ما يخلق حاجة جديدة، وهذا هو ميل ثابت. وهذا الأخير يترتب عليه ثالثًا: ميل لتطور قوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج والبنية الفوقية؛ مجرد ميل عام غير محدد الملامح.
* لم يهتم ماركس بتعليل تصرفات البشر: لماذا سعى البعض إلى التسلط على بقية البشر، ولماذا قبل الناس الانقسام إلى طبقات، ولماذا يسعى الأغنياء إلى مزيد من الثراء. وكان موضوعه هو استعراض ما حدث وما يحدث في المجتمع، خضوعًا لـ “قوانين” معينة، لم يحدد كيف وصل إليها، منها قانون العلاقة بين قوى وعلاقات الإنتاج، وبين البنية التحتية والبنية الفوقية، مكتفيًا بالإشارة إلى أنَّ الأمر يتم بدون إرادة الناس، كأنها قوانين ميتافيزيقية، وهذا هو الجانب الوضعي في الماركسية. فعلًا المجتمع يتكون وتتغير بنيته العامة بدون خطة مسبقة؛ بدون إرادة الناس، لكن الناس في هذه الحالة يتبعون ميولًا معينة، وهذا يعني بالضبط أنَّ لهم طبيعة خاصة؛ استجابات محددة لتغيرات الواقع، ردود أفعال من نوع معين تحتاج للفهم. وهذه ليست محض نقطة ناقصة، بل نقطة ضعف ذات أهمية كبيرة. إذ إنَّ الإجابة على هذه الأسئلة ترد مقدمًا على أسئلة لاحقة تتعلق بكيفية وضمان بناء الاشتراكية واضمحلال الدولة واختفاء الطبقات. وقد حاول كاوتسكي فيما بعد سد هذه الثغرة. مع ذلك لا تخلو كتابات ماركس وإنجلز - الأولى خاصة – من إشارات سريعة لأنانية البشر، أو لهذا العنصر النفسي ضمن التكوين البشري، وإلى الجشع والطمع، كعوامل لظهور واستمرار الطبقية والدولة والقمع، لكن لم يقدما تحليلًا محددًا ولا طريقة ما لتجاوز هذه الميول. قال إنجلس عن تحول الشيوعية البدائية إلى النظام الطبقي: “كان محكومًا على قوة ذلك المجتمع البدائي أنْ تتحطم، وقد تحطمت بالفعل. وقد تحقق ذلك كنتيجة لتأثيرات تبدو لنا منذ البداية تحللًا وسقوطًا من العظمة الروحية البسيطة للمجتمع القديم. وقد دشنت المجتمع الجديد؛ المتحضر، الطبقي، أحقر المصالح؛ الجشع المنحط، الشهوانية الوحشية، الجشع الدنيئ، النهب الأناني للثروة العامة. وقد تم تقويض المجتمع القديم، المشاعي، الراقي، بالسرقة والعنف والغش والخداع. ولم يكن المجتمع الجديد طوال الألفين وخمسمائة عام الأخيرة إلا صعودًا للأقلية على حساب الأغلبية المستغلة والمقهورة”([70]).
إنَّ تساؤلات كثيرة لا تجيب عنها المادية التاريخية. منها: ما الذي يضمن أنْ يلتزم القادة والزعماء بتحقيق أهداف الطبقة التي يمثلونها؟ وماذا يضمن التزام الدولة البروليتارية بحل نفسها بعد تحقيق أهدافها؟ وماذا يفسر ظاهرة ميل المثقفين إلى "خيانة" شعاراتهم الثورية؟ (وهي مسألة طرحها لينين وكاوتسكي وغيرهما كثيرًا).. إلخ.
لقد انتقد ماركس الفيتيشية، لكنه خلق لنا فيتيشية كبرى: فيتيشية العامل الاقتصادي. فقد صوَّر لنا ظهور الطبقات وحركة رأس المال وحركة المجتمع عمومًا كما لو كانت حركة الأشياء: القيمة وفائض القيمة وتراكم رأس المال ومقاومة ميل معدل الربح إلى الهبوط... لكنه أبدًا لم يقدم على طرح هذا السؤال: لماذا يتصرف الناس على هذا النحو؟ لماذا يريد الحاكم المزيد من السلطة، ولماذ يسعى الغني للمزيد من كنز الثروات وتنميتها بينما هو يملك أكثر مما يكفيه ليعيش غنيًّا طول حياته؟ ولماذا تحول الناس إلى القيم الرأسمالية بعد قيم الاكتفاء...إلخ. صحيح هو أبرز جيدًا أنَّ رأس المال هو علاقة اجتماعية وليس كمية من المال، لكنه صور حركة التاريخ كأنها تسير وفقًا لقوانين، وسمى ذلك بالمفهوم المادي للتاريخ. فالناس تنشئ علاقات ونظم بدون إرادة منها. ولا نشك أنه كان يدرك الآلية الفعلية لحركة التاريخ، ولكن صياغته للمسألة تضمنت الفيتيشية المذكورة. ذلك أنه كان مصرًّا على تقديم علم اجتماعي – اقتصادي سماه تلاميذه بالمادية التاريخية.
* مثلما لاحظ كاوتسكي بحق، لم يكن تاريخ العالم قبل الحقبة الرأسمالية هو تاريخ صراع الطبقات حسب ما جاء في البيان الشيوعي([71]). فهل ظهرت طبقة ثورية حولت المشاعية إلى نظام الرق؟ وهل قامت ثورة في تلك الفترة؟ صحيح لقد استدرك إنجلز في مقدمته للبيان في طبعة 1883، فاستثنى مرحلة البدائية من هذه القاعدة. ومع ذلك فلنتذكر أنَّ الغزو الجرماني للدولة الرومانية هو الذي حولها إلى الإقطاع، وأنَّ الغزو العربي للشرق الأوسط وغيره قد أدى إلى تحولات اجتماعية مهمة، وتلاه الغزو العثماني. بل كان الاستعمار الأوروبي للعالم هو الذي فكك المنظومة قبل الرأسمالية وأدخل الحداثة، وحتى الملكية الخاصة في بعض البلدان. ولم تصبح أمريكا رأسمالية بفعل ثورة أقنان ضد إقطاع، بل بفعل الغزو الأوروربي وإبادة السكان الأصليين. وفي العصور القديمة والوسيطة رأينا أنَّ التاريخ كان يسير تحت تأثير صراع الدول والأمم والحروب بينها لا صراع الطبقات الخافت للغاية: صراع الفرس والروم والبيزنطيين – ثم ظهر المسلمون العرب على الساحة، ثم التتار، فالصليبيون من أوروبا.. إلخ. ومن السهل للغاية أنْ نرصد أنَّ تحول المجتمعات المشاعية إلى مجتمعات طبقية قد تم بدون لا ثورة ولا صراع طبقي، حيث لم تكن توجد طبقات أصلًا. ببساطة لقد انقسم المجتمع إلى طبقات مع تطور قوى الإنتاج الذي جعل السرقة والنهب ممكنين وليس محتمين، وكانت صراعات القبائل هي المقدمة لنشوء الطبقات والدولة. ونضيف أنَّ تلك الصراعات كانت سابقة على أيّ ظهور للفائض الاقتصادي، لدرجة أنَّ قتل الأسرى كان هو القاعدة لعدم وجود فائدة من استعبادهم قبل أنْ تظهر إمكانية إنتاج فائض. الأهم من ذلك أنَّ الصراع الاجتماعي قبل الرأسمالية لم يكن صراعًا طبقيًّا، بل كان ضمن أشكاله صراع فقراء ضد أغنياء، فحتى وفقًا لماركس وإنجلز: “كل نضال طبقي هو نضال سياسي”([72])، ولم يتخذ صراع الطبقات المستغَلة ضد سادتهم صورة صراع سياسي قبل ظهور الطبقة الرأسمالية. ومن الأشكال الأخرى لذاك الصراع صراعات الدويلات والإثنيات؛ ولنتذكر فقط كيف قامت الدولة العباسية التي عمرت لقرون، ومختلف الدول القبلية التي تتابعت على عرش البلدان الإسلامية طوال العصور الوسطى.
* إنَّ ظهور الطبقية والاستغلال والقمع داخل المجتمع الواحد لابد حتمًا أنْ يكون بسبب وجود نزعات أنانية لدى البشر. ولو كانوا أبرياءً لتعاونوا ولاستمر المجتمع المشاعي مع تقسيم عمل. هذا مترافق مع وجود استعداد نفسي للخضوع أيضًا. أما الفكرة التي تصور ظهور الطبقية والدولة على أنه ضرورة موضوعية وأنَّ الطبقات المسيطرة قامت بدورها “التاريخي”، وهذا يبدو في روح بعض كتابات ماركس وإنجلز([73]). فهي فكرة تتحاشى تصورًا آخر كان ممكنا لو أراد البشر: أنْ يتعاونوا معًا بدلًا من أنْ يستغل بعضهم البعض. كان ظهور الفائض في إنتاج المجتمع وتعاظمه باستمرار هو الذي جعل ظهور الطبقات والاستغلال ممكنًا. ولولا تطور قوى الإنتاج إلى حد إنتاج فائض لما ظهرت الطبقية والدولة (هذا أحد مظاهر وجود علاقة بين قوى وعلاقات الإنتاج). وبديهي أنَّ فرض نمط إنتاج يقوم على استغلال الإنسان للإنسان استلزم دائمًا استخدام العنف بديلًا عن التعاون بين الناس، فليس من المتصور أنَّ طبقة من الناس قد قبلت حياة العبودية لأسباب اقتصادية بحتة. ففي بداية الاستعباد لعبت الحروب وعملية الأسر دورًا مهما في خلق طبقة العبيد، ثم كان للدولة طوال التاريخ دور تعضيد الطبقة المالكة وقهر الطبقات المقهورة، بما في ذلك تكون وتطور الرأسمالية. إنَّ العنف كان شرطًا أساسيًّا في تشكيل وإعادة تشكيل الأنظمة المراتبية، في وجود الشروط الاقتصادية الملائمة للاستغلال. لا شك أنَّ العامل الاقتصادي هو عامل مهم في التاريخ. لكن العنف وطبعًا الأيديولوجيا، وخصوصًا الدين، هي عوامل لا تقل أهمية. وجدير بالملاحظة أنَّ الأنظمة المراتبية قبل الرأسمالية قد تميزت بطريقة انتزاع الفائض بوسائل غير اقتصادية؛ بالتسلط المباشر مدعومًا بالأيديولوجيا بالتأكيد. أما بخصوص أنانية البشر، فليست أولًا سوى إحدى نزعاتهم ضمن ميول أخرى، على رأسها ميلهم للاجتماع والعمل الجماعي، بجانب التعاطف مع الضعفاء والتألم لألم الآخرين.. إلخ. وثانيًا ليست بالضرورة هي ميلهم لمصالحهم المادية في كل لحظة. فالأفكار والعادات الاجتماعية التي ورثوها من أسلافهم تؤثر في تصرفاتهم. وبالطبع تلعب الأيديولوجيا دورًا مهمًّا في هذا الصدد، وإلا لثارت الشعوب ضد الحكومات الفاسدة والطبقات المستغلة منذ وقت طويل. وهذا لا ينفي بالطبع أنَّ المصالح المادية تلعب دورًا جوهريًّا في تصرفات الناس، في حدود تصوراتهم عن هذه المصالح، خاصة في العصر الرأسمالي، حين أصبح كل شيء مطروحًا في السوق. ولا شك أنَّ “العبودية الطوعية” قد لعبت دورًا أساسيًّا في نشوء الدولة والطبقات، لكنها وجودها ارتبط ويرتبط بوجود العنف والقسوة من الجهة الأخرى. هذه العبودية الطوعية لا تفسرها المادية التاريخية.
* أما حدوث تناقض بين قوى وعلاقات الإنتاج فلم نر له أثرًا قبل ظهور البورجوازية. فكيف نتصور ظهور هذا التناقض في المجتمع المشاعي؟ فما الذي يجعل الناس تتصارع بدلًا من أنْ تتعاون منذ أنْ ظهر فائض في الإنتاج؟ ولماذا لم يستمر ذلك المجتمع (إذا افترضنا أنه كان مشاعيًّا بالفعل) ولماذا لا يتفاهم البشر الآن ويتجاوزون نظم الاستغلال والتمييز والعنصرية.. إلخ؟ هل مجرد ظهور إمكانية لاستغلال الناس لبعضهم البعض يدفع حتمًا إلى ظهور النظم الطبقية؟ وهل يمكن أنْ نستنتج من كلام ماركس أنَّ هناك “حتمية تاريخية” لتحول مجتمع المساواة البدائي إلى مجتمع طبقي بدون الأخذ في الاعتبار لهذا العامل الثابت؟ فتطور قوى الإنتاج لم يجعل من استمرار النظام المساواتي ذاك مستحيلًا، ولم نسمع عن حدوث أزمات في ذلك النظام أدت إلى ضرورة تحوله إلى نظام عبودي أو إقطاعي. فالأمر ينقصه – حسب ما نتصور– تحليل العنصر البشري نفسه؛ إمكانياته واستعداداته. من الضروري لكيْ يتجاوز البشر المنافسة والصراع والسعي إلى التميز أنْ تتغير ثقافتهم، وأنْ تتغلب على ميولهم الأنانية، فهل هذا ممكن؟ ما يمكن بالتأكيد هو السعي إلى ذلك؛ سعي لا يتوقف ولا ينتهي. ولكي نوضح الأمر أكثر نقول إنَّ العنصر البشري الثابت هو وجود نزعة أنانية لدى البشر، ونزوعهم نحو اكتساب المكانة والسلطة، ليس بالضرورة بالحصول على الثروة أو تحقيق مصالح مادية، بل كان الأثرياء في المجتمعات القديمة كثيرًا ما يحققون المكانة على حساب مصالحهم المادية، بتقديم العون للفقراء. ويمكن ببساطة أنْ نقول إنَّ النزعات الأنانية للبشر هي عنصر ثابت في التاريخ. فلولا ذلك لما قرر البعض منهم استعباد الآخرين. وللتوضيح نلخص القضية في تساؤلين: لماذا فضل الناس التحول إلى النظام الطبقي بصراعاته ومعاركه طول التاريخ على الاستمرار في النظام الشيوعي القديم؟ وما هي الأزمة التي شهدها ذلك النظام وأجبرت الناس على تفضيل الطبقية والصراع؟ فهنا يوجد عنصر موجود ضمنًا فحسب في التحليل الماركسي؛ العامل الحاسم في كل التحولات الاجتماعية: نفسية الإنسان نفسه. ومن المؤكد أنَّ الثقافة والخبرة تغير أو تعدل من السلوك الغريزي، لكن يظل الميل الغريزي موجودًا وقد يتسيد الموقف في ظروف ما. ومع ذلك فلا شك أنَّ الثقافة مما يميز الكائن البشري عن غيره، وهي بالطبع مترتبة على الواقع البيئي والاجتماعي. هذا هو العنصر المتغير. بل حتى لا نستطيع أنْ نقرر أنَّ أنانية البشر هي عنصر ثابت إلى الأبد، لكنها حتى الآن تظل عنصرًا له استقلاله.
* يميل الماركسيون إلى تقسيم المجتمع إلى طبقات واعتبار الفئات الأخرى مجرد ملحقات بها، مثل موظفي الدولة والمهمشين والفئات الوسطى أوالإنتليجينسيا. الآن أصبح من الواضح أنَّ الإنتليجينسيا بفئاتها المتعددة قد صارت قوى ضخمة العدد والتأثير وليست كلها في خدمة الرأسمالية، بل منهم مهمشون أيضًا، وكذلك المهمشون من كل صنف أصبحوا قوة اجتماعية مهمة، كما صارت البيروقراطية فئة مميزة ولها مصالحها الخاصة وتقاسم الرأسمالية أرباحها. والعسكر كذلك في بلدان عدة صاروا فئة اجتماعية لها مصالح ضخمة وليست مجرد خادم عند رأس المال.
* التصور المادي للتاريخ هو - في النهاية – رؤية. زعم الماركسيون الأرثوذكس أنها الرؤية الصحيحة، رغم إقرارهم بأنها رؤية البروليتاريا، على أساس أنَّ هذه الأخيرة هي الطبقة الثورية صاحبة الدور التاريخي في إقامة الاشتراكية. ومتناسين أنَّ البورجوازية – حسب منطقهم - كانت أيضًا الطبقة صاحبة الدور التاريخي في تحرير العمل وتحقيق الحداثة، فهل كانت رؤيتها هي الحقيقة أيضًا؟! يقول بعض الماركسيين: نعم لقد تبنت البورجوازية الديالكتيك في مرحلة ثوريتها ثم تخلت عنه بعد ذلك للبروليتاريا. وقد سبق تناول طبيعة هذا الديالكتيك. وأين هي الحقيقة الديالكتيكية حول تناقضات الرأسمالية وحتمية الاشتراكية حين راحت البروليتاريا تتحلل كطبقة بعد التطور العلمي الهائل، مفسحة الطريق للأتمتة والروبوت. إنَّ التاريخ تراكمي، بمعنى أنَّ المرحلة القادمة تجد جذورها في المرحلة السابقة. فالنتائج توجد في المقدمات، لكن لا يمكن توقع مسار محدد وعيني لمراحل تطور المجتمعات إلا في العموم؛ تطور تاريخي بهذا المعنى وحده. وبغض النظر عن العوامل العرضية، مثل حدوث كارثة ما تغير مجرى المجتمع، أو صراع بين بلدين يؤدي إلى نتائج لا يمكن أنْ تُعزى إلى واقع كل منهما معزولًا عن مجرى الصراع وتفاعلاته، فإنَّ إرادة البشر لها دورها الحاسم في حركة التاريخ، وإنَّ وعيهم له استقلالية ما عن وضعهم الاجتماعي.
* من الأفكار الراسخة في الماركسية أنَّ لكل طبقة مهمة تاريخية محددة، أو على الأقل البورجوازية والبروليتاريا. وحتى إنْ هي عجزت عن القيام بها تقوم بها طبقة أخرى أو فئة أخرى تنوب عنها، كما الأمر في حالة البونابرتية، ونظرية الثورة الدائمة التروتسكية، ومثل قيام العمال والبورجوازيين الصغار بالثورة البورجوازية في فرنسا. بل وللدولة أيضًا مهمة تاريخية، حددها إنجلز كما رأينا في ضبط الصراع الطبقي لحفظ النظام كما أشرنا. وهذه الفكرة تجد أساسها في فكرة الحتمية التاريخية الملتبسة والمختلف عليها بين الماركسيين. وهي فكرة ميتافيزيقية والكلام يبدو لاهوتيًّا للغاية، وهو يسلح الماركسيين بسلاح الإيمان بحتمية النصر، مما يدفعهم إلى تفسير أحداث التاريخ بطريقة غير مادية. هنا نتذكر مثال تحليل روزا لوكسمبورج (وهي ممن يرفضون الحتمية التاريخية) للثورة الروسية؛ إذ عزت ما حدث فيها لا إلى ظروف روسيا بل إلى عدم نضج البروليتاريا الألمانية لإنجاز مهماتها التاريخية([74]). وكان تصور الماركسيين عمومًا في تلك الفترة أنَّ الثورة الاشتراكية عالمية وأنها لابد أنْ تقوم في أكثر البلدان تقدمًا، لكن تصور البلاشفة أنها يمكن أنْ يبدأ في روسيا (نظرية “الحلقة الضعيفة” اللينينية([75])) ثم تمتد إلى أوروبا فتهرع الثورات في أوروبا إلى مساعدة روسيا على تجاوز تخلفها بسرعة. وحيث إنَّ هذا لم يحدث تكُوْن البروليتاريا الألمانية قد تقاعست أو لم تنضج للقيام بواجبها التاريخي. وعلى الطرف الآخر رفض المناشفة الروس وأنصارهم في أوروبا فكرة استيلاء البروليتاريا على السلطة بحجة أنَّ طبيعة الثورة بورجوازية، رغم أنَّ الظرف السياسي كان يسمح بذلك وهو ما حدث فعلًا على أيدي البلاشفة. أما فكرة قيام طبقة ما أو فئة ما بدور في التاريخ نيابة عن طبقة أخرى فهي مثال واضح على الطابع الميتافيزيقي لنظرية الحتمية التاريخية. فبدلًا من تحليل الوقائع على ضوء موازين القوى الفعلية يتم تصور مسار محدد للتاريخ ومهام تاريخية معينة لكل طبقة محددة سلفًا à priori فإذا قامت طبقة أخرى بتحقيق تلك “المهام” توصف بأنها نابت عن الطبقة الموكول لها تاريخيًّا بتحقيقها.
إنَّ فكرة وجود دور تاريخي للبورحوازية هي فكرة محافظة، بل مضادة للثورة. فهي أولًا: تتضمن “موعدًا” محددًا للثورات لا يمكن أنْ تنجح قبله، وهو وقت نضوج ما يُسمى بالشروط الموضوعية لقيام علاقات إنتاج جديدة. وثانيًا: تبرر تسلط تلك الطبقات في مرحلة ما يُسمى “صعودها التاريخي”. وثالثًا دعوة الطبقات الشعبية للسير خلف أو التحالف مع من يستغلونها في مرحلة صعودهم التاريخي المزعومة.
* تنطوي فكرة الحتمية التاريخية على طلب مدد من التاريخ؛ من قوانين الوجود، لتبرير كفاح البروليتاريا، مثلما تفعل بعض الأديان. وكأنَّ الكفاح من أجل الحرية والتقدم والرفاهية يحتاج إلى مبرر موضوعي. وكان يكفي نقد الوضع القائم والأيديولوجيا البورجوازية لدعوة الجماهير إلى النضال من أجل تحررها.
* تذكرنا فكرة الحتمية التاريخية بإشكالية “الإنسان مخير أم مسير” في الإسلام، فقد اختُلف عليها وعلى معناها وعلى حدودها. ولا توجد إجابة قاطعة شافية من قبل الماركسيين. لكن السؤال التالي قد يحسم الأمر إلى حد كبير: هل تتصور الماركسية مسارات أخرى محتملة للتاريخ غير النهاية الشيوعية؟ لم نقرأ سوى إجابة روزا لوكسمبورج: الاشتراكية أو البربرية، وإجابة لينين المراوغة: إنَّ الرأسمالية سوف تتمكن دائمًا من إيجاد مخرج لها إذا لم يتم تدميرها عبر التدخل الواعي للحزب الثوري. وهذه الإجابة تتضمن ما يعني أنَّ الرأسمالية لا يمكن أنْ تتحول إلا إلى الاشتراكية. وهذه هي بالضبط الحتمية التاريخية. وكثيرًا ما قرأنا تحليلات لقادة ماركسيين تصر على أنَّ الرأسمالية قد وصلت إلى طريق مسدود وأنها على وشك الانهيار([76]).
حسب كل ما سبق تنقض فكرة الحتمية التاريخية المادية الماركسية، فتصوِّر التاريخ على أنه محكوم بقوانين مستقلة، تحدد مهمات لمختلف القوى الاجتماعية، وتحدد للعالم مسارًا بعينه ذا نهاية سعيدة. أيْ أنَّ الفكرة المطلقة هي التي تحكم العالم.
* رفض ماركس وضع مخطط تاريخي للعالم، مقصرًا مخططه على غرب أوروبا. وبناء على تحليلنا السابق نضيف أنَّ مخطط المادية التاريخية ككل وليس المخطط التاريخي فحسب، لا يصلح لتفسير حركة المجتمعات عمومًا، بل ينطبق فقط على المرحلة الرأسمالية في غرب أوروبا. ولا يوجد أيُّ مخطط بديل. فمحاولة تلخيص العالم في نسق دائمًا لن تنجح في تفسير مختلف الظواهر التاريخية، فسيضطر أصحابها إلى استخدام طريقة بروكرست([77]).
* تنظر الماركسية إلى الطبقة العاملة على أنها طبقة عالمية واحدة بحكم وحدة مصلحتها في إنجاز الثورة الاشتراكية. هذه الفكرة شكلت أساس تقديم الماركسية كنظرية البروليتاريا العالمية. وبناء على ذلك تم إنشاء المنظمات الأممية الواحدة وراء الأخرى كنتيجة للفشل المتوالي. وكثيرًا ما نقرأ عبارة: العمال لا وطن لهم. وكأن نفي الواقع يكفي لإلغاء وجوده! شكلت هذه الفكرة أساسًا لإنشاء أحزاب ماركسية في بلدان بدون عمال، مقدمة نفسها للعالم كأحزاب عمالية. وكذلك توقع الماركسيون في بلد كروسيا أنَّ ثورتهم ستتلقى دعم البروليتاريا الأوروبية متى قامت هي الأخرى بثورتها. كما تم تصوير أيّ ظاهرة تنقض هذا التصور كانحراف انتهازي أو كنتاج لقصور وعي العمال، أو خيانة القادة البيروقراطيين للحركة العمالية.
في الواقع المادي وجدنا عمال بلاد ينخرطون في جيوش الاستعمار ويؤيدون دولهم في حروبها الخارجية الاستعمارية التي هدفت لمص دماء عمال بلد آخر. كما رأينا اليسار العمالي الصهيوني هو الذي لعب الدور الأكبر في إنشاء دولة إسرائيل العنصرية. واليوم يناضل عمال الغرب لمنع الهجرات "غير الشرعية" للعاطلين وبروليتاريا شرق أوروبا والعالم الثالث. والأمثلة لا تحصى على أنَّ العمال لديهم انتماء قومي ومصالح قومية مثلهم مثل الرأسماليين، الذين هم أيضًا لا وطن لهم لكنهم يتقاتلون على جني الأرباح مستغلين شعارات وطنية.
* إنَّ الماركسية تصر على أنَّ انقسام الناس إلى طبقات أعمق من أيّ انقسام آخر. وما رؤيتها هذه إلا تخيل لما يجب أنْ يكون عليه الأمر من وجهة نظرها. فالواقع يدل على غير ذلك، ويفسر ذلك الماركسيون تفسيرًا ميتافيزيقيًّا؛ فالمصالح الموضوعية للبروليتاريا تحددها كطبقة عالمية واحدة، وما الانقسامات الأخرى إلا نتيجة خداع الرأسمالية. فبدلًا من الانطلاق من الأرض؛ من الواقع الملموس، تنطلق الماركسية من السماء؛ من فكرة ميتافيزيقية، عكس زعمها بأنها تنطلق من الأرض إلى السماء. كأن البروليتاريا يجب أنْ تكون طبقة واحدة ويجب أنْ تؤمن بالشيوعية، لأن هذه وتلك هي الحقيقة المطلقة. وكان من الممكن أنْ نصدق هذا الادعاء إذا خالفت البروليتاريا الفكرة الماركسية تلك بضع مرات. لكن أنْ تكون مخالفة لها على طول الخط باستثناء لحظات قصيرة وأعمال متناثرة، فيشير إلى الطابع الميتافيزيقي للماركسية. فقد قدمت فكرة وأرادت أنْ يتوافق الواقع معها.
وبنفس المنطق يتصور جل الماركسيين الأرثوذكس الرأسمالية كطبقة عالمية واحدة وما الرأسماليات المحلية سوى أذرع وأفرع لهذا الطبقة العالمية، رغم الحروب التجارية والعسكرية بينها طول الوقت. ولا ننكر وجود رأسمالية عالمية، لكنها ليست مجموع الرأسماليات المحلية قط (سنعود بعد إلى هذه المسألة).
القضية أنَّ الجماعات الاجتماعية لا تفكر في مصالح "تاريخية" ولا تسعى إلى التضحية بمصالحها في المدى المنظور من أجل مصالح متخيلة في الأفق غير المنظور، وإلا لقامت الطبقات المالكة للثروة بالتنازل عن ثرواتها وحل جيوشها ولجلست مع بقية الناس إلى مائدة حوار عام حول مستقبل البشرية لتحقيق تعاون إنساني أجمل وأكثر راحة ويحقق السعادة للجميع! فعموم البشر ينظرون إلى الأفق المنظور، ولهذا ينقسمون إلى طبقات وشعوب وأمم وإثنيات وغيرها، بدرجات متفاوتة. هذا هو الواقع.
ونحن نرى جذر الميتافيزيقا الماركسية في هذه النقطة في نظرية العلاقة بين البناء التحتي والبناء الفوقي، بل وفي تعريف كل منهما. فالعامل الاقتصادي حسب الماركسية هو المحدد النهائي للبناء الفوقي الذي يشمل المنتجات الفكرية والتنظيمية للبشر. هكذا يتم تجاهل النوازع الكامنة في بنية النفس البشرية، والتي تلعب دورًا جوهريًّا في التكوين الاجتماعي وحركة التاريخ في المدى البعيد، أكثر من، وتقف خلف، العامل الاقتصادي نفسه. كما يتم بالتالي تجاهل دور أشكال التنظيم الاجتماعي للبشر منذ ظهورهم على الأرض، مثل تقسيم العمل على أساس فرق الجنسين وفروق السن، وتوزيع السلطات داخل العشيرة السابقة على أيّ شيء آخر. بجانب ما أشرنا إليه من قبل عن انقسام الناس إلى طبقات وحكام ومحكومين بسبب الصراع الدموي بين القبائل، أيْ أنَّ الانقسام إلى قبائل كان أسبق وأعمق من الانقسام إلى طبقات. وكان نشوء الدولة والطبقات مترتبًا على نزعات النهب والاستيلاء على عرق الآخرين وليس نتيجة التطور الاقتصادي. الخلاصة أنَّ انقسام الناس على أسس غير اقتصادية هو واقع بشري "أصيل" وليس نتاجًا لخدعة مزعومة أو توجهات انتهازية من قبل القادة، مع عدم نفي دور هذا وذاك.. إلخ. هكذا كان البناء الفوقي سابقًا على البناء التحتي. وهذا التصور لا ينفي أسبقية الواقع على الفكر، لكن ليس نمط الإنتاج بالذات. فعناصر مثل الحاجات المادية والحاجة إلى الأمن والخوف من المستقبل وبعض أشكال التنظيم الاجتماعي تشكل واقعًا موضوعيًّا.
* إذا تأملنا قليلًا ديالكتيك ماركس وإنجلز، باعتباره قانون الوجود، والمادية التاريخية ذات القوانين التي تحكم التاريخ، والمهمات التاريخية للطبقات، لوجدنا أنفسنا أمام فلسفة مثالية موضوعية عكسما قُدمت الماركسية كنظرية مادية. فالعالم وفقًا لها تحكمه قوانين، والتاريخ يتحرك في اتجاه معين بفعل قوانين الديالكتيك. بذلك نستنتج أنَّ الفكر يحكم العالم.
الأكثر عملية و"مادية" أيضًا أنْ يتم تناول الظواهر الاجتماعية حسب الوقائع الفعلية بدون الاستناد إلى نسق يشبه سرير بروكرست.
3- الاشتراكية العلمية:
* لم تنتصر طبقة العبيد ولا طبقة الأقنان في ثورة ما، كما أدت ثورات الفلاحين والعمال إلى سيطرة الرأسمالية (لذلك يسميها الماركسيون ثورات بورجوازية)، وبالتالي كيف يمكن أنْ نستنتج بالاستقراء أنَّ نضال العمال سيؤدي إلى نظام اشتراكي بدلًا من ظهور طبقة حاكمة جديدة مثلما حدث فعلّا في روسيا وكل الدول الاشتراكية سابقًا.
* من الظواهر الطريفة أنَّ ما يحدث فعلًا بدلًا من أنْ تهزم البروليتاريا البورجوازية، تقضي الأخيرة على البروليتاريا تدريجيًّا. فتطور الآلات ومعدات الإنتاج صار يطرد العمالة بسرعة، والجديد هو الانتشار المتسارع للطبعة الثلاثية والروبوت، ويزداد العمل الخاص الفردي انتشارًا، وأصبح الآن من الممكن أنْ تحل مشاريع فردية محل المؤسسات الرأسمالية بفضل هذا التقدم. وقد أشار ماركس نفسه لتنامي ظاهرة الأتمتة كعلامة لنهاية الرأسمالية، ومما قاله في هذا المقال المعقد والعسير الفهم: “إنَّ الآلة تمتلك المهارة والقدرة بدلًا من العامل”... “يختزل عمل العامل إلى عمل مجرد”، ويقصد عمل ذهني... “إنَّ ارتفاع القدرة الإنتاجية للعمل وأعظم إمكانية لنفي العمل الضروري هو ميل حيوي لرأس المال”... “هكذا يعمل رأس المال في اتجاه انحلاله باعتباره الشكل السائد للإنتاج”([78]).
* وقد ظهرت كتل ضخمة من المهمشين وأشباه المهمشين، أغلبهم يعمل وينتج، بل أصبحوا يمثلون أكبر تهديد للنظام الرأسمالي والنظم العالمثالثية. ولم تتنبأ أو تستوعب نظرية ماركس احتمال ظهور هذه الكتل كـ “طبقة” الجديدة ضخمة الحجم وجذرية التفكير، تعمل في الإنتاج والتوزيع والتبادل، وتضم مختلف التخصصات (سنحلل هذه المسألة في فصل خاص). كما لم تستوعب نظرية ماركس أو تتصور تحول مجموعات التكنوقراط إلى طبقة ضخمة العدد تساهم في إنتاج الفائض بنصيب كبير للغاية، بحيث أصبح العمال من أصحاب الياقات بلا أهمية في عملية الإنتاج الحديث.
* يضاف أيضًا ظاهرة تراجع فوضى الإنتاج إلى حد ما مع نمو التروستات والكارتلات والشركات متعددة الجنسية، بخلاف مؤسسات دراسات الجدوى. بل ويتزايد الآن الإنتاج حسب الطلب بفضل التكنولوجيا فائقة التطور. أيْ أنَّ الطلب أصبح يسبق عرض السلعة في كثير من الأحيان.
* أما نظرية ماركس عن ميل معدل الربح إلى الانخفاض في ظل نمط الإنتاج الرأسمالي فبها مغالطة. إنَّ الأجور تتقلص إذا حسبناها بساعات العمل، كنتيجة لتطور الإنتاجية، كما تنخفض قيمة رأس المال الثابت بساعات العمل كنتيجة أيضًا لارتفاع الإنتاجية، وبالتالي يرتفع معدل فائض القيمة نتيجة تغير التركيب العضوى لرأس المال. وقد أشار ماركس نفسه لهذا وذاك كما أسلفنا، لكنه لم يعطهما القيمة المناسبة. وقد افترض ما أسماه بميل معدل الربح للانخفاض، معتبرًا أنَّ ميله إلى الارتفاع يتم بالآليات التي أسماها العوامل المضادة. وكأن الميل إلى الانخفاض هو الأصل، بينما – في الواقع – أنَّ كلا الميلين هما من أسس أداء رأس المال، الذي يميل حسب ماركس نفسه إلى تطوير وسائل الإنتاج ورفع إنتاجية العمل كسمة أصيلة له. فلا يوجد ميل أصيل لانخفاض معدل الربح، بل آليات للتراكم تحافظ على معدله إنْ لم ترفعه أو تعيق انخفاضه. هذا إذا نحينا جانبًا “العوامل المضادة” العرضية أو المفتعلة، مثل تخفيض الأجور بأقل من قيمة قوة العمل أو زيادة ساعات العمل. وقد بينت الدراسات الاقتصادية التي تمت للكشف عن ميل معدل الربح أنه لا يميل إلى الانخفاض باستمرار، بل إنه يرتفع وينخفض حسب عوامل متعددة([79]). والمؤكد أنَّ أجر العامل إذا حسبناه بساعات العمل ينخفض باستمرار، حيث إنَّ احتياجاته من السلع والخدمات تتكلف أقل فأقل. بل وينطبق الشيء نفسه على قيمة المعدات والخامات، فتنقص إذا حسبت بساعات العمل اللازمة لإنتاجها، بفضل الارتفاع المستمر في إنتاجية الآلات والعامل نفسه. إنَّ توظيف عامل واحد يحتاج اليوم إلى رأسمال ضخم ويزداد باستمرار مع التقدم، دون أنْ ينخفض معدل الربح، لأنَّ معدل فائض القيمة يرتفع بشكل مدهش. فمن الظواهر الجديدة في عالم الرأسمالية اليوم ارتفاع أهمية العلم والمعرفة في الإنتاج، أيْ أنَّ العامل يضخ من القيمة في إنتاج السلعة جزءًا كبيرًا، بل وأصبحت الكمية اللازمة من المواد الخام أقل بفضل تكنولوجيا النانو وغيرها. كل هذا أدى لارتفاع معدل فائض القيمة. وإنَّ الارتفاع الفائق في درجة مهارة العمل جعلت وتجعل ساعات العمل إذا حسبت بالعمل البسيط هائلة. فالعامل الماهر؛ التقني المتقدم، يقدم من العمل أضعاف أضعاف العامل القديم البسيط، ومن ثم تصبح نسبة العمل غير المدفوع من عمل العامل كبيرة للغاية ومتزايدة. ومن الملاحظ أنَّ ماركس قد رصد ظاهرة كانت تحدث في عصره، وهي طرد العمالة البسيطة للعمالة الماهرة بفضل تطور الميكنة. لكن ما حدث بعد ذلك هو العكس، فالعامل البسيط لم يعد له مكان يذكر في عملية الإنتاج، بل وصار هناك دور أكبر بكثير للعلماء والباحثين والتكنوقراط الذين على أعلى مستوى، وصار للسوفت وير وضع متميز في الإنتاج والتوزيع. باختصار لا يجب التعامل مع الاقتصاد الرأسمالي على أنه شيء ثابت، بل يجب الأخذ في الاعتبار تطور قوى الإنتاج ومهارة العامل وإنتاجيته، ومعدل استهلاك رأس المال الثابت. وكل هذا قابل للتغير (أليس هذا هو الديالكتيك؟!). إنَّ أيّ أرقام في المعادلات التي وضعها ماركس وروزا لوكسمبورج والماركسيين بعدهما يمكن أنْ تتغير حسب معدل وتوجهات تطور قوى الإنتاج. أخيرًا نضيف فرضية تصور تحول الرأسمالية إلى اقتصاد مخطط (اشتراكي)، فهل سيوقف تراكم “رأس المال”؟ أم أنه سيستمر؟ وإذا استمر أليس هذا يؤدي إلى انخفاض معدل “الربح” أو الفائض؟ ألن يستمر تقدم قوى الإنتاج أم أنه سيركد؟ هذه تساؤلات مقدمة للماركسيين.
نضيف ملحوظة أخرى: إنَّ الدراسات التي يقوم بها ماركسيون تؤكد ميل معدل الربح إلى الانخفاض في الدول الرأسمالية الكبرى، وهم عمومًا الأكثر اهتمامًا بهذه القضية، ولذلك نشك في وجود دوافع أيديولوجية (بالضبط مثلما تؤكد كتاباتهم عن أصل الدولة نظرية ماركس وإنجلز). من الناحية العملية يستحيل كما نظن اختبار فرضية ماركس النظرية، لأسباب متعددة، منها عدم دقة إحصائيات الشركات؛ المتعمدة، وكثرة العوامل العرضية المؤثرة في عمل رأس المال. ومما يؤخذ في الاعتبار أنَّ معدل الربح قد شهد انخفاضًا في الغرب نتيجة لدولة الرفاه، التي نتجت عن ضغوط الحركات الاشتراكية، أيْ لأسباب سياسية، ثم نتيجة لظاهرة فائض رأس المال في السنوات الأخيرة، لكن هل ستستمر ظاهرة فائض رأس المال؟ ليس هناك توقع دقيق لهذا الأمر.
يمكن إذن – عكسما ذهبت روزا لوكسمبورج – أنْ يستمر التراكم الرأسمالي في ظل وجود نمط إنتاج رأسمالي صرف، بتراكم أدوات الإنتاج عند الرأسماليين وازدياد معدل ترفهم، ولا توجد أيُّ معادلة منطقية تؤكد انهيار الرأسمالية بعد أنْ ينفرد نمط الإنتاج الرأسمالي. فتطور الإنتاجية يجعل من الممكن تقليص نصيب العامل من ساعات عمله كما أوضحنا. بالتالي لا نستطيع أنْ نتصور حدوث انهيار نهائي للرأسمالية إلا إذا أدى تطور قوى الإنتاج إلى الاستغناء عن العمل المأجور. وهو أمر متصور تمامًا في ظل تنامي الأتمتة والتوسع في إنتاج الإنسان الآلي وتقليل عدد العمال واستخدام الذكاء الصناعي. فيمكن أنْ نتصور أنْ تسير عملية الإنتاج وتقديم الخدمات بدون عمال، ويكفي إشراف صاحب المنشأة أو أصحابها القلائل في حالة المنشآت الكبيرة. أما المجتمع التالي فلا يوجد ما يدل على حتمية أنْ يكون اشتراكيًّا. أنْ تنشأ أنماط إنتاج أكثر توافقًا مع تقدم قوى الإنتاج فهذا ما حدث فعلًا في الواقع، لكنْ أنْ يكون تحول الرأسمالية إلى الاشتراكية بالذات بشكل محتم فلا يوجد أيُّ دليل عليه. والأغلب أنَّ ما بعد الرأسمالية سيكون نظامًا قائمًا على العمل الحر مع استمرار السوق، أو قد تسيطر طبقة من التكنوقراط. ولهذا الموضوع عودة.
* إنَّ تعبير “الاشتراكية العلمية” هو تعبير خادع. فكلمة “علمية” توحي بأنَّ هذا هو المشروع “الصحيح” وأنه ليس مجرد هدف بل هدف يحقق غائية تاريخية؛ إنه مشروع مبني على اتجاه وقوانين تاريخية موضوعية، أيْ لا علاقة له بالأيديولوجيا. والفكرة مرتبطة بنظرية الحتمية التاريخية. في الواقع كانت نقطة انطلاق ماركس وإنجلز هي مشروع الاشتراكية والتحيز للطبقة العاملة. ولخلق أسس “علمية” لهذا المشروع تم التوسع في تحليل رأس المال وصناعة المادية التاريخية. وقد رأينا أنه لا دليل على حتمية الاشتراكية ولا على تمسك البروليتاريا - التي قد تتحلل في النهاية تلقائيًّا – بهذا المشروع. أما إذا وافقنا – جدلًا - على علمية تحليل الرأسمالية وأنها حتمًا ستؤول إلى الشيوعية، يظل لنا الخيار في الانحياز إلى هذا المشروع أو لا، وهذا الموقف لا علاقة له بالعلم، بل بالأيديولوجيا. فهنا نجد أنَّ الماركسية قد صورت أنَّ هناك غاية تاريخية خفية - رغم إنكار بعض التلاميذ - ولأنَّ الشيوعيين مكلفون من قبل التاريخ أو محتواه الغائي بتحقيق هذه الغاية؛ شيء لا يختلف عن أيّ “رسالة سماوية” وإنْ بلغة الفكر. وإنَّ ربط ماركس النظرية بالممارسة وتجاوز الفلسفة التأملية يقودنا حتمًا إلى هذا الاستنتاج؛ فأيِّ ممارسة تختار؟ إنَّ الخيار أيديولوجي بالضرورة. بل يمكن أنْ نعتبر أيضًا أنَّ رفض الاستغلال والقهر هو خيار أيديولوجي (وبالدقة نقول: يوتوبي) وليس الموقف “الصحيح”.
وتعبر فكرة ربط المشروع الاشتراكي بقوانين التاريخ أو الفكر حتمًا عن الرغبة في الخضوع لقوة ما خارج النفس؛ فالإنسان لا يريد (هو) الاشتراكية، بل إنها إرادة التاريخ أو قوانين الوجود. الإنسان هنا ضعيف ومنسحق ومضطر للخضوع لقوة عليا. بالضبط مثل الكلام عن الدور التاريخي للطبقات. فالرأسمالية – مثلًا – تحقق غاية تاريخية، ليست مجرمة تمامًا، بل مرت بمرحلة ثورية ثم دخلت طور الرجعية والتعفن بحد وصف جل الماركسيين، مضطرة إلى تحقيق ذاتها كدور تاريخي قبل أنْ تتراجع وتصير رجعية.
* لقد أشار إنجلز إلى أنَّ الاشتراكية العلمية تفترق عن الاشتراكية الخيالية في أنَّ الأولى ترتبط بخيط مع المثالية الألمانية، ويقصد الديالكتيك بالتحديد. فأين العلمية في هذه الحالة؟! ومما يدل على اضطراب تلك الأطروحة وصف إنجلز للديالكتيك بأنه علم، كما وصف ارتباط الماركسية بالفلسفة الألمانية (أيْ الديالكتيك بالتحديد) على أنه الجانب الفلسفي للعلم.
* إنَّ فكرة حتمية الاشتراكية تتضمن بالضرورة أنَّ هناك غاية للتاريخ، ونهاية معينة. وهذا يذكرنا بأفكار هيجل في هذا المجال؛ فالعقل يحكم التاريخ، وما التاريخ إلا تقدم الوعي بالحرية، أيْ أنَّ حركة التاريخ غائية، تنتهي بتحقق الوعي بالحرية. هذه الغائية تفترض بالضرورة وجود إما عقل غير مدرك لذاته (هيجل) أو عقل واع يتحكم في العالم، وهي فكرة تعلن المادية الماركسية رفضها. ولكن استبدل إنجلز قوانين الديالكتيك الثلاثة بـ العقل لدى هيجل، هكذا محولًا المادية الماركسية إلى مثالية، فأين الفرق بين قوانين الوجود وعقل هيجل؟ لا فرق، ففي الحالتين الفكرة المطلقة تحكم العالم. وكما قال هيجل عن التاريخ إنه تقدم الوعي بالحرية ذهبت الماركسية إلى أنَّ التاريخ يتحرك نحو الشيوعية؛ مجتمع الحرية، حيث يصنع الناس تاريخهم بوعي بعد التحرر من الاستغلال والاستلاب باختفاء الطبقات والدولة. إنها نفس الفكرة المثالية. وقد قال ماركس: “لا يمكن أنْ تختفي الفلسفة إلا بتحققها”([80]). فالشيوعية هي إذن تحقيق للفلسفة؛ للديالكتيك والقوانين التي تتحكم في حركة التاريخ.
* قامت بالفعل الثورة الاشتراكية، لكن على عكس تصورات ماركس، في بلدان متأخرة. وفي روسيا كان احتدام الصراع الطبقي ناتجًا عن هزيمتها في الحرب وليس ناتجًا – حسب النظرية – عن تفاقم تناقضات الرأسمالية. وهذا استلزم ابتكار نظريتي “الحلقة الضعيفة” اللينينة، و”الثورة الدائمة” التروتسكية، وهما نظريتان تناقضان أسس الماركسية، ولم تحقق أيٌّ منهما النتيجة المتوقعة.
4- دور الدولة في عمل النظام:
لم يقدم ماركس نظرية واضحة في الدولة عمومًا (غالبًا لم يسعفه الوقت ولا حالته الصحية). كما أهمل - إلى حد كبير - دور الدولة في عمل النظام الرأسمالي، ودور السياسة عمومًا في تطور الرأسمالية، إلا في إشارت عابرة وخطابات، دون تقديم شرح وافٍ، اللهم إلا في الفصل (من كتابه “رأس المال”) الذي تناول دور الدولة في التراكم البدائي لرأس المال، أيْ المرحلة المبكرة لتكوين رأس المال. وقد اعتبرها مجرد جسد طفيلي. رغم أنَّ دور الدولة كان واضحًا في عصره في تحقيق التراكم البدائي لرأس المال وفتح أسواق المستعمرات بالقوة المسلحة كما أشار بنفسه. وفي بلدان عديدة دعمت الدولة التحول الرأسمالي بقوة كما في ألمانيا واليابان، وحتى فرنسا النابليونية. وفي بلدان كثيرة لعبت الدولة دورًا في الاستثمار الرأسمالي، مثل روسيا واليابان بالمشاركة مع الرأسماليين. وللدولة دور فعال في إنتاج وإعادة إنتاج الطبقات الاجتماعية عمومًا. وفي النظام الرأسمالي ككل لا يمكن إغفال دور الدولة في عمل ودورة رأس المال. ولو راجعنا تاريخ الرأسمالية لوجدنا أنَّ دور الدولة كان مهمًا في نمو وحماية نمو رأس المال الخاص. ولا يمكن الاكتفاء بالنظر إلى الدولة كأداة للقمع، فحتى يكون هذا الدور فعالًا لابد من تقديم بعض الفتات للشعب، حسب قوة المقاومة الشعبية، ولابد من تدخل الدولة في إنتاج وإعادة إنتاج الأيديولوجيا وكل مكونات ما يُسمى بالبناء الفوقي، علاوة على دورها في تشكيل وإعادة تشكيل البنية التحتية، من تطوير قوى الإنتاج إلى التدخل في تقسيم العمل الاجتماعي وحتى التقني، إلى إعادة إنتاج علاقات الإنتاج والتبادل والتوزيع والاستهلاك. هذه الأدوار الثلاثة تعمل معًا لتحقيق استقرار النظام. فالقمع وحده لا يكفي لتحقيق هذا الاستقرار، وحتى الأيديولوجيا (أو الخداع) لا تنتج تأثيرًا إلا إذا ظهرت كأنها حقيقة، وهذا يشترط تقديم بعض المزايا للجماهير. بل قد تقوم الدولة بقمع الطبقات المسيطرة إلى هذا الحد أو ذاك لإرضاء الجماهير في ظروف معينة بغرض المحافظة على استقرار النظام، وهذا كان واضحًا - مثلًا – في حالة النازية في ألمانيا، وفي حالة الناصرية في مصر([81]). كل هذا لا يستبعد كون الدولة هي – في النهاية – جسد طفيلي ومجرد عصابة مسلحة من قتلة ولصوص محترفين، تجر وراءها مجموعات من الخدم من بيروقراطيين وتكنوقراط، وتزين وجهها بمساحيق وألوان عدة لتبدو مؤسسة محايدة اجتماعيًّا. فكل ما تقوم به من أدوار في المجتمع يصب لصالحها ولصالح الطبقة المسيطرة بشكل أو بآخر. ولا يظهر الوجه الحقيقي للدولة بسفور كامل إلا أثناء الانتفاضات الكبرى، فتكون هذه هي لحظة الحقيقة.
ومن الأفكار الماركسية الراسخة الثابتة أنَّ الدولة هي نتاج للتناقضات الطبقية؛ ترتبت على تكون الطبقات. وقد تناول إنجلز الأمر محاولًا إثبات أنَّ انقسام الناس إلى طبقات ومن ثم نشوء الدولة قد حدثا داخل المجتمعات القديمة المشاعية، دون تقديم قرائن أو أدلة مقنعة. بينما المعلومات المتوفرة تقول إنَّ نشوء الطبقات والدولة قد حدث بالأساس نتيجة الغزوات التي كانت بين القبائل، والتي انتهت إما بالقضاء على قبائل أو بسيطرة إحداها على الأخرى، مكونة طبقة حاكمة ودولة في ذات اللحظة. وقد فند كاوتسكي أفكار إنجلز بعد ذلك تفصيلًا([82]).
وفي حين وصف ماركس الدولة بأنها زائدة طفيلية في المجتمع تعيق تطوره الحر؛ إلا أنَّه حين جاء الكلام عن دولة البروليتاريا وجدنا كلامه ينقلب؛ فالدولة تصبح فقط “البروليتاريا بوصفها طبقة حاكمة”. ولا يتكلم عن الزائدة الطفيلية ولا منع تطور المجتمع الحر. هنا تصبح الدولة قوة تقدمية. ولا نجد ما نضيفه هنا على نقد باكونين لماركس في هذه القضية([83]).
وقد ترتب على إهمال ماركس لنظرية الدولة عدم تصوره لإمكان قيام نظام دولتي حديث، وهو ما حدث فعلًا، وعدم وضع تصور لشروط وآليات إقامة دولة بروليتارية “تضمحل”.
إنَّ إصرار ماركس وتلاميذه على دور الدولة في بناء الاشتراكية وتسميتها بديكتاتورية البروليتاريا شيء يستحق البحث والتعمق. ونحن نتصور أنه لو كانت الدولة البورجوازية في أيّ بلد قد تبنت الماركسية وقامت بانقلاب اجتماعي - اقتصادي وصادرت الرأسمالية وأقامت اشتراكية دولتية على النمط الستاليني لأيدها الحزب الشيوعي بحماس([84]).
لقد تبنت الماركسية نظرية مبسطة وميكانيكية عن الدولة. فاعتبرتها مجرد آلة للقمع في يد الطبقة المسيطرة، وأنها مجرد نتاج للتناحرات الطبقية، وجزءًا من البناء الفوقي الذي ينتجه البناء التحتي. واستنتجت من هذا أنها ستتلاشى تلقائيًّا عندما ينتهي النظام الطبقي، حيث لن تكون هناك حاجة إليها. لذلك ناهضت بشدة فكرة حل الدولة أو تفكيكها (إلا من أجل بناء دولة أخرى) وهو خلافها الأساسي مع الأناركية.
5- النزعة العلموية – الوضعية:
قدمت الماركسية نفسها كمجرد علم، وما الكلام عن علاقتها بالفلسفة أو أنها فلسفة ستختفي حين تتحقق، سوى مجرد إشارات عابرة تدل على التشوش أكثر مما تدل على أفكار راسخة. فالديالكتيك، والمادية التاريخية، والاشتراكية هي علوم، تقدم الحقيقة، وليست مجرد اختيارات. بل تم نقد فكرة الأيديولوجيا بعنف، وحين اعترف لينين بأنَّ الماركسية أيديولوجيا ابتكر تعبير: الأيديولوجيا العلمية، وتبعه الماركسيون الأرثوذكس. إنها إذن تقدم الحقيقة العلمية، وهي نتاج بحث علمي وليست مجرد نتاج رغبة ذاتية في تغيير العالم. بل تم انتقاد الاشتراكية “الطوبوية” لأنها “غير علمية” بالتحديد. هذا المشروع المستحيل لإحلال العلم محل الأيديولوجيا، وتحويل الأيديولوجيا نفسها إلى علم يفسر لنا كيف تحولت الماركسية إلى نظرية جامدة، فقيرة وعاجزة عن تناول الواقع المتغير. كما تم استخدام هذه العلموية في سحق الفرد في النظم الاشتراكية، وجعل الهدف الأسمى هو بناء المجتمع والدولة، دون ما اعتبار للذات الإنسانية. ويسعنا أنْ نشير إلى أنَّ كتابات ماركس المبكرة؛ المخطوطات، قد نشرت بعد تكون الماركسية كـ “علم” بكثير (1932)، وهي ما اعتبرها ألتوسير المرحلة الأيديولوجية في فكر ماركس، قبل أنْ يقيم قطيعة مع الهيجلية. وماركس في تلك المخطوطات كان “إنسانيًّا” قبل أنْ يشرع في بناء نظريته “العلمية”.
في الواقع هذه النزعة العلموية للماركسية تتضمن ميلها إلى تقديم نفسها كحقيقة موضوعية لا يأتيها الباطل، وكل من يخالفها يتمثل أيديولوجيا بمعني الوعي الزائف؛ شيء يشبه الكفر. وهذه الحقيقة المزعزمة لا تختلف عن الدين، بل هي بالتحديد ديانة علمانية، مقدساتها هي البروليتاريا والدولة، العمالية – زعمًا – والحزب الماركسي. أما الآخر؛ المدنس، فيشمل كل ما عدا ذلك. بل يتم نعت البعض بالمرتد (مثل كاوتسكي) أو الانتهازي البورجوازي التافه ضيق الأفق.. إلخ. كأنَّ هذا الآخر يعرف الحقيقة وينكرها؛ أيْ: كافر بالمعنى الحرفي للكلمة.
***********************
‘كانت الماركسية تمردًا على الفكر البورجوازي، وقد دعت إلى تجاوز النظام الرأسمالي لتحقيق الشعارات الإنسانية التي رفعها مفكروه. لكنها طرحت مشروعها الثوري بنفس أدوات البورجوازية التي تمردت عليها: ادعاء تقديم الحقيقة المطلقة، التمسك بالميتافيزيقا متمثلة في قوانين الوجود والتاريخ، تقديم الوعد بالخلاص في ملكوت الاشتراكية، الثقة في آلة الدولة وتنصيبها كبانٍ للنظام الذي بشرت به. إنها فلسفة لبيروقراطية الدولة أكثر مما هي فلسفة للبروليتاريا. ولو طبقنا ما قاله ماركس من أنَّ الفلسفة لا يمكن أنْ تختفي قبل أنْ تتحقق، لقلنا إنَّ الماركسية قد ماتت بالفعل‘
([1]) Karl Korsch, Marxism and Philosophy
([2]) .Ibid
([3]) Critique of Hegel’s Philosophy of Right, Introduction
([4]) Engels, Socialism: Utopian and Scientific, Historical Materialism
([5])The German Ideology, 4. The Essence of the Materialist Conception of History, Social Being and Social Consciousness
([6]) لينين، مصادر الماركسية الثلاثة وأقسامها المكونة الثلاثة.
([7]) Economic & Philosophic Manu--script--s of 1844
Capital, vol. I, Afterward to the Second German Edition ([8])
([9]) Dialectics of Nature, II. Dialectics
وهذا هو النص بالإنجليزية:
" The law of the transformation of quantity into quality and vice versa- The law of the interpenetration of opposites- The law of the negation of the negation.”
([10])Anti – Dühring, Part I: Philosophy XIII. Dialectics.
Negation of the Negation
“Dialectics, however, is nothing more than the science of the general laws of motion and development of nature, human society and thought.”
([11])Dialectics of Nature
([12]) Socialism: Utopian and Scientific, The Science of Dialectics
([13]) A Contribution to the Critique of Political Economy, preface. وبقية الموضوع هو: “وفي هذه اللحظة تحل حقبة من الثورة الاجتماعية. فتعديل القاعدة الاقتصادية يجر في أذياله قلبًا سريعًا بدرجة أكثر أو أقل، لكل الصرح العلوي الهائل. وعند دراسة الانقلابات التي من هذا النوع يجب دائمًا أنْ نفرق بين القلب المادي الذي يحدث في أحوال الإنتاج الاقتصادية والتي يمكن تقريرها بدقة عالية، وبين الأشكال القانونية والسياسية والدينية والفنية والفلسفية، أو بكلمة واحدة الأشكال الأيديولوجية التي يدرك الناس في ظلها هذا الصراع ويجاهدون في سبيل فضه. إذا لم يكن في الإمكان الحكم على فرد طبقًا لما يراه هو عن نفسه، فلن يكون في الإمكان الحكم على حقبة مشابهة من الثورة على أساس وعيها بنفسها؛ وإنما بالعكس يجب تفسير هذا الوعي بمتناقضات الحياة المادية في أحشاء المجتمع القديم. وهذا هو السبب الذي من أجله لا تكلف البشرية نفسها إلا بمهام تستطيع تحقيقها. والواقع، لو نظرنا عن كثب لاكتشفنا دائمًا أنَّ المهمة لا تظهر إلا إذا كانت الظروف المادية اللازمة لتحقيقها قائمة أو في سبيل التكون على الأقل. من ناحية الخطوط العريضة نستطيع أنْ نعتبر أساليب الإنتاج الآسيوية والقديمة والإقطاعية وفي المجتمع البورجوازي الحديث كأنها حقب متدرجة في التكوين الاقتصادي للمجتمع. وتشكل أحوال الإنتاج البورجوازية الشكل المتناقض الأخير من عملية الإنتاج الاجتماعي. ولكن التناقض ليس فرديًّا، ولكنه ينبعث من الأحوال الاجتماعية التي يعيش فيها الأفراد. أو أنَّ القوى الإنتاجية التي تنشأ في أحشاء المجتمع البورجوازي تخلق في الوقت نفسه الأحوال المادية التي تسمح بفض هذا التناقض، ومن ثم فبهذا التكوين الاجتماعي ينتهي عصر ما قبل التاريخ للمجتمع البشري”.
([14])Socialism: Utopian and Scientific, The Science of Dialectics
([15]) رسالة إلى يوسف بلوخ، 21 - 22 سبتمبر 1890.
([16]) Engels to Starkenburg, London, 25 Jan., 1894
([17]) على سبيل المثال كاوتسكي، “مقالة في المادية التاريخية”، بليخانوف في “التصور المادي للتاريخ”.
([18])Capital, Vol. I, chapter one, footnote 34
([19]) المشاعية – العبودية – الإقطاعية – الرأسمالية – الاشتراكية.
Dialectical and Historical Materialism
([20]) Letter from Marx to Editor of the Otecestvenniye Zapisky
([21]) The Origin Of The Family, Private Property, And The State, Chapter IX
([22])The Civil war in France
([23]) All revolutions perfected this machine instead of breaking it
[24])) مقدمة 1891 لكتاب: الحرب الأهلية في فرنسا
([25])Critique of the Gotha Programme
([26]) Engels to August Bebel, In Zwickau, 18 - 28 March,1875
([27]) Anti - Dühring, Part III: Socialism, Theoretical
([28]) Statism and Anarchy
([29])Anti - Dühring, Introduction
([30]) “The hand - mill gives you society with the feudal lord- the steam - mill, society with the industrial capitalist”
Karl Marx, The Poverty of Philosophy, Chapter Two: The Metaphysics of Political Economy, The Method, Second Observation
([31])Strikes and Combinations of Workers Ibid.,
([32]) Manifesto of the Communist Party, 1848, Bourgeois and Proletarians
([33])A Contribution to the Critique of Political Economy, preface
([34])Marx - Zasulich Correspondence February/March 1881
([35]) :Abstract from Marx to J. Weydemeyer in New York
“What I did that was new was to prove: (1) that the existence of classes is only bound up with particular historical phases in the development of production (historische Entwicklungsphasen der Production), (2) that the class struggle necessarily leads to the dictatorship of the proletariat, (3) that this dictatorship itself only constitutes the transition to the abolition of all classes and to a classless society.”
([36]) طريق السلطة، ص ص 8 - 9.
([37]) قال تروتسكي: “إنَّ الاشتراكي الديموقراطي الثوري لا يقتنع فقط بالنمو الحتمي(!) لحزب البروليتاريا السياسي، بل كذلك بحتمية(!) انتصار أفكار الاشتراكية الثورية داخل هذا الحزب”. نقلًا عن: Ernest Mandel, The Leninist Theory of Organization, II. Proletarian class struggle and proletarian class consciousness
“The revolutionary social democrat is convinced not only of the inevitable (!) growth of the political party of the proletariat, but also of the inevitable (!) victory of the ideas of revolutionary socialism within this party.”
([38])Engels to J. Bloch In Königsberg:
“Marx and I are ourselves partly to blame for the fact that the younger people sometimes lay more stress on the economic side than is due to it. We had to emphasise the main principle vis - à - vis our adversaries, who denied it, and we had not always the time, the place´-or-the opportunity to give their due to the other elements involved in the interaction.”
([39])The German Ideology, 4. The Essence of the Materialist Conception of History.
([40]) هذه فكرة ماركس في الأصل؛ فالبروليتاريا تظل “في ذاتها” كطبقة في مواجهة رأس المال، وتصير “لذاتها” بعد أنْ تمتلك الوعي بمصالحها كطبقة، ويقصد الوعي السياسي. The Poverty of Philosophy, Strikes and Combinations of Workers
([41]) جون مولينو، هل الماركسية فلسفة حتمية؟
([42])Letter from Marx to Editor of the Otecestvenniye Zapisky
([43]) Ibid.
([44]) Capital, Vol. I ch. 32
([45])Capital, Vol. I. Chapter 25
([46])The Struggle of the Masses
([47]) Capital, Vol. III, Chapter 13
([48])Capital, Vol. III, Chapter 14
([49])Capital, Vol. III, Chapter 6
([50]) مقدمة إنجلز لكتاب “بؤس الفلسفة”.
([51])Socialism: Utopian and Scientific, The Science of Dialectics
([52])Ibid., the chapter of Historical Materialism
([53]) The Civil war in France
وقد استخدم ماركس كلمة تحطيم:
“The unity of the nation was not to be broken, but, on the contrary, to be organized by Communal Constitution, and to become a reality by the destruction of the state power.”
(التشديد من عندنا).
([54])Frederick Engels, The Principles of Communism
([55]) المصدر السابق.
([56])Engels, Socialism: Utopian and Scientific, Historical Materialism
([57]) في كتاب “علم المنطق”، الجزء الثاني (االمنطق الذاتي)، القسم الأول (الذاتية)، الفصل الثاني (الحكم).
Leonardo Abramovich, Hegel and Professor Krug´s Pen: The Erfahrung([58]) as Principle of the Logical Movement.
Erfahrung = كلمة ألمانية تعني الاستنباط أو الاستدلال.
([59]) المادية والثورة.
([60])Dialectics of Nature
([61]) The Materialist Conception of History
([62])Stagnation and Progress of Marxism
([63]) قال إنجلز في كتابه: ديالكتيك الطبيعة: “لقد تم استخلاص قوانين الديالكتيك من تاريخ الطبيعة والمجتمع البشري”. وكرر نفس المعنى في كتابه: الاشتراكية الخيالية والاشتراكية العلمية، الفصل الثاني.
([64]) Philosophy of right, 24
([65])Manifesto of the Communist Party, Proletarians and Communists
([66]) Critique of Hegel’s Philosophy of Right, Introduction
([67]) The Class Struggle
([68]) What is to be done? PDF file, p. 17
([69])Hegel. Op. cit., 258
([70]) The Origin of the Family, Private Property and the State, III
([71]) النص هو: “إنَّ تاريخ كل مجتمع حتى الآن هو تاريخ صراع الطبقات”، لكن في الطبعة الألمانية الرابعة أضاف إنجلز في الهامش: “إنَّ هذا هو التاريخ المكتوب”.
([72]) Manifesto of the Communist Party -
Ludwig Feuerbach And The End of Classical German Philosophy, p. 29
([73]) مثال ذلك كتاب: Anti - Dühring ، فصل: Theory of Force
([74]) الثورة الروسية 1917، ص 1.
([75]) رأى لينين أنَّ البلدان الرأسمالية عبارة عن حلقات تشكل سلسلة مترابطة، ورأى أنَّ روسيا كان الحلقة الضعيفة في السلسة، فإذا انكسرت تنفك السلسلة جميعها، ولأنها الحلقة الضعيفة فإنها الأكثر قابلية للانكسار، ومن ثم تمتد الثورة إلى بقية السلسلة.
([76]) هناك أمثلة عديدة، نذكر منها: كتاب لينين “الإمبريالية أعلى مراحل الرأسمالية”. والعنوان نفسه يحمل هذه الدلالة - بيان الأممية الرابعة عام 1946 - تروتسكي، احتضار الرأسمالية وبرنامج الأممية الرابعة، حيث قال في أول موضوعة بعنوان: المقدمات الموضوعية للثورة الاشتراكية: “فقد بلغت المقدمات الاقتصادية للثورة البروليتارية، منذ زمن طويل، أعلى نقطة يمكن بلوغها في ظل الرأسمالية: توقفت قوى الإنتاج عن النمو، ولم تعد الاختراعات الجديدة والتطورات التقنية الحديثة تؤدي إلى تنامي الثروة المادية. وتأتي الأزمات الظرفية، التي تحدث ضمن ظروف الأزمة الاجتماعية للنظام الرأسمالي بمجمله، لتثقل كاهل الجماهير بحرمانات وآلام متعاظمة باستمرار. ويعمق نمو البطالة بدوره الأزمة المالية التي تعاني منها الدولة ويهدم الأنظمة النقدية المتزعزعة. أما الحكومات، سواء كانت ديموقراطية أو فاشية، فتنتقل من إفلاس إلى آخر”– وحديثًا، بحث “منظورات عالمية: 2018 عام الأزمة الرأسمالية”، مايو 2018.
([77]) هذه أسطورة يونانية تتكلم عن شخص يسمى بروكرست كان يعمل حدادًا وقاطع طريق. وكان هذا الرجل لديه سرير حديدي، وقد اعتاد أنْ يهاجم الناس ويخطفهم ويضعهم على سريره، ويقوم بمط أجسادهم أو قطع أرجلهم لتتناسب أطوالهم مع طول سريره.
([78])The Fragment on Machines
([79]) على سبيل المثال: The debate on the rate of profit Michel Husson,
([80]) A Contribution to the Critique of Hegel’s Philosophy of Right
([81]) تناولنا هذا بالتفصيل في كتابنا: الناصرية في الثورة المضادة.
([82]) The Materialist Conception of History, part 3, section 2, chapter 2
([83]) “إنَّ كل سلطة دولة، وكل حكومة، بطبيعتها، تضع نفسها خارج وفوق الناس، وإنه لأمر محتم أنْ تقوم بإخضاعهم لتنظيم وأهداف غريبة عنهم ومضادة لاحتياجاتهم الحقيقية ولطموحاتهم”
“Every state power, every government, by its very nature places itself outside and over the people and inevitably subordinates them to an organization and to aims which are foreign to and opposed to the real needs and aspirations of the people.”
Critique of the Marxist Theory of the State
([84]) قدمنا مقالًا في هذه المسألة بعنوان: الماركسية هي فلسفة الدولة لا البروليتاريا.
( ملحوظة: تفاصيل المصادر والمراجع توجد فى نهاية الكتاب)