الخريف العربي والحراك الجزائري-أوجه التشابه والإختلاف-
رابح لونيسي
2021 / 2 / 17 - 15:37
ستحل قريبا الذكرى الثانية للحراك الشعبي في الجزائر الذي أنطلق في22فيفري2019، وذلك بعد حوالي عشر سنوات من إندلاع ما سمي ب"الربيع العربي"الذي عرفته منطقتنا منذ2011، والذي تحول إلى "خريف دموي" -حسب عنوان كتاب حوله للفرنسي جون ميشال فيرنوشي-، وهو الذي دفعنا إلى إستخدام مصطلح "الخريف العربي" في عنوان هذه المقالة بدل "الربيع العربي" لأنه تحول فعلا إلى خريف دموي في الكثير من دوله إن لم نقل جلها، وهو دلالة على فشل تلك الإنتفاضات الذي تحتاج اليوم إلى بحث أعمق في أسباب ذلك، لكن عادة ما يردد الكثير بأن لاعلاقة بين الحراك الجزائري وما سمي ب"الربيع العربي"، ففي الحقيقة يتحرك أصحاب هذا الطرح من رغبة لإبعاد أي تخويف للشعب من أن يكون للحراك نفس مصير ما يسمى ب"الربيع العربي"، وكي نجيب عن مدى صحة هذا الطرح من عدمه نعود إلى المقارنة بين الأسباب المحركة لكل من الحراك في الجزائر وما يسمى ب"الربيع العربي"، خاصة الثابت المشترك بينهما، وهو ظاهرة توريث السلطة التي عرفتها الجزائر أيضا من خلال رغبة بوتفليقة توريث أخيه السعيد كما وقع في كل بلدان الربيع العربي، بل كل إستراتيجية بوتفليقة منذ توليه السلطة تتلخص في إنجاح عملية التوريث هذه، مما جعل الإعلامي محمد بن شيكو يستخدم مصطلح "الجملوكية"، فدفع ثمنا باهضا لذلك، فقد أشرنا بإسهاب إلى إستراتيجية بوتفليقة لتوريث أخيه السلطة في الفصل ما قبل الأخير من كتابنا "رؤساء الجزائر في ميزان التاريخ - تقييم أكاديمي لنصف قرن من مسيرة الجزائر المستقلة-".
صحيح ليس من العلمية ولا الموضوعية أن نحصر أسباب الحراك في الجزائر وما يسمى ب"الربيع العربي" فقط في ظاهرة توريث السلطة، فقد تعددت التفسيرات لما حدث في منطقتنا من ثورات وحراكات ضد الأنظمة الحاكمة، ومنها الجزائر، ولو أني أعتقد أن وراءها أيضا الإستغلال الرأسمالي العالمي الذي يؤثر في هذه المجتمعات، لكن لم ينتبه الكثير لذلك بسبب تغييب المناهج الماركسية لتفسير الظواهر الإجتماعية والسياسية والإقتصادية بفعل تأثير الإعلام الرأسمالي الذي يخفي ذلك الإستغلال الذي تتعرض له الشعوب بشكل ناعم، فهذه الثورات في عمقها هي بوادر ثورة عالمية يشهدها العالم ضد إستغلال عالمي رأسمالي يتم عبر أنظمة كمبرادورية تابعة تخدم الرأسمالية العالمية ومرتبطة بها على حساب الشعوب التي تعيش بؤسا كبيرا، لكن للأسف محركو مختلف الحراكات وبعض المتحكمين فيها غيبوا ذلك عمدا كي لا يتم طرح بديل إقتصادي جذري، ويدفع إلى التفكير في قطيعة وفك إرتباط بهذه الرأسمالية العالمية بتحويل الكمبرادور أي إستيراد- إستيراد إلى إستثمار منتج يخلق الثروة ومناصب الشغل بدل ما تكون هذه البلدان مجرد موردا للمواد الأولية وأسواقا لسلع الرأسمالية العالمية كما كانت في العهد الإستعماري الذي لم يكن هدفه إلا ذلك حسب البريطاني "هوبسن" الذي حلل الظاهرة الإستعمارية في كتابه "في الإستعمار" في 1902، والذي أخذ منه لنين فكرة "الإستعمار أعلى مراحل الرأسمالية" الذي كان عنوانا لكتاب هام نشره في 1917.
ففي الحقيقة هناك صراع طبقي أفقي وعمودي في الدول التي عرفت الحراك أو ما يسمى ب"الربيع العربي" والكثير من الدول أيضا، ويتمثل الصراع العمودي في إستغلال الطبقات الحاكمة للمحكومين بنهب ثرواتهم مستخدمة أجهزة الدولة لذلك، ونجد إلى جانبه أيضا صراعا أفقيا بين برجوازية وطنية تريد تصنيع بلدانها بالإستثمار في القطاعات المنتجة، لكنها ضعيفة بحكم العراقيل التي تضعها طبقة الكمبرادور لها، والتي تشكل قاعدة أساسية للأنظمة السائدة، وهي مشكلة على أساس هرمي حيث نجد مستوردين كبار لسلع العالم الرأسمالي الصناعي على رأس الهرم، ويستخدمون وسطاء الذي يستخدمون بدورهم التجار الصغار، أغلبيتهم في الأسواق الموازية، وكل هؤلاء مرتبطين بالمستوردين في قمة الهرم، ويدعمون الأنظمة الكمبرادورية.
ونجد أيضا من ضمن تفسيرات هذه الثورات من يرى أنها نتيجة صراع نخب، وأن إنتشار التعليم جعل الكثير من النخب تعتبر نفسها أنها مقصاة من الحكم من نخب قديمة استولت على الدولة، ولا تريد ان تفتح لها أي باب، كما نجد من يراها صراع أجيال حيث جيل من الشباب يرى نفسه مقصىيا ومهمشا، ويريد أن تفتح له الأبواب أيضا، والدليل ما يقع في الجزائر اليوم، لكن حتى ولو كانت هذه القراءة صحيحة أيضا، إلا أن الحل لا يجب حصره في إستبدال نخب بنخب أخرى أو جيل من الشيوخ والكهول بجيل من الشباب، لأنه في الأخير لن يتغير أي شيء في هذه البلدان طبقا لما يورده عالم الإجتماع الإيطالي باريتو حول حركية النخب، فحتى لو أستبدلنا، وسمحنا بصعود نخب جديدة إلى سدة الحكم، ونركز على الشباب مثلا، فهذا ليس معناه سنحقق تغييرا إيجابيا في المجتمع، بل يمكن أن يظهر منها ممارسة أكثر بشاعة من ممارسات النخب السابقة، فهذه النخب الجديدة عندما تصعد، وتتولى السلطة، فإنها ستدعم أكثر الآليات القائمة إن لم تغلقها أكثر لأنها الآليات التي ستخدم مصالحها كما خدمت مصالح النخب السابقة، وستسمح لها بالنهب حتى هي كما كانت تنهب النخب السابقة، فحتى لو أستبدالت الآليات القديمة بآليات جديدة، فإن هذه النخب الجديدة التي صعدت إلى السلطة، سترفض أي آليات نظام جديدة يمنعها، ويحدها من النهب والإستغلال، فهل يعلم الجزائريون مثلا بأن من أخذ السلطة في الجزائر في1962 هم شباب حارب الكثير منهم الإستعمار الفرنسي، لكن فضلوا وضع آليات نظام تخدم مصالحهم على حساب الشعب كما كان يحدث تقريبا ونسبيا في العهد الإستعماري، وهي آليات تسمح لهم بالنهب والسلب لدرجة إعتبار شباب اليوم أن هؤلاء المجاهدون نهبوا الجزائر تحت غطاء الوطنية والشرعية الثورية، ولهذا فإن لم نضع آليات نظام جديدة تماما تستهدف منع كل من يصل إلى السلطة من النهب والإستغلال، فسننتج نخبا إستغلالية جديدة التي سترفض بدورها أي تغيير لهذ الآليات في حالة صعودها إلى السلطة، فلنشير ان كل الأنظمة السياسية والإقتصادية السائدة في عالم اليوم هي في خدمة النخب الحاكمة على حساب الشعوب، ولهذا فكرنا منذ فترة طويلة في نظام بديل يحول الدولة إلى دولة في خدمة كل المجتمع، وليس في خدمة طبقة أو أيديولوجية أو قبيلة وغيرها، وهو ما أوضحناه بشكل جلي ومفصل في كتابنا "النظام البديل للإستبداد- تنظيم جديد للدولة والإقتصاد والمجتمع" وفي عدة دراسات أكاديمية ومقالات صحفية بسيطة، وهو طرح يحتاج إلى نقاش واسع في المجتمع، لكن للأسف أن الأفكار والبدائل والحلول هي آخر إهتمامات هذه المجتمعات، مما جعلها تدخل في حروب أهلية مباشرة بعد سقوط الأنظمة أثناء ما يسمى ب"الربيع العربي" بسبب صراعات أيديولوجية حادة وإختلاف حول مشروع المجتمع الذي يجب تبنيه، وتغذت كل تلك الصراعات الدموية بذهنية العصبيات القبلية والجهوية والطائفية والدينية واللسانية وغيرها التي تحدث عنها بن خلدون، مما أظهر بجلاء أننا مجتمعات لازالت تعيش في العصر الخلدوني، ولم تقم بعد بقطيعة مع هذا العصر رغم إستخدامها أحدث الوسائل الحديثة، لكن بذهنية عصور إنحطاط الحضارة الإسلامية التي بدأت في فترة بن خلدون.
لكن الثابت الأساسي التي أشتركت فيه كل الدول التي وقع فيها "الربيع العربي" بما فيها الحراك الجزائري هو فكرة توريث السلطة، مما يدفعنا إلى القول أن لظاهرة التوريث السلطوي علاقة وطيدة بتلك الأحداث، خاصة أنها كانت كلها جمهوريات نشأت بعد إسقاط أنظمة ملكية، مما يجعل من الصعب جدا إقناع الشعب بالقبول بنوع ما سماه البعض بنظام "جملوكي"، ولهذا يمكن تفسير تلك الأحداث بصراع داخل سرايا الحكم ذاته، فعادة لن يقبل الكثير من النخب الحاكمة بتوريث السلطة للإبن أو الأخ، إلا لأنه أبن أو أخ الحاكم، فهل سيقبل كبار ضباط الجيش والسياسيين بذلك، فهم في الحقيقة يرفضون ذلك في عمق نفسيتهم، حتى ولو أخفوه، وأظهروا عكس ذلك علانية، فلهذا استغل هؤلاء تلك الظروف التي دفعت الشعوب للتحرك متأثرة بتونس ولتوفر ظروف إجتماعية وسياسية ونفسية ودولية لإشعالها، ولهذا يمكن لنا القول أنه من غير المستبعد، وهذا ما سيظهره التاريخ مستقبلا أن تلك الأحداث قد كان لرجالات نافذة داخل أجهزة السلطة دور كبير فيها، لأنها ستزيح الحاكم الذي يريد توريث السلطة لإبنه أو أخيه، وهو لم يحصل ما حصل عليه إلا لأنه أبن الحاكم أو اخوه مثل السعيد بالنسبة للرئيس بوتفليقة، لكن للأسف أنهارت دول بأكملها كاليمن وليبيا وسوريا بسبب إنهيار المؤسسة العسكرية وإنقسامها، فمن الصعب جدا إعادة بناء هذه الدول من جديد لإنعدام مؤسسة أمنية أو عسكرية تعيد ذلك، وتلزم الجميع بإحترام القرارات، فالمؤسسة العسكرية القوية هي درع الأمان لأي إنهيار كما وقع في جزائر التسعينيات.
لايمكن لنا قراءة الحراك الجزائري بمعزل عن أحداث الربيع العربي التي عرفت مصيرا مأسويا في عمومها، فقد كان محركها الرئيسي واحدا، وهو توريث السلطة، فإن توقف الربيع أو الحراك نسبيا في بعض الدول إلا لأن محركها قد حقق هدفه، وهو إزاحة الحكام الذين ينوون توريث سلطتهم وكل من كان يدعمهم في هذا المسعى بإستخدام مناورات وإستغلال تيارات كما وقع في مصر الشبيهة تماما في بنية نظامها السياسي بالجزائر، لأن هذه الأخيرة تبنت نفس النظام الناصري في 1962 على يد بن بلة، فأنتج لنا نفس ما ينتجه النظام في مصر بفترة زمنية لا تتعدى عشر سنوات بحكم أن النظام في مصر ولد في 1952 والنظام في الجزائر بعد10سنوات أي في 1962، فبإمكاننا قراءة مستقبل الجزائر من خلال تتبع ما يحدث في مصر، فتبنينا لهذا المنهج هو الذي سمح لنا مثلا في نشرنا سلسلة مقالات في صيف2018 في عدة صحف ومو أين حذرنا فيها من وقوع تحرك شعبي في الجزائري في بدايات2019 بناء على ما كان يحدث أثناء صائفة2018 وما حدث في مصر قبل2011، بل أشرنا إلى ذلك بوضوح في حوار لنا مع يومية الخبر (عدد14أوت2018)، كما نشرنا مقالة في تلك الصائفة بعنوان "الجزائر على خطى مصر2011".
لكن على عكس الجزائر ومصر، فقد أنفلتت الأمور في بلدان أخرى بحكم عدة عوامل، ومنها الإنتشار القوي للعصبيات وفقدان المؤسسة العسكرية تماسكها وإنضباطها كليبيا أو بسبب تدخل أطراف دولية كسوريا واليمن، فتحول بذلك ما سمي بالربيع إلى خريف دموي، ونحن نفضل إطلاق تسمية "الخريف" على ما وقع لأنه من المستحيل وقوع ربيع في منطقتنا إلا إذا أقمنا قطيعة مما نسميه ب"العصر الخلدوني"، فأي إسقاط لهذه الأنظمة اليوم معناه أن كل العصبيات ستطل برؤوسها سواء كانت دينية أو طائفية أو لسانية أو قبلية أو أوهام عرقية وغيرها، فيحول ما أسميهم ب"مثقفو وسياسويو العصبيات" البلد إلى مرتع لنمو الجماعات الإرهابية، خاصة في حالة تفكك المؤسسات الأمنية والعسكرية كما وقع في ليبيا مثلا، فكي يكون ربيعا فعلا لابد من ثورة ثقافية تنويرية تحرر شعوبنا من هذه العصبيات ومثقفيها وسياسوييها.
فحتى هذا التحرر من هذه العصبيات يشترط توفير الظروف الموضوعية لتحقيقه، فلا نكتفي فقط بالتعليم المتطور ونشر الثقافة التنويرية، بل تتمثل أيضا في تحقيق نمو إقتصادي كبير جدا، ولايتحقق ذلك إلا بالضغط الشعبي سلميا وبواسطة مختلف التنظيمات من أجل تحويل ما نسميه باالكمبرادور- أي المستوردون الكبار المرتبطين بالرأسمالية العالمية - إلى الإستثمار في القطاعات المنتجة وإقامة صناعة وطنية تنتج الثروة ومناصب الشغل، وبتعبير آخر المرور المرحلي ب"رأسمالية وطنية" تدور حول الذات، وتخدم الإقتصاد الوطني بدل أن تكون تابعة للخارج، وهذه التطورات الإقتصادية هي التي ستؤثر على المجتمع، وتدفعه إلى تغيير ذهنياته وأفكاره، ويتخلص من عصبياته المدمرة، فتنتشر بذلك الأفكار الديمقراطية واللبيرالية الغير موجودة في مجتمعاتنا بقوة اليوم بسبب إنعدام الشروط الإقتصادية والإجتماعية لإنتشارها، والتي تتمثل في إقامة صناعة قوية تخدم الإقتصاد الوطني، وسيكون ذلك مجرد مرحلة ضرورية للمرور فيما بعد لما نسميه ب"الدولة الديمقراطية والإجتماعية والعلمية"، والتي فصلنا معالمها في الكثير من كتبنا ومقالاتنا.
أن كل تغيير يجب أن تتوفر له شروطه كي يكون تغييرا إيجابيا، وليس الدوران في حلقة مغلقة والذهاب من السيء إلى الأسوأ في الكثير من الأحيان، يجب علينا العمل من أجل الحفاظ على الدولة، فهذه الأنظمة اليوم تحفظ نوع من الإستقرار دون أن ننفي أنها أيضا تهدده يوميا ببعض ممارساتها وآلياتها، والحل يجب أن يكون إصلاحيا، وذلك بالضغط على هذه الأنظمة وتشجيع العناصر النيرة بداخلها من أجل القيام بإصلاحات ديمقراطية وتغيير الآليات التسييرية البالية، وذلك بالتفاوض وبالتوافق بين كل الأطراف سواء كانت في السلطة أو المعارضة دون أن ننسى أن الشرط الضروري لذلك كله هو ما أوردناه آنفا من الضغط ووضع آليات وميكانيزمات لتحويل الكمبرادور إلى الإستثمار في القطاعات المنتجة الصناعية لتوفير ظروف تقبل بالتغيير الإيجابي إلى الأمام، وليس إلى الوراء.