في ذكرى المفكر والمناضل المصري محمود أمين العالم

في 10يناير 2009 ، رحل المفكر والناقد الأدبي ، والزعيم اليساري المصري، والعربي والأممي الدكتور محمود أمين العالم عن عمر ناهز 87 عاما، إثر أزمة قلبية مفاجئة.
و كأن توقيت رحيله كان احتجاجا على هول ما جرى ويجري في غزة، من مذابح ومجازر وسط تواطؤ وصمت دولي، وعجز وفشل وانقسام وتخاذل عربي مخز، وانقسام وتنافس فلسطيني دام مخجل! كيف لا وهو المناضل الوطني والقومي والأممي العنيد المنحاز بصلابة لا تلين إلى قضايا الشعب المصري والشعوب العربية وخصوصا الكادحين والبسطاء والغلابة منهم ولكل الشعوب المضطهدة في العالم!
وهو ما جسدته سيرته الحافلة والغنية بالعطاء الفكري والنضالي على مدى أكثر من نصف قرن، كان خلالها و بحق الإنسان موقف وهو عنوان أحد كتبه ومؤلفاته التي ناهزت العشرين، و تنوعت بين الفلسفة والفكر والسياسة والنقد والأدب والشعر.
موكب تشييعه جمع أطيافا فكرية وثقافية وسياسية مختلفة، بدءا من أقطاب اليسار المصري، ممثلي العمال ومنظمات المجتمع المدني، مرورا بالرموز الثقافية والإبداعية المصرية، وانتهاء بزعامات الإخوان المسلمين ( بغض النظر عن دوافعهم ) ومن بينهم المرشد العام للإخوان المسلمين مهدي عاكف ، وهو ما يعكس مدى التأثير والتقدير والمكانة المرموقة التي يحتلها الفقيد في وجدان وذاكرة أجيال عديدة من الشعب المصري.
كان العالم مفكرا وعقلانيا عميقا، ومناضلا صلبا لا تلين له قناة، كما اتسم بشخصيته الآسرة ونفحة التسامح والهدوء لديه، والانفتاح والتفاعل الإيجابي مع المكونات الفكرية والثقافية والدينية والسياسية المختلفة أو المغايرة.لكن ذلك لم يعنِ مطلقا التخلي عن مواقفه النقدية والعقلانية المستقلة. فقد مثل وجسد محمود أمين العالم نموذجا للمثقف العضوي وفقا للمفهوم والتوصيف الغرامشي.
لقد عرف محمود أمين العالم منذ خمسينات القرن الماضي من خلال معاركه الفكرية الرصينة والهادئة التي خاضها من موقعه الفكري الماركسي الذي تبناه باكرا، ومعه رفيق فكره ودربه المفكر والمناضل الراحل الدكتور عبد العظيم أنيس، وتصدى فيها لرواد النهضة الكبار آنذاك مثل طه حسين وعباس العقاد وسلامة موسى.
تلك المجادلات والحوارات جمعت في كتاب تحت عنوان في الثقافة المصرية وقد كان هذا الكتاب إيذانا بظهور التفسير الواقعي / الاجتماعي، والنقد الجدلي للأدب المصري والعربي. ا
انخرط العالم أثناء تحضيره للماجستير في صفوف الحزب الشيوعي المصري، وبعد نيله الدكتوراه عمل في هيئة تدريس جامعة القاهرة أستاذا لمادة الفلسفة غير أنه سرعان ما فصل من عمله، في العام 1954 ومعه الدكتور لويس عوض وعشرات الأساتذة الجامعين الآخرين من المحسوبين على اليسار وذلك إبان الأزمة المعروفة بـ مذبحة الجامعة " .عمل إثر فصله في الصحافة المصرية مثل روز اليوسف .
في العام 1958استدعاه السادات طالبا منه حل الحزب الشيوعي المصري واندماج أفراده في التنظيم الرسمي " الاتحاد القومي " ( الذي حل لاحقا في عام 1961 وتشكل على انقاضه الاتحاد الاشتراكي العربي ) مرفقا ذلك بالتهديد، غير أن العالم رفض بشدة، وكان نتيجة هذا الرفض تنظيم أكبر حملة اعتقالات عرفتها الحركة اليسارية المصرية في يناير 1959 و شملت الآلاف (ومن بينهم العالم) من قادة ونشطاء العمال والمثقفين والأدباء والأكاديمين والناس البسطاء، واستمرت المحنة أربع سنوات إلى أن تم الإفراج عنهم في منتصف .1964 .
تنقل العالم إبان سجنه بين عدة معتقلات، وقد أصدر خلال سجنه ديوانه الأول تحت عنوان قراءة لجدران زنزانة . بعد الإفراج عن العالم وبقية رفاقه بشهور، اتخذ الحزب الشيوعي المصري قرارا ( كان محل جدل وخلاف بين أعضائه ) بحل نفسه، انطلاقا من تصور أن مصر عبدالناصر تسير في طريق " التطوّر اللارأسمالي" المؤدي إلى الاشتراكية، وفقا للتنظير السوفييتي السائد آنذاك.
و قد ساهم العديد من قادة الحزب المنحل، في تأسيس التنظيم الطليعي داخل الاتحاد الاشتراكي وهو التنظيم الرسمي الوحيد المشروع، حيث احتل العالم مناصب رفيعة في اللجنة المركزية وأمانة التنظيم الطليعي الذي كان عضوا فيها بالانتخاب الشعبي، كما تولى في فترات متفاوتة رئاسة هيئة الكتاب ومؤسسة أخبار اليوم خلفا لهيكل الذي انتقل إلى مؤسسة الأهرام. غير أنه قدم استقالته لاحقا احتجاجا على تدخل السلطات الرقابية الرسمية، بعدها تولى رئاسة هيئة المسرح.
إثر وفاة عبدالناصر وتولي السادات السلطة اندلع خلاف حاد بين العالم ومعه شخصيات سياسية وثقافية مصرية رفيعة وبين السادات حيث جرى الاعتراض على توجهات النظام الجديدة، ليتم اعتقاله مجددا ( انقلاب مايو 1971 ) مع من أسماهم السادات بمراكز القوى، وبعد خروجه من السجن وحرمانه من حقوقه المدنية، سافر إلى أوربا حيث درس في جامعة أكسفورد ( لندن ) ثم في جامعة باريس لمدة 8 سنوات، أصدر خلالها مجلة شهرية هي اليسار العربي .
كما شارك إثر اتفاقية كامب ديفد في تشكيل الجبهة الوطنية المصرية المناهضة لسياسات السادات، وعقب عودته إلى مصر في منتصف الثمانينات أنخرط في صفوف الحركة اليسارية المصرية وخصوصا حزب التجمع اليساري كما عمل على إصدار كتاب دوري في غاية الأهمية هو قضايا فكرية ، وقد اختير العالم مقررا للجنة الفلسفة في المجلس الأعلى للثقافة، وحصل على جائزة الدولة التقديرية، وجائزة سلطان العويس للإبداع النقدي.
وقد عرف عن العالم تبنيه وحماسه الشديد لفكر الحداثة بما في ذلك الحداثة الأدبية والشعرية. و مع أن عبدالناصر سجنه وفصله من عمله، غير أنه ظل يعتبره على الدوام زعيما وطنيا كبيرا، و من أفضل الحكام المصريين.
أذكر أول لقاء شخصي لي معه كان في باريس في منتصف العام 1980 وذلك في منزل الراحل الدكتور ميشيل كامل، أحد رموز المعارضة المصرية في الخارج، والمقيم في منفاه الفرنسي، وهو من القيادات اليسارية المصرية البارزة التي قضت سنوات طويلة في المعتقلات المصرية، في كل العهود( الملكية، عبدالناصر، السادات)، وكنت قد تعرفت عليه في بيروت العام 1978 حيث كان يقيم، والتقيت معه بعدها في مؤتمرات عربية ودولية عدة، غير أن الضغوط المصرية على الحكومة اللبنانية، والتهديدات الأمنية أجبرته على الرحيل إلى فرنسا.
في ذلك اللقاء حرص كل من العالم وكامل وغيرهما على إبداء اهتمامهم بضرورة مشاركة السعوديين في إغناء مجلة اليسار العربي التي تصدر في باريس تحت إشراف العالم ومتابعة ميشيل كامل، وآخرين في هيئة التحرير، أذكر من بينهم المفكر والكاتب المصري أديب ديمتري، الذي أجرى في وقت لاحق تحقيقا (نشرته مجلة اليسار العربي) ولقاء صحفي موسع مشترك ضمني، مع أحد القيادات البارزة في منظمة الثورة الإسلامية التي تغير اسمها لاحقا إلى الحركة الإصلاحية في السعودية.
شدد أديب ديمتري في مقدمة حواره الصحفي معنا، على كون القضايا الجوهرية بين الأطراف والمكونات السياسية والفكرية المختلفة، ينبغي أن تتجاوز الخلاف الأيدلوجي، وأنه من الممكن الاتفاق على جملة من الأهداف والقضايا والمهام المشتركة بغض النظر عن الاختلافات الأيدلوجية والفكرية، مستشهدا بما ورد من أطروحات متقاربة بيننا في لقائه المشترك معنا، معتبرا ذلك أنه يمثل نقلة نوعية وظاهرة صحية (مقارنة بما هو سائد في الوضع العربي) في تجاوز الحساسيات والمصالح والمواقف الذاتية، وأنه ينبغي الاقتداء بها.
غيرأن التجربة التاريخية المريرة مع حركات الإسلام السياسي بوجه عام في المنطقة ، أوضحت بأن غالبيتها تستخدم التوافقات وحتى التحالفات ليس من منطلق توافقي و مبدئي ووطني ، ولكن لأغراض مرحلية ( تكتيكية ) بهدف الحصول على المقبولية أولا ، وصولا إلى التمكين ثانيا ، وأخيرا إقصاء الأخر في حال سيطرتها ، وهو ما ما حدث في إيران والعراق ولبنان ومصر وسوريا وغيرها .
اللقاء الثاني مع العالم كان في العام 1982 وفي باريس أيضا حيث صادف وجودي هناك اندلاع مظاهرات حاشدة شارك فيها عشرات الآلاف من الفرنسيين والعرب للتنديد بالاجتياح الإسرائيلي للبنان وصولا لاحتلالها بيروت، ولم أستطع منع نفسي من المشاركة فيها حيث التقيت محمود أمين العالم والعديد من السياسيين والمثقفين العرب على هامش المظاهرة ،وجرى بيننا حديث سريع عن الغزو والموقف منه، وما يجب عمله، ناهيك عن تقييم تداعياته العربية والدولية.
اللقاء الأخير مع العالم كان في دولة البحرين حيث حضرت ندوة له لا أتذكر عنوانها نظمها المنبر التقدمي البحريني، وبعد اختتام الندوة تعانقنا بحرارة، وأعطاني كرته الشخصي مدونا فيها رقم هاتف المنزل والمكتب، وتواعدنا أن نلتقي لاحقا، غير أن ذلك لم يتحقق.
لقد فقدنا بغياب محمود أمين العالم، أحد رموز الكفاح و النضال و والتقدم والعقلانية والتنوير ، في سمائنا الكالحة وأرضنا العربية اليباب، المترعة بالظلم والفقر والجهل والفساد والاستبداد.