مصر: حول الحرب الدائرة في سيناء
محمد حسام
2020 / 5 / 31 - 23:48
تدور في مصر هذه الأيام حالة من السعار الوطني ونوعاً من الشوفينية والشعور القومي مرتبطة كالعادة ب”الحرب على الإرهاب”. الدولة أنتجت مسلسل تلفزيوني تعرض فيه الحرب في سيناء من وجهة نظرها. هذا المسلسل هو التجسيد المادي لخطاب الدولة الذي تستمد منه شرعيتها، بوصفها دولة في حالة “حرب” دائمة تستدعي الاصطفاف والتأييد المطلق.
طرفي الصراع
لنكوِّن وجهة نظر صحيحة حول الحرب الدائرة في سيناء، منذ سبع سنوات، علينا أن نبتعد على الأحكام العاطفية التي تحاول الدولة بأجهزتها الإعلامية أن تفرضها على الشعب، وجعلها المعيار في الحكم على الأمور، عن طريق مغازلة الشعور القومي واستغلال خوف الشعب من قوى الإسلام المسلح والسياسي بشكل عام، وعلينا أيضاً أن لا ننجر وننخدع بالمظلومية المطلقة التي تتبناها الجماعات الإسلامية المسلحة عن طريق تصوير وتقديم نفسها كقوى مضادة للديكتاتورية العسكرية والصهيونية. لكي نتخذ موقفا سليما علينا أن نحدد ونحلل الخطاب السياسي والمشروع السياسي الذي تبناه قادة طرفي الصراع، بعيداً عن نوايا وأهداف وتصورات قواعد وجنود الطرفين، لنكون وجهة نظر مادية ومنطقية، بعيداً عن الحالة العامة من اللاعقلانية السائدة في المجتمع نتيجة هذين الخطابين.
الطرف الأول، الدولة الجمهورية، دولة عبدالفتاح السيسي التي أرسيت نتيجة انقلاب عسكري، دولة مشروعها هو القمع والاستبداد والديكتاتورية والنهب والسرقة والإفقار لأغلبية الجماهير، دولة مشروعها هو هزيمة الثورة وضمان عدم تكرارها مجدداً عن طريق القضاء على أي حراك اجتماعي، ومشروعها في سيناء بشكل خاص بالإضافة لكل ما سبق هو تحقيق مصالح الكيان الصهيوني وتأمين مصالحه وأراضيه من الهجمات التي كانت تحدث أحياناً من سيناء. وفي سبيل ذلك ترتكب الدولة جرائم انسانية في سيناء من تصفيات جسدية وقصف جوي ومدفعي، يطال الأحياء السكنية ويقتل أهالي سيناء وهم في بيوتهم، واعتقالات تعسفية وإخفاء قسري لمئات المواطنين وتهجير قسري للقرى المتاخمة للحدود، كما قلت لحماية الكيان الصهيوني من الهجمات التي كانت تشن ضده أحياناً من سيناء وأيضاً لإحكام الخناق على قطاع غزة تنفيذاً لمصالح العدو الصهيوني.
الطرف الثاني، الجماعات الاسلامية المسلحة، وهي جماعات أصولية قائمة على الإرهاب الفردي، جماعات تهدف لإرساء دولة دينية على نمط الديكتاتورية الدينية الإيرانية، جماعات معادية للأخوة بين جماهير العمال والطبقات الشعبية، جماعات تفرق البشر على أساس المعتقدات الدينية، جماعات منافية للعقل والزمن والانسانية ومعادية للجماهير والتقدم والاشتراكية.
بالتالي بالنسبة لنا نحن الماركسيون تلك حرب بين اليمين واليمين لا يدفع ثمنها سوى الجماهير الفقيرة والمهمشة والعاملة بطرق عدة، حرب لا ولن تربح منها الجماهير والطبقة العاملة شيئاً. هذه الثنائية التي يسعى الطرفان لتأبيدها (الخير المطلق مقابل الشر المطلق، الحق مقابل الباطل) لا يجب أن تخدعنا أو نرضخ لها، كما قال لينين “إذا كان هناك معركة بين اليمين واليمين سأختار معركتي”، هكذا ينبغي على الماركسيين أن يختاروا معركتهم ويستغلوا التناقض بين هذين الطرفين لضربهما.
“الحرب على الإرهاب”
لكي نفكك الخطاب السائد، الذي هو خطاب الدولة وركيزة مشروعيتها، أنها دولة تحمي المجتمع من “الإرهاب”، علينا أن ننظر لسياسات هذه الدولة لنرى هل هي محقة في محاربتها لذلك “الإرهاب” أم لا.
الجماعات الإسلامية المسلحة لم يكن لها وجود في سيناء قبل بداية القرن الواحد والعشرين، ودائماً ما كانت تتمركز في الصحراء بعيداً عن التجمعات السكانية، نتيجة عدم وجود بيئة حاضنة لها سواء في المدن أو البادية، بالتالي تصوير سيناء على أنها كانت دائماً وأبداً مرتعا للجهاديين والإرهابيين كذب محض. نقاط التحول الأساسية لتلك الجماعات كانت بعد الثورة المصرية في سنة 2011، استغلت تلك الجماعات التردد والاصلاحية الاسلامية للإخوان المسلمين وراحت تعلن عن نفسها بوصفها التيار الإسلامي الراديكالي صاحب الموقف الواضح من الكيان الصهيوني عكس الإخوان المسلمين الذين عقدوا المساومات والاتفاقات مع المجلس العسكري والقوى الدولية، استهدفت تلك الجماعات خط أنبوب الغاز المصدر للكيان الصهيوني أكثر من 13 مرة، وقامت بعمليات استهداف للجنود الصهاينة على الحدود، ومنذ تلك اللحظة بدأت سلسلة عمليات الجيش النظامي في سيناء بموافقة ومباركة الكيان الصهيوني، الذي يجب أخذ موافقته طبقاً لمعاهدة الاستسلام والعار -كامب ديفيد-. نقطة التحول الأساسية لتلك الجماعات جائت بعد الانقلاب العسكري في 2013 وسلسلة “المجازر” التي نفذت بشكل أساسي ضد الإسلاميين. حينها تلك التنظيمات التي كانت تفتقر للموارد البشرية وجدت أرتالا من الشباب الإسلامي المهزوم والمقموع الذي رأى بأم عينيه أن السياسة تحسم بالسلاح والعنف المجتمعي.
بالتالي فإن إجراءات الدولة التي اتخذت بعد الانقلاب العسكري من عنف وإرهاب مجتمعي وفرض سطوة وسيطرة على المجتمع بقوة السلاح، استفاد منه بشكل أساسي الجماعات الاسلامية المسلحة، عن طريق تقديم طريق آخر لذلك الشباب ذوو الميول الإسلامية غير طريق “الديموقراطية” الخاص بالإخوان المسلمين، الذي لم يجلب لهم سوى الهزيمة والمجازر والاعتقالات، هذا مع عدم وجود بديل سياسي ثوري يستوعب هؤلاء الشباب ويشرح لهم أن هناك طريقا آخر لمقارعة تلك السلطة العسكرية غير طريق الإرهاب الفردي والعدمي. انضمام جزء من قواعد الإسلام السياسي للجماعات الإسلامية المسلحة هو عرض من أعراض هزيمة المجتمع وسحقه تحت مجنزرات دبابات ومدرعات الحكم العسكري، هؤلاء انزلقوا للإرهاب الفردي بعقلية ودوافع عدمية، بدافع أنهم لم يعد لديهم شيء ليخسروه، عدمية منبعها حالة دائمة من التخلف والقهر والهزيمة المجتمعية.
هذا بالإضافة أن الحرب الإجرامية التي تشنها الدولة في سيناء، والعقاب الجماعي الواقع على أهل سيناء، والخسائر في الممتلكات والأرواح نتيجة الحرب والتعديات الإجرامية للقوات النظامية من قتل وقصف عشوائي وإخفاء قسري واضطهاد مزمن يعاني من السيناويين وتراكم المظلوميات، أدي ببعض أهالي سيناء للالتحاق أو مساعدة الجماعات الاسلامية المسلحة، في البداية لصد عدوان القوات النظامية، بدافع أن هذه بضاعتكم ردت إليكم.
نقطة أخرى تبين كذب الدولة في ادعائها “محاربة الإرهاب”، وهو ما ظهر جلياً في مسلسلها التلفزيوني. الدولة تحارب الجماعات الاسلامية المسلحة ليس لأنها إسلامية وليس لأنها سلفية أو أصولية، ولكن لأنها كسرت احتكار الدولة للعنف والسلاح، فهبت الدولة لاستعادة احتكارها للعنف ومد هذا الاحتكار ليشمل الدين. الدولة قدمت نفسها بوصفها الطرف المدافع عن الدين الحق، وصاحبة التفسير الديني الأصح. وبدل الدفع نحو مزيد من العلمانية ومزيد من فصل الدين عن الدولة ومزيد من الثقافة المجتمعية، ها هي الدولة تقدم نفسها بوصفها حامي الدين والمدافع عنه في مواجهة مفسرين خاطئين ومغالين في الدين ومارقين عنه. والحق أن الدولة تقدم تفسيرات ساذجة وخطاب ديني سخيف، أشبه بالكليشيهات المحفوظة التي تصيب المرء بالملل حين يسمعها من كثر تكرارها وعدم تأثيرها، في مواجهة مستخدمين جيدين للدين واللغة والخطاب، قادرين على مغازلة الشعور الديني للفئات الأكثر محافظة وقهراً وتهميشاً في المجتمع.
أهداف الدولة من هذه الحرب
بناء على كل ما سبق فالدولة المصرية لديها أهداف عديدة من الحرب في سيناء ليس من بينها “القضاء على الإرهاب”.
أولاً: تسعى الدولة لإعادة رسم خريطة القوى في سيناء، وهو ما ظهر في تحالفها مع بعض القبائل والشخصيات المعروفين بعملهم في التهريب وبعضهم يعمل في تجارة المخدرات والسلاح، حتى أن بعضهم تحوم حولهم شبهات لعمالته للصهاينة. تحالفت الدولة مع هؤلاء لتكوين مليشيا قبلية تساعدها على فرض سيطرتها على سيناء ذات الطبيعة القبلية والخاصة. رموز وقادة تلك المليشيا جميعهم كانوا مطلوبين أمنياً على ذمة قضايا اتجار مخدرات وسلاح وبعضهم على ذمة قضايا قتل أفراد أمن نظاميين. تلك الدولة التي تزعم أنها تتدخل في سيناء بتلك الطريقة الهمجية من أجل فرض حكم “القانون” ذهبت للتحالف من تجار المخدرات والسلاح والمهربين، أي ذهبت لتحتكر التهريب وتجارة المخدرات والسلاح، وتتصاعد أنباء عن علاقات تجمع بعض هؤلاء مع شخصيات أمنية نافذة في الدولة، حتى أن واحدا منهم وهو المعروف بتاجرته للسلاح والمخدرات والذي كان مطلوب على ذمة قضية خطف واحتجاز أفراد أمن نظاميين قبل الثورة ظهر إلى جانب الديكتاتور عبدالفتاح السيسي شخصياً في عدة مؤتمرات.
ثانياً: الدولة ذهبت لتحارب في سيناء لحماية الكيان الصهيوني بعد تحولها لقاعدة لشن هجمات بالصواريخ التي استهدفت صحراء النقب المحتل وأم الرشراش -إيلات- في الأعوام 2011 و2012 و2013، للحد الذي جعل الدولة المصرية توافق على شن غارات بالطائرات المسيرة الصهيونية داخل سيناء، ليس هذا فقط بل أن يغتال الكيان الصهيوني جهاديين ضالعين في الهجمات الصاروخية ضده داخل سيناء، وخطف مقاومين فلسطينيين من داخل سيناء. فعن أي حرب وطنية يتحدثون وسماء سيناء أصبحت مرتع لطائرات العدو الصهيوني بموافقة العملاء والخونة الذين يحكموننا؟؟!! أي حرب وطنية تلك التي يتم فيها تهجير أهالي رفح المصرية وهدم منازلهم وتجريف أراضيهم ورميهم في الصحراء؟ من أجل إحكام الخناق على قطاع غزة والتحكم في كل ما يدخل إلى القطاع، للضغط على حكومة حماس تنفيذاً لرغبة الكيان الصهيوني.
أخيراً: الدولة تستفيد سياسياً ودعائياً من تلك الحرب، عن طريق ابتزاز المجتمع عاطفياً بروايات الجنود والضباط الذين قتلوا في الحرب والمتاجرة بهم، وابتزاز المجتمع سياسياً عن طريق تقديم نفسها بوصفها المدافع عن المتجمع في وجه الإرهاب. الدولة تبتز الجماهير بدواعي أن لا صوت يعلو فوق صوت المعركة، وباسم هذه المعركة يتم إخراس الجميع، تحت وطأة هذه “المعركة” الدائمة تضمن الدولة سكوت الجماهير على النهب والسرقة والإفقار والتقشف المستمر والقمع الواسع النطاق والاستبداد الوحشي، لتصبح جميع مطالب الجماهير وأمنياته مؤجلة إلى حين انتهاء “الحرب على الإرهاب”. في ظل هذه المعركة الدائمة تقدم الدولة معادلة مقايضة واضحة للجماهير “الأمان مقابل الحرية والخبز”.
خاتمة
تلك المشروعية القائمة عليها الدولة للجماهير هي مشروعية ضعيفة جداً مهما بدا تماسكها، وستنهار أمام أول امتحان حقيقي. هذا التأييد المبني على العاطفة والبعيد كل البعد عن العقلانية وعن كونه تأييد سياسي سينهار أمام أول كارثة ستتسبب فيها الدولة أوعجزها. الأكيد أن كل البنية الأيدولوجية والمشروعية القائمة على حالة “الحرب” الدائمة تلك ستنهار بشكل كامل نتيجة الموجات المتتالية للفقر والتهميش -وبالتالي الاستبداد والقمع بطبيعة الحال- التي ستضرب الجماهير في المستقبل القريب والتي لن تهدأ وطأتها، بالعكس ستزيد كلما قاربت تلك الدولة على الفناء.