البلشفية طريق الثورة: الفصل السادس: سنة الثورة – الفصل الأخير


آلان وودز
2020 / 4 / 9 - 21:43     



خلال الأشهر التي سبقت أكتوبر، نجح البلاشفة، بفضل تكتيكات متقنة ومرنة، في زيادة نفوذهم بشكل كبير داخل السوفييتات إلى درجة أنه صارت لديهم، مع حلفائهم، الأغلبية في مؤتمر السوفييتات. وهذا وحده ما يفسر الطابع السلمي نسبيا لانتفاضة أكتوبر. لم يكن السبب عسكريا في المقام الأول، بل لأنه كان قد تم إنجاز تسعة أعشار العمل مسبقا. كانت ساحة النضال الأكثر أهمية هي السوفييتات نفسها. يقدم أنويلر الوصف التالي لميزان القوى بين الأحزاب داخل السوفييتات عشية الانتفاضة:


«1) في السوفييتات العمالية، في معظم المدن الصناعية الكبرى، حصل البلاشفة على الأغلبية، وينطبق الشيء نفسه على غالبية سوفييتات الجنود. كانت النقاط الأساسية لنفوذهم هي: أ- فنلندا، إستلاند [إستونيا]، بيترسبورغ والمنطقة المحيطة بها، وجزء من الجبهة الشمالية وسلاح البحرية؛ ب- المنطقة الصناعية المركزية حول موسكو؛ ج- جبال الأورال ؛ د- سيبيريا حيث كانت قوتهم متوازنة مع الاشتراكيين الثوريين.

2) في سوفييتات الفلاحين وسوفييتات الخطوط الأمامية، كان الاشتراكيون الثوريون ما يزالون القوة المهيمنة. كان هناك جناح يساري قوي، انفصل أخيرا عن حزب الاشتراكيين الثوريين خلال الأسابيع التي سبقت أكتوبر، وقف إلى جانب البلاشفة وكثيرا ما ساعدهم في الحصول على الأغلبية في معظم السوفييتات. كان الاشتراكيون الثوريون المعتدلون يمتلكون قوة أكبر في: أ- منطقة البحر الأسود ووسط الفولغا؛ ب- أوكرانيا (مع الأحزاب الاشتراكية القومية)؛ ج- الجبهات الشرقية والجنوبية الشرقية والرومانية.

3) فقد المناشفة مركزهم المهيمن في السوفييتات العمالية في كل مكان تقريبا بعد الأشهر الأولى من الثورة. فقط في القوقاز، وخاصة في جورجيا، حيث كان ما يزال في إمكانهم أن يستندوا إلى الفلاحين، وحيث كانوا أقوى بكثير من البلاشفة في أكتوبر 1917.

4) ولأول مرة لعبت مجموعات من الماكسيماليين واللاسلطويين دورا مهما في بعض السوفييتات. لقد دعموا البلاشفة في أكتوبر وساهموا بشكل كبير في تجذر الجماهير»[1].

يبالغ أنويلر في تقدير الدور الذي لعبه اللاسلطويون والماكسيماليون، والذين كانوا أقلية صغيرة تمثل الميول اليسارية المتطرفة الموجودة دائما، لكنها لا تستطيع أن تلعب أي دور حقيقي. من الممكن أن تحقق تلك التيارات بعض النمو خلال الثورة. وقد أوضح لينين نفسه أن الجماهير قد سئمت من الانتظار. ويمكن أن يسقط بعض العمال الأفراد، أو حتى بعض المجموعات الصغيرة من العمال، الذين تقدموا كثيرا عن بقية الطبقة، في شباك الشعارات اليسراوية المتطرفة التي تبدو جذرية. لكن مقابل كل واحد من هؤلاء هناك 50 أو 100 أو 1000 ممن سيتجهون نحو المنظمات الجماهيرية التقليدية، حتى عندما تكون هذه الأخيرة ما تزال تحت قيادة الإصلاحيين. إن السبب في أن اللاسلطويين لم يلعبوا دورا مهما في الثورة الروسية كان هو وجود الحزب البلشفي. في كتابه “الدولة والثورة”، كتب لينين بعبارات متعاطفة عن العمال اللاسلطويين، عندما انتقد مفاهيمهم الخاطئة عن الدولة وأشار إلى أن اللاسلطوية (والنزعة اليسارية المتطرفة بشكل عام) هي الثمن الذي يجب على الحركة أن تدفعه مقابل انتهازية القادة الإصلاحيين.

في ظل الظروف الروسية، كانت الإصلاحية دائما مجرد نبتة ضعيفة ومريضة. لم تكن هناك نقابات عمالية إصلاحية قوية أو أحزاب عمالية إصلاحية كما هو الحال في أوروبا الغربية. ومع ذلك، وللأسباب التي سبق شرحها، فقد بحث العمال الروس في فبراير، حتى عندما أسسوا السوفييتات، عن السبل الأقل وعورة ودعموا الأحزاب الإصلاحية داخل السوفييتات. وحدها تجربة الأحداث العظيمة ما مكن الجماهير من رفض هؤلاء القادة والتحرك في اتجاه البلشفية. لكن هذه السيرورة لم تكن سهلة ولا تلقائية. لم تكن ممكنة إلا بفضل سياسات وتكتيكات البلاشفة الصحيحة بشكل عام، وقبل كل شيء بفضل توجههم الواضح نحو تلك المنظمات الجماهيرية، التي أنشأها العمال والتي كانت لها قوة جذب هائلة، على الرغم من سياسات القادة، أي: السوفييتات والنقابات.

لقد اتضحت الطريقة التي يتمسك بها العمال بالمنظمات الجماهيرية القائمة عشية أكتوبر في ذلك الجدل الذي دار حول موعد الانتفاضة ومؤتمر السوفييتات. كان لينين قلقا جدا، لأسباب وجيهة، بشأن الغباء الدستوري والبرلماني للقادة البلاشفة من أمثال كامينيف وزينوفييف. كان يخشى التأخير، لأن كل يوم يمر كان يعطى الوقت والفرصة للأعداء لكي يعيدوا تجميع صفوفهم وشن هجوم جديد. كانت هناك شائعات مستمرة (تبين لاحقا أنها صحيحة) حول أن كرينسكي كان يخطط لنقل مقر الحكومة إلى موسكو. كان هناك احتمال كبير بأن الحكومة المؤقتة ستسمح بسقوط بتروغراد في أيدي الألمان، عوض أن تراها تنضم إلى البلاشفة. كانت هناك أدلة كثيرة على أن البرجوازية في العاصمة [بتروغراد] كانت تنتظر جيوش القيصر [الألماني] لاستقبالهم كمنقذين. كان الألمان قد استولوا على ريغا في وقت تمرد كورنيلوف. وفي وقت لاحق احتلوا جزيرتين استراتيجيتين في بحر البلطيق، الشيء الذي وضعهم على مسافة قصيرة من بتروغراد. لقد كان الخطر حقيقيا بما فيه الكفاية.

اعترف الرئيس السابق لمجلس الدوما، ميخائيل رودزيانكو، بكلمات واضحة أنه سيكون من الأفضل لو قام الألمان بالاستيلاء على بتروغراد، حيث قال:

«يبدو أن بتروغراد مهددة (من قبل الألمان)… أقول فلتذهب بتروغراد إلى الجحيم… يخشى الناس أن تتعرض مؤسساتنا المركزية في بتروغراد للتدمير. وردا على هذا اسمحوا لي أن أقول إنني سأكون سعيدا لو تم تدمير تلك المؤسسات لأنها لم تجلب لروسيا سوى الحزن»[2].

كان كيرينسكي يستعد للتخلص من حامية بتروغراد المتمردة، باستخدام مبرر التهديد الألماني. ومع ازدياد الفجوة بين الطبقات في الاتساع، ازداد بشكل كبير خطر حل القوات السوفياتية على يد قوى الردة الرجعية.

كانت الحجة الرئيسية التي استخدمت ضد لينين هي: “يجب علينا أن ننتظر مؤتمر السوفييتات”. لكن لينين كان يخشى أن يتم تأجيل المؤتمر. كان قادة السوفييتات قد أجلوه بالفعل في مرة سابقة خوفا من فقدانهم للسيطرة. وبالتالي ما الذي سيمنعهم من تكرار ذلك مرة أخرى؟ ثم كان لمعارضي الانتفاضة حجة أخرى وهي: لماذا لا ننتظر انعقاد الجمعية التأسيسية الموعودة؟ كانوا يبحثون دائما عن الذرائع لتأجيل الانتفاضة. وهنا أيضا كان لينين يعتقد أنه من المحتمل جدا أن تقوم الحكومة المؤقتة بتأجيل، أو حتى إلغاء، عقد انتخابات الجمعية التأسيسية. وهذا ما يفسر معارضته العنيدة لانتظار مؤتمر السوفييتات، أو أي شيء آخر.

نفاذ صبر لينين وخوفه المستمر من أن القادة البلاشفة يماطلون، كان سببه جزئيا تذبذبات كامينيف وزينوفييف، الذين لم يكونا معزولين داخل القيادة البلشفية. لكنه كان أيضا نتيجة لعزلة لينين. تروتسكي، الذي كان على اتصال أكبر بالوضع على الأرض، كان يؤيد التحضير للانتفاضة، لكن بجعلها تتزامن مع انعقاد مؤتمر السوفييتات، الشيء الذي سيعطيها الشرعية اللازمة في أعين الجماهير. لقد أظهر بذلك الموقف امتلاكه لنظرة ثاقبة لنفسية العمال. كان البلاشفة قد حققوا بالتأكيد تقدما عظيما منذ الصيف. كان نمو عدد الأعضاء سريعا جدا لدرجة أنه أغرق القدرة الهزيلة لأجهزة الحزب، التي لم تتمكن من مواكبة ذلك. في غشت، وقت انعقاد المؤتمر السادس، بلغ عدد الأعضاء حوالي 240.000[3]. وخلال اجتماع اللجنة المركزية، في 16 أكتوبر، أفاد سفيردلوف أن «نمو الحزب وصل أبعادا هائلة: وقد صار عدد أعضائه في الوقت الحالي يقدر بـ 400.000 على الأقل»[4].

من المستحيل، في الواقع، الوصول إلى رقم دقيق لعدد أعضاء الحزب في ذلك الوقت. لقد كان جهاز الحزب البلشفي ما يزال ضعيفا نسبيا وغارقا في العمل باستمرار. وخلال الثورة تصير لمتطلبات الساعة الأسبقية على مهام أخرى مثل التدقيق في أرقام العضوية. ولذلك فإن أي تقدير يجب بالضرورة أن يكون ذا طابع تقريبي. لينين نفسه اعترف بأنه كان من المستحيل تقريبا الحصول على فكرة دقيقة عن عدد الأعضاء في شتنبر، لكنه أشار إلى الزيادة التي عرفتها مساهمات العمال المالية كدليل على النمو السريع للحزب، حيث قال:

«أمام غياب أي إحصائيات تتعلق بالتقلبات التي تعرفها عضوية الحزب، وعدد الحضور والاجتماعات، وما إلى ذلك، لا يمكن الحكم على حجم الدعم الواعي للحزب من طرف الجماهير إلا من خلال البيانات المنشورة بشأن المساهمات النقدية لصالح الحزب. تُظهر هذه البيانات عملا طوليا عظيما من جانب العمال البلاشفة في جمع الأموال لصالح برافدا، والجرائد التي تم منعها، وما إلى ذلك. وتقارير هذه المساهمات كانت تنشر بشكل دائم»[5].

الشيء الأكيد هو حقيقة أن البلاشفة، الذين بدأوا العام وهم منظمة صغيرة جدا، نموا بسرعة إلى أن أصبحوا القوة المهيمنة داخل الطبقة العاملة. لكن وحتى مع عضوية تقدر بـ 400.000، فإن البلاشفة لم يكونوا قادرين على قيادة ملايين العمال والجنود نحو الاستيلاء على السلطة لو لم يطبقوا تكتيكات وأساليب مرنة ولو لم يكن لهم توجه صحيح نحو المنظمات الجماهيرية. لقد سبقت الإشارة إلى التقدم الذي كان الحزب يحققه داخل السوفييتات. لكن هذا لا يروي القصة الكاملة. فبينما كانت الشعارات البلشفية تجد لها صدى كبيرا بين العمال، فإن هؤلاء الأخيرين كانوا ما يزالون يتطلعون إلى السوفييتات لكي تعمل على تطبيق هذه الشعارات في الواقع. لقد كانت العلاقة ديالكتيكية: فبدون سياسات الحزب البلشفي كانت السوفييتات عديمة الفائدة. بل إنها تحت قيادة الإصلاحيين اليمينيين صارت في الواقع أجهزة معادية للثورة. لكن ومن جهة أخرى، فإن سياسات البلاشفة بدون السوفييتات لم تكن لتتمكن بالضرورة من كسب انتباه الجماهير، التي كانت ما تزال لديها أوهام عميقة حول تلك المنظمات التي بنتها بنفسها، والتي اعتادت على التوجه إليها للبحث عن حل لمشاكلها. لم تكتسب أفكار البلاشفة قوة لا تقاوم إلا عندما ارتبطت في أذهان الجماهير بالمنظمات التي أعطتها ولاءها، أي: السوفييتات.

آلان وودز
ترجمة: هيئة تحرير موقع ماركسي

هوامش:

[1] O. Anweiler, Los Soviets en Rusia: 1905-1921, p. 194.

[2] A. Rabinowitch, The Bolsheviks Come to Power, p. 226.

[3] ليبمان هو من يعطي هذا الرقم، أما شابيرو فإنه، بالاعتماد على مصادر مختلفة، يقدر العدد بـ 200.000 عضو.

[4] M. Liebman, Leninism Under Lenin, p. 158.

[5] LCW, The Russian Revolution and Civil War, vol. 26, p. 32.