قراءة في الأزمة العالمية ومهام الماركسيين الثوريين العاجلة
محمد حسام
2020 / 4 / 9 - 01:40
تتصاعد وتيرة الأحداث منذ أواخر يناير الماضي. منذ اكتشاف فيروس كورونا الجديد، العالم يعيش في أزمة خانقة، إغلاق حدود وإفراغ شوارع ومدن فيما يشبه حظر تجوال عالمي، آلاف المصابين ومئات القتلى يومياً، انهيار أنظمة صحية في مناطق متفرقة من العالم.
منذ بداية شهر مارس تحديداً بدى العالم كما لو أنه قد بدأ في التوقف، خوف وذعر في كل مكان، ترصد مكثف للوباء وأماكن انتشاره، تخبط دولي في التعامل مع الأزمة، كل هذا يرسم ملامح نظام دولي متأزم، نظام عالمي ليس فقط اثبت فشله لكنه أيضاً يعاني سكرات الموت ولكنه يأبي الزوال ويضحي في سبيل بقائه بحياة مئات الآلاف من البشر.
سأحاول في هذا المقال أن أقدم قراءة سياسية للوضع العالمي لمحاولة استشراف مستقبل البشرية وآفاقها.
عرض للأزمة:
سأبدأ في عرض تفاصيل الأزمة في نقاط مختلفة من العالم من مراكزه وأطرافه لمحاولة تكوين صورة كاملة لأعنف أزمة عالمية تواجه النظام الرأسمالي العالمي والجماهير منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية.
الصين:
لنبدأ من البلد صاحبة الأسبقية في حضانة الفيروس. ظهر الفيروس في أواخر نوفمبر من العام الماضي، في البداية تجاهلت الحكومة الصينية تحذيرات الأطباء بوجود فيروس جديد، ليس ذلك فقط بل اعتقلت الطبيب الذي تحدث علناً عن وجود الفيروس، وسبب ذلك واضح جداً: لقد كانت الحكومة الصينية تخشى على أسهم شركاتها في البورصة العالمية أكثر بكثير من خوفها على حياة الشعب. لهذا تكتمت على الخبر وصدرت للعالم إيحاء بأن الأمور كلها تحت السيطرة لكي لا يؤثر شيء على اقتصادها الذي بدأ يشهد تباطؤا في النمو قبل ظهور الفيروس اصلاً.
لكن عندما خرجت الأمور عن السيطرة وتفشي الوباء بسرعة هائلة، ليس فقط في مقاطعة ووهان ولكن في أماكن متفرقة من الصين وبدأ يتسلل لبلدان العالم واحدة تلو الأخرى، عملت الحكومة الصينية وقتها على استغلال هذه الأزمة ببراغماتية فجة، فمن ناحية قامت باستعراض العضلات على المدن المتفشي فيها الوباء. من مراقبة الحالات والمخالطين لها باستخدام التكنولوجيا، إلى اعتقال الناس المرتفعة درجة حرارتهم من الشوارع. كل هذا وأكثر من إجراءات مقيدة وعنيفة أثبتت بها الدولة الصينية للعالم والجماهير الصينية نفسها أنها راسخة وقوية، ومن ناحية أخرى استغل كبار قادة الحزب الشيوعي الصيني والدولة خسائر البورصة وانخفاض أسعار أسهم الشركات الصينية واندفعوا لشراء أسهم الشركات الاستراتيجية مثل شركات التكنولوجيا والكيماويات وغيرها، ما يزيدهم ثراءً على ثرائهم المستقر أصلاً، هذا بالإضافة إلى أنه يزيد من قوة الإمبريالية الصينية في اللعبة السياسة الدولية مستقبلاً.
كل هذا سيجد آثاره في رأس وأطروحات الرأسمالية الدولية في المستقبل القريب ويجعلها تطرح تساؤلا جديا حول فاعلية النظام الرأسمالي القوية في ظل الأنظمة الشمولية والاستبدادية، وينبئنا أيضاً للطريق الذي من الممكن أن تسلكه بعض الدول لتحذو حذو الصين التي، من وجهة نظرهم، نجحت في هزيمة الوباء، وهو ما بدأ يتردد فعلاً في بعض الدول مثل مصر، ويمكن أن يجد صدى له في دول مثل إيطاليا، وغيرها من الدول التي تخلى عنها الغرب الليبرالي وقدم لها يد العون الشرق الشمولي والاستبدادي المتمثل في الصين وروسيا.
بالتأكيد هذا في حالة تجاوز العالم الأزمة الحالية التي لا وجود لحل لها في الأفق. منذ بداية الأزمة والبورصة الصينية تغلق يومياً على خسارة فادحة، مناطق صناعية بأكملها مغلقة، حتى لو استطاعت الصين فعلا محاصرة الفيروس وتقليل انتشاره فهذا لن يدفع الاقتصاد للأمام، حيث لا تصدير لعالم اغلق حدوده ومطاراته وموانئه. هذا سيؤدي لإغلاق عشرات المصانع وتسريح آلاف، إن لم يكن عشرات الآلاف، من العمال. الصين استطاعت تقديم هذا النموذج الغريب في التعامل مع الوباء نتيجة إرث فترة الاقتصاد المخطط، لكن اليوم سُيترك هؤلاء العمال ليلاقوا مصيرهم، وكأنهم يعاقبون لأنهم لم يموتوا مرضاً، بالموت جوعاً وفقراً.
الولايات المتحدة الأمريكية:
الولايات المتحدة الأمريكية بقيادة اليميني العنصري دونالد ترامب اتخذت مسلكاً مختلفاً قليلاً. في البداية اتهم ترامب الصين بأنها تشن حرب بيولوجية على العالم وما إلى ذلك من الترهات ورفض الاستماع لنصائح بعض المستشارين والمعلقين الناصحين بضرورة البدء في اتخاذ إجراءات وقائية، وسبب هذا السلوك، كان واضحاً أيضاً، هو بقاء الآلة الرأسمالية تعمل ولو على حساب آلاف الأرواح.
إلى أن خرجت الأمور عن السيطرة، فاضطر لإعلان حالة الطوارئ في عدة ولايات، منها نيويورك عاصمة الرأسمالية في العالم، والبدء في إجراء فحوصات واسعة النطاق، وغيرها من الإجراءات التي أعتقد أن الغرض منها ليس محاصرة الوباء ولكن دراسة سلوكه للوصول لآلية لرجوع عجلة الإنتاج للدوران بمعدلها الطبيعي. هنا الإمبريالية الأمريكية، التي بدأت تفقد موقعها كقائدة للعالم منذ أكثر من عشر سنوات، تجد نفسها أمام تحدي حقيقي: إما أن تنصاع للأزمة وبالتالي تفقد تلقائياً جزء كبير من سيطرتها ونفوذها وبالتالي امتيازاتها الاقتصادية في العالم، وإما أن تغامر وتستمر في تدوير عجلة الاقتصاد في وقت تتعطل فيه العجلة الاقتصادية في العالم لكنها في المقابل ستضحي بحياة عشرات الآلاف من البشر. هكذا وجد صاحب صالات القمار الذي يجلس في البيت الأبيض نفسه يمارس هوايته المفضلة باللعب بالأشياء الثمينة ويختار اتباع سياسية مناعة القطيع وإن بشكل مختلف ومستتر لضمان استمرار عمل النظام الرأسمالي ومحاولة الحفاظ على نفوذ الإمبريالية الأمريكية المهددة وضمان أيضاً استمرار تدفق الأرباح لجيوب رجال الأعمال الذي هو واحد منهم ليس فقط ممثلهم في السلطة.
وما يؤكد اختيار ترامب لهذا المسلك هو مزاعمه حول نيته استئناف الحياة الطبيعة بحلول عيد الفصح أي بعد أقل من أسبوعين. هذا بالإضافة لمحاولة ترامب شراء المعمل الألماني صاحب المحاولة الجادة لإنتاج لقاح مضاد للفيروس. هكذا تحاول الإمبريالية الأمريكية انقاذ نفسها ليس على حساب أرواح عشرات الآلاف من الطبقة العاملة والجماهير الأمريكية فقط ولكن أيضاً على حساب النظام الرأسمالي نفسه، صحيح أن الحبل الذي سنشنق به أخر رأسمالي سيكون هو من باعه لنا.
يريد ترامب “جعل أمريكا عظيمة مجدداً” عن طريق استخدام طرق العصابات، لكن للأسف كل أحلامه ستتكسر على صخرة الواقع، عديد من الصناعات الأمريكية والشركات التجارية كانت تعتمد على السوق الأوروبية والصينية اللتان أغلقتا أبوابهما بسبب الوباء هذا بخلاف أغلبية بلدان العالم، ما يعني خسائر بملايين الدولارات يومياً. هذا سيؤدي لعجز الشركات الصغيرة والمتوسطة عن الاستمرار في السوق وما يعنيه هذا من تسريح آلاف العمال ومن افلاس هذه الشركات وبالتالي عجزها عن سداد قروض وزيادة التمركز والاستحواذات بالتبعية.
أوروبا:
ننتقل الآن لأوروبا المتصدرة في عدد الوفيات عالمياً. جاءت هذه الجائحة لتزيد أزمة الاتحاد الأوروبي الذي كان يسير بخطي ثابتة نحو التفكك. إيطاليا المنكوبة بحصيلة وفيات تعدت العشرين ألفاً دفعها استهتار الحكومة ولا مبالاتها بحياة الجماهير نحو هذه المأساة. حتى وقت قريب كان العمال مضطرين للذهاب للعمل كل يوم بدون أدنى معايير السلامة والنظافة. هذا في نفس الوقت الذي كانت الحكومة تحث فيه الشعب على البقاء في المنازل، هذا ما يفسر بشكل ما انتشار الوباء في الشمال (لومبارديا) حيث المناطق الصناعية الكبيرة.
بقية دول القارة تسير على نفس النهج وإلى نفس المصير وإن كانوا بسرعات مختلفة، جميعهم ينظرون للطبقة العاملة كوسائل توليد أرباح وليسوا كبشر. لهذا أعلنوا في البداية بفخر أن الفيروس خطر على كبار السن فقط، الذين يشكلون عبئا اقتصاديا على الدول والحكومات من وجهة نظر هؤلاء السادة الحقراء الذين يحكمون العالم. يعلنون هذا للطبقة العاملة ليقولون لهم: “هذا الفيروس ليس معني بكم حتى وإن كان يولد ضحايا؛ الأهم هو إنقاذ النظام الرأسمالي”.
أظهرت هذه الجائحة مدى هشاشة وضعف المؤسسة الأوروبية، عشر سنوات من الاقتطاعات والتقشف انتج الوضع الموجود الآن في إيطاليا وإسبانيا، الاتحاد الأوروبي، بما هو تحالف رجال الأعمال الأوروبيين يقوده الأقوياء في المانيا الصناعية وفرنسا الاستعمارية، يجازف الآن بخسارة عضو جديد في الاتحاد الأوروبي. نحن نتحدث عن إيطاليا، الاقتصاد الثالث في منطقة اليورو من حيث المبادلات التجارية. الأكيد أنه بعد انحسار الجائحة ستعلو في البلدان المتضررة أصوات كثيرة ستُخضِع منطق وجود الاتحاد الأوروبي للتساؤل، وطبيعي أن تتساءل “لماذا نلتزم بتعليمات الاتحاد؟ لماذا ندفع أموالنا للاتحاد؟ لماذا نفتح حدودنا واسواقنا للدول الصناعية، مثل ألمانيا، في الوقت الذي أغلقوا فيه هم حدودهم في وجهنا ورفضوا مساعدتنا في أزمتنا؟”. بالتالي ليس من الخيال في شيء أن نشهد بريكست جديد في مستقبل ليس بعيد.
ألمانيا نفسها، التي تبدو حتى الآن مسيطرة على الوضع، تواجه أزمة حقيقية، من قلة الموارد البشرية في القطاع الصحي الذي ينذر بكارثة أوروبية أخرى في حالة تفشي الوباء فيها، إلى أزمة اقتصادية مرتقبة بدأت تظهر ملامحها حيث أهم شريكين تجاريين بالنسبة للرأسمالية الألمانية هما الصين والاتحاد الأوروبي الذاهب للتفكك، بالتالي هذا ينبئ بحدوث اغلاقات صناعية بالجملة وهو ما بدأ يحدث بالفعل، ما يعني أيضاً الرمي بالآلاف وعشرات الآلاف من العمال في هوة البطالة والفقر.
حول انهيار السوق الحرة:
ما نشهده اليوم هو ملامح انهيار صيغة السوق الحرة والاقتصاد الرأسمالي كما عرفته البشرية منذ منتصف الثمانينيات. لكن ليس صحيحاً ما يردده المحللون البرجوازيون حول أن الوباء هو السبب وأن النظام العالمي كان يسير بشكل جيد وجاء الوباء ليعطل عمل الآلة الرأسمالية، بل الحقيقة هي أن آثار الوباء مجرد نتائج وأعراض لمرض متأصل في الرأسمالية، هو دليل على أن النظام الرأسمالي قد وصل لحدوده القصوى واستنفذ مسببات وجوده، ما يحدث الآن يكشف عوار النظام الرأسمالي ومدى هشاشته وضعفه حتى في مراكزه.
العالم يشهد منذ الأزمة الاقتصادية لعام 2008 ، وحتى ما قبل الأزمة الحالية، أدلة كثيرة على تأزم السوق الحرة والاقتصاد الرأسمالي العالمي. تدخل الدول في أزمة 2008 لإنقاذ البنوك والشركات الكبرى، المتسببين الوحيدين في الازمة بأموال الجماهير وعلى حساب الجماهير، هو دليل على أكذوبة السوق الحرة. الحرب التجارية المشتعلة بين الامبريالية الأمريكية والامبريالية الصينية هو دليل على تأزم السوق الحرة العالمية، الحرب على أسعار النفط المشتعلة بين الامبريالية الروسية والمملكة الرجعية السعودية هي دليل على تأزم السوق الحرة العالمية.
الحق، أن السوق الحرة المعولمة ما هي إلا آلية أوجدتها الدول الامبريالية في الثمانينيات للسطو على مجتمعات أطراف النظام الاقتصادي، ودمجها بشكل كامل في الاقتصاد العالمي من موقع التابع، وتحويل تلك المجتمعات لمجرد أرض خصبة لتوليد الأرباح لفائدة الدول الإمبريالية التي كانت تسعى للتوسع والهيمنة على العالم، بعد نهاية فترة سياسة الاستقلال التي سادت في البلدان المستعمرة سابقاً طيلة فترة الستينيات والسبعينيات. لكن حتى تلك الآلية، التي كانت تعمل لصالح الدول الإمبريالية طيلة العقود الماضية، بدأت الآن ترتد عليها، ففي ظل الأزمة الاقتصادية الحالية، المترافقة مع الوباء، تجد الطبقات الحاكمة في العالم، التي كان حتى وقت قريب تتباهى بفضائل السوق الحرة والعولمة، نفسها فجأة أمام أزمة وجودية.
وما نشهده اليوم في الاتحاد الأوروبي هو دليل آخر على بداية نهاية السوق الحرة والاقتصاد الرأسمالي كما نعرفه. إلغاء الإجراءات المالية الموحدة للدول الأعضاء وترك الأمر برمته للبنوك المركزية المحلية هو اعتراف ضمني بعدم قدرة المؤسسة الأوروبية على الوقوف في وجه الأزمة وأنه من الآن على كل بلد أن يتولى شأنه ويحاول النجاة بمفرده حتى ولو على حساب الآخرين. وغياب ما يسمى بـ “التضامن الأوروبي” واغلاق الحدود أمام حركة الأفراد والبضائع ومنع حتى تصدير المعدات الطبية للبلدان المنكوبة، كل هذا سيؤدي بالجماهير الأوروبية إلى طرح تساؤل جدي حول مدى جدوى الاتحاد الأوروبي.
عن المراكز الاقتصادية وجماهيرها:
دول المراكز الاقتصادية التي تمتعت برفاهية اقتصادية ومستويات معيشية مرتفعة نسبياً مقارنة بدول الأطراف من جراء العولمة والسوق الحرة وما يعنيه هذا من استغلال لموارد ومجهود عمل جماهير دول الأطراف، تعاني دول المراكز هذه نتيجة تعطل منظومة السوق الحرة نتيجة الإجراءات الحمائية وإغلاق الحدود من أزمة حقيقية. ففي حالة استمرار هذه الجائحة شهوراً أخرى، وعلى الأرجح سوف تستمر بوتائر مختلفة تخف وتصعد، في هذه الحالة أمام هذه الدول اختياران: الاختيار الاول استمرار وتصعيد الإجراءات الوقائية على مستوى عالمي مع محاولة تسريع وتيرة الأبحاث العلمية لإيجاد لقاح في أسرع وقت ممكن، لكن هذا الاختيار معناه اغلاق صناعات وأعمال تجارية كثيرة، خصوصاً غير الضرورية منها، وهو ما سيؤدي لخسارة الرأسماليين لمليارات الدولارات التي كان من الممكن توليدها من عمل العمال حتى في ظل الأزمة الصحية العامة هذه؛ أما الاختيار الثاني فهو استئناف العملية الإنتاجية بآليات مختلفة، وهو الاختيار الأقرب لمصلحة الرأسمالية وأعتقد أن هذا الاختيار هو ما يجري التباحث في آلية تنفيذه حالياً في دوائر صنع القرار في العالم.
هذا الاختيار معناه أن الرأسمالية الغربية تعلن وفاة العقد الاجتماعي القائم على توفير حد أدنى من الأمان الاجتماعي للجماهير مقابل تسكين الصراع الطبقي في هذه البلدان. هذا العقد الاجتماعي القائم منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية في هذه البلدان أصبح الآن مهدد بالفناء. رأسمالية دول المراكز تعلن أن الأمان النسبي المادي أو المعنوي الذي كانت تتمتع به جماهيرهم ذهب بلا رجعة وأصبح من حكايات الماضي. هذا المسار سيدفع جماهير بلدان المراكز الاقتصادية في المستقبل القريب إلى أن يشتبكوا بشكل جذري مع الواقع وتحدياته، لسبب بسيط وهو أنه من الآن ليس فقط الحد الأدنى من الأمان الاجتماعي لهذه الجماهير أصبح مهدداً ولكن أيضاً حياتهم وحياة أحبائهم أصبحت هي الأخرى مهددة. الطبقة العاملة في بلدان المراكز الاقتصادية ستدرك في وقت ليس بعيد أن الرأسمالية، ووكلائها في الحكومات، على اتم الاستعداد للتضحية بأرواح عشرات الآلاف والملايين من الطبقة العاملة والجماهير على مذبح الربح والملكية الخاصة.
كل هذا ينذر بتصاعد غير تقليدي للصراع الطبقي في هذه البلدان. وهو ما بدأت تظهر بوادره في سلسلة الإضرابات العمالية التي حدثت في إيطاليا، وغيرها من البلدان، ضد استمرار العمل في ظل الوباء. الطبقات الحاكمة تدرك ذلك جيداً ولذلك فهي تتخذ إجراءات تحاول من خلالها إيهام الجماهير أنها تتصدى للأزمة ولكن بالطبع سينكشف كذبهم وحقارتهم عاجلاً أم آجلاً، وحينها سُتخضع هذه الجماهير كل القيم والثوابت التي رسختها في أذهانهم الحكومات طيلة العقود الماضية للتساؤل، لأن نفس هذه القيم والثوابت المزعومة وقائليها وضعوا حياة الجماهير على المحك وحينها سنفاجئ بتطور الوعي الجمعي الطبقي للطبقة العاملة والجماهير وتجذره. وهذا ما بدأت هذه الحكومات في التجهز له، وما نشر رجال الدولة المسلحين في كل المدن والبلدان إلا للاستعداد لمرحلة ما بعد الأزمة الصحية العالمية.
يجب أن تفهم الطبقة العاملة والجماهير أن هؤلاء الرجال المسلحين ليسوا في الشوارع من أجلهم ولا لمساعدتهم، بل هم في الشوارع لحفظ ما يسمونه الأمن العام والسلم الاجتماعي، أي الحفاظ على النظام الذي يرمي بالطبقة العاملة والجماهير اليوم إلى التهلكة. أي موجودون في الشوارع لحماية الحكومات والملكية الخاصة، لحماية المصانع وأصحابها وضمان عدم اهتزاز سيطرة رجال الأعمال على المجتمعات. وما تدخل الشرطة الإيطالية العنيف لفض إضراب في شمال البلاد كان العمال يطالبون فيه بأدوات نظافة ومطهرات وأقنعة طبية تقلل من نسبة اصابتهم بالفيروس، إلا بذرة لما تحمله الشهور والسنوات القادمة من تغيير في طبيعة مجتمعات المراكز، أو بمعنى آخر تستعد هذه الحكومات لإجبار شعوبها وطبقاتها العاملة على القبول بعقد اجتماعي جديد ستخسر فيه الجماهير كثيرا من الحقوق الاجتماعية والديمقراطية التي تمتعت بها منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية.
إيران:
كالعادة تدفع الطبقة العاملة والجماهير الشعبية الإيرانية نتيجة قناعات وأفعال وحماقات السلطة الدينية الحاكمة، لكن هذه المرة دفعت الجماهير الثمن غالياً أكثر من أربعين ألف مصاب بالفيروس وما يزيد عن ألفين وخمسمائة قتيل.
من البداية تعاملت السلطة الدينية الإيرانية مع الوباء كشيء خارجي لن يؤثر عليها، ورفضت الاستماع لكل المناشدات لغلق أماكن التجمعات، خصوصاُ الدينية منها، نظراً للتكدس والتلاصق المعهود في هذه المزارات. وها هي اليوم مدينة قم، المدينة الدينية الأبرز في إيران، أصبحت مركز الوباء. بل أكثر من هذا شجعت الدولة المحافظين والمتدينين بزيارة المدينة والتضرع لله والتقرب من الأولياء الصالحين ليحموهم من الوباء!!! وكأننا نتحدث عن دعاية الكنيسة في أوروبا العصور الوسطى.
للمرة الألف تدفع الجماهير ثمن وجود نظام مناف للعقل والزمن والمنطق، نظام أصبح مأزوماً من شعره وحتى أخمص قدميه، وزواله ليس أكثر من مسألة وقت. وكأن النظام الرجعي الإيراني لم تكفه أربعون عاماً من الإجرام، ولم تكفيه آلاف الضحايا الذين سقطوا نتيجة دعايته الرجعية، فحتى الآن مع استمرار ازدياد أعداد المصابين والضحايا يستمر النظام في لا مبالاته بحياة الجماهير ويطالبهم بتوقع والاستعداد لما هو أسوأ، أي لمزيد من الموت والفقر.
وكعادة جميع الحكومات، فإن هؤلاء المجرمين لا يأبهون إلا باستمرار عمل النظام الرأسمالي وبالتالي زيادة أرباحهم وثرواتهم حتى ولو على حساب أرواح الجماهير. تركوا الطبقة العاملة والجماهير يلاقوا مصيرهم في أماكن العمل غير المؤمنة صحياً، في سبيل استمرار تدفق الأرباح لجيوب أصحاب المصانع والشركات. الأكيد أن ما يحمي النظام الإيراني الآن هو الوباء وخوف الجماهير منه، لكن بمجرد انحساره سنشهد نضالات جماهيرية وعمالية مبهرة، وهو ما كانت بدأت الجماهير تتدرب عليه في السنوات الماضية في احتجاجاتها المتعددة
تركيا:
في البداية ظلت الحكومة التركية، بقيادة الديكتاتور رجب طيب أردوغان، تتكتم على وجود الوباء في بلادها، ليس فقط لعدم رغبته في تعطيل الآلة الرأسمالية، لعدم تعطل الأرباح، ولكن أيضاً لخوفه من تعطل مشاريعه السافرة في عدة بلدان أخرى، إلى درجة أن السلطات التركية اعتقلت الصحفي الذي أعلن عن وفاة أول حالتين للمصابين بالفيروس في البلاد.
لكن بعد أن تفشى الوباء، اضطرت الحكومة لاتخاذ اجراءات تدعي أنها لاحتوائه، لكنها في الحقيقة ما هي إلا تدابير عقيمة لن تأت إلا بنتائج عكسية. هذا النظام، الذي يتباهى بإجراءاته وكأنها هبة وفضل منه على الجماهير، وليست واجبه ووظيفته، لديه نسبة وفيات 09 % أي أعلى بمراحل من المستوى العالمي الذي يتراوح بين 03 % و04 %. يعطينا هذا فكرة عامة عن النظام الصحي ومدى استعداده لذروة انتشار الوباء، التي ستبدأ بعد أسبوعين أو ثلاثة حسب توقعات الحكومة التركية. يعطينا فكرة عن عدد الضحايا الذين من الممكن أن يسقطوا نتيجة الحلول الترقيعية التي لا هدف لها سوى استمرار ذهاب العمال لأماكن لضمان استمرار زيادة ثروات الأغنياء.
كل هذا ينبئ بزيادة وتيرة الصراع الطبقي والاضطرابات في تركيا في السنين القادمة، حيث العمال الآن يدافعون عن أنفسهم في وجه سلطة تمثل تهديدا مباشرا على حياتهم. قبل أكثر من أسبوع من الآن أضرب عمال الموانئ لعدم وجود الأدوات الوقائية اللازمة لحمايتهم بأكبر قدر ممكن من الوباء. هذه مقدمة فقط عما تحمله الأيام القادمة من مفاجآت في بلد يشهد منذ بداية العام تصاعد الإضرابات العمالية، ويشهد منذ أعوام أزمات سياسية عديدة ناتجة بشكل أساسي عن مغامرات أردوغان الاجرامية في الخارج والظلم القومي الممارس ضد الأكراد. هذا وسوف يعاني الاقتصاد التركي معاناة كبيرة في ظل الأزمة الاقتصادية العالمية وتعطل ديناميكيات السوق العالمي، وهو ما بدأ يظهر في الانخفاض الكبير في سعر الليرة التركية وما يعنيه هذا من إغلاق لعشرات المصانع وتسريح آلاف العمال واستغلال مضاعف لمن تبقوا في العمل وبالتالي تفاقم الصراع الطبقي والأزمة الاقتصادية الخانقة.
في ظل الأزمة الحالية، من اغلاق حدود وتوقف حركة التصدير والاستيراد، فإن انخفاض قيمة العملة سيجلب تأثير عسكي من تضخم ديون الدولة وما إلى ذلك وأيضاً عجز الشركات الصغيرة والمتوسطة على منافسة الشركات الكبرى والأجنبية. لهذا فانخفاض قيمة العملة في الوقت الحالي وفي ظل الظروف الحالية سيكون له آثار مدمرة.
“الدول العربية”
جميع حكومات البلدان “العربية” استخدمت وسيلتها المجربة والأسهل بالنسبة لها لمواجهة الوباء، هذه الوسيلة هي القمع واستخدام الآلة العسكرية. صحيح أنه لم يحدث في هذه البلدان تفش كبير للوباء حتى الآن، ولكننا نسير بخطى ثابتة نحو المأساة. وما يجعل المأساة أكثر تعقيداً وبؤساً في بلادنا هو عقود طويلة من التخريب المنظم لمجتمعاتنا ونهبها وخصخصة ممتلكاتها العامة والاستهتار بحياة الجماهير الذي هو سلوك طبيعي وتقليدي لحكام وطننا العربي. للأسف تفشي الوباء في بلادنا سينتج مشهدا أكثر مأساوية بما لا يقاس مما يشهده العالم الآن. نحن نواجه أزمة مزدوجة بالوباء كما لو انه متحالف مع حكوماتنا. يُعد هذا الوباء فرصة ذهبية لحكوماتنا لتوطيد حكمها ومحاولة طي صفحة المد الثوري، حتى ولو بشكل مؤقت. وكالعادة ستتحمل الجماهير والطبقة العاملة تبعات أخطاء وحقارة حكام هذه البلدان.
لبنان:
تشهد لبنان، منذ السابع عشر من شهر أكتوبر من العام الماضي، انتفاضة ثورية جماهيرية هزت أركان النظام الطائفي الرأسمالي القائم، هذه الانتفاضة التي لم يوقفها لا التهديد ولا الوعيد ولا استخدام العنف من قبل الدولة وشبيحة زعماء الطوائف، ولا حتى الحيل والمناورات. جاء الوباء في خضم ذلك الوضع ليعطي قبلة الحياة للنظام الطائفي، مؤدياً ليس فقط لخوف الجماهير من التظاهرات والاعتصامات والتجمعات الجماهيرية –وهو خوف مشروع وواجب- لكن أيضاً أعطى النظام الفرصة الذهبية لاستغلال حالة التباعد الاجتماعي لإعادة فتح الميادين، التي أغلقت بأمر الجماهير المنتفضة منذ أكثر من خمسة أشهر، وإحراق خيام القلة التي كانت متمسكة بإبقاء الميادين مغلقة واعتقال عدة مناضلين. كأن النظام اللبناني أنجز ما عليه من مهام تقف دون الحيلولة من انتشار الوباء في المجتمع اللبناني انتشار النار في الهشيم. هذه الأزمة تأتي مع أزمة إفلاس مالي تشهدها لبنان وعجزه عن سداد الديون الخارجية وهو ما يجعل قدرة الدولة الرأسمالية على اتخاذ إجراءات فعلية لحماية أرواح الجماهير محدودة جداً.
وما هو أخطر وأكثر حقارة سياسياً هو أن زعماء الطوائف المجرمين يستغلون الآن التبعات الاقتصادية المترتبة على انتشار الوباء، الذي تسبب في حظر التجوال والحجر المنزلي واسع النطاق، وبالتالي تضرر أغلبية، إن لم يكن كل العاملين في الأعمال الهامشية مثل عمال اليومية، وهؤلاء جزء كبير من سوق عمل ذو نمط اقتصادي ريعي وغير منتج، يستغل هؤلاء المجرمون الأزمة الصحية والاقتصادية للجماهير اللبنانية لإعادة بسط نفوذهم على الجماهير. هذا النفوذ الذي تعرض للتهديد من خلال الانتفاضة يحاولون الآن إعادة بسطه من جديد عن طريق ترسيخ العلاقة الزبائنية والاعتمادية بينهم زعماء طوائف وبين فقراء هذه الطوائف، علاقة يجد فيها الفقراء المسحوقون أنفسهم بين مطرقة الفقر وسندان الوباء لينتهي بهم الحال ليروا في التقرب لزعماء طوائفهم السبيل الوحيد للبقاء على قيد الحياة في المرحلة الحالية، وليس لوسيلة الوحيدة للترقي الطبقي كما في الماضي.
العراق:
قوة الوصاية الإيرانية على من يحكمون العراق تظهر بوضوح في الأزمة الحالية. رفض الحكومة العراقية إغلاق الحدود العراقية الإيرانية لمدة من الزمن كان كفيلا بجعل الفيروس يستشري في البلاد. هؤلاء اللصوص القتلة الذين يحكمون العراق لا يأبهون بحياة الجماهير، إنهم يهتمون فقط برضا أسيادهم حكام الديكتاتورية الإيرانية، يهتمون فقط باستمرار فتح المعابر التجارية التي تسيطر عليها المليشيات الطائفية، مثل فيلق بدر وغيره. هذه المعابر التي تدر عليهم أرباحاً خيالية جراء نهب ثروات العراق واستغلال مجهود عمل العمال العراقيين.
تأتي هذا الأزمة الصحية بعد تعرض ليس فقط القطاع الصحي بل كل البنية التحتية والخدمية للتخريب والدمار والنهب. حرب إجرامية شنتها الامبريالية الأمريكية وبعدها تفكيك الدولة بحجة محاربة أتباع حزب البعث ثم تسليم السلطة لمجموعة من القتلة ادخلوا البلاد في حرب طائفية خرجوا منها جميعاً وهم يملكون سجلا حافلا بالجرائم الوحشية في حق الجماهير العراقية. سبعة عشر عاماً من التخريب المنظم والحروب الهمجية الداخلية والخارجية كفيلة بجعل البلاد أضعف بمراحل من أن تواجه الأزمة الحالية.
هذا يأتي والبلاد كانت تشهد انتفاضة ثورية عارمة منذ أكتوبر الماضي، انتفاضة قدمت فيها الجماهير مئات الشهداء وعشرات الآلاف من المصابين وأظهرت نضالية وكفاحية مذهلة. لكن للأسف هذه الانتفاضة كانت قد بدأت تفقد جذوتها نتيجة عدة أسباب موضوعية وذاتية. وبالتأكيد السلطة المرتهنة التي تحكم البلاد سوف تستغل الوباء وخوف الجماهير منه وتجهز على ما تبقى من بؤر مشتعلة بحجة محاربة الوباء، بعدما استطاعت احتواء الانتفاضة بشكل كبير بسبب غياب الحزب الثوري الذي كان من المفترض به أن يدفع الجماهير نحو تحقيق أهدافها بأيديها، أي نحو محاولة تنظيم صفوف الجماهير وفي مقدمتها الطبقة العاملة للاستيلاء على السلطة. الآن سوف تستغل السلطة والمليشيات الاجرامية إفراغ الشوارع من المواطنين وانخفاض عدد المعتصمين، نتيجة خوف قطاعات من المنتفضين والجماهير من الوباء وبسبب خفوت جذوة الانتفاضة حالياً، للانقضاض على ما تم كسبه بدماء الشهداء وتضحيات المصابين وبسالة الجماهير المنتفضة.
سورية:
وكأن العالم ولا التاريخ لم يكتفيا بما حدث للسوريين حتى الآن، بعد مضي عشر سنوات على ثورة راح ضحيتها أكثر من سبعمئة ألف قتيل وملايين الجرحى والمصابين وعشرات الآلاف من المعتقلين والمغيبين في السجون والمعتقلات العلنية والسرية، عشر سنوات من الدمار والقصف والتهجير المستمر، عشر سنوات تكالبت خلالها على الجماهير السورية كل القوى الإقليمية والدولية، التي اختلفت في كل شيء سوى قتل الجماهير السورية وهزيمة ثورتها، فقتلوا وعذبوا الثوريين والجماهير وهجروا وازالوا بلدات ومدن كاملة عن بكرة أبيها.
فيأتي الوباء ليكمل النهاية التراجيدية لقصة شعب ثار من أجل مستقبل مختلف عن ماضي يملئه الظلم والفقر والقمع والحشية، فقوبل بظلم أكبر ووحشية أكثر. يأتي الوباء ليجهز على من تبقى من جماهير تقبع في خيام منذ عدة سنوات بلا سقف يقيهم من الشتاء أو الصيف وبلا مياه نظيفة حتى تكفي للشرب. بلى أي شيء سوى أرواح متعبة من انهزامات الماضي وقتامة المستقبل. من بقي في سوريا، سواء في مناطق سيطرة الجزار الدموي بشار الأسد أو مناطق سيطرة المعارضة المرتهنة لتركيا أو حتى مناطق سيطرة القوات الكردية، جميع هؤلاء سيدفعون مجدداً ثمن فشل الثورة، بعد كل هذه التضحيات ستدفع الجماهير السورية، التي ثارت منذ عشر سنوات، الثمن مجدداً. أما من خانوا الجماهير، من معارضة مرتهنة ومرتزقة، فهم يعيشون في مأمن على حياتهم وصحتهم وثرواتهم خارج البلاد.
وإن قسمنا الشعب السوري حسب أماكن تواجدهم، فسنجد أن هناك جزء هم أسرى لدى مجرم الحرب بشار الأسد الذي سوف يستغل بالطبع هذه الأزمة الصحية ليقوم بابتزاز العالم الرأسمالي المنافق ويُدمج من جديد في النظام العربي والعالمي بحجة محاربة الوباء؛ وجزء هم تحت سيطرة قوى إسلامية مرتهنة للديكتاتور رجب طيب أردوغان، يعيش جزء كبير من هؤلاء في خيام كما قلت، وجزء موزع في مخيمات اللاجئين في بلدان الجوار أو البلدان الأوروبية، وهؤلاء هم الحلقة الأضعف، سيكون عليهم ليس فقط مواجهة الوباء وليس فقط مواجهة الفقر والحاجة والبؤس المتراكم منذ سنين والذي سيزداد في الشهور والسنين القادمة، ولكن سيكون عليهم أيضاً مواجهة أن يتم تحميلهم مسؤولية تفشي الفيروس. سيكون عليهم مواجهة دعاية يمينية عنصرية تصور مخيمات اللاجئين كبيئة حاضنة للفيروس وبالتالي تحميل اللاجئين نتائج الوباء الصحية والاقتصادية وما يصاحب هذه الدعاية من تهديد على حياة اللاجئين ومستقبلهم في تلك البلدان.
فلسطين:
الشعب الفلسطيني المحتل أمام تحد صعب. الشعب الواقع تحت الاحتلال منذ أكثر من سبعين عاماُ وذو السلطة العميلة يواجه الوباء منفرداً، فلا الاحتلال سيتدخل لينقذه ولا السلطة العميلة تستطيع إنقاذه ولا الأنظمة العربية المأزومة ستتدخل لحفظ ماء وجهها مثل كل مرة. فاليوم الشعب الفلسطيني، سواء في غزة المحاصرة منذ ثلاثة عشرة عاماً براً وبحراً التي من الممكن في أي لحظة أن نفيق على فاجعة إنسانية هناك، أو الضفة الغربية التي لا تدخل إليها قشة بدون موافقة الاحتلال، يقف هذا الشعب وحيداً معزولاً حتى من التضامن العربي والدولي الذي كان من الممكن أن يشكل ضغطاً في ظل انشغال الشعوب وخوفها من الوباء.
وما يجعل الوضع أكثر حقارة بما يلائم الحقبة الزمنية الحالية هو سلوك السلطة الفلسطينية. وكأن بئر خيانة هذه السلطة لم يمتلئ بعد، وكأن تنسيقها الأمني مع الاحتلال ليس كافياً ومبادلاتها التجارية مع الاحتلال ليس كافياً واعترافها بالاحتلال ليس كافياً واعتقالها للمقاومين وإفراغ الضفة الغربية من العمل المسلح المقاوم ليس كافياً، ها هي اليوم تتجاوز كل حدود الحقارة والعمالة المعهودة، الحكومة الصهيونية طالبت السلطة العميلة في رام الله بالسماح للعمالة الفلسطينية التي تعمل في أعمال الهدم والبناء في الداخل المحتل بالبقاء لمدة ستين يوماً في أماكن العمل، وهذا الاقتراح في حد ذاته ليس مستغرباً فليس من المأمول أن يكون المحتل رفيقاً بمن يحتلهم، ولكن ماذا نقول عن خيانة ووضاعة أبناء جلدتنا، موافقة السلطة الفلسطينية على طلب الحكومة الصهيونية هو خيانة جديدة، هو موافقة ضمنية على التضحية بالعمال الفلسطينيين على مذبح الاستمرار في السياسية الاستيطانية. في الوقت الذي يحاول فيه القادة الصهاينة الظهور بمظهر المنقذ أمام جماهيرهم لا يتوانون في نفس الوقت عن إظهار الطبيعة الفاشية للنظام الصهيوني تجاه الجماهير الفلسطينية بإجبارهم على العمل بدون أدنى معايير السلامة والنظافة سواء في المنازل أو في أماكن العمل في سبيل ألا يتوقف بناء الجدار العازل ولا يتوقف بناء مزيد من المستوطنات لاستقبال مزيد من الغزاة.
نتائج وتوقعات:
هذه هي المعادلة في العالم اليوم، أزمة اقتصادية عميقة، ارتفاع الديون العامة والخاصة لمستويات غير مسبوقة، وهو ما ينبئ بمزيد من الشركات والحكومات التي ستعلن عن عجزها عن سداد ديونها في المستقبل القريب وما يعنيه هذا من أزمة في النظام المالي العالمي. انخفاض حاد في الطلب على مستوى العالم نتيجة الوباء وما يعنيه هذا من انخفاض حاد في الارباح التي هي الغذاء الوحيد الذي يبقي النظام الرأسمالي حياً، وبالتالي اغلاق آلاف الشركات وتسريح الملايين من العمال على مستوى العالم، وهذا ينبئ بدخول العالم في فترة ركود طويلة يمكن أن تفضي إلى كساد.
هذا الجزء الاقتصادي في المعادلة، أما الجزء السياسي فهو إجراءات حمائية وإغلاق دولي للحدود بشكل غير مسبوق، وهو ما يعني بداية نهاية أسس كان يظن العالم حتى وقت قريب أنها راسخة ومن المسلمات. عسكرة لكل دول العالم، دولة شمولية مثل الصين تضرب مثلاً للدول المنكوبة على أن الوحشية يمكنها أن تحل الأزمات بشكل أسرع، طبقة عاملة عالمية يتم التضحية بها على مذبح استمرار عجلة النظام الرأسمالي في الدوران.
في ظل هذه الأزمة تكتيكات وإجراءات الحكومات تُظهر بوضوح انحيازها لمصالح رجال الأعمال والأثرياء التي هي على النقيض تماماً مع مصلحة الطبقة العاملة وعموم الكادحين. الإدارة الأمريكية ضربت مثلا على كيف يمكن لدولة كانت تتصرف لوقت قريب كقائدة للعالم أن تتحول في أدائها إلى ما يشبه أداء دول العالم الثالث، تخبط في التصريحات وأحياناً تناقض، كذب علني على الجماهير الأمريكية حول أن كل شيء تحت السيطرة إلى أن أثبت الواقع العكس، ومجدداً محاولة إنقاذ الشركات الكبرى والبنوك بأموال الجماهير.
من أوائل الإجراءات التي اتخذها الاتحاد الأوروبي مثلاً هي تخفيض الفوائد إلى ما يقارب الصفر، وهذا الاجراء التقليدي الذي يهدف لتحفيز الإنفاق والقروض الصغيرة وحتى قروض الشركات، هو عديم الجدوى في الأزمة الحالية، ويظهر أن هؤلاء السادة الأوروبيين غير مدركين لحجم وطبيعة الأزمة التي تواجه النظام الرأسمالي حالياً. ما يواجهه العالم اليوم ليست أزمة اقتصادية دورية عادية يمكن احتوائها بالوسائل الرأسمالية التقليدية، بل أزمة اقتصادية عميقة ومتراكمة من ارتفاع مستوى الديون وسلسلة افلاسات وانخفاض قدرة شرائية على مستوى عالمي نتيجة إجراءات التقشف والاقتطاعات وبالتالي تباطؤ اقتصادي عالمي مستمر منذ سنين. كل هذا ترافق مع انتشار وباء يفرض نقص الاستهلاك نتيجة الحجر المنزلي، وما الى ذلك من إجراءات، ونتيجة تغير في أولوية الجماهير وبالتالي إفلاس الآلف من الشركات الصغيرة والمتوسطة وتسريح ملايين العمال وبالتالي انخفاض أكثر للقدرة الشرائية على مستوى العالم، ومن ثم الدخول في فترة ركود طويلة، نتيجة فائض الإنتاج، يمكن أن تفضي إلى كساد عالمي. إذاً نسبة الفوائد والحوافز الاقتصادية للشركات والبنوك وكل تلك المسكنات التي تم استخدامها لتسكين أزمة 2008 تظهر اليوم عديمة القيمة والجدوى. هؤلاء اللصوص المجرمين الذين يحكمون العالم يأبوا أن يتنازلوا عن تحقيق مزيد من الأرباح وعن زيادة ثرواتهم في أي لحظة حتى والعالم يواجه أزمة صحية تهدد حياة الملايين من البشر.
أما الصين “منقذ الرأسمالية” من أزمة 2008 والمستفيد الأكبر سياسياً من الأزمة الحالية حتى الآن، فهي عاجزة عن تقديم يد العون للنظام الرأسمالي العالمي في ظل اغلاق الحدود، وما إلى ذلك من إجراءات ستكون آثارها مدمرة اقتصادياً على بلد يعتمد على التصدير بشكل أساسي. لكن الصين، بقيادة الحزب الشيوعي الصيني الذي اثبت للمرة المئة أنه المدير الأنجح للرأسمالية، عملت منذ بداية الأزمة على الاستفادة منها سياسياً. تقديم الصين مساعدات طبية إلى ثمان وثلاثين دولة، منها دول مركزية في اللعبة السياسية الدولية، تبدأ بهذا في تكوين حلف سياسي دولي وتبدأ في صعود خشبة مسرح السياسية الدولية كقطب أوحد للعالم، الإمبريالية الصينية تستغل ضعف وأنانية الامبريالية الغربية لتحل محلها في السيطرة على دول الأطراف وكسب حلفائها.
إن ظل النظام الرأسمالي قائماً، ولم تستطع الطبقة العاملة الوصول إلى السلطة بعد المد الثوري الذي سيجتاح العالم في السنين القادمة، فسيكون العالم أمام مسارين: الأول هو ثورة مضادة عنيفة بقيادة الدولة الشمولية الصينية تنهي عقدا من الأزمات الاقتصادية على جثث ملايين البشر، أي أن تقود الصين البرجوازية العالمية لحل أزمتها العميقة الحالية بطرق الحزب الشيوعي الصيني الشمولية والوحشية بعد أن أثبتت حلول الرأسمالية الليبرالية الغربية فلشها وعقمها، وهذا المسار هو الأقرب للتحقق في ظل ميزان القوى الموجود اليوم وفي ظل غياب بديل ثوري جماهيري عالمي، وهو ما يعني أن العمال مقبلون على فترة أقل رخاءً وحرية وديمقراطية وأكثر استبداداً وشمولية ويمينية وفقراً بكل المقاييس. المسار الثاني هو استمرار حالة الاضطراب والهلع الحالية بلا وجهة أو خطة رأسمالية حتى للسيطرة على الأوضاع، وهذا بالتأكيد سيدخلنا في مرحلة كساد ستكون تفاصيلها أشبه بما كان يحدث في العصور الوسطى من حيث المآسي والفظاعات وانحطاط البشرية.
السؤال المركزي الآن هو، هل ستقبل جماهير العالم الكادحة وفي مقدمتها الطبقة العاملة العالمية أن يُفرض عليها أي من هذين المسارين، أم أنها ستعمل على فرض حلها الثوري والجذري للمعضلة التي تهدد العالم الآن عبر نضالها الواعي والمنظم؟
خاتمة:
الرأسمالية، بعد أكثر من 200 عام على سيطرتها على العالم كنظام سياسي واقتصادي، تنتج اليوم لجماهير العالم هذين الاختيارين، إما أن تختار الجماهير أن تموت من المرض والجوع، وإما أن تموت برصاص وسياط الدول الشمولية. مقولة روزا لكسمبورج “الاشتراكية أو البربرية” هي العنوان الأنسب للمرحلة المقبلة في تاريخ البشر.
الشهور والسنين القادمة ستكون حافلة بالنضالات الطبقية والتحركات الاجتماعية الثورية وإن لم يستثمر الماركسيين هذه الفرصة التي ستتوفر لهم في المستقبل القريب سيدفعون ثمنها غالياً. كما قلت العقد الاجتماعي المبرم منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية يواجه تهديدا حقيقيا الآن، فالاتحاد الأوروبي مثلاً هو قاب قوسين أو أدنى من التفكك، هنا يكمن السؤال تفكك الاتحاد الأوروبي بصيغته الحالية لمصلحة ماذا ومن؟ انتفاء العقد الاجتماعي العالمي الساري المفعول منذ عقود لمصلحة ماذا ومن؟
السلطة سوف تنتظر من يتلقفها في بلد تلو الآخر بفعل تسارع وتيرة الأحداث والنضالات وإن لم يدفع الماركسيين الطبقة العاملة لقيادة الجماهير الثورية لتلقفها وتستولى عليها فسيتلقفها أقصى اليمين الرجعي والفاشي ويصعد على أكتاف الطبقة العاملة والجماهير وعلى حساب أرواحها.
صحيح أن القاعدة الاجتماعية للفاشية ضعيفة في الوقت الحالي، لكن مع اندلاع ثورات وانتفاضات جماهيرية وعمالية وافتقاد هذه الثورات لقيادات ثورية تنجز مهام الاستيلاء على السلطة والقضاء على آلة الدولة الجمهورية الرأسمالية ستلجأ البرجوازية للفاشية كحل أخير يضمن لها القضاء على المد الجماهيري الثوري، ولنا في ثورات العشرينيات والثلاثينيات من القرن الماضي عظة حيث لجأت البرجوازية في عديد من البلدان للفاشية كرد فعل يميني على ثورات اجتماعية، لكن الأزمة الحالية للرأسمالية أكثر عمقاً واتساعاً وتعقيداً (نتيجة العولمة والأزمات الاقتصادية المتراكمة التي لما يجري حلها، وإنما فقط تسكينها وترحيلها للمستقبل) من أزمة الثلاثينيات وهذا يعني أن رد فعل البرجوازية العالمية سيكون أكثر إجرامية ودموية.
كل هذا يضع على عاتق الماركسيين مهمة بناء أحزابهم الثورية المرتبطة بالطبقة العاملة والجماهير الكادحة في أسرع وقت ممكن للاشتباك مع الأحداث الجليلة القادمة. لم يكن نشر الأفكار الماركسية أسهل مما هو عليه اليوم، جماهير العالم تبحث عن أجوبة لما يحدث وعلينا نحن أن نجيبهم ونفهمهم حقيقة أن الرأسمالية هي ليست فقط الرعب بلا نهاية بل وأيضاً الجنون بلا نهاية. علينا أن نفهمهم حقيقية أنهم إن كانوا يظنون أن الأسوأ قد مضى أو أنه سيمضي مع الوباء فهذه ليست حقيقة بل الأسوأ دائماً لا يمكننا أن نتخيله، قذارة وقبح وإجرام الرأسمالية لا حدود له.
علينا أن نشرح للجماهير والطبقة العاملة أنه يمكننا أن نحيا حياة نكون فيها غير مهددين بفقدانها في كل لحظة. فقط عن طريق القضاء على الرأسمالية يمكننا ذلك، عن طريق إلغاء الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج ووضع تلك الوسائل في خدمة المجتمع واحتياجاته على قاعدة الاقتصاد المخطط يمكننا أن نعيش في مجتمع إنساني، عن طريق نظام اجتماعي وسياسي لا ينفق التريليونات من الدولارات على السلاح الذي لا يقتل إلا الفقراء والضعفاء وانفاق تلك الأموال في تلبية احتياجات البشرية وفتح آفاق جديدة لها يمكننا أن نحيا حياة إنسانية؛ عن طريق القضاء على الرأسمالية وإلغاء التربة الخصبة للاستغلال والقهر القومي والتبعية يمكننا أن نقضي على كل الشرور التي عانت منها البشرية لقرون من الزمن.
هذا ما يجب على الماركسيين فعله بشكل عاجل، يجب البدء في الاشتباك النظري مع الأحداث والاشتباك العملي مع النضالات أينما ووقتما وجدت، ودعم المبادرات الخلاقة والاجتماعية للجماهير الشعبية،. يجب أن نكون جاهزين للأحداث القادمة. تجربة التاريخ وتجارب الثورات التي شاهدناها أثبتت أن مسألة انتصار الثورة هي بالإضافة لكونها مسألة نظرية وسياسية هي أيضاً مسألة قيمة الوقت وإدراكه ممكناته. يجب أن نعمل في الوقت الحالي على الدراسة والاشتباك النظري مع الأحداث لنكون جاهزين سياسياً وتنظيمياً لنشتبك اشتباكا واسعا مع النضالات التي من المؤكد أنها سترتفع في فترة ما بعد الوباء. لنكون قادرين على كسب الطليعة العمالية على أرضية الماركسية الثورية، ونستطيع أن نرفع الشعارات المناسبة للمرحلة، ونكون قادرين على تقديم إجابات على كل الأسئلة التي تشغل بال الطبقة العاملة وعموم الكادحين.
ابنوا الخلايا والتنظيمات الثورية في كل مكان!
تسقط قوات قمع الشعوب (الشرطة والجيش)!
لا حل سوى انتصار الثورة الاشتراكية بحكومة عمالية!