البلشفية طريق الثورة: الفصل السادس: سنة الثورة – مؤتمر السوفييتات


آلان وودز
2020 / 4 / 8 - 11:16     

الدفاع والهجوم، من وجهة نظر المنطق الصوري، متناقضان بشكل مطلق. لكنهما، في الممارسة العملية، غالبا ما يتحولان إلى بعضهما البعض، حيث يمكن لنضال دفاعي أن يتحول، في ظل ظروف معينة، إلى نضال هجومي، والعكس صحيح. هناك العديد من نقاط التشابه بين الحروب بين الأمم وبين الحروب بين الطبقات. لكن هناك اختلافات أيضا. الجيش البرجوازي الدائم يتم إعداده وتمويله وتسليحه طيلة عقود استعدادا للحرب. ويمكن لهيئة الأركان العامة اختيار متى وأين تبدأ المواجهات. لكن حتى في هذا النوع من الحروب لا تكون المسألة مسألة عسكرية بحتة. لقد سبق لكلاوزفيتز أن أوضح أن الحرب هي استمرار للسياسة بوسائل أخرى. إن الأعمال العسكرية للحكومات البرجوازية تحددها المصالح الطبقية للبرجوازية. ولهذا السبب يؤكد الماركسيون دائما أنه لا أهمية للبحث في مسألة من أطلق الرصاصة الأولى لفهم طبيعة حرب ما.


سوفييت بيتروغراد سنة 1917
دائما تحاول كل حكومة في كل حرب تحميل مسؤولية اندلاعها للعدو. ليس هذا حادثا عرضيا ولا نزوة. ليست الحرب مجرد مسألة عسكرية فقط، بل هي مسألة سياسة أيضا. إن حشد الرأي العام في الداخل والخارج لدعم الحرب مسألة أساسية لا يمكن حلها إلا على المستوى السياسي. وقد سبق لنابليون أن أوضح أن أهمية الروح المعنوية في الحروب مقارنة مع أهمية الجوانب المادية هي ثلاثة إلى واحد. وبالتالي فإن المهمة الأساسية للدبلوماسية هي إقناع الرأي العام بأن جيشه قد تحرك للدفاع عن النفس فقط وردا على استفزاز غير محتمل واعتداء من جانب العدو، وما إلى ذلك. الحكومة التي لا تتصرف بهذه الطريقة ترتكب خطأً فادحا، وتتسبب في أضرار جسيمة لجهودها الحربية.

يصدق هذا أكثر بألف مرة عندما يتعلق الأمر بالثورة الاشتراكية. إن البروليتاريا، على عكس الطبقة السائدة، لا تمتلك جيشا ، ولا يمكنها أن تمتلك قوة مسلحة قادرة على إلحاق الهزيمة بقوات الدولة البرجوازية ما دامت هذه الأخيرة سليمة. وفي حين أن الحرب التقليدية تكون في الأساس مسألة عسكرية، حيث لا تلعب الدبلوماسية إلا دورا ثانويا رغم أهميته، فإن مهمة الثورة الاشتراكية هي في الأساس مهمة سياسية لكسب الجماهير والقوات المسلحة. الأدوار معكوسة هنا.

تبدأ الغالبية العظمى من نضالات الطبقة العاملة، في الواقع، باعتبارها نضالات دفاعية: نضالات للدفاع عن مستويات المعيشة، عن مناصب الشغل، عن الحقوق الديمقراطية ، إلخ. لكن في ظل ظروف معينة، وخاصة مع وجود القيادة الصحيحة، يمكن لهذه النضالات الدفاعية أن تمهد الطريق لنضال هجومي، بما في ذلك الإضراب العام، الذي يطرح مسألة السلطة. ومع ذلك فحتى في سياق الثورة، من الضروري تحميل الطبقة السائدة كل المسؤولية عن أعمال العنف، من أجل كسب الجماهير، ليس فقط الطبقة العاملة، بل وأيضا البرجوازية الصغيرة. وبالتالي فإنه ليس من الصحيح فحسب، بل ومن الضروري للغاية أن يتم تقديم الحركة في صورة دفاعية. وقد كتب لينين في يونيو، قائلا:

“يجب أن تكون البروليتاريا الاشتراكية وحزبنا رزينين ومتحدين قدر الإمكان، ويجب أن يظهروا أكبر قدر من الصبر واليقظة. فلنترك كافيناكيي المستقبل يبادرون أولا. كونفرانس حزبنا كان قد حذر بالفعل من وصولهم. لن يمنحهم عمال بتروغراد أي فرصة للتنصل من المسؤولية. إن العمال سيستغلون وقتهم ويجمعون قواتهم، ويستعدون للمقاومة عندما سيقرر هؤلاء السادة التحول من الأقوال إلى الأفعال”[1].

وتاريخ الثورة الروسية، قبل وأثناء وبعد أكتوبر، يكفي لإثبات ذلك. عشية ثورة أكتوبر كان هناك اختلاف في الرأي بين لينين وتروتسكي بشأن التاريخ المناسب للانتفاضة. أراد لينين الانتقال مباشرة إلى الاستيلاء على السلطة في شتنبر، في حين كان تروتسكي يؤيد تأجيل الانتفاضة حتى مؤتمر السوفييتات. لماذا اتخذ تروتسكي هذا الموقف؟ هل كان يعاني من نقص في الجرأة؟ كلا على الاطلاق. لقد فهم تروتسكي أنه حتى في الثورة تكون مسألة الشرعية مهمة للغاية بالنسبة للجماهير. كان تروتسكي على يقين من أن البلاشفة سيحصلون على الأغلبية في المؤتمر، وبالتالي يمكنهم أن يظهروا أمام الجماهير بكونهم سلطة شرعية في المجتمع. لم تكن تلك مسألة ثانوية، بل كانت عاملا حاسما في تحقيق انتقال سلمي للسلطة. ومرة أخرى لم يكن العنصر الحاسم عسكريا، بل سياسيا. وبالمناسبة فقد قدم البلاشفة انتفاضة أكتوبر كعمل دفاعي للحيلولة دون انزلاق روسيا إلى الفوضى والحرب الأهلية. وهذا ليس مصادفة. فحتى عندما تكون في وضع يسمح لك بالهجوم (وهو الشيء الذي لا يتسنى دائما، بل العكس)، يكون من الضروري دائما التصرف والتحدث كما لو كنت تخوض نضالا دفاعيا، وتحميل كل المسؤولية للعدو.

عارض كامينيف وزينوفييف الاستيلاء على السلطة لأنهما تأثرا بضغط الرأي العام البرجوازي وفقدا أعصابهما. إن الميل إلى المبالغة في تقدير قوة العدو والتقييم المتشائم للإمكانيات الكفاحية للطبقة العاملة، سمة مميزة لهذا النوع من العقليات. كان التأجيل بالنسبة لهم، يعني التأجيل إلى الأبد. وقد اتضح موقف كامينيف من خلال محادثة كان قد أجراها مع راسكولنيكوف قبل أسابيع قليلة من الانتفاضة:

“عندما التقيت بصديقي القديم ل. ب. كامينيف، انخرطت على الفور في مناقشة معه حول “خلافاتنا”. كانت نقطة انطلاق حجة ليف بوريسوفيتش هي أن حزبنا لم يكن مستعدا بعد لقيادة الانتفاضة. صحيح أنه لدينا جماهير كبيرة من مختلف الشرائح ورائنا، ويصادقون بسهولة على قراراتنا، لكن ما يزال هناك طريق طويل لقطعه للانتقال من التصويت “الورقي” إلى المشاركة النشطة في الانتفاضة المسلحة. لم يكن من المؤكد أن حامية بتروغراد ستظهر حازمة في المعركة، ومستعدة للقتال أو الموت. وعند أول ظرف حرج سيهجرنا الجنود وسيهربون.

“قال الرفيق كامينيف: أما الحكومة، من جهة أخرى، فتمتلك قوات رائعة التنظيم تحت تصرفها، مخلصة لقضيتها، من القوزاق والكاديت الذين تمت تعبئتهم بشكل جيد ضدنا وسيقاتلون بحماس حتى النهاية”.

“وبالاعتماد على كل هذه الاستنتاجات المتشائمة حول فرصنا في النصر، توصل الرفيق كامينيف إلى وجهة النظر القائلة بأن محاولة فاشلة للانتفاضة ستؤدي إلى الهزيمة وانهيار حزبنا، الأمر الذي سيعيدنا إلى الوراء وسيؤخر لفترة طويلة تطور ثورة”[2].

كان لينين شديد الإصرار على ضرورة الاستيلاء على السلطة على الفور، لأنه كان يخشى، لأسباب وجيهة، من أن يتسبب البلاشفة التوفيقيون في إضاعة الفرصة تماما. لكن اعتراضه على تأجيل الانتفاضة حتى مؤتمر السوفييتات لم يكن صحيحا. لقد دعم تروتسكي هذا التأجيل ليس فقط لكسب العناصر المتذبذبة داخل اللجنة المركزية، بل كذلك لأسباب تكتيكية وجيهة. كان غالبية العمال والجنود ما يزالون يثقون في سلطة السوفييتات. كانوا سيدعمون الاستيلاء على السلطة إذا ما تم باسم السوفييتات، لكنهم لم يكونوا ليدعموه بالضرورة لو تم باسم البلاشفة وحدهم. لذلك كان يجب أن تتزامن الانتفاضة مع مؤتمر السوفييتات، حيث كان البلاشفة وحلفاؤهم متأكدين من الفوز بالأغلبية. كان لينين يشك في هذا التكتيك. كان يتساءل ما إذا لم يكن مجرد مثال آخر لسياسة المراوغة والغباء البرلماني الشرعي؟

ومع ذلك فقد كان موقف تروتسكي صحيحا بلا شك. لقد أدرك الحاجة لمواصلة العمل من أجل كسب السوفييتات حتى لحظة الانتفاضة، وذلك من أجل حشد أقصى القوى للانتفاضة، وتقليل المقاومة. لذلك أيد، رغم معارضة لينين، تأجيل الانتفاضة لتتزامن مع مؤتمر السوفييتات حيث سيفوز البلاشفة بالأغلبية. وهكذا فحتى في سياق الانتفاضة نفسها، يبقى لمسألة الشرعية موقع جد مهم، وتلعب دورا حاسما في كسب الفئات الخاملة من الجماهير. اندلعت الانتفاضة، كما اقترح تروتسكي، بالتزامن مع المؤتمر. لكن هذا لم يمنع بالطبع الستالينيين من الادعاء بأن اقتراح تروتسكي “يعني في الممارسة تخريب الانتفاضة والسماح للحكومة المؤقتة بتعبئة قواتها لسحق الانتفاضة خلال اليوم الذي افتتح فيه المؤتمر”[3].

بناء على إصرار لينين اتخذت اللجنة المركزية قرار تنظيم الانتفاضة في 10 أكتوبر. يبدو من الواضح أن لينين كان ينوي الاستفادة من مؤتمر سوفييتات المنطقة الشمالية، الذي انعقد في بتروغراد في الفترة من 11 إلى 13 أكتوبر، لبدء الانتفاضة. وبحسب البلشفي اللاتفي، لاتسيس، فإن الخطة كانت أن يعلن المؤتمر الشمالي نفسه بكونه حكومة، وهذه ستكون البداية. كان ذلك واحدا من العديد من المؤتمرات الإقليمية للسوفييتات التي عقدت للتحضير لمؤتمر سوفييتات عموم روسيا. سيطر اليسار على المؤتمر: 51 البلاشفة، 24 من الاشتراكيين الثوريين اليساريين، أربعة من الماكسيماليين (منظمة إرهابية صغيرة منشقة عن الاشتراكيين الثوريين)، ومنشفي أممي واحد، وفقط عشرة اشتراكيين ثوريين وأربعة مناشفة، والذين سرعان ما انسحبوا. كان من المقرر في البداية عقد المؤتمر في هيلسينجفورس بفنلندا، فتم نقله إلى العاصمة باعتبارها مكانا أكثر ملاءمة لبدء الانتفاضة.

كتب لينين في رسالة إلى مندوبي البلاشفة في مؤتمر المنطقة الشمالية، أنهم سيكونون “خونة للأممية” إذا اقتصروا على “مجرد قرارات”. لكن المؤتمر لم يصوت لصالح انتفاضة فورية. وبدلا من ذلك مرر قرارا طالب بحكومة سوفياتية، لكنه ربطها بمؤتمر عموم روسيا. كان هذا هو المزاج السائد في ذلك الوقت. وقد أظهرت التقارير الواردة من العديد من المناطق نفس الصورة، وهي أن العمال سيكونون مستعدين للقتال من أجل إقامة حكومة سوفياتية إذا أعلنها مؤتمر السوفييتات، لكن ليس بالضرورة إذا أعلنها حزب واحد، أي البلاشفة، بدون توقيع من سلطة السوفييتات. وعلاوة على ذلك، كشفت التقارير الداخلية، وخاصة من المنظمة العسكرية البلشفية، عن حالة مخيبة للآمال من عدم الاستعداد و”أوجه القصور الصارخة”. ربما كانت تلك التقارير مبالغا فيها. كانت المنظمة العسكرية تميل دائما إلى إيلاء أهمية مفرطة للجانب العسكري التقني البحت، بينما في الواقع كانت المسائل السياسية هي الحاسمة. ومع ذلك فإن هذه التقارير كشفت شيئا ما. فبعد التجربة المريرة التي عاشها المناضلون البلاشفة خلال أيام يوليوز، صاروا يخافون من العزلة وصاروا يميلون إلى توخي الحذر، وربما المبالغة في الحذر. ومع ذلك فقد أصبح من الواضح بشكل متزايد أن الحزب لم يكن مستعدا بعد نفسيا أو تنظيميا للقفزة الحاسمة. كانت هناك حاجة لبضعة أسابيع أخرى. وهذا كان يعني بالفعل أن الانتفاضة سوف تتزامن مع المؤتمر الثاني لسوفييتات عموم روسيا.

آلان وودز
ترجمة: هيئة تحرير موقع ماركسي

هوامش:

[1] LCW, The Turning Point, vol. 25, p. 83.

[2] F.F. Raskolnikov, Kronstadt and Petrograd in 1917, p. 256-57.

[3] LCW, vol. 26, p. 547, note 79.