ثورة تشرين والصحة النفسية السياسية في العراق: تعافي المجتمع واعتلال السلطة
فارس كمال نظمي
الحوار المتمدن
-
العدد: 6411 - 2019 / 11 / 17 - 20:59
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
يمكن القول بثقة: إن فئات أساسية في المجتمع العراقي ما عاد بإمكانها بعد الحراك الثوري في تشرين الأول ٢٠١٩ أن تعيش- سيكولوجياً- بالوعي السابق والمسلمات السابقة نفسها. فبديلاً عن "قدسيات" متهالكة، بزغت قدسية الكرامة الفردية الممتزجة بكبرياء الهوية الجامعة. وبديلاً عن "شرعية" الاثنيات السياسية القطيعية برزت شرعية المواطن الفرد والوطن المشترك.
ويمكن التوكيد أيضاً أن ما يبرز اليوم في الحياة العامة من أعراضٍ نفسية إيجابية، بات يؤشر لصحوة فريدة في الصحة النفسية السياسية للمحتجين بدرجة أساسية وللمنتظرين في بيوتهم بدرجة أقل.
فاليوم صرنا نشهد خروجاً عسيراً من شرنقة الاكتئاب السياسي، والعجز المكتسب، والماسوشية الاجتماعية، واللامبالاة العدمية، والتسليم القدري، في مقابل تفتح شاق في توكيد الذات وفاعليتها الجمعية، مصحوباً برفض التهميش والاستبعاد والإهانة، ورغبة مستميتة لمغادرة دور الضحية المستلبة الى دور القاضي الناطق الذي طال سكوته، مع نهوض روحي ثوري لمقاومة الخواء الوجودي عبر البحث عن معنى آخر للحياة يستعين باليأس ليكافح اليأس، ويستعين بانغلاق المستقبل ليفتح أفقاً في ظلمة الحاضر.
وكلها مؤشرات على صحة نفسية مجتمعية منتعشة لا تتعكز على إملاءات تلقينية نمطية، بل تستعين بوعيها الذاتي الحاذق بحاجاتها الجوهرية دون توسطات ايديولوجية. وتتمظهر هذه المؤشرات بأمثلة كثيرة صار يعجّ بها الفضاء العمومي للبلاد.
المرح الاحتجاجي يزدري عبوسَ السلطة
ابتعاداً عن عن الشتائم والتوترات النفسية والتعبيرات الحزينة، أخذ المحتج العراقي يميل إلى السخرية العميقة من السلطة، وإلى الغناء السياسي الجماعي، والنقد الفكاهي اللاذع، وكأنه بذلك يريد التسامي على الجناة والقتلة بأن يعدَّ نبضَ الحياة وبهجتها – وسط المرارة والألم- هما الأكثر جدارة بالاهتمام والممارسة.
فما حدث ويحدث في ساحات الاحتجاج هو أن الضحية تتطهر من حقدها بأن تستعين بالفرح وسيلة لمداواة الجراح النفسية، وبالكبرياء أسلوباً للتعاظم على انحطاط الجلاد. وهي في كل ذلك، إنما تعيد تقطير قيح الماضي والحاضر ليغدو بلسماً روحياً تستقوي به في رحلتها الجديدة نحو المستقبل.
القوة الناعمة في ساحة التحرير
لا أحبّذ الاستعانة بالتصورات الجندرية التقليدية لتفسير الوجود المكثف للنساء في ساحة التحرير ببغداد تحديداً. فوجودهنّ هناك ليس تمرداً على المجتمع الذكوري أو تحرراً من القيم الأبوية أو صحوة من القيود الاجتماعية، بل موقف سياسي لممارسة فن الحضور والمشاركة والتمهيد للمستقبل، ما دامت السياسة أصبحت تعبيراً مجتمعياً عن موقف وجودي عميق ولم تعد حكراً على الممارسات الأيديولوجية والحزبية.
فالهويات الجندرية تتراجع في الوعي العام أوقات التحولات الثورية الجمعية، لتتقدم الهويات الوطنية أو البشرية الأكثر اتساعاً. وما يؤكد ذلك، أن الرجال في ساحة التحرير أنفسهم خرجوا من التنميط الجندري التقليدي وصاروا يدركون المرأة ويعاملونها هناك بوصفها فاعلاً سياسياً مماثلاً لفعلهم وليست عوناً للرجل بدور ثانوي أدنى.
الفعل الاحتجاجي العميق بوصفه تطهراً متسامياً من خنوع طال أمده، يعيدُ ترتيب هرمية الهويات الاجتماعية بأن يمنحها جدلية جديدة تتيح للمحتجين أن ينتبهوا بشدة إلى المساواة النوعية والتقارب القدراتي وحرارة القضايا المشتركة فيما بينهم، مؤجلين الاهتمام بالتفاوتات النمطية.
فكلما استلم الناس إشارات نفسية صريحة عن قرب التغيير الدراماتيكي في حياتهم العامة، يبدأون بالتصرف على نحوٍ إيثاري ومساواتي وتعاوني أشد، أي يستقوون بفكرة التشابه والتعاضد فيما بينهم لتمنحهم طاقة تحشيدية جماعية أكبر لإنجاز التحولات المنشودة.
وبمعنى أدق، فإن الاحتجاج المتمترس زمنياً في الساحات العامة -كساحة التحرير- والباحث عن قضية كليانية جذرية، إنما يعيد الاعتبار – ولو وقتياً- لعقلانية الذات العابرة للهويات الفرعية ومنها الجندرية، وهي عقلانية طُمرتْ بفعل الصراعات الاجتماعية المريرة على مدى التاريخ البشري. فالمرأة العراقية –من مختلف الأعمار- في ساحة التحرير، إنما تؤكد ذاتها الوجودية الأولى لا الجندرية المكتسبة.
من رمزية القمع إلى رمزية الوطن
لقد أمست بانوراما ثورية فريدة ترسمها تلك البقعةُ الملتهبة التي يشغلها مبنى "المطعم التركي" الجاثم على الخاصرة الواصلة بين جسر الجمهورية في بغداد (حيث تتعسكر السلطة) وبين ساحة التحرير (حيث يستعيد العراقيون وطنهم).
ارتبط هذه المبنى المؤلف من 14 طابقاً برمزيات استبدادية متلاحقة، إذ يعود إنشاءه إلى أواخر الثمانينات في ذروة عنفوان الحقبة الصدامية، ثم جرى قصفه بعنف من الأمريكان عند غزوهم العراق في آذار 2003 للاشتباه في كونه مركزاً رئيساً للاتصالات وقتها. كما استخدمه قادة إسلامويون وعسكريون فيما بعد للإشراف على قمع انتفاضة جمعة الغضب في 25 شباط 2011، ولاحقاً في قمع جمعة غضب أخرى في 20 تموز 2018، ثم تكرر الأمر مع القناصين الملثمين قتلة المتظاهرين في بداية تشرين الأول 2019.
بعد ثلاثة أيام من اندلاع ثورة 25 تشرين الأول، استولى عليه الثوار الشباب بعد جولات مريرة من الكر والفر، وأخذ مئات منهم يتحصنون في كل طوابقه بصيغة كرنفالية لا مثيل لها من امتزاج الحس الثوري الساخر من السلطة، بالتصميم المستميت على التمترس النهائي هناك لحين إنجاز مهمة التغيير كاملة. إنه إعادة إنتاج لهوية المبنى من كونه مستودعاً لذكريات الحرب والقمع السياسي، إلى كونه نُصباً تذكارياً لجيل شبابي يريد الاستيطان في المستقبل بحثاً عن السلام والكرامة.
لقد أمسى هذا المبنى بارتفاعه الشاهق مسرحاً للأعلام العراقية التي تشرف على ساحة التحرير حيث آلاف المعتصمين منذ أسابيع. وفي الوقت ذاته هو يُشرف من بعيد على كل أبنية المنطقة الخضراء الحكومية في جانب الكرخ من نهر دجلة حيث رمزانية السلطة الآيلة للغروب. وهو في موقعه الشاخص المزدوج هذا يشكّل لحظة معمارية فريدة كما لو أنه رافعة الزمن الاجتماعي الهادر بين عصرين: عصر انكسار الوطن وعصر استعادته؛ أو إنه – في حركة الثوار داخله- استنطاق لكل معاني نصب الحرية الذي ما يزال "جواد سليم" ينحت فيه دون كلل.
في ضوء استعصاء السلطة وعجزها عن الإتيان بأي مخرج حقيقي -وليس تدليسي- للأزمة الحالية، وفي ضوء اكتمال حلم التغيير حتى نهايته في مخيال الشباب، فيبدو أن الأحداث ستتلاحق بسرعة لتجعل من مبنى المطعم التركي الموقعة الرئيسية التي سيعبر منها التاريخ السياسي الرافديني إلى الضفة الأخرى حيث النهايات والبدايات.
السلطة إذ تنتج التفاهة السياسية
دوماً وفي لحظات الانفصال النفسي التام بين حركة المجتمع وأداء النخب الحاكمة، كان يمكن الحديث عن الغباء السياسي والعهر السياسي والعُصاب السياسي واللاواقعية السياسية والسادية السياسية للسلطة ورموزها. وكلها ظواهر مفهومة تنتج عن الاستبداد والفساد والعنف وانغلاق المنظومة الحاكمة على منافعها وامتيازاتها المسروقة من المال العام والثروة الوطنية.
أما اليوم، فيمكن الحديث عن مفاهيم إضافية تخص الاعتلال النفسي المزمن للسلطة إذ أفرزت الزعامات السياسية العراقية الرسمية تحديداً، بأدائها الفاشل في التعامل مع الأزمة الحالية، ثلاثة مفاهيم– ليست جديدة في الأدبيات العالمية- يمكن إضافتها بثقة إلى القاموس النفسي- السياسي لتاريخ السلطة في العراق، بما قد يحفّز بعض الباحثين لمقاربة هذه المفاهيم نظرياً وميدانياً واستنطاق مضامينها ووظائفها في الجسم السياسي العراقي، وهي: "الخرف السياسي"، و"النرجسية السياسية"، و"السمسرة السياسية".
وعند دمج هذه المصطلحات الثلاثة في إطار مفاهيمي أوسع، قد يمكن الحصول على أنموذج سياسي أكثر شمولاً وتجريداً هو "التفاهة السياسية"، يستحق التمحيص والكشف عن محركاته ومساراته وعواقبه ومآلاته.
فالخرف السياسي هو نزعة الحاكم لتأويل الوقائع في غير سياقها، وإنكار آثامه وقسوته، مع برود عاطفي حيال آلام الناس، وتجاهلٍ لجذرية الأزمات، وتسفيه الآراء المضادة، والتمسك بوهم المعصومية، والتهويم وسواسياً في عالمه الذاتي المنقطع ذاكراتياً عن الحياة الاجتماعية. وحتى حينما يقارب الواقع السياسي أحياناً في لحظات نادرة، فإنه سرعان ما يغادره مهرولاً إلى تصوراته النمطية المغلقة.
أما النرجسية السياسية فهي نزعة الحاكم للانغماس في استعراضية سياسية صريحة أوقات الأزمات العميقة، إذ يبدو منهمكاً بالظهور الإعلامي العقيم الممتزج بلغة خطابية "مثالية"، ولغة جسد متهافتة لإظهار "اهتمامه" الزائف و"إخلاصه" المستميت لشعبه. وهو في كل ذلك، يرى في الأزمات مناسبة وفرصة سانحة ليمارس سعادته القصوى في تقديم عرض سياسي فاشل يظنه عظيماً وتاريخياً ولا غنى له.
وتشير السمسرة السياسية إلى نزعة الحاكم الصريحة إلى عدّ السلطة شركة تجارية عمادها الفساد والتخادم دون أي اكتراث بوجود حد أدنى من الأخلاقية السياسية. وينتج عن ذلك، سلوك بهلواني قادر على التماهي بمواقف بقية "الخصوم" السياسيين وبالمطالب الملحة للناس في آنٍ معاً، وبذلك يسعى للحصول على نسبته من الربح السياسي من كل الأطراف، في مقابل الحفاظ على رصيد ثابت لـ "شركته" في سوق السياسة المضطرب.
إن انطباق واحد من هذه المفاهيم على أي حاكم لا يعني خلو شخصيته من نسبة معينة من بقية المفاهيم، إذ تتداخل الأنماط الثلاثة في العادة مع الغلبة لواحد منها في شخصية السياسي.
أما اجتماعها جدلياً فيولّد ما يمكن تسميته بظاهرة "التفاهة السياسية"، التي تشكّل اليوم الإطار العام الذي تتحرك ضمنه مراكز السلطة المتعددة في العراق، في تعاملها الغيبي والساذج والإنكاري مع حركة مجتمع بأسره ينتقل سيكولوجياً من عصر الولاءات الإثنية إلى عصر الكبرياء الوطني.
التفاهة السياسية منظومة سلطوية كاملة أطبقت على عنق هذه البلاد المنتفضة. والخلاص من هذه التفاهة بات هو الشعار الأعلى صوتاً، اليوم أو غداً أو بعد غد.
* * *
يظل التعافي النفسي النسبي لأي مجتمع من كوارث الماضي وأزماته وعُقده هو حلقة الربط الآنية الحاسمة للانتقال الصعب والمتردد من ذاكرةٍ تاريخية ماضوية معتلة تروّج لسرديات العجز والعقم والفشل، إلى ذاكرةٍ مستقبلية حاضنة لتوقير الذات الوطنية ولإرادة الفعل الجمعي، ومنتجة لسرديات الجدوى والبطولة.
ويقف العراقيون اليوم بعنفوان نفسي نادر في عمقِ لحظة الانتقال الشاقة هذه مع كل ما يعتريها من احتمالات النكوص أو التطورات السياسية المضادة؛ فيما تستنجد السلطة بكل ما في خزينها الماضوي من حيل العُصاب السياسي كالإنكار والتجاهل والتهويل والتشكيك والتدليس والتآمر والتذاكي في محاولة أخيرة للحصول على تمديد جديد لعمرها الافتراضي المنتهي.