دولة القنّاصة


سلام عبود
2019 / 10 / 19 - 18:01     

منذ ستة عشر عاماً والدولة العراقيّة الجديدة تُدرّب نفسها، وتدرّب أتباعها على مهمّة واحدة لا غير: قنص الشعب.
حينما جاء قطيع بريمر إلى السلطة لم يكن أحدٌ منهم يملك بناءً تنظيميًّا حقيقيًّا على الأرض. لذلك تسابقوا في مهمّة بناء جيوشهم الحزبيّة والشخصيّة، ناهبين ثروة الوطن بإيعاز وترخيص من بريمر، لا لغرض بناء العراق، بل لغرض استكمال قواهم الحزبيّة المسلّحة. بهذا أسسوا القاعدة الصلبة للفساد والمحاصصة الطائفيّة العرقيّة، وأنشأوا دولة القنّاصة.
تمارين القنّاصة بدأها علاوي بمأثرته الشهيرة، حينما احتجّ بتمثيليّة غضب عارم (!) على قتل أسير في مسجد الفلوجة، على يد القوات الأميركيّة، أمام عدسات التصوير الأجنبيّة. لكنّه نسي أن يحتجّ على عملية غزو الفلوجة نفسها وتدميرها، بل أشرف عليها شخصيًّا، لكي تكون المعركة، "الانتقام"، نظيفة، كما ادّعى. علاوي، الذي سمح لوزير دفاعه، اللصّ الكبير حازم الشعلان، بتقديم قوّاته إلى النجف واقتحامها، بالطريقة عينها التي اقتحمها سلفهم، "رفاق الحزب الواحد"، قامعو الانتفاضة الشعبيّة إبّان الحكم الديكتاتوريّ، اعترض على وجود "قناني للخمر وموبقات في العتبة العلوية الشريفة، أبقاها المخربون خلفهم"!! كما زعم إعلام وزير دفاعه، ملك الأسلحة الفاسدة؛ لكنّه لم يعترض على اقتحام الجيش لقدسيّة العتبة نفسها.
الجعفري تهاوى بضربة واحدة من مسعود البرزانيّ، الذي أمهله ستة أشهر، لكي يحقّق له مشروع الانفصال بتطبيق المادة (140) على مقاس الانفصاليين. وحينما عجز عن التنفيذ، تمّ استبعاده بالضربة القاضية، التي حدّد هوشيار زيباري صلاحيتها وشرعيّتها قائلاً: "ستة أشهر كما ينصّ الدستور"، لا أكثر ولا أقلّ!
أمّا المالكي، الذي تدرّب طوال حياته على ركضة طويريج، فقد صاغ معادلة عسكريّة لم يعرفها التاريخ من قبل. جيش عرمرم، مكون من خمسة وستين ألف مقاتل، مسلّح بترسانة جديدة تفوق قيمتها العشرين مليار دولار، ركض ركضة طويريج العجيبة، في ست ساعات فقط، وذهب باتجاه العدم. ومن المؤلم أنّه لم يكلّف أحد نفسه، حتّى هذه اللحظة، بما فيهم الشعب، بالسؤال: أين اختفى هذا الجيش الباسل؟ نحن نعرف لماذا هُزم، ونعرف من هم ثلاثي الهزيمة: المالكيّ والنجيفيّ والبرزانيّ، ولكن كيف تبخّر خمسة وستون ألف إنسان بكامل سلاحهم، ولم يبق منهم أثر؟ أيّهما أكثر بلاغة هذه المعجزة المالكيّة أم المعجزة الربانيّة القائلة: "فجعلهم كعصف مأكول"! إنّه يتفوّق- بمعجزاته العسكريّة- حتى على الله جلّ جلاله.
المالكي، صاحب الملفّات الكبيرة عن الحيتان، زفر زفرة الارتياح الكبرى، التي تُوّجت بمجازر سبايكر، ليس لاختفاء الجيش والمجنّدين، بل لاختفاء آثار صفقات السلاح الملياريّة، التي أنفقت على هذا الجيش الضبابيّ وعلى مشاريع التدريب الوهميّة.
أمّا المرجعيّة المقدّسة، حفظها الله لنا، فقد اهتبلت بشاعة الهزيمة، لكي تنتج لنا "حرساً ثوريًّا عراقيًّا"، لا يملك حتّى وحدة وانضباط وإرادة ووطنيّة "الحرس الثوريّ" الأصل. فأضافت إلى دولة القنّاصة قنّاصين جدداً.
ثمّ جاء العباديّ تحت شعار "مكافحة الفساد". ولم يسأله أحد: كيف تكافح الفساد وأنت من تولّى اللجنة الاقتصاديّة في مجلس النواب؟ ألست أنت رأس الفساد وحارس خزائنه السّرّيّة والعلنيّة؟
وأخيراً جاءنا عادل عبد المهديّ بتوازن إيرانيّ أميركيّ، وبتوازن داخليّ كرديّ شيعيّ، وبتوازن طائفيّ صدريّ- بدريّ- دعوتيّ- عمّاريّ.
ماذا يفعل عادل، وما مهمّته؟ إنّ مهمّته الأولى والأخيرة هي إدامة نظام الفساد، الذي يُسمّى رسميًّا بـ "العمليّة السياسيّة"، وتنظيم معادلات إرضاء المتحاصصين، بما يكفل استمرار اللعبة القذرة، لعبة نهب الثروة وإفقار الشعب وقمع حرّيّاته.
إذاً، ماذا بقى للشعب في هذه اللعبة المميتة؟
لم يتبق له سوى أمر واحد، واحد لا غير: رصاص القنّاصة!
حالما يفتح الشعب فمه، مطالباً بحقوقه المسروقة، ستأتيه الطلقة الغادرة فوراً، الطلقة التي تدرّبت عليها أحزاب النهب والطائفيّة والإجرام، ستأتيه وقد كُتبت عليها عبارة موجزة: "أطلقت من مجهول"!
إنّها الطلقة التي أسماها فالح الفيّاض "المنازلة"، والتي توعّد بما يفوقها قوّة ورهبة لو فُتحت الأفواه مجدّداً. أكثر من مئة قتيل، وأكثر من ستة آلاف جريح أسماها الإعلام المأجور "استخدام العنف المفرط"! كم يتوجب أن يكون عدد القتلى والجرحى لكي نطلق على واقعة ما تسمية مجزرة؟ هل تعرف يا حجي فيّاض كم عدد الذين سقطوا في معركة الطّفّ، بسبب "استخدام العنف المفرط"؟ إنّهم يتراوحون بين 72 و155 شخصاً. سينفجر الحجي مقهقهاً: أتساوي بين هؤلاء وهؤلاء؟ وأنا أجيبه بثقة مطلقة: نعم، أساوي تمام المساواة، فهؤلاء هم ورثة هؤلاء، وهم أبناء أرحامهم وضمائرهم. أمّا أنت وعصابتك القنّاصة، فلا تمثّلون سوى الفئة الباغية.
لا سبيل إلى الوقوف بوجه عصابات دولة القنّاصة المحترفين، إلّا من طريق واحدة لا غير: ردّ الطلقة إلى أصحابها،
ردّ الطلقة مرفقة بعبارة: " شكراً على هداياكم الكريمة، رصاصتكم المجهولة وصلت إلى المكان المعلوم، الى قلب الشعب الجريح!".