|
غلق | | مركز دراسات وابحاث الماركسية واليسار | |
|
خيارات وادوات |
|
-غزلان الليل- كما يطلقها الخيال الأمازيغي.. لنقرأ قبل تلاشي الحكايات!
في كلمة التقديم المعنونة "فصوص من حكمة الأدب الشعبي"، المفاجئة بالتماع الشذرات الشعرية الأمازيغية المتضمَّنة فيها، يحذّر الشاعر والمترجم المغربي إدريس الملياني، بكثير من الأسى واِلامتعاض، من إحتمال ضياع واندثار الأدب الشعبي، بهويته الأمازيغية أو العربية، سواء كان شفاهياً أم مكتوباً، جرّاء الإهمال أوالتعالي اللذين يتعرض لهما، على الرغم من ثراء مضامينه وحيازته المقومات الجماليه كما تشهد بذلك نصوصه، شعراً وسرداً، وهو ما تخبرنا به، في الأقل، النماذج المختارة هنا في الكتاب الذي بين يدي هذه المراجعة، والذي لن يكون سوى عيّنة من مادة ضخمة يصعب الإحاطة بها على وجه الكمال، خاصةً، مع شساعة مَواطن هذا الأدب الممتدة بين (جبال الأطلس والريف وسهوب الجنوب والصحراء). وعلى الرغم من محلية هذا الأدب، صنعةً ولغةً، وإن تعدّدت هذه الأخيرة، كذلك الحال بالنسبة للهجات، إلا أنّه من المفارقة، أنّ القارئ العربي لا يستطيع الاطلاع عليه إلا عبر باحثين ومترجمين أوروبيين، كمثال هذا الكتاب، فمادته بالأصل، هي جزء من كتاب ضمّ أكثر من مِئة حكاية قام بجمعها وترجمتها وتحقيقها الباحث الفرنسي إميل لاوست، وكان قد صدر، العام 1949 في باريس لحساب "معهد الدراسات المغربية العليا" تحت عنوان"حكايات بربرية من المغرب"، وقد استقاها لاوست من أفواه الرواة خلال جولاته في عدد من المناطق المغربية للفترة 1913 ـ 1920، كما جاء في كلمة التعريف، الموجزة، بالكتاب. من هنا فليس على القارئ التائق إلى ورود ينابيع الإبداع الشعبي، في نسخته الأمازيغية، بشكل خاص، سوى انتظار ما تسخو به أقلام المترجمين الأجانب، لذا يأخذ الملياني، على أبناء المناطق الزاخرة بهذا التراث (مثقفو البيئات الأمازيغية)، تقاعسهم عن القيام بواجبهم في تقصّي ينابيع تراثهم في ذاكرة القلة المتبقية من الرواة الذين باتوا يتناقصون يوماً بعد آخر. وهو ما يذكّر بحقيقة تتصل بانقراض اللغات، وقد أخذت وتيرة هذا الانقراض بالتسارع في السنوات الأخيرة، وهو ما يفيد به ويخلص إليه، بإيجاز، الإخطار التالي: أنّ وفاة آخر المتحدّثين بلغة ما يُشبه احتراق مكتبة كاملة، الأمر الذي يصحّ تماماً، على حالة رواة الأدب الشفاهي، فكل راوية هو مكتبة في ذاته، وموته يعني احتراقها، خاصة مع عدم إمكانية تعويضه بآخر. وهنا يحق للقارئ التساؤل مع مترجم ومقدّم الكتاب، عن مسألة غياب المشاريع الثقافية الوطنية التي من شأنها أن تلمّ شتات (الذاكرة الشعبية الجماعية) وتصونها من الانهيار والاندثار، كما يحق التساؤل عن أسباب غياب معهد متخصص بالدراسات الأمازيغية، حتى الآن؟ طالما الحديث هنا عن الهوية الإثنية لهذا التراث، لاسيما وأنّ الكتاب موضوع هذا العرض مقتصرعلى النتاج الأمازيغي، يتمثّل، بلون أدبي راسخ هو الحكايات، كما في العنوان الفرعي، وقد ضمّ منها إحدى وعشرين حكاية، من بينها ما يمكن عدّه نصاً شعرياً، على صعيدي التقنية والمحتوى. لكن على قلة عدد الحكايات أو النصوص المختارة هنا، نسبةً إلى عددها في الكتاب الأصل، فإنها تعطي صورة لا يُستهان بها عن طبيعة واتجاه هذا الأدب كما تجسده أشكاله المتاحة وكما يتجلى في أساليبه ومضامينه. وما يساعد على هذا الإلمام، حرص المترجم على تنويع اختياراته وانتقائه لموادّ الكتاب، وهو ما يسعف القارئ على بناء تصوّر عن ملامح عامة للأدب الشعبي الأمازيغي، في اتجاهه السردي، مع الأخذ بعين الاعتبار أنه في العقود الأخيرة أخذ بالتحول من الشفاهي إلى المكتوب ومن الشعر إلى السرد ، كما تنبِّه هذه الملاحظة الجديرة بالتأمل، في المقدمة. لقد امتازت الحكايات، عموماً، بالتشويق والإثارة والجدة، عدا نماذج قليلة معدودة، يمكن وصفها بالعادية أو غير المفاجئة في ما تعالجه أو تؤول إليه من نهاية، لكن في الوقت عينه، لم يكن تشابه بعض نماذج الكتاب ونماذج من الحكايات الشعبية العالمية، كالتي جمعها "الأخَوان غريم"، أو مجموع حكايات "كليلة ودمنة" وسوى ذلك من قصص الشعوب، يشكّل خيبة للقارئ، ذلك لأن المشترَك والمتشابه في التراث الإنساني شيء بديهي وهو القاعدة، فلإنسان عالمنا حيثما كان، مخاوف وأحلام وانشغالات واحدة، وفي هذا الصدد يمكن الخلوص إلى أنّ لا شيء يمكن أن يوحّد البشرية أكثر من "خاصية" الخيال، فعبره تتجلى الهوية الأعمق والأكثر "براءة" لتأشير وجودها، أي البشرية، وإمكان تعايشها! وبما أنّ لا جدال، إنسانياً، على ثيمة جوهرية، خالدة، كالحب، وفقاً لذلك، لم يكن مصادفةً، أن يُستهلّ الكتاب بواحدة من قصصه، وهي بعنوان "يوسف، عاشق الملكة"، وإن كانت ذات نهاية عنيفة. تتحدث الحكاية عن عاشقَين، يتكرران في الحكاية التي تليها، مع تغييرات مهمة، تحت اسم "فاضل وعطوش" وقد اتخذت حكايتهما شكل وبناء القصيدة. يدخل "يوسف" في الأولى أو" فاضل"، في الثانية، إلى حريم الملك، متنكراً بزي نسائي، مدعوّاً من الملكة، عبر خادمتها، إنه نداء الرغبة، فلا محلّ هنا للتبتّل والتعفّف، كما في قصص الحب العذري، عادةً، فقط نهاية القصة، تذكّر بشيء من ذلك، عبر تضحية العاشقين بنفسيهما، الأول، وقد قتله الملك بعد مجاهرته بإعجابه أو تغزله بالملكة، أما العشيقة فيكون مآلها الانتحار، فوق جثة العاشق! ورغم نهايتهما، إلا أن حبهما يستمر في شجرتي النخيل اللتين تنبتان على قبريهما لتلتف فروعهما وتتشابك، وعلى الرغم من قطعهما سبع مرات، إلا أنهما تعاودان العناق! وهذه دلالة إيروسية، أيضاً، لتتحولا بعد أن ينجح أحد السحرة في قطعهما، نهائياً، إلى ينبوعين، وقد (التقت مياههما، لتجوب العالم). مايلفت في هذا الحكاية، جرأتها وتخطّيها التابو، إذ ليس من مكان لأدنى شعور بالخطيئة، سواء من بطليها أو المؤلف/ الراوي فالقصة تتدفق حتى النهاية، دون التعثّر بهذا الشعور، بل ثمة ما يُشير إلى مباركة من نوع ما، بدلالة النخلتين أو الينبوعين، وبدا أنّ هذا النموذج من القصص ينهل من ذات منابع حكايات وقصص"ألف ليلة وليلة". وفي معاينة الثيمات التي عالجتها حكايات الكتاب يمكن تصنيفها، وفقاً لذلك، إلى ما يختص منها بالحب كالقصتين السالفتين، وكما في تفصيل من قصة "الحلاق العاشق"، التي أرادت، بالدرجة الأساس، إبراز قيم الصداقة والوفاء أوالشجاعة والكرم، كذلك هناك معالجة لموضوعة الفراسة والذكاء، الغدر والغفلة، الخيانة والعقاب، المكر والدهاء وحُسن التدبير، إضافة إلى ثيمات أُخرى عُرضت، بتجاوز الإطار التقليدي للحكاية، ناشدةً التفسير الأسطوري للأشياء لتلتقي عبر نماذج مهمة، اسلوباً ومحتوىً، ونماذج عالمية تنتمي إلى التراث الميثولوجي أو حتى إلى الأدب الحديث، مثال ذلك حكاية "الغراب" في قسمها الثاني، حصراً، الذي يتحدث عن معاقبته ومسخه، أما قسمها الأول، فهو يذكّر بالإسرائيليات والأحاديث المدسوسة، إذ انه يروي ان النبي (ص)، قد بعث الغراب رسولاً، قائلاً له: (خذْ هذا الذهب واحمله إلى المسلمين، وخذْ هذا القمل واحمله إلى النصارى!)، فعكسَ الغرابُ الأمر، لذا مُسخ إلى اللون الأسود، بعد أن كان أبيض، في بدء العالم! وعدا عن محمول الحكاية، وما يمكن أن تضمره من إساءة، فإنها، تقنياً، توحي بانتمائها إلى جنس القصة القصيرة جداً، في الأدب الحديث. تقترب من النموذج الآنف، حكاية "العندليب" (لماذا يُغني ليلاً؟) وهو نص شعري، بامتياز، وقد يفسّر الشكل الذي اتخذه النص، بطابعه هذا، إلى دور الترجمة و"دورة" الصقل التي مرّ بها، عبر نقله إلى الفرنسية ومن ثم إلى العربية، وبعيداً عن الشكل أو البناء الذي بدت عليه الحكاية، تبقى الثيمة التي عنيت بالتفسير الأسطوري لظاهرة غناء العندليب في الربيع وصمته لبقية العام، ثيمة متقدمة ومحتفظة ببريقها، بغضّ النظر عن الصيغة التي تُروى أو تُكتب بها، والتي "غرّبتها" عن "القص" الشعبي، المعتاد، بفطرته وعفويته. في الاتجاه ذاته تندرج حكاية "الطائر الغرّيد"، وهي أشبه بمتوالية شعرية. ومن صلب الغرائبية تجيء "حكاية برّيوة"، حيث المرأة التي تتمنى طفلاً بحجم روثة الماعز، تلده من أنفها بعطسة. هذه الغرائبية تتجدد في قصة "اليتيمان والخاتم السحري"، فثمّة ضبع بساق واحدة، من ضمن حيوانات الطفل البريّة، وهو من ينقذ اليتيم، حين يستدعيه، خلسةً، بالخاتم لتخليصه من قطاع طرق، بمعية الحيوانات الأخرى، فتنجده هذه، بقيادة الضبع ذي الساق الواحدة! ولا تعليل كيف أو لمَ بساق واحدة؟ فالحكاية الشعبية غير معنية بالتعليلات، أي أنها غير مشغولة بما هو فني بقدر اهتمامها بالموضوع. إضافة إلى ما تقدّم، تستوجب حكاية "غزلان الليل"، التي يحمل الكتاب اسمها، التنويه، فهي تتمتع بكل عناصر النجاح في فنيتها وموضوعها، فضلاً عن ما انطوت عليه من تعريض نقدي لمّاح، بشخوصها الثلاثة، الذين يطلقون على أنفسهم غزلان الليل، كنايةً عن كونهم لصوصاً، مسخّرين المهارات التي يحوزها كل فرد منهم، كمعرفة لغة الكلاب أو التكهن بما وراء الجدران والمقدرة على نقبها، لتنفيذ سرقاتهم، غير أنّ المفارقة الواخزة أن هؤلاء الثلاثة لم يكونوا، حسب أدوارهم النهارية، سوى المؤذن وإمام الجامع والفقيه! وللقارئ تصريف هذه اللفتة الساخرة، الوجهة التي يريد! بالمقابل يُلاحظ أنّ النظرة المكرّسة ضد المرأة، بفعل الهيمنة الذكورية، كانت هي السائدة في الحكايات، عدا استثناءات قليلة، كما في حكاية "التاجر واليهودي"، التي تنتصر لذكاء المرأة وحسن تدبيرها، والحكاية تتشابه في عدة مفاصل مهمة ورئيسة مع "تاجر البندقية" لشكسبير. وهذا يُذكّر بحضور الشخصية اليهودية، في الحكايات، بنمطيّتها، في صفاتها العدائية أو خبثها، كما في "سيدي سعيد أكيرّاموش"، "الطفل واليهودي" و"التاجر واليهودي".
|
|