المُسالَمَة
محمد وهاب عبود
2019 / 5 / 11 - 23:03
تواجه البشرية الحروب طيلة تاريخهم الاجتماعي ورغم ذلك لم تحاول تقديم اي شئ لمناهضة الحرب بل حاولت تبرير شنها ، لمَاذا تعتقد الناس باهمية خوض غمار الحرب فهل هي ضرورية الى ذلك الحد؟ كان الرافضين للحرب الذين نسميهم اليوم "مُسالَمَين" او دعاة سلام كانوا عبارة عن استثناءات في التاريخ الفكري للبشرية
انظر:نظرية الحرب الأخلاقية
ظهرت كلمة "المُسالمَة" متأخرة إلى حد ما ، وبدأ استخدامها في بداية القرن العشرين , هي اشتقاق من صناعة السلام Pax - facio كلمتين ذات اصل لاتيني
وعلى الرغم من حقيقة أن الكلمة ظهرت مؤخرًا نسبيًا ، إلا أن الأفكار المسالمة لها تاريخ طويل
في القرن الخامس قبل الميلاد في الصين القديمة ، كانت هناك عقيدة/مذهب تنافست لبعض الوقت مع العقيدة الكونفوشيوسية ، لكنها بعد ذلك غيبها النسيان. هذه العقيدة اثارت فضولنا باعتبارها مثال على واحدة من نظريات المسالمة الأولى التي ارتبطت باسم الحكيم الصيني القديم والمهندس العسكري ، الذي كان اسمه مو- تزي
مو- تزي هو شخص شبه أسطوري معروف من كتابه مو- تزي يقدم فيه الفيلسوف تعاليم تتلخص بواجب تحقيق ما تريده السماء والتأكيد على وجود قانون الحب الإلهي العالمي. يقول :" نحقق ما تريده السماء ، السماء تريدنا أن نحب بعضنا بعضًا وألا نضمر او نفعل الشر لبعضنا البعض" ويتايع , كما انه من السهل أن نرى الناس وهم ينتهكون هذا المبدأ البسيط ويرتكبون الفظائع ، منتهكين العدالة التي وضعتها السماء الإلهية. انه يرى خرقا و تناقضًا من قبل البشر منتقدا في الوقت ذاته الحرب بشدة.
يقدم الفيلسوف صورة عن العنف المتبادل والعداء بين الناس في كل مرحلة من التسلسل الهرمي الاجتماعي. يقول: "إذا كان الابن يفكر في نفسه فقط ولا يقدر اباه ، فإنه ينتهك النظام الطبيعي ، هو يفعل الخير فقط لنفسه. بالضبط نفس الشيء ينطبق على الحاكم الذي يفكر في نفسه فقط ومن جراء ذلك تتغلغل المعاناة في جسد الدولة باكملها.
مو-تزي يقول اذا يمكن للحاكم أن يحب نفسه ويحترم رعاياه ، لكن ينسى الدول المحيطة به فسيكون ذلك مدعاة للعنف والحرب ايضا. اعتقد الفيلسوف أننا إذا بدأنا في التعامل مع بعضنا البعض باحترام وتقدير ، فسنلاحظ جليا كيف يختفي القتلة واللصوص. وإذا بدأت الدول في ارساء علاقات على اساس المحبة والاحترام فيما بينها مع التركيز على قانون الحب السماوي ، فستختفي كل الحروب.
يواصل مو- تزي هجومه على الحرب ويقول إنها تعطينا ما هو فائض عندنا وتسلبنا ما نريده ونتمناه. فالحرب كما يقول تجلب الدمار ، والعديد من القتلى ، لكنها لا تعطي الثروة والازدهار والحياة الهانئة ويرى انه حتى النصر في الحرب يؤدي الى اضعاف الدولة ويدفع الدولة المهزمة الى بناء تحالفات والعمل على الانتقام
تستند الحجة الأخيرة لمو - تزي إلى حالة تصورنا المتناقض لمفهوم العنف والحرب فنحن ندين من يقتل شخص معين ونسميه مجرم ولكن عندما نخوض عمليات القتل الجماعي ، فإننا نسمي هذه المسألة الحرب ونمجّد البراعة العسكرية.
ويعتبر مو – تزي ان نقد الحرب نابع من القانون الالهي والتفكير العملي فهو انتقاد اخلاقي وقانوني لما تخلف الحروب من ويلات وخسارة لارواح عدد كبير الناس .
لاحقا لم تلق افكارمو-تزي انتشارا جادا لكن كان هذا مثال تاريخي مثير للاهتمام لظهور عقيدة مسالمة قوية. الفيلسوف الصيني جدير بالدراسة أيضًا لأنه لم يكن مسالما بصورة مطلقة - رغم من أن الفيلسوف والمسالم ألبرت شويتزر في القرن العشرين يوصف بأنه أول داعية للسلام- فما قاله مو تزي يتعلق بالحروب التي نسميها عدوانية وهجومية فقط وأوضح أن هناك حروب دفاعية وعقابية ، متى يكون من الضروري حمل السلاح ؟ يجيب : إذا تعرضنا للهجوم ، فنحن مجبرون على اللجوء إلى العنف العسكري حينها علينا ان نرد , كما يرى دعاة السلام اللاحقين.
في التقاليد الغربية نشأت النزعة السلمية مع ظهور المسيحية. "وصايا المسيح" ، هذا كان بمثابة مصدر لفكرة أن المسيحي يجب أن يتخلى عن العنف ، وليس مقاومة او رد العنف ، تقديم" الخد الآخر". هذه هي المبادئ المعيارية الأساسية التي تتبعها المسيحية مقابل مفهوم العنف والحرب. وقفت معظم الطوائف المسيحية في القرون الأولى للمسيحية في مواقع سلمية راديكالية إلى حد ما: لقد رفضوا الخدمة في الجيش الروماني ، ولم يحملوا السلاح ، وأحيانًا عُذبوا جراء ذلك.
في وقت لاحق ، تغير هذا الوضع ، ومع تبني المسيحية كدين للدولة ، بدأت عقيدة الحرب العادلة المسيحية تتطور ، وتم تقديم تفسيرات للحالة التي يمكن للمسيحي أن يحارب ولا ينتهك أي الوصايا الالهية.
وقد عاد الوعظ المسيحي الداعي للسلام ثانية خاصة في عصر النهضة. ومن الأمثلة الناصعة على ذلك إراسموس روتردام ، "أمير الإنسانيين" ، كما كان يُدعى ، والذي أوضح أن الحرب غير مقبولة لأنها تتناقض مع تعاليم المسيح. بالإضافة إلى ذلك ، لدى إراسموس العديد من الاعتبارات الأخرى المتعلقة بالحرب. يقول إن الحرب تعطي مصائب أكثر من المنافع ، بالإضافة إلى حقيقة أنها تخدم الجزء الأدنى من المجتمع ، لأن الحرب يقودها الحراس , النشالين ، القتلة ، اللصوص اما الانسان الصالح فلا تستهويه الحرب.
ومن الأمثلة الدقيقة على الموقف السلمي هي مواقف تولستوي. بالمناسبة ، يقع مو تزو في دائرة قراءته ، فهو مهتم للغاية بعقيدة الحب الشامل ، لأنه كان متوافقًا مع ما وجده تولستوي في المسيحية. تعرف سلمية تولستوي ، إلى جانب الأساس في شكل عقيدة الحب ، تولتستوي يهاجم الدولة لأنه يعتقد أنها لا تشارك فقط في فصل الشخص عن احتياجاته الطبيعية بل إجباره على الانخراط في الحرب ، بما يخدم مصلحة الدولة. وفقا لتولستوي ، ليست هناك حاجة إلى آلة قمعية للدولة ، لأنها تركز على شن الحرب وانتهاك المبدأ الأساسي للحب العالمي
من الغريب أن نلاحظ أن ليف نيكولايفيتش تولستوي لم يطلق على نفسه داعية للسلام ، على الرغم من أن كلمة "المسالمة" بدأت تستخدم في هذا الوقت. تولستوي ، كما نعلم ، اعتبر نفسه ممثلاً لأيديولوجية اللاعنف. كان يخطط للمشاركة في مؤتمر حماية العالم ، كان من المقرر عقده في ستوكهولم ، حيث نوقشت المذاهب السلمية ، لكنه أعلن في الوقت نفسه أنه مؤيد للاعنف. يمكننا أن نربط هذا بحقيقة أنه من خلال المسالمة يمكن للمرء أن يفهم نقد الحرب ، ولكن ليس نقد العنف بشكل عام.
إذا تحدثنا عن التفسيرات الفلسفية الحديثة للسلم ، فيمكننا التمييز بين نظريتين. اولا "العواقبية" هي عقيدة أخلاقية تقييمية لعواقب أفعالنا ، وبناءً على هذا التقييم ، لإعطاء رأي حول مدى أخلاقية أفعالنا. بالنسبة إلى النزعة السلمية اللاحقة ، فإن الحرب غير مقبولة ، لأنها ضارة دائمًا ، وتؤدي إلى رعب وعواقب سلبية ، والتي لا تفوق بكل المقاييس جميع الفوائد المحتملة من الحرب
انظر: نظرية الحرب العادلة
النظرية الثانية ، علم الأخلاق ، تتحدث عن التزام معين بالامتثال لمتطلبات مختلف القوانين الأخلاقية ، أي أن علينا واجب أخلاقي تجاه المبادئ الأخلاقية الأساسية ، التي يجب أن نسترشد بها دائمًا في عملنا. كقاعدة أخلاقية ، الوصية "لا تقتل" ، أو أي شيء آخر يمكن أن يتصرف. يقترح داعية السلام الحديث روبرت هولمز مفهوم السلام السلبي ، ولكنه يدمجه في نظرية الديمقراطية الليبرالية. إنه يعتقد أن الحرب تشكل انتهاكًا لمتطلبات الديمقراطية الليبرالية ، لأنها تنطوي على عنف يهدد الحرية الفردية: لا يحق لأحد أن يطلب من اخر حمل السلاح وقتل شخص معين ، لا يمكن تبريرفعل القتل بناء على أوامر بقتل شخص اخر, فكيف يمكننا أن نتصور فكرة وجود عالم ديمقراطي . وفقا للنظرية الديمقراطية فأن الديمقراطيات لا تشن حربًا فيما بينها ، لأن هذا يتناقض مع القيم الأصلية للأنظمة الديمقراطية.
مستهل حديثنا افاد إن الحرب كانت رفيقًا دائمًا للعلاقات الإنسانية ، على الرغم من استمرار ظهور مناهج مختلفة لانتقاد الحرب. يجب أن نسلط الضوء على نقطة مهمة للغاية ، والتي تم توضيحها في سياق الحديث عن مو – تزي فإذا انتقد دعاة السلام الحرب ، فإنهم يقترحون وجود حالات استثنائية تجبرنا فيها على اللجوء إلى العنف من أجل الحفاظ على ارضنا.
ربما في سياق عملية التطور السياسي ، سنصل إلى حالة استحالة نشوب حرب ، لكن اليوم عقيدة النزعة السلمية المؤطرة باستثناءات ، وليس المطلقة ، أصبحت أكثر شيوعًا بين دعاة السلام.
ارسيني كومانكوف- فيلسوف روسي
ترجمة محمد وهاب عبود
https://postnauka.ru/video/95151