الاشتراكية رؤية وممارسة
حافظ عليوي
2006 / 5 / 2 - 12:02
مع وضوح ملامح الازمة الاقتصادية السياسية _الاجتماعية _الثقافية _ الأخلاقية التي حلت بالنظام الرأسمالي , أصاب القلق عددا متزايدا من المفكرين والكتاب والصحافيين وأساتذة الجامعات , وحتى رجال الاقتصاد والأعمال . ويعتمد هؤلاء في تفسير خطورة الوضع العالمي على تحليل ماركسي الذي يصف بدقة التناقص الرئيسي للمجتمع الرأسمالي بين التزايد المستمر في أرباح قلة من الشركات , وبين اتساع رقعة الفقر والبطالة في صفوف الطبقة العاملة .
ويتبين انه بعد عقد من إعلان النظام الرأسمالي انتصاره على الاشتراكية , وصل هذا النظام إلى نفس الازمة التي اصطدم بها مطلع القرن العشرين , و التي فرضت على البشرية الاختيار بين احد أمرين : الفاشية أو الاشتراكية .
و ليس بمقدور النظام الرأسمالي الانتصار على النظام الاشتراكي , كما لم يكن بمقدور الإقطاعية في السابق الانتصار على الرأسمالية. لقد نجح النظام الملكي بإجهاض المحاولات الكثيرة التي قامت بها البرجوازية للاستيلاء على الحكم , و لكن التاريخ اثبت أن انتصار الإقطاعية الملكية على البرجوازية كان مؤقتا . لقد انتهت الجمهورية الفرنسية الأولى نابليون , كما فشلت الثورات الني اندلعت في اوروبا عام 1848 بإنهاء النظام الملكي في النمسا وألمانيا , غير أن لأتراكم هذه الثورات التي قادتها البرجوازية أدى في النهاية إلى التحول النوعي الذي ضمن النظام الرأسمالي البرجوازي السيطرة المطلقة على العالم .
اقد كانت الثورة الشتراكية الروسية الكبرى الثبات الاول وليس الاخير , على ان النظام الرأسمالي ليس ابديا بل هو ابعد ما يكون عن الاستقرار بسب تناقضاته الداخلية التي تقود الى ازمات اقتصادية وسياسية واجتماعية كونية . ومنشأ هذه الازمات هو التصادم بين التملك الخاص لوسائل الانتاج (كالمصانع مثلا) و بين الطاقات التكنولوجية عير المحدودة .
في وسع التكنولوجيا الحديثة توفير حاجات البشرية جمعاء ,و لكن تحقيق ذلك يتطلب نقل وسائل الانتاج من ايدي الفئة القليلة الرأسمالية الى ايدي المجتمع , وتوظيف هذه الوسائل لخدمة المصلحة العامة . ان نظام العرض و الطلب الذي يحكم السوق الرأسمالية ويحدد اسعار البضائع فيها , يسعى لحصر دور الانتاج في تحقيق الارباح لفئة قليلة ويلغي عمليا الهدف الأصلي للانتاج وهو تلبية حاجات المجتمع . غير ان هذا السعي العنيد لتقييد امكانيات الانتاج لايمنع احد الامراض الأساسية التي يعاني منها الاقتصاد الرأسمالي اليوم ,وهو فائض الانتاج الذي يؤدي الى هبوط مستمر في معدل الارباح .
الاشتراكية ليست مجرد فكر , بل برنامجا ملموسا لاعادة بناء المجتمع على أسس اقتصادية جديدة, هدفها خدمة المجتمع وليس شريحة ضئيلة منه . ان واقع اليوم يشير الى ان الاقتصاد الرأسمالي العالمي لم يعد يكترث بالمجتمع , وتعطل منطقة الجديد القديم الذي قال ان ما يصلح لراس المال يصلح للمجتمع ككل لانة يوفر الرزق للجميع . وهو المنطق الذي استخدمة السيد عندما استبعد العبيد , الاقطاعي عندما فرض العشر على القن .
انهيار الاتحاد السوفيتي يعجل بالنهيار النظام الراسمالي
اعنبر المعسكر الراسمالي انهيار الاتحاد السوفيتي اتصارا كبيرا له , ولكن الحقيقة ان هذا الانهيار لم يشف الراسالية من امراضها الداخلية , بل زادها حدة وتعقيدا .
في مطلع السبعينات ظهرت بوادر الجمود الاقتصادي في التحاد السوفيتي , في نفس الفترة التي فقد فيها الدولار قيمته. وكنا قد اسافنا ان اللائيس الامريكي نيكسون اضطر في اعقاب هذة الازمة لاغاء ارتباط الدولار بالذهب , الامر الذي فتح المجال للمضاربة الحرة في العملات , وادى للفوضى المالية الراهنة . وقد تميزت فترة الخمسينات والستينات باعادة بناء لاقتصلد في الغرب والشرق على حد سواء , بعد الدمار الذي خلّفته الحرب العالمية الثانية . ولكن مع انتهاء فترة البناء وصل النظام الرأسمالي مرة اخرى الى مفترق طرق نتيجة تجدد المنافسة بين اقطابه التي استعادت قوتها الاقتصادية .
وفي حين سعت امريكا للخروج من ازمتها من خلال الاصلاح الاقتصادي الذي جاء على حساب حقوق الطبع العاملة الامريكية من جهة , ومن خلال الحرب الضروس التي شنتها على الاتحاد السوفييتي وحلفائه منذ مطلع الثمانينات من جهة اخرى , بقيت البيروقراطية الشيوعية على جهودها .
فقدان الدعم الجماهيري كان الثمن الذي دفعه النظام السوفييتي على جموده وتراجع اقتصاده في السبعينات مقارنة بالتقدم الذي حصل في المغرب وخاصة في اوروبا الغربية . هذا علاوة على اللامبالاة التي أبدتها الجماهير السوفييتية والعالمية تحديدا ازاء الاحداث , نظرا لغياب العملية الديمقراطية الذي حرمها من امكانية التأثير على الحياة السياسية لخمسين عاما .
من الجدير ملاحظة تأثير الوضع الاقتصادي على علاقة الشعوب بالنظام , فقد دعمت الجماهير السوفييتية في العشرينات نظام ستالين رغم ممارسته الاستبدادية , وذلك بسبب نجاحه في تحقيق النمو الاقتصادي في حين دخل النظام الرأسمالي في الفترة نفسها الى ازمة اقتصادية خانقة , وصلت ذروتها بانهيار البورصة الامريكية عام 1929.
في الثمانينات خرج النظام الرأسمالي من ازمته منتصرا , ولكن المفارقة ان هذا النجاح الذي تعزز بسقوط المعسكر الاشتراكي , زاد الامور تعقيدا وأوصل النظام الرأسمالي الى وضع يهدد كيانه بالزوال . فالمعسكر الاشتراكي ساهم نسبيا في حفظ الاستقرار في العالم على المستويين السياسي والاقتصادي , وذلك بطريقتين : الاولى تتعلق بالدعم الاقتصادي الكبير الذي وفرته المنظومة الاشتراكية للدول النامية الفقيرة في افريقيا واسيا , الامر الذي خفف الحمل عن الاقتصاد الرأسمالي ,والثانية تتعلق بخشية الرأسماليين من تغلغل النفوذ السوفيتي بين عمال بلادهم , الامر الذي دعاهم للتقيد بالقونين الاجتماعية التي ضمنت رفاهية العمال وولاءهم .
الدولة : وسيط بعد الحرب العالمية الثانية
بعد الحرب العلمية الثانية اتخذ النظام الرأسمالي سلسلة من الإجراءات الإدارية والقانونية , لمنع احتداد التوتر الاجتماعي النابع من التفاوت الكبير بين الاغنياء والفقراء . ولعبت الدولة دور الوسيط بين أرباب العمل والعمال على اساس الحفاظ على المصالح العليا للبرجوازية , مع توفير الحد الأدنى من الحاجات الاجتماعية للعمال من خلال تخصيص ميزانيات تضمن لهم السكن والصحة والتعليم ومستولى المعيشة المرتفع , وسن قوانين تحمي حقوقهم وتمنع أصحاب الشركات من التمادي في استغلالهم . ولم تكن قوانين العمل وبرامج الرفاه وحدها سبب نجاح الدولة في ضبط الحياة الاقتصادية وحفظ استقرار النظام . فقد كان بوسع الدولة توفير أماكن عمل للعمال باجور مقبولة نظرا لامتلاكها الكثير من المرافق الاقتصادية (في مجال الطاقة الكهربائية , المياه . مصانع الأسلحة , وسائط النقل مثل الطيران والموانئ والسكك الحديدية ,الاتصالات مثل الهاتف والبريد,الموارد الطبيعية والمناجم).
ولكن هذا الترتيب انتهى بانتصار الرؤية الرأسمالية التي تبناها أشخاص مثل ملتون فريدمان ,والذين دعوا الى خصخصة كل المرافق الاقتصادية واتباع "حكمة السوق المستردة " نهجا اقتصاديا بديلا . واعتقد هؤلاء ان السوق ستعرف كيف تضمن سلامة الاقتصاد على اساس مفهوم "البقاء للأفضل , والزوال لمن لا يعرف التلاؤم مع السوق الحرة , وفقد المجتمع , المتمثل في الحكومة , إمكانية التدخل للتأثير على الاحداث .
ويقف النظام الرأسمالي العالمي اليوم عاجزا عن مواجهة مشاكله السياسية والاقتصادية المستفحلة . ان المشكلة الاساسية التي تجر هذا النظام نحو الأزمات , هي التناقض الكبير بين الطاقات الإنتاجية التكنولوجية الهائلة وبين عدم قدرة السوق الرأسمالية على استيعاب هذه الطاقات بسبب منطق الع
العرض والطلب , الذي يقول بان كثرة الانتاج تؤدي الى هبوط الاسعار , وبالتالي تقليص الارباح . هذه الطاقات بسبب منطق العرض , الذي يقول بان كثرة الانتاج تؤدي الى هبوط الاسعار, وبالتالي تقليص الارباح . هذه هي المشكلة التي شخصها ماركس قبل 150عاما , ولا تزال سارية المفعول فب عصرنا الحالي وتوفير التكنولوجيا الحديثة سر الربح لمستخدميها من الرأسماليين : ولكن هذا يشمل على تناقض اضافي يواجه النظام الراسمالي , فالتقليص المستمر في عدد العمال في العالم رغم التكاثر السكاني , معناه ان الطلب سيقل ايضا .فصاحب العمل لا يستطيع بيع منتجاته اذا لم يمتلك العامل ,الذي هو المستهلك أيضا الإمكانيات المادية للشراء .
ويستخدم الرأسماليون التكنولوجيا الحديثة للقضاء على مهن كثيرة , خاصة تلك التي كانت تتطلب معرفه وتجربة , كالخراطة او الحدادة او الطباعة او النجارة , وأصبحت اليوم غير مطلوبة بعد ان استبدلت بالتكنولوجيا المحسوبة التي تكتفي بعدد قليل من العمال غير المهنيين لتشغيل الماكينات التى تقوم بمعظم العمل .
وللتوفير في الأيدي العاملة والاستعاضة عنها بالتكنولوجيا الحديثة والغالية جدا , يجري دمج الشركات الكبرى بهدف تحسين التحكم بالسوق , والتخفيف من وحدة المنافسة , وفرض الأسعار والحفاظ على مستواها . وتؤدي عملية الدمج إلى إغلاق مئات آلاف أماكن العمل , وبالذات الصغيرة منها, الامر الذي يعني ارتفاعا كبيرا من نسبة البطالة .
إن عجز السوق الرأسمالية عن استيعاب الطاقات الانتاجية الهائلة , يقلل من جدوى الاستثمار فب الصناعة , وهذا ما يدفع الرأسماليين لتفضيل الاستثمار في المضاربة بالأسهم والعملات لزيادة اراحهم ورساميلهم .غير ان نمو الرساميل لا يعني بالضرورة نمو الانتاج , بل بالعكس , فالفجوة بين ارتفاع قيمة الأسهم في البورصة وبين قيمتها الحقيقية في اتساع مستمر وتهدد بانهيار أسواق المال.
الحرب إشارة لمأزق النظام الرأسمالي
الحرب التي اندلعت مؤخرا في البلقان وتدور رحاها اليوم في منطقة القوقاز , هي تعبير غير مباشر عن ازمة النظام الرأسمالي واقترب الصدام بين الشركات المتعددة الجنسيات الكبرى التي تحتكر السوق الرأسمالية وتنفرد بالنمو الاقتصادي من جهة , وبين دول مثل روسيا التي استثنيت من المشاركة في السوق العالمية خوفا من قدرتها على الإنتاجية الكبيرة , رغم انة كان المفروض ضمها بعد تخليها عن الاشتراكية .
ان رأس المال لا يغرف كيف يحل مشاكلة الا بالقوة , وكما انه يقمع العامل اذا تمرد على نظامه الاستغلالي , فهو لا يتردد عن استخدام العنف ضد ايه دولة تهدد مصالحة الاقتصادية . وكان استخدام القوة في يوغسلافيا اشارة للوضع الهش الذي يمر به النظام العالمي الجديد . وينطبق هذا الاستنتاج ايضا على ما يحدث الآن في القوقاز, وكذلك على سياسة مواصلة الحصار على العراق الذي لا يهدف الا للحفاظ على احتكار الغرب لموارد النفط .
وقد وصف لينين الحرب بأنها بداية الثورة , لانها تزعزع الجماهير الساكنة والميالة بطبيعتها للاستقرار . ففي حال الحرب تطالب هذة الجماهير بالتضحية " دفاعا عن الوطن" , بينما هي في الحقيقة تساق للدفاع عن ارباح 129 مليار ديرا يحكمون العالم اليوم , الامر الذي يدفع العمال للتساؤل حول طبيعة هذا النظام الذي لا يطلب منهم هذة المرة قوة عملهم بل ارواحهم ذاتها .
إن الحرب والخطابات القومية عن حماية الحلم الديمقراطي , هي الاسلوب الذي تتبعه الرأسمالية لصرف انظار الطبقة العاملة عن مشاكلها الحقيقية وعن أعدائها الحقيقيين . فبدل ان يحارب العمال المليار ديرين الجدد الذين قضوا على النقابات وخلقوا البطالة وادخلوا خمسة مليارات من البشر في وضع مزر , فانهم يجدون انفسهم معبأين ومجندين في حرب كل هدفها حماية مصالح جلاديهم وادامة النظام المجحف بحقهم .
يفاجأ الكثيرون اليوم بصعود اليمين الفاشي في النمسا , ويغزون ذلك الى ان الشعب النمساوي لم يستوعب دروس الحلربين العالميتين . والحقيقة ان هؤلاء الذين يخشون الفاشية ولكنهم يمدحون في الوقت نفسة النظام الديمقراطي وقيم السوق الحرة ومناقب العولمة , هم الذين لم ينتفعوا بعبر المضي .
الفاشية هي وليدة طبيعية لعدم الاستقرار الذي تشعر به الطبقات الوسطى بسبب الانخفاض المستمر في مستوى معيشتها وتفشي الفساد والامراض الاجتماعية الناجمة عن البطالة. في وضع كهذا تصبّ الشرائح الوسطى لومها وغضبها على العمال الاجانب او على الحكومة الديمقراطية الحاكمة , وتبحث عن الحلول السرية التي يعد النظام الفاشي بتحقيقها من خلال انتاج سياسة الطبقة الحديدية تجاه الطبقة العاملة والقضاء على الحلريات الديمقراطية .
ولم تصب الفاشية النمسا وألمانيا فحسب , بل هي آخذة بالتفشي في روسيا ايضا التي تشعر انها وقعت ضحية للنظام العالمي الجديد . فالإحباط الذي أصاب الروس نتيجة الفوضى التي خلقها نظام يلتسن , يشكّل ارضا خصبة لنمو النزعات الفاشية ومشاعر العداء للغرب , ويعزز حنين الروس لمجد الأيام الخوالي التي كان فيها الاتحاد السوفييتي هيبة وتأثير عظيمان في العالم . وتهدف الحركات الفاشية الى اعادة ذلك المجد ولكن دون مضمونه الاشتراكي .
وتطمح عناصر في البرجوازية الروسية الجديدة , المكوّنة من ضباط الجيش الأحمر السوفييتي سابقا واعضاء سابقين في الحزب الشيوعي , إلى فرض مكانتها في النظام العالمي الجديد. ولتحقيق ذلك تعتمد على قوة روسيا النووية , وتعارض احتكار المافيا والحلقة القريبة من يلتسن للموارد الاقتصادية , وترفض خضوع النظام الحاكم للأهداف الإستراتيجية الكونية الأمريكية.
الاشتراكية –الحل الوحيد للزمة الراهنة
ان البديل الاشتراكي للنظام الرأسمالي ليس اختراعا ذهنيا , بل خيارا ملموسا لا بد للإنسانية أن تتبناه إذا أرادت الخروج من مأزقها السياسي والاقتصادي والاجتماعي . ان السبب الرئيسي لاندلاع الحروب ليس سلوك هذا الزعيم أو تلك الحكومة , بل هي بنية النظام العالمي الحالي الذي جر الإنسانية إلى حربين كونيتين , ويهدد بحرب ثالثة مدمرة .ان زوال الأسباب الرئيسية للحرب والبطالة التي أصابت العالم , مرهون بتطوع الموارد الطبيعية ووسائل الانتاج لصالح الإنسان وليس لجني الأرباح .
ان الظروف التي تسمح بحلول النظام الاشتراكي محل النظام الرأسمالي القديم , اصبحت مواتية . وقد تقادم الزمن على الادعاء بان الاقتصاد المبرمج الاشتراكي يمنع التطور التكنولوجي ورفاهية الانسان , ان المنافسة الرأسمالية الحرة والسعي للربح هي التي تشكل الحافز للتقدم المستمر .فالاقتصاد الرأسمالي أصبح في الوقع مبرمجا من خلال التنسيق والدمج بين الشركات المتعددة الجنسيات التي تتقاسم السوق العالمية فيما بينها, وتمنع المنافسة .
وتصيطر هذة الشركات على سوق الاعلانات في العالم كله , وتخطط بالتنسيق فيما بينهما كميات واسعار ونوعية البضائع التي تريد ادخالها للسوق . وبطرق شتى , تقرر وحدها ماذا سنستهلك وكيف سنعيش , دون ان يكون للمستهلك أية امكانية للتاثير او حتى معرفة ما انها مجرد سلعة كل هدفها توفير الارباح للشركات المنتجة . وينطبق هذا الامر على كل مجالات الاستهلاك , من الأدوات المنزلية وحتى الألبسة التي تتغير كل يوم باسم الموضة , دون مبرر حقيقي سوى دفع الانسان للاستهلاك غير معقول.
الحقيقة ان نفس التكنولوجيا التي تستغل لبرمجة الاقتصاد الرأسمالي وتحرمنا من مصدر العيش , بإمكانها , ان تحررت من القيود الرأسمالية واصبحت ملكا للمجتمع , ان تدفع البشرية كلها نحو الحياة العصرية وتوفر للانسان لقمة عيشة وحاجاته الاساسية لتتركه يتفرغ للانتاج الفكري , وهو العهد الذي تنبأ بقدومه ماركس .قد يبدوا ما نقوله خياليا في ظروف الفقر والمجاعة والأمية التي تعاني منها الاغلبية الساحقة من البشرية , غير ان الخيارات المثلة امام الإنسانية ليست كثيرة : فإما العيش بمساواة تامة بين كل أفرادها , وإما الزوال بسبب المجاعة والحرب التي يقود اليهما النظام الرأسمالي. ان تغيير المسار الذي يمشي فيه العالم لن يتم بشكل تلقائي أو عفوي , فالبرجوازية ستحارب حتى النهاية للحفاظ على مصالحها , ولمقاومتها لابد من ثورة اجتماعية تشارك فيها البشرية ككل وتقودها الطبقة العاملة , سعيا لانتزاع المصانع والموارد الطبيعية من البرجوازية , وتسخيرها في خدمة من هم بحاجة ماسة لها, وهم فقراء العالم كله , ومن بينهم العرب والفلسطينيون , الذين لم يحظوا بمكان في النظام الرأسمالي الجديد.
ليس هناك نظام سياسي يستطيع تقويض اركان النظام الاستبدادي البرجوازي سوى الدكتاتورية العمالية . وكان مركس ولينين قد اوضحا ان هذة الدكتاتورية هي نظام يعبر عن رغبة الاغلبية المطلقة من المجتمع , ودورها هو انتزاع السلطة من البلاجوازية بالعنف الثوري . والعنف الثوري ليس اختراعا عالميا , بل برجوازيا استخدمته الاقلية البرجوازية لفرض حكمها على الاغلبية الساحقة من المجتمع , ولعل ابرز الامثلة على ذلك هو الثورة الفرنسية البرجوازية التى حسمت على المقصلة التي أطاحت براس الملك , والحرب الاهلية الدامية التي اضطرت البرجوازية الأمريكية للجوء اليها لتحرير السود من العبودية في جنوب البلاد .
ولو كان باستطاعة النظام الرأسمالي محاصرة الأمراض الاجتماعية والقضاء على البطالة في البلدان الفقيرة , لما كانت هناك فرصة لحدوث التورة الاشتراكية . لقد نجح هذا النظام لفترة طويلة نسبيا بتخدير العمال في الدول المتطورة عن طريق ضمان استقرار المجتمع ورفاهيته . ولكن الوضع اليوم اختلف , فالحرب تقرع طبولها من البلقان في قلب اوروبا الى القوقاز , والفقر والبطالة يجتاحان الدول التطورة نفسها . في واقع كهذا تصبح الاشتراكية برنامجا ضروريا للطبقة العاملة للدفاع عن نفسها من خطر الكوارث التي ذاقت ويلاتها قبل 50 عاما.
اجل , الرأسمالية وحّدت الطبقة العاملة في " القرية العالمية " , ووفرت لنا ثورة المعلومات والاتصالات الباشرة , وقربت الحضارة من بعضها البعض . لقد أصبحت الأممية إذن أمرا واقعا , فالإنتاج أصبح امميا , والاستهلاك امميا . وتوحدت أيضا الشركات وأصحاب الرساميل لاستغلال الطبقة العاملة , ولم يبق إلا أن يتوحد العمال ضد البرجوازية العالمية .
ان كان انتصارا للطبقة العاملة في أية بقعة من الأرض يعتبر انتصارا للطبقة العاملة اجمع , من هذا المنطق يمكننا الجزم بأنه ليس هناك مجال لحلول فردية بمعزل عن الحل الاشتراكي العالمي . كان هذا صحيحا عندما اندلعت الثورة الاشتراكية في روسا في بداية القرن العشرين , اما اليوم فقد نجحت العولمة في توحيد العمال والشعوب المضطهدة في إطار واحد, وركّزت وسائل الانتاج في أيد معدودة , واصبحت الثورة الاشتراكية بحاجة الى مجهود جماعي تتجند فيه كافة الشعوب لتحقيق حريتها ضمن مجتمع اشتراكي جديد .
هذه هي الطرقة الوحيدة للحل , وكل الاقتراحات الاخرى لحل القضايا القومية بمعزل عن مسيرة الطبقة العاملة نحو الاشتراكية , ستنتهي الى طريق مسدود , وهو الطريق الذي وصلت اله الحركة الوطنية الفلسطينية ولم يكن في آخرة دولة بل فخ كبير نصبته لها الصهيونية .