مأزق الحكومة ومأزق قيادة الاتحاد والدور الغائب للقوى الجذرية المستقلة
بشير الحامدي
2018 / 11 / 22 - 21:36
في مقالات سابقة كنا أشرنا إلى أن الأوضاع قد تغيرت كثيرا عما كانت عليه سنوات 2011 و2012 و2013 و2014 وأن ذلك سيدفع إلى فرز سياسي جديد من داخل الكتلة الطبقية التي تحكم [الكتلة الطبقية المنقلبة على 17 ديسمبر]. وكنا نعني بتغَيُّر الأوضاع احتداد الصراع الطبقي الذي أنتجته سياسات الانتقال الديمقراطي التي كانت نتائجها كارثية على الأغلبية على كل المستويات والتي عجزت السياسات التعويمية على شاكلة [الصراع الثقافوي وفزاعة الإرهاب وطفرة الحريات السياسية والانتخابات والحوار الوطني ...إلخ] على طمسه. وكنا أشرنا أيضا إلى أن مسار الانتقال الديمقراطي سينتهي إلى مأزق سيفضى بدوره لطور جديد ستكون سمته البارزة صراعات مفتوحة مع الأغلبية التي لن تستمر في تحمل أعباء سياسات التقشف والتفقير والغلاء ناهيك عن البطالة وانهيار الدينار والتضخم وارتفاع المديونية ونسب خدمة الدين.
لئن تمكنت القوى المنقلبة على 17 ديسمبر من الاستمرار في الحكم في الثماني سنوات التي تلت 17 ديسمبر عبر إيجاد توافقات بين قواها وتسويقها لفرض هيمنتها وسياساتها إلا أنها اليوم بدت عاجزة عن إخفاء المأزق الذي انتهت إليه هذه التوافقات وها هي الأوضاع اليوم تضعها من جديد في مواجهة فشل مسار الانتقال الديمقراطي وسياساته وتكشف وبشكل سافر الأزمة العميقة التي انتهت إليها والتي لم يعد يجدي معها التمويه بالتوافق لنزع فتيل معركة وجه لوجه مع الأغلبية.
إن الأزمة اليوم لم تعد فقط في الفوق لقد توسعت وأصبحت أيضا أزمة محتدّة في القاع الطبقي وهو ما يؤشر إلى أن الأوضاع مهيأة لانفجارات عميقة لا يمكن تفاديها بمواصلة نفس السياسات وبنفس القوى.
في الحقيقة لقد كانت كل حكومات الانتقال الديمقراطي حكومات فاشلة منذ حكومة علي لعريض وما تعاقب وتعدد الحكومات منذ 2011 إلا دليل على المأزق الذي تتخبط فيه قوى الانقلاب على 17 ديسمبر لكن ولئن قدرت الحكومات السابقة على الاستمرار في تطبيق سياسات الانقلاب دون مشاكل كبيرة فإن حكومة يوسف الشاهد اليوم تواجه صعوبات كبيرة في مواصلة نفس السياسات إنها في مواجهة كل الأزمات المترسبة ووحدها من ستواجه كل المشاكل التي ظلت تتراكم مند ثماني سنوات وليس أمامها من خيارات كثيرة.
من الطبيعي أن تنتهي خيارات الارتهان بإملاءات البنك الدولي وتطبيق سياسات التقشف والمديونية بالفشل ومن الطبيعي أن تنتهي سياسات المصالحة مع الفاسدين والتعايش مع اقتصاد التهريب وتحميل الأغلبية عبء انهيار الميزانية العمومية وانهيار الدينار إلى طريق مسدود والأمثلة على ذلك كثيرة وفي عديد البلدان القريبة منا والبعيدة.
في اليونان مثلا سنة 2015 أدت أزمة مماثلة لما تسير نحوه الأوضاع في تونس إلى إنهيار كلي للاقتصاد وإلى أزمة شاملة كادت أن تعصف بالنظام لولا عجز "كتلة الأغلبية" هناك على الاستمرار في الصراع لغياب مشروع بديل جذري يقطع مع نظام رأس المال وسياسات قواه اللبرالية والإصلاحية.
في تونس الأوضاع تراكم وضع الأزمة منذ 2011 ولئن نجحت قوى الانقلاب في الخروج من الأزمة في كل مرة بحلول ترقيعية تؤجل الانهيار إلا أنها اليوم لم يعد بمقدورها التمويه وتفادي المواجهة فإما التمادي في سياسات الكارثة وإما البحث عن مخارج لن تكون في كل الحالات سوى تأجيل للمعركة الحاسمة مع الأربعة أخماس من السكان الذين لم يعودوا قابلين بمواصلة تحمل أعباء خياراتها الاقتصادية التي رمت بأغلبيتهم إلى غائلة الجوع.
ولئن عولت قوى الانقلاب ومنذ 2011 على الاتحاد العام التونسي للشغل كقوة توازن وتحديدا على قيادته البيروقراطية كشريك في الانقلاب إليها يعود أمر تدجين وحراسة الخدامة وتحديدا غالبية منتسبيه المنتمين لقطاع الوظيفة العمومية لتمرير سياسات الانتقال الديمقراطي ولئن رضيت قيادته التي قبلت بالدور وهي المتمرسة والمتعودة عليه على امتداد حكمي الديكتاتوريين بورقيبة ومن بعده بن علي فإنها اليوم بصدد مراجعة هذا الخيار ففي منظورها لقد ولت تلك الأوضاع التي كان بمقدور الحركة الجماهيرية حتى وهي مشتتة على مواصلة المسار الثوري وقلب الأمور جميعا.
قيادة الاتحاد من جهتها وضَعَها اليوم خيارها كشريك لا يمكن الاستغناء عنه المغلف بشعار "للاتحاد دور سياسي يجب أن يلعبه" والذي موهت به طويلا تحالفها مع قوى الانقلاب على 17 ديسمبر في مأزق هي أيضا فهي من جهة وبحكم تشبثها بموقعها وبالامتيازات التي يدرها عليها مصرّة على مواصلة لعب هذا الدور وعدم التفريط في موقع الشريك وفي نفس الوقت لا تقدر على غض الطرف على مطالب منتسبيها التي لم يعد بمقدورهم السكوت عنها.
مأزق بيروقراطية الاتحاد يمكن الوقوف عليه أيضا في تخبط هذه القيادة في نسج تحالفاتها وفي تقاطع مواقفها مع الرأس الثاني للتحالف الحاكم ممثلا في بقايا حزب نداء تونس وفي انغلاقها ومواقفها الرافضة لكل إمكانية للاستقلال القرار القطاعي داخل المنظمة وفي رؤيتها المعوّمة القاصرة لما يسمى بـ"السيادة الوطنية" التي لا تخرج من منظورها عن مراجعة جزئية للعلاقة مع المانحين وعن التمسك بالقطاع العام وهو توجه لا يختلف في جوهره عن توجه الحكومة حيث أن قيادة الاتحاد لا تطرح مسالة السيادة هذه باعتبارها مسالة تهم الأغلبية وتتطلب وضع يد الأغلبية على الموارد والثروات ووسائل الإنتاج ولا تقرنها بالسيادة على القرار بل تحصرها في التمسك بالقطاع العام لابل تتنازل أكثر من ذلك وتقبل بمراجعة شاملة لهذا القطاع عبر سياسة هيكلة جديدة تحرص فقط على أن تكون شريكة فيها.
المأزق الذي انتهت إليه البيروقراطية النقابية اليوم في علاقتها بمنظومة الحكم طبعا هو تتويج لمسار كامل من سياسات الوفاق مع هذه القوى وفي نفس الوقت أيضا تتويج لمسار كامل من تدجين العمل النقابي وخنق كل إمكانية لتجذُره واستقلاليته عن مسار الانقلاب. ولئن نجحت البيروقراطية النقابية وطيلة الثماني سنوات المنقضية في لعب الدور الذي وضع لها وقبلت به وتفانت في تنفيذه فإنها اليوم في مفترق طرق خصوصا وهي المحكومة بتحكم الدولة في عائداتها المالية المتأتية من الاقتطاع المباشر من مرتبات منخرطي الاتحاد وهو ما يجعل من شعار التصعيد بعد إضراب الوظيفة العمومية الذي نفذ يوم 22 نوفمبر 2018 يبقى مجرد شعار للتعبئة ولتحسين شروط التفاوض لأن البيروقراطية النقابية تدرك جيدا أن التصعيد الذي يمكن أن يصل بها إلى إعلان الإضراب العام سيكون نقطة اللاعودة في علاقتها مع قوى الانقلاب وقد يفضي إلى تفجير الوضع و إلى انخراط الأغلبية ومن خارج الحركة النقابية في الاحتجاج الذي يمكن أن يتطور إلى عصيانات اجتماعية وانتفاضة لا يمكن وقفها أو التكهن بما ستفضي إليه. مثل هذا الموقف يمكن أن نستشفه من خطاب نور الدين الطبوبي اليوم في تجمع إضراب الوظيفة العمومية ومن حديثه في الأيام الأخيرة على أن " الاتّحاد سيكون حاضرا في كلّ المحطّات الانتخابيّة القادمة".
يبدو أن هذا الموقف هو الموقف الوحيد الذي يمكن أن يمثل عامل ضغط جديد على كل قوى الانقلاب وتحديدا على يوسف الشاهد وعلى حركة النهضة وعلى حزب الباجي قايد السبسي. إنه الموقف الوحيد الذي يمكن أن يدفع هذه القوى إلى المسارعة بالضغط لعدم دفع الصراع مع البيروقراطية النقابية إلى آخره ويدفع وخصوصا يوسف الشاهد إلى الجلوس من جديد مع البيروقراطية النقابية وإمضاء اتفاق الزيادة في أجور شغيلة الوظيفة العمومية.
الدوائر المانحة والتي تراقب الوضع بدقة هي أيضا سيربكها كثيرا مثل هذا التوجه وستفعل كل ما بوسعها لتذويبه والحيلولة دون تنفيذه لأنه عمليا الامكانية الوحيدة التي بمقدورها أن تعيد خلط الأوراق جميعا فالاتحاد يمكن أن يكون قوة انتخابية كبرى بما له من إمكانيات مادية وتنظيمية تفوق جميع الأحزاب بما في ذلك حزب حركة النهضة.
تلويح نور الدين الطبوبي بـأن " الاتّحاد سيكون حاضرا في كلّ المحطّات الانتخابيّة القادمة" و إن نأخذه على محمل الجدّ فهو لا يخرج عن أمرين: الأول وهو أن الاتحاد سيدخل الانتخابات التشريعية القادمة بقائمات نقابية وهو ما يعني أن دور الاتحاد كشريك للأعراف الرأسماليين والدولة المهدد في استمراريته والذي يمكن الانقلاب عليه من قبل القوى السياسية الحاكمة في مستوى السلطة التنفيذية في كل وقت يريد أن يحوله إلى دور قار وينقله إلى ما يسمى بمجلس الشعب ويحافظ في نفس الوقت على طبيعته كنقابة وهو وضع سيحمل معه عديد المخاطر والمشاكل التي ستنتج عن هذه الازدواجية في الأدوار و لا أعتقد أن البيروقراطية النقابية ستخاطر بذلك. أما الأمر الثاني فهو ترشيح أحد الشخصيات لمنصب رئاسة الدولة وهذا غير مستبعد ويمكن أن يمثل السبيل الأقل مخاطرة بالنسبة للبيروقراطية لضمان مواصلة دور الشريك وقد يسند مثل هذا الدور لحسين العباسي وهو ما سيدخل ارتباكا كبيرا خصوصا في صفوف الجبهة الشعبية التي سوف يسحب البساط من تحت أقدام مرشحها وستسقط كثيرا من معالجاتها وتتبخر في الهواء.
عموما يمكن القول في الأخير أن البيروقراطية النقابية وبقد ما أنها في مأزق إلا أن أمامها إمكانيات كثيرة للمناورة ومواصلة لعب دور الحارس على الخدامة وعلى الأغلبية المتعارضة مصالحها مع النظام القائم في ظل غياب يكاد يكون كاملا لقوى جذرية مستقلة متمثلة لمشروع جذري في إسقاط سياسات الانتقال الديمقراطي وقواه وقادرة على خوض المعركة الطبقية إلى النهاية.
ــــــــ
بشير الحامدي
22 نوفمبر 2018