لا- التي تعني -نعم-
سلام عبود
2018 / 10 / 3 - 23:39
4
في قضايا الشعوب الفقيرة، لا تعني كلمة "لا" الأوروبيّة الخجولة سوى " نعم" وقحة ومبتذلة.
في 7-11- 2017 أطلق اليمنيون صاروخا باتجاه مطار الرياض، أعقبه اعلان سعوديّ بغلق المنافذ البحريّة والبريّة، لأنّ الصاروخ يهدف الى ضرب "مكة"! الأمم المتحدة حذّرت من خطورة قرار غلق المنافذ البحريّة، لأنّه يعني منع الغذاء والدواء عن ملايين البشر، لكنّها اختتمت تصريحها بأنها "تأمل أن لا تطول فترة الحصار".
إن تعبير " لا تطول" يعني نعم للحصار ولتجويع الشعوب، حاله كحال "ضبط النفس" و"القوة المفرطة" و"قد ترقى". وهي نعم جاءت بعد نعم صامتة، سابقة، أجازت شن عدوان على اليمن، وهي "تأمل أن لا يطول" حصارها، أي أن تـُحسم المعركة سريعاً، وأن تسقط اليمن بيد الغزاة.
إنّ لغة الإعلام لدى السياسيين الأوروبيين، في المواقف الإنسانيّة والإشكاليّة المتعلقة بالعالم غير الأوروبيّ، على درجة عالية من الدقـّة، يصعب على من يعيشون خارجها فهمها عند اقتطاعها من سياقها المتكامل. ونظرا لسرعة التداول الإعلاميّ يجري غالبا نسيان أو تناسي السيّاقات التعبيريّة، وإهمال ترابط محتواها، وتدرّج تصاعد حرارتها. أي أنّ المشكلة لا تكمن في التعبير، وإنّما في قراءة مضمون التعبير، وهي مشكلة عربيّة بامتياز، لأننا أمة تسمع ما تريده، لا ما يريده القائل، وتقرأ ما تريده. ولكن، عند وضع الأفكار المتفرّقة شكلاً في سياق منظـّم، نجد أنّها ليست سوى إعلان نيّات تدريجيّ، منسّق الخطوات، يشرح على نحو دقيق وقائع سير المعركة المراد تنفيذها على الأرض.
عقب إعلان وزير الدولة للشؤون الخارجيّة في دولة الإمارات، أنور قرقاش، انتهاء مهلة ال 48 ساعة لتسليم الحديّدة الى القوّات الإماراتيّة والسعوديّة المهاجمة من "دون قيد أوشرط"، دعت الأمم المتحدة "طرفي النزاع الى عدم اللجوء الى استخدام السلاح"، المستخدم أصلا! تلاه مباشرة خبر عن مبادرة خيّرة، في هيئة اتصال هاتفيّ بين الرئيس الفرنسيّ ماكرون في 12 حزيران ومحمد بن زايد ، أذاعته قناة الجزيرة صباح 13 حزيران، يدعو فيه الى "تحييد المدنيين". بعد مرور ثلاثة أيام حسب ظهر خبر المشاركة الفرنسيّة في الحملة العسكريّة على الحديّدة. وهذا يعني أنّ عبارة "تحييد المدنيين" ليست سوى دعوة الى تسريع أعمال الاقتحام والقتل، ولكن من "دون إفراط"، الى الحد الذي"قد يرقى الى مستوى جرائم حرب". بعد أيام قلائل تكشف بشكل سافر الدور الفرنسيّ وفضحت الصحف الناقدة صفقات السلاح.
في ذروة الهجوم على الحديّدة بثـّت (قناة الجزيرة) هذا الخبر في نشرتها الصباحيّة ليوم الجمعة 15 حزيران 2018 " البنتاغون يعلن أنّ الولايات المتـّحدة لا تدعم بشكل مباشر الهجوم على الحديّدة". إنّ كلمة "لا" هنا، لها دلالة خاصّة تتعلق بالدور الأميركيّ: الضغط السياسيّ، والاقتصاديّ، والحصار التجاريّ والعسكريّ، والسلاح، والاستطلاع، والقصف الصاروخيّ والجويّ والبحريّ، والإحداثيّات، وإدارة العمليّات المشتركة. كلّ هذه التفصيلات تدخل ضمن "لا" الأميركيّة. إنّ الحروب الاستعماريّة الحديثة تقوم على قاعدة ثابتة ومبدئيّة قوامها أنّ كلّ دولة - شريك أو حليف- تقوم يتزويد التجحفل الحربيّ بما يكفل تكامل المعركة ستراتيجيّا. ولا مانع من مشاركة فرنسا في كاسحات ألغام في اليمن، كمقدمة لمشاركة أوسع، أو إرسال قوات محدودة "لحماية" الأكراد في سوريّة! أو إرسال السويد المسالمة غوّاصة مجهولة في حرب الخليج، ومشفى عسكريّ في غزو العراق، أو إرسال اليابان - الممنوعة من إخراج قواتها بفعل المقرارات الأمميّة للحرب العالميّة الثانيّة- كتيبة هندسيّة الى جنوب العراق. إنّ المعارك التي تخاض تحت تسمية "تحالف" تقتضي أعلى درجات التنسيق وتقسيم العمل الميدانيّ بمختلف تخصصاته، الحربية المباشرة أو العسكريّة التكميليّة، بما فيها الإعلاميّة. وهذا ما يساء فهمه دائما في الإعلام العربيّ. إنّ "لا" أميركا تعني "نعم" لتوريد السلاح وإدارة العمليات المشتركة،وتبادل المساعدات الحربيّة الاستخباريّة، والحماية الدوليّة والإعلاميّة، وهو جلّ ما يطلبه قادة العدوان السعوديّ الإماراتيّ.
لم تتوقف الخدعة اللغويّة المتعلقة باستخدام "لا" بمعنى "نعم" على الخطاب الغربيّ. فالعرب أنفسهم، مؤيدون ومعارضون، أصابتهم عدوى "لا" التي تعني "نعم" أيضا. حينما أعلن رئيس الناتو ينس ستولتنبيرغ عن دور التحالف في العمليّات العسكريّة في العراق انبرت وسائل الاعلام العربيّة كافـّة الى تفسير قرار الناتو على طريقة نعم التي تعني لا، فجعلت صحيفة (الحياة) في عددها الصادر في 25 ايار 2017 " الناتو شريكا في "العمل ضد الارهاب، ولكن بلا سلاح". وقد سبقتها الى ذلك (قناة الميادين) المعارضة للوجود الأميركيّ في 24 آذار بخبر مشابه تماماً، ينفي استخدام السلاح من قبل الناتو. لذلك بدا تصريح رئيس الناتو، في عين المتلقي، كما لو أنّه مكرمة تقدّم للعراقيين والسوريين حينما "لا" تقوم منظمة الناتو باستخدام السلاح المباشر في المعارك. وفي حقيقة الأمر أنّ القرار لا يتعلـّق باستخدام أو عدم استخدام السلاح، بل يتعلـّق بزيادة حجم إسهام الناتو في خدمة الخطة العسكريّة الميدانيّة،التي تقودها أميركا في المنطقة، والتي حدّدت بشكل تخصصيّ وتكافليّ دور ومسؤوليّة كلّ فريق في المعركة: العراقيون والسوريون على الأرض في هيئة مولاة ومعارضة، أميركا وفرنسا وبريطانيا وحتّى استراليا ونيوزيلندا في هيئة مستشارين وقواعد جوّيّة وبريّة وضربات جوّيّة وصاروخيّة. إنّ شروط تقسيم المعركة، تقتضي أن لا يتصادم إسهام الناتو مع الوجود العسكريّ التركيّ في المنطقة. لأنّ تركيا هي الطرف الوحيد في الناتو الذي خوّل حقّ ممارسة الحركة العسكريّة الواسعة على الأرض. أمّا الناتو فقد تولـّى مهمة الربط الجوّيّ بين المقاتلات وشبكات الاتصال والمعلومات عبر القارات. وفي هذا الإطار كان على الإعلام العربي قراءة تصريح الناتو قراءة تنطق بما تقوم به منظمة الناتو، لا قراءة كف، وقراءة حسن نيّات. إن "لا" الناتو لا تعني إنقاص حجم الإسهام الحربيّ، ولا تعني من قريب أو بعيد "عدم المشاركة المسلّحة" أو "رفض المشاركة في المعارك الأرضيّة" في معارك العراق وسوريّة، التي هي خارج مهام الناتو كمنظمة. لقد تركت المنظمة لأعضائها حقّ المشاركة في المعارك الأرضيّة، ولكن باسم دولهم منفردة. ولمزيد من الفائدة نورد نص "لا" الناتو حرفيّا: قال رئيس الناتو ينس ستولتنبيرغ: "سنشارك في المزيد من الدعم الجوّيّ بطائرات الأواكس، وطائرات التغطيّة والاستكشاف، وبزيادة زمن التحليق،المزيد من تبادل المعلومات، وتزويد الطائرات بالوقود في الجوّ". هذا هو الجزء المخصص للناتو - عدا تركيا وفرنسا وبريطانيا- في إطار الحرب الدموية الشاملة، المشتعلة في المنطقة.
إنّ الإعلام العربيّ يعطي شهادة براءة لشخص قام بربط أطراف ضحيّة بريئة، ثمّ قام بحشر منديله الحريريّ المعطـّر في فم الضحيّة لكي يمنعها من الصراخ، ولم يكن هو من سدّد الطعنات القاتلة الى جسد الضحيّة. هذا الشخص، في نظر الإعلام العربيّ، حضر الى الميدان الحربيّ "بلا سلاح"، فحقّ علينا أن نشكره على إسهامه السلميّ، الإنسانيّ!
بيد أن أكثر أساليب استخدام لا بمعنى "لا" فرادة، ورد في تصريح رئيس اتحاد كرة القدم الفلسطينيّ جبريل الرجوب عقب رفض الفريق الأرجنتينيّ اللعب في القدس مع الفريق الإسرائيليّ. فقد هبّ الرجوب، بأمر من القيادة الفلسطينيّة، الى استحسان الموقف الأرجنتينيّ - ظهرت صورة للرجوب مع اللاعب مسّي عند عرض التصريح- لكنّه لم يكتف بذلك، بل أضاف، بنوبة كرم عجيبة، بأنّه "لا" يعارض أن يلعب الفريق الأرجنتيني في حيفا". لأنّ حيفا في نظر الرجوب تقع في الاسكيمو، وأن حيفا غسان كنفاني لا وجود لها إلا في القصص الخيالية! كانت "لا" الرجوب أكثر اللاءات الإعلاميّة غباء وقبحا، وأكثرها قربا من "نعم".
محكمة سويديّة أصدرت حكما ببراءة مجموعة من المغتصبين، قاموا باغتصاب صبيّة مهاجرة، في مكان شبه عام. بني قرار الحكم على سبب واحد غير قابل للطعن، هو أن الفتاة لم تقل "لا" صريحة وواضحة حينما شرع الفتيان السويديون باغتصابها. الفتاة كانت تصرخ "لا" بطريقة ما، ولكن ليس بالسويديّة، كما قيل في الادعاء! لذلك لم يسمعها أو يفهمها أحد، لا الشهود ولا المحكمة ولا المغتصبون. حتّى المغتصبون، قالوا ربّما تكون اعترضت، ولكن ليس بكلمة "نـَي"، التي تعني "لا" بالسويديّة. إنّها "لا" الانغلوسكسونيّة، التي يغتصبون بها حقوق أمم كاملة على امتداد التاريخ بضمير مستريح.
إنّها لعبة السفيرة غلاسبي مع صدام حينما سألها بأنه سيتصرّف إذا لم تحلّ المشاكل العالقة، فلم تجبه، ولم تقل له إنك تتحدث عن دولة تقع تحت حمايتنا سياسيّا وعسكريّا، وإنما أكدت له أنّها ستكون في إجازة، لمدة شهر كامل. ياللكرم! الأمر الذي فهمه صدام بطريقته الزقاقيّة: خذ راحتك. فأخذ راحته بشكل كاف وهو يعلم أنّ الأميركان كان يرصدون تحرّك القوّات العراقيّة خطوة خطوة. ولم يخيب صدام ظنّ الأميركان، فقد سارع الى دخول الفخ القاتل بغطرسة الجهلة.
وقد يأخذ النفي صيغاً ملتوية، تخفي في طيّاتها قبولا تاماً. هذا ما نجده في تصريح مبعوث الأمم المتّحدة الى اليمن، مارتن غريفين، في 22 حزيران 2018، بعد تدفق القوّات الأرضيّة للتحالف السعوديّ الإماراتيّ باتجاه الحديّدة: " أخشى أن يكون للتصعيد عواقب وخيمة". وإذا قـُرن هذا التصريح بما صرّحت به مندوبة الأمم المتحدة في اليوم نفسه " 100 ألف طفل يمني معرضون للخطر في الحديّدة"، نجد أن تصريح غريفين يتجاوز حدود الخشية الى ما هو أبعد، الى اليقين بقيام كارثة إنسانيّة. وهذا يجعل تصريحه أقرب الى الوعيد والضغط منه الى التعاطف، بما أنّه جاء الى اليمن يحمل بعض "شروط" القوى الغازية، التي تطالب بتسليم الحديّدة. وعلى الرغم من تصاعد نبرة التحذير جراء تصاعد المعارك حول الحديّدة، مصحبوبة بزيارات مفاجئة لممثل الأمم المتحدة، وعلى الرغم من ظهور أصوات مندّدة بتكرار موجات الهجوم، إلا أنّ اللغة الإعلاميّة الحاسمة ظلت أسيرة للمنطق الإعلاميّ المؤيّد للحرب. ففي أحد أخطر التصريحات عن حجم المجاعة التي تتعرض لها اليمن جراء إصرار القوّات الغازية على احتلال الحديّدة، أعلن وكيل الأمين العام للأمم المتحدة للشؤون الإنسانية مارك لوكوك في 21 أيلول 2018 قائلا:" قد لا نكون قادرين على منع الخسائر الفادحة"، وفق ترجمة (قناة الجزيرة) في نشرة أخبار الصباح في 22 أيلول، في حين أن مصادر أخرى، رحيمة، ترجمت العبارة الى "من المستحيل علينا منع الخسائر الكبيرة". بين "قد لا نكون" و"من المستحيل"، بين لا كاذبة ونعم مؤكـّدة، ولكن مضمرة، تراوح مأساة الحرب في اليمن.
لقد كرّر الناطقون الرسميون باسم الأمم المتّحدة مرارا عبارات جوفا، أمثال " المجاعة تكاد تصبح واقعا" و"المجاعة توشك أن تكون ". ما مقاييس المجاعة إذا كانت المصادر نفسها، التي تتحدث عن "توشك" و"قد تصبح" تؤكد أن آلاف البشر أكلوا حتى الحشائش، وشربوا المياه الآسنة، وناموا في العراء، واجتاحتهم الأوبئة؟ إنّ تعبير "تكاد تصبح" و"توشك" تأويل ماكر لتعبير "لم تصبح بعد"التضليليّ. ففي قلب هذا التذاكي اللغوي توجد لا مضمرة، تعني نعم مُتجاهلة، كتجاهل الحرب بأكملها.
وربما تكون أخطر "لا"، التي تعني "نعم"، تلك التي جاءت على لسان الناطق الرسميّ باسم الأمين العام للأمم المتّحدة، الذي أطلق في التاسع والعشرين من آب 2018، تحذيرا للحكومة السوريّة من "مغبّة استخدام السلاح الكيمياوي". ولكن، بعد يومين، في 31 آب، بادرت الأمم المتّحدة، على لسان ممثـّل الأمين العام، الى الاعتراض على طريقة قراءة العبارة، بعد احتجاج سوريّة علي فحوى التصريح. جاء النفي على طريقة "لا"، التي تعني "نعم". يقول النفي بما أنّ الأمين العام للأمم المتّحدة لم يسمّ سوريّة بالأسم، فلا يحقّ لسوريّة أن تعتقد أنّها معنيّة بالإتهام، أي لا يحق لها أن تشكّ في في نيّات بيان الأمم المتحّدة! هذا التبرير الهزيل، لا يقلّ إثارة عن التصريح نفسه. إذا لم تكن سوريّة معنيّة بالتهديد، لماذا حشر "السلاح الكيمياوي" الآن، في هذا البيان تحديدا، الذي يعالج بشكل حصريّ تصاعد الموقف السياسيّ والعسكريّ والإعلاميّ جرّاء إصرار القيادة السوريّة على تحرير إدلب من قبضة التكفيريين، وتصاعد التهديدات الأميركيّة الفرنسيّة البريطانيّة تحت ذريعة "استخدام السلاح الكيمياوي". إنّ الأمين العام للأمم المتّحدة يدرك تماما، بهذا النفي، أنّ الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا عازمة على توجيه ضربة عسكريّة لسوريّة مباشرة، أو غير مباشرة بواسطة إسرائيل، وأنّ تصريحه المتعجـّل كان من الممكن أن يكون مقدّمة ذرائعيّة ثمينة جدّاً لعمل دوليّ، غير شرعيّ واسع، قائم على أكاذيب من النمط المستخدم في غزو بوش للعراق. إنّ قراءة هذا التصريح أميركيّا، لا تعني سوى"نعم" صريحة لضرب سوريّة، من دون الحاجة الى موافقة الأمم المتّحدة.
أمام هذه الحقائق المأساوية تجد الدول المعتدية، السعوديّة والإمارات، نفسيهما في حلّ من أيّ التزام قانونيّ أو أخلاقيّ أو إنسانيّ. وتجدان في نفسيهما الجرأة الكافية على الاستمرار في ارتكاب المجازر باطمئنان وتصلـّف.