تاريخ الثورة الروسية: الإئتلاف الأول.. ج 2
الرابطة الأممية للعمال
2018 / 5 / 25 - 10:03
وكان الاشتراكيون من الحلفاء يجوبون الجبهات ويتجولون فيها. وقد كتب فاندرفيلد ما يلي: “كان الجنرال الكسييف يفعل كل شيء لكي تنضم جهودنا إلى جهود الذين نظموا سابقًا وفود بحارة البحر الأسود، مثل كرنسكي وألبير توماس، بهدف تتميم ما كان يسميه الإعداد المعنوي للهجوم” وهكذا وجد رئيس الأممية الثانية ورئيس هيئة أركان نيقولا الثاني لغة مشتركة في الكفاح من أجل المثل العليا الساطعة للديمقراطية. وتمكن رونوديل أحد الزعماء الاشتراكيين الفرنسيين من القول بكل رضًى وارتياح: “إن بوسعنا الآن أن نتحدث دون أن تحمرَّ وجوهنا خجلاً عن الحرب المحقة”. وقد تعلمت البشرية بعد ثلاث سنوات من التأخير أنه كان لدى هؤلاء الرجال دافع لاحمرار الوجه.
وأخيرًا، وفي أول مايو (آيار)، قررت اللجنة التنفيذية، بعد أن مرت بكل مراحل التردد التي يمكن تصورها، الاشتراك في الحكومة الائتلافية بأكثرية 41 صوتًا ضد 18 وامتناع ثلاثة أعضاء عن التصويت. وقد صوت البلاشفة وعدد صغير من المناشفة الأمميين فقط ضد هذا القرار.
وليس من نافلة القول أن نشير إلى أن ميليوكوف الزعيم، الذي يعتبر محامي الدفاع عن البرجوازية قد سقط ضحية التقارب الوثيق بين الديمقراطية والبرجوازية. وقد كان يقول بعد سقوطه: “لم أخرج بإرادتي، وإنما أخرجوني”. وقضى غوتشكوف على نفسه بيده منذ 30 أبريل (نيسان) عندما رفض توقيع “إعلان حقوق الجندي”. وكانت أفكار الليبراليين سوداء منذ تلك الأيام إلى درجة هائلة. ويمكن الاستدلال على ذلك من الواقعة التالية: قررت اللجنة المركزية لحزب الكاديت عدم الإلحاح على الاحتفاظ بميليوكوف في الحكومة القديمة، لإنقاذ الائتلاف. وكتب الكاديت اليميني ايزغوئيف ما يلي: “أن الحزب خاب زعيمه”. ولم يكن هذا الحزب يملك في الحقيقة حتى الاختيار. فقد صرح ايزغوئيف ذاته، وكان تصريحه صائبًا: “في نهاية أبريل (نيسان) هُزم حزب الكاديت هزيمة ساحقة. وتلقى من الناحية المعنوية ضربة لم يتمكن من النهوض بعدها أبدًا”.
وكانت الكلمة الأخيرة في مسألة ميليوكوف من اختصاص دول الحلفاء؛ إذ كانت إنكلترا موافقة كل الموافقة على قبول استبدال وطني الدردنيل “بديموقراطي” أكثر رجاحة وتعقلاً. واعترف هندرسون الذي وصل إلى بتروغراد مزودًا بكل السلطات للحلول محل بوكانان كسفير عند الحاجة، واطلع على الوضع كله، بأن هذا التدبير لا جدوى منه. والحقيقة أن بوكانان كان في موقعه الصحيح؛ لأنه ظهر الخصم المصمم لعمليات الضم ضمن الحد الذي لا تُرضي فيه عمليات الضم هذه شهوات بريطانيا العظمى ومصالحها. وكان بوكانان يشوش برفق في أذن تيريشتشنكو قائلاً: “عندما لا تعد روسيا بحاجة إلى القسطنطينية، فإن قيمة ذلك ستكون أكبر إذا قالت ذلك بسرعة”. وقد بدأت فرنسا بدعم ميليوكوف ولكن توماس لعب دوره هنا، وأعلن موقفه المعادي لميليوكوف بعد موقف بوكانان والزعماء السوفييت. وهكذا تخلَّي الحلفاء والديموقراطيون عن السياسي المكروه من قبل الجماهير، كما تخلى عنه حزبه الخاص في النهاية.
ولم يكن ميليوكوف يستحق مثل هذا الجزاء القاسي، وخاصة وأن هذا الجزاء تم بمثل هذه الأيدي. ولكن الائتلاف كان يطالب بضحية تكفر عن أخطائه. وقد قدم ميليوكوف للجماهير كرجل فكر خبيث يحيط المسيرة الظافرة نحو السلم الديموقراطي بالظلمات. وغسل الائتلاف يديه، دفعة واحدة، من آثار الإمبريالية بانفصاله عن ميليوكوف.
وأقر سوفييت بتروغراد بتاريخ 5 مايو (آيار) تأليف الحكومة الائتلافية ووافق على برنامجها. ولم يجمع البلاشفة لمعارضة الائتلاف ومنع الموافقة عليه سوى مائة صوت. وذكر ميليوكوف بسخرية وهو يروي وقائع الجلسة ما يلي: “وحيا الحاضرون الخطباء – الوزراء بحرارة … ومع ذلك فإن عاصفة التصفيق ذاتها استقبلت تروتسكي، الذي وصل من أمريكا بالأمس “كزعيم سابق للثورة الأولى”. وكان تروتسكي ينتقد بوضوح دخول الاشتراكيين في الوزارة مؤكدًا أن “السلطة المزدوجة” لم تلغ بهذا الشكل وإنما “انتقلت فقط إلى الوزارة ذاتها”، وأن السلطة الموحدة الحقيقية التي “ستنقذ” روسيا ستظهر عندما تتم “الخطوة التالية: انتقال السلطة إلى أيدي مندوبي العمال والجنود”. عندئذ يبدأ “عصر جديد: عصر من الدم والحديد، إنه عصر لا تتصارع فيه الأمم ضد بعضها بعضًا، ولكنه صراع الطبقة المسحوقة المضطهدة ضد الطبقات الحاكمة”. بهذا الشكل يمثل ميليوكوف الأشخاص. واقترح تروتسكي في ختام خطابه ثلاث قواعد لسياسة الجماهير: “ثلاثة أوامر ثورية: عدم الثقة بالبرجوازية، ومراقبة الزعماء والإشراف عليهم، والاعتماد على قوانا الخاصة فقط”.
وأشار سوخانوف معلقًا على هذا الخطاب قائلاً ما يلي: “من البديهي أن تروتسكي لا يستطيع الاعتماد على موافقة مجلس السوفييت”، وقد كان السلوك إزاء الخطيب عندما تكلم أكثر برودًا من الاستقبال السابق فعلاً. وأضاف سوخانوف المعروف بحساسيته المفرطة لضجيج الممرات الذي يحدث بين المثقفين: “سرت إشاعة عن تروتسكي الذي لم ينضم بعد إلى الحزب البلشفي أنه “أسوأ من لينين”.
وقد أخذ الاشتراكيون ست حقائق وزارية من أصل خمسة عشر حقيبة. كانوا يريدون أن يكونوا أقلية. وقد استمروا في لعبة مَن يخسر – يربح، حتى بعد أن قرروا الاشتراك في السلطة بصراحة. وبقي الأمير لفوف رئيسًا للوزراء. وأصبح كرنسكي وزيرًا للحربية. وغدا تشيرنوف وزيرًا للزراعة، واستبدل ميليوكوف الذي كان يتسنم منصب وزير الخارجية بتشيريشتشنكو أحد الخبراء بباليهات الأوبرا، الذي أصبح في الوقت ذاته رجل ثقة كرنسكي وبوكانان. وكان الثلاثة متفقين على أن بوسع روسيا أن تستغني عن القسطنطينية. وعُين على رأس وزارة العدل المحامي التافه بيريفيرسيف، الذي حصل فيما بعد على شهرة مؤقتة في يوليو (تموز) خلال قضية الدعوى ضد البلاشفة. واكتفى تسيريتلي بحقيبة البريد والبرق كيما يكرس وقته للجنة التنفيذية. ووعد سكوبوليف الذي أصبح وزيرًا للعمل، في لحظة من لحظات الحماس، بإنقاص أرباح الرأسماليين مائة بالمئة بصورة كاملة. وطارت هذه الجملة من فم إلى فم. ولتأمين التوازن والتناظر، عين كونوفالوف وزيرًا للتجارة والصناعة وهو واحد من المقاولين الموسكوفيين الكبار وقد جلب معه بعض شخصيات البورصة في موسكو وكلفهم تسنم مناصب هامة في الدولة. ولقد استقال كونوفالوف بعد خمسة عشر يومًا من استلام منصبه الوزاري، محتجًا بذلك على “الفوضى” السائدة في الاقتصاد العام، على حين امتنع سكوبوليف قبله عن تقليص أرباح الرأسماليين، واهتم بمحاربة الفوضى؛ إذ كان يخنق الإضرابات داعيًا العمال إلى الاهتمام بشئونهم فقط.
واشتمل بيان الحكومة على أفكار مألوفة نظرًا لأنه بيان حكومة ائتلافية. وكان هذا البيان بدعو إلى إتباع سياسية خارجية فعَّالة لصالح السِلم، ويشير إلى محاولات البحث عن حل للتموين، ودراسة تحضيرية للمسألة الزراعية. ولم تكن جمل البيان المتعلقة بهذه المسائل سوى جمل خطابية مسهبة. وكانت النقطة الجدية الوحيدة في البيان، أو على الأقل المسألة الجدية في نوايا البيان ومزاعمه توضح بأن الجيش سيعد “لعمليات الدفاع والهجوم للحيلولة دون وقوع هزيمة لروسيا والأمم المتحالفة معها”. وفي هذه المهمة يمكن تلخيص المصلحة الرئيسية في الائتلاف الذي تشكَّل كآخر محاولة يقوم بها الحلفاء وروسيا. وقد كتب بوكانان ما يلي: “إن حكومة الائتلاف تمثل بالنسبة لنا الأمل الوحيد، بل وآخر أمل للسلامة، وإنقاذ الوضع العسكري في هذه الجبهة”. وهكذا كان وكيل الأعمال الإمبريالي المتمثل بدول الحلفاء يقف خلف المنصة، وراء الخطب، وخلف عمليات التوفيق والمصالحة، وراء تصويت الزعماء الليبراليين والديموقراطيين لثورة فبراير (شباط). وأخذ الاشتراكيون على عاتقهم مسئولية ثلث السلطة وكل الحرب بعد أن وجدوا أنفسهم ملزمين بالدخول بمثل هذه السرعة في تأليف الحكومة، باسم مصالح جبهة الحلفاء المعادية للثورة.
واضطرت وزارة الخارجية الجديدة إلى تأجيل طبع رد حكومات الحلفاء على بيان 27 مارس (آذار) كيما تحصل منها على بعض التعديلات في الأسلوب تخفي الجدل القائم ضد بيان حكومة الائتلاف. وأصبحت “السياسة الخارجية الفعَّالة من أجل تحقيق السِلم” تعني منذ ذلك التاريخ أن يُصحح تيريشتشنكو بجهد ومثابرة البرقيات الدبلوماسية التي كانت تحررها له مصالح المستشارية القديمة، وأن يكتب “مطالب عادلة” بعد شطب “ادعاءات” أو أن يكتب كعبء إضافي زائد “خير الشعوب” بدلاً من “حماية المصالح”. وكان ميليوكوف يقول عن خلفه وهو يصر على أسنانه: “كان دبلوماسيو الحلفاء يعرفون أن المصطلحات “الديمقراطية” لبرقياته تشكل تنازلاً لا إراديًّا لمطالب اللحظة الراهنة، وكانوا يقدرونها حق قدرها بسماحة”.
ولم يبق توماس وفاندرفيلد بعد أن وصلا مؤخرًا مكتوفي الأيدي؛ فقد اجتهدا بحماس لتفسير “خير الشعوب” بمعنى مطابق لحاجات الحلفاء ومطالبهم، وكانا يؤثران على الأعضاء السُذج في اللجنة التنفيذية، ويحرزان بعض النجاح في ذلك. وقد اعترف فاندرفيلد “بأن سكوبوليف وتشيرنوف كانا يحتجان بقوة ضد كل سياسة سليمة قبل أوانها”. وليس من المدهش أن ريبو -المعتمد على دعم مثل هؤلاء المتعاونين- صرح بتاريخ 9 مايو (آيار) في البرلمان الفرنسي بأنه يستعد لإعطاء رد ملائم على تشيريشتشنكو “دون أن يتنازل عن أي شيء مهما يكن”.
نعم! إن السادة الحقيقيين للوضع لم يكونوا ينوون خسارة ما ينبغي التقاطه. وأعلنت إيطاليا في تلك الأيام بالضبط استقلال ألبانيا، ووضعتها في البيان نفسه تحت حمايتها. ولم يكن هذا العمل درسًا سيئًا يمكن أن يستخلص من طبيعة هذه الأشياء. ووطنت الحكومة المؤقتة عزمها على الاحتجاج. ولم يكن ذلك العزم باسم الديمقراطية بل بسبب خرق “التوازن” في البلقان. ولكن عجزها اضطرها فورًا إلى عض لسانها بالنواجذ.
ولم يكن هناك جديد في السياسة الخارجية للحكومة الائتلافية سوى تقاربها السريع مع أمريكا. وأتاحت هذه الصداقة الطازجة جدًا ثلاثة تسهيلات لا تفتقر إلى الأهمية: لم تكن الولايات المتحدة متورطة بعار الحرب وأعمالها الشنيعة كما تورطت فرنسا وإنكلترا. وكانت الجمهورية الموجودة فيما وراء البحار تفتح لروسيا آفاقًا واسعة في مجال القروض والمعدات الحربية. وأخيرًا فإن دبلوماسية ويلسون -المؤلفة من مزيج من التظاهر بالديمقراطية ومن الاحتيال- تتلاءم بصورة لا مثيل لها مع احتياجات الأسلوب البياني للحكومة المؤقتة. وقد وجه ويلسون إلى الحكومة المؤقتة، وفدًا برئاسة روت يحمل الرسالة المليئة بالنصح والموعظة، والتي قال فيها: “لا ينبغي أن يخضع أي شعب من الشعوب بالقوة إلى سلطنة لا يريد أن يعيش تحت ظلها”. وتحدد هدف الحرب من قبل الرئيس الأمريكي بصورة غير واضحة كل الوضوح، بل بصورة مدهشة: “تأمين السلم المقبل للعالم، ورفاه الشعوب وسعادتها في المستقبل”. فهل يمكن أن يكون هناك أفضل من هذا؟ لم يكن تيريشتشنكو وتسيريتلي يتوقعان إلا هذا: قروضًا جديدة، وأفكارًا معروفة لا جديد فيها عن النزعة السلمية. وبمساعدة الأوائل، وبتغطية من الآخرين يمكن القيام بالتحضيرات وشن الهجوم الذي يطالب به شيلوك(2) المقيم على شواطئ السين وهو يلوح في الهواء بعنف بوثائق قروضه.
واعتبارًا من 11 مايو (آيار) ذهب كرنسكي إلى الجبهة، وافتتح بهذا الشكل حملة التحريض من أجل الهجوم. وكتب وزير الحربية الجديد إلى الحكومة المؤقتة وهو يلهث مبهورًا من نشوة خطبه وأحاديثه، ما يلي: “إن موجة الحماس في الجيش تكبر وتتسع”. وفي 14 مايو (آيار) أملى كرنسكي أمرًا للجيوش، ينص على ما يلي: “ستذهبون حيث يقودكم قادتكم” وأضاف لكي يزين هذا الاحتمال المعروف جيدًا، والذي لا يتسم بأية جاذبية بالنسبة للجنود، قائلاً: “ستحملون السِلم على أسنة حرابكم”. وبتاريخ 22 مايو (آيار) عُزل الجنرال الحذر الكسييف الذي كان على كل حال لا يتمتع بمواهب كبرى، واستُبدل برجل أكثر مرونة وأكثر جسارة وهو بروسيلوف. وكان كرنسكي الديموقراطي يعد الهجوم بكل قواه، أي أنه كان يعد المأساة الكبرى لثورة فبراير (شباط).