-الستربتيز- العراقي! نقد تيار -الواقعية القومية-
سلام عبود
2018 / 1 / 2 - 12:29
من أجل مراجعة نقدية، في إطار المراجعة الثقافية الوطنية الشاملة
# مقدمة:
إن الأزمة الشاملة، التي يعيشها المجتمع العربي، بأطيافه القطرية المتعددة والمتنوعة، تنعكس انعكاسا مباشرا على مناحي العقل كلها، وفي صدارتها الأدب والفن والإعلام والثقافة عامة. وربما تكون الثقافة أكبر الخاسرين، حينما يكون النقد الأدبي والثقافي على رأس هذه الطليعة الخاسرة. فلم يزل العقل النقدي على المستوى القومي والوطني، يلعب دور المتلقي السلبي، بدلا من أن يتبوأ مركزا قياديا في ترقية وتقويم مسار العملية الثقافية واستشراف مستقبلها. وحتى فكرة التنوير الشكلية، وفكرة الإصلاح التقليدية، بمعانيها المحدودة اجتماعيا وروحيا، لم تعد أولوية حياتية ضمن أهداف المتنور العربي، بالقدر نفسه الذي كانت عليه لدى متنوري بداية القرن الماضي. لقد تخلى المتنورون عن التنوير والإصلاح باعتبارهما مهمة استهلالية وتمهيدية تاريخيا، وعادوا بالفعالية الفكرية ونشاطها التشغيلي الجوهري والأساسي، ممثلا بالتغيير، الى مرحلة الركود، ومرحلة ما قبل البداية. وحتى الاسهام النقدي المدرسي في متابعة النشاط الأدبي والثقافي العام، خارج إطار المؤسسة التعليمية، أصابه العطب. لقد حافظ هذا النقد لعقود عديدة على مكانته العلمية المحترمة، وعلى حسن متابعة الأنشطة الابداعية في المجتمع. وعلى الرغم من جمود هذا النقد وشكليته وضغط السلطات عليه، إلا أنه ظل يمتلك رفعة البحث العلمي وتقاليده وخبراته، التي يورثها للأجيال اللاحقة. أما اليوم فإن النقد الجامعي، في مقابل النقد الصحافي الآني والنقد الانطباعي المشتت غالبا، قد انكفأ على نفسه، وانحسرت مساهماته التقويمية وفعاليته خارج إطار المؤسسة التدريسية. وحتى النزر اليسير، الذي يقيم صلات مباشرة مع حركة الابداع اليومي، يتميز بجمود الفكر، وبتحول الناقد الى مجرد متكسب دعائي، وموزع مجاني لشهادات التقييم الثقافية، وشارح استعراضي للنصوص في أحسن الأحوال. أمّا مهام التحليل، والموقف الفلسفي التأملي، وما يتضمنها من مثل عليا جمالية وروحية ووجودية، فهي بعيدة تماما عن اهتمامه. وربما تكون لهذا النقد وظيفة مدرسية ضرورية، باعتباره جزءا أساسيا من الدرس المؤسساتي العام. لكن هذه الوظيفة توقفت عن التفاعل الوثيق والسريع مع مجرى الحركة الثقافية والابداعية الجارية في المجتمع. وليس مصادفة محضة أن يحدث هذا التراجع بالتزامن مع بروز حالة من الهزال النوعي والتشتت أصابت مؤسسات ثقافية قومية كاتحادات الأدباء والفنانين واتحادات الصحافيين. وفي ظل مرحلة فوضى الحرية وفوضى القيم، غدا هذا النقد مثل أحجار مبعثرة، لا يربطها ببعضها سوى تسلق الطحالب عليها. فقد اختفت التمايزات النوعية للنصوص من قائمة الممارسة، وغاب البعد العقلي للقضايا الجمالية والفنية، وتسطحت أساليب تفكيك النص الأدبي، ولم يعد المنظور والسياق عنصرين ضروريين تفاعليا، في حركة ذاتية حيّة. أما عيوب هذا النقد التقليدية المعروفة فقد تضاعفت، وازدات معاناته العضوية جراء عوارض مرضية مزمنة، أبرزها شكلية مادة البحث والمعالجة، وضعف الأسئلة، والجنوح الى الحشو أو التغريب.
إن بؤس العقل يتعاظم في البلدان التي عاشت هزات عنيفة متتالية، لم تدع للناس وللعقل فرصة لجرّ الأنفاس، وللتأمل، كما هي حال المجتمع العراقي، الذي أرغم على الانتقال من مأساة الى أخرى، من دون انقطاع، ومن دون مراجعات أو وقفات تقويمية اجتماعية وثقافية. حدث هذا الأمر في مناخ سادته انقلابات حادة في أساليب صياغة وتخريج الذرائع الخطابية الدعائية للحكام والسياسيين والمشرعين الجدد. لذلك لم يقف المجتمع العراقي أمام تجاربه المؤلمة وقفات دراسية معمقة، بل جاهد بإصرار من أجل القفز على الماضي، من طريق التخلص من بعض رموزه الكبيرة حسب، وشرع في الانتقال الى مرحلة جديدة، مهتديا بنظرية التخلص الجذري من الماضي من طريق نسيانه نسيانا تاما، أو تناسيه. لقد قاد هذا الخلل التاريخي الى تكرار بشاعات وشرور الماضي اللاإنساني، ولكن بأشكال وصيغ جديدة، مبتكرة وفعالة. وإذا كانت الأحزاب الحاكمة، بسبب تكوينها العضوي، عاجزة عن القيام بمراجعات ثقافية جذرية، فإن المثقف يثبت بتخليه عن هذه المهمة، أنه أكثر عجزا من الأحزاب والقوى العاجزة؛ وأنه، لا الأحزاب، مصدر الفشل العقلي الأول في المجتمع. إن فقدان المراجعة التاريخية قاد أيضا الى تكديس الخبرات الشريرة والرديئة كلها، والى إعادة استثمارها، بتوظيفها نفعيا لمصلحة قوى سياسية جديدة، ولمصلحة الواقع العام الجديد، واستغلال مهارات الأفراد الفاسدة، المجربة في حقب سابقة، لمصلحة منظومة الفساد الاقتصادي والسياسي والاجتماعي والثقافي الشاملة الجديدة. فالفساد الثقافي في الحقب المضطربة لا يتناسل حسب، بل يتناسل بمعادلات انفجارية معقدة. أما العقل الثقافي المتحرر من سيطرة الحقبة الديكتاتورية ومن آيديولوجيتها، المحاصر والمطارد دائما، فلم يتمكن من فعل الكثير. فقد بدا منشغلا بذاته، مهموما ومفككا، ولم يتمكن من سد الفراغات الواسعة في لوحة الحياة العقلية المتشابكة والمشوشة. إن أقصى ما فعله هذا العقل، في مواجهة إرث المراحل السابقة، هو الإدانة، أو التحصن في شرنقة الخلق الأدبي والفني الفردي والشخصي. وتلك وظيفة إبداعية عسيرة وخلاقة، فائقة الأهمية تاريخيا، كوسيلة لمقاومة الشر، ولمواصلة مسيرة الحياة بايجابية. لكنها مهمة ناقصة. لأن مباحث النقد الأدبي والثقافي ظلت عاجزة ومشلولة تماما، وفي أفضل الأحوال اكتفت بكشف خفايا العلاقة بين النص والواقع السياسي، بين النص والكاتب، بين المشروع الثقافي العام في تلك الحقبة والنص. وحتى في هذا الجانب لم يظهر نقد ثقافي متواصل ومتكامل، سوى كتب أقل من عدد أصابع اليد الواحدة. هذا القدر الشحيح من الانجاز العقلي بؤس شامل في المقاييس كلها، في وطن عاش أعنف الكوارث وأطولها وأبشعها. إن الذهاب أبعد من التحليل القائم على كشف المستور هو المهمة الضرورية الآن، وهو حجر الأساس في أي عمل عقلي يريد الخروج من كماشة القيود المدرسية أو النقد الآني والنقد الانطباعي الكيفي. فلم تعد مهمة كشف وجه الواقع البشع ضرورية. لأننا نقف وجها لوجه أمام واقع عار، مكشوف الداخل والخارج. إن تفكيك علاقات الواقع الداخلية المحركة، بارتباط وثيق مع تحليل علاقات المنتـَج الثقافي البنيوية، والوصل بأدوات التفكير الى المناطق الضرورية والأكثر خطورة نفسيا واجتماعيا وفنيا في النص وفي الواقع، أي تحليل الثقافة كنظام عقلي وفني مترابط، هي المهمة الأولى، التي ينشدها المجتمع من أجل تحرير العقل، وفك ارتباطاته الشرطية القسرية بثقافات الحقب السابقة والراهنة، القهرية واللإنسانية.
لقد أفادت الحقبة الديكتاتورية من شرائح ما يعرف بـ "المستقلين"، ومنحتهم مساحة محدودة ومشروطة من الحركة والتعبير، في الحدود التي لا تخلّ بثوابت السلطة الحاكمة وخطوطها الحمر. أمّا القوى الحاكمة، التي جاءت مع الاحتلال الأميركي وبعده، فلم تكن مؤهلة مهنيا وعقليا لإدارة الحياة الثقافية. لذلك حصرت اهتمامها الكامل في بناء منظوماتها الحزبية والمالية والتسليحية. وفي الجانب الروحي لجأت الى المنحى العاطفي من التحشيد و"التهييج" الطائفي والعرقي والمناطقي وما يلازمه من فكر وطقوس وقيم شكليّة وإلهائيّة وتغيبيّة وثأرية، وأوكلت بعض المهام القيادية التنفيذية الى حلفاء مؤقتين، غير موثوقين، كالشيوعيين، للإفادة الآنية من خبراتهم. لكنها سرعان ما لفظتهم، حينما وجدت في النهاية ضالتها في شرائح من المستقلين، ممن آزروا مصاعنة، مشاريع القوى السياسية المشاركة في إدارة السلطة، على اختلاف مشاربها. وفي هذا المفصل تحديدا عثرت القوى الحاكمة على كنز ثقافي جاهز، تام الاستعداد لتنفيذ و"تمشية" المهام اليومية الثقافية الدعائية والإعلامية. فقد وجدت في بقايا ما يعرف باتجاه "الواقعية القومية" في الأدب البعثي بعض ما تبتغيه. وهذا الفريق إطار نظري تمايزي، دعائي، تولى مهمة حراسة فكر النظام الاستبدادي تحت شعار الدفاع عن البعد القومي، والدفاع عن "نقاوة" الايديولوجية الديكتاتورية ورموزها، سواء بالانتماء المباشر الى الحزب، أو بتبني مشروعه السلطوي. ولكن، شيئا فشيئا، تكشّف للجميع أن أعضاء هذا التيار هم سادة الإعلام العراقي الجديد. فحتى من لم يحتل مركزا سياديا في الحقبة الجديدة تم منحه هامشا واسعا، تفضيليا، في مجالي الفعل والحركة الحرة. لقد تناسل هذا الفريق ضمن المناخ الثقافي المشوّه الراهن، وأصبح يحتل مكانة مميزة، تعمل ككتلة متحدة. وبذلك تم رفعه الى مستوى المرجعية الثقافية العليا، أضحت تقتدي بسلوكه وتنظيراته ووسائله وأساليبه، أجيال جديدة من العاملين في المنابر الصحافية والإعلامية، جلـّهم من "المنقطعين" ثقافيا، ممن ولدوا ثقافيا قبيل وبعيد الاحتلال الأميركي. لقد باتت السيطرة العامة، صحافيا وإعلاميا وثقافيا، بيد هذا الاتجاه. إن القوى الحاكمة، التي لا ترغب من الثقافة بأكثر من هذا القدر، وجدت نفسها مكتفية ثقافيا بما هو معروض على أرض الواقع. ومن جانب آخر حرصت القوى الحاكمة على إغلاق الأبواب جميعها بوجه المثقف العراقي الديموقراطي، الذي ناضل طوال عقود ضد مشاريع الحرب والعنف، والقمع، وغياب الديموقراطية. لقد أصبح هذا المثقف، بتراثه ومرجعياته وخبراته، شيئا زائدا في لوحة الثقافة الوطنية المضطربة. هذا النتيجة الثقافية المؤلمة ليست أسوأ ما لحق بالمثقف الديموقراطي، فهو محظوظ بها، إذا قدر له النجاة من أساليب حشره في قائمة الأعداء، وفي دائرة الإقصاء الممنهج ، الثأري والانتقامي. ضعف النقد المدرسي، وتغييب دور وخبرات المثقف الديموقراطي، وسيادة ثقافة الفوضى مقرونة بنشاط بقايا ثقافة حقبة الديكتاتورية، جعلت لوحة الحياة الثقافية عظيمة البؤس. إن الواقع الثقافي المتردي ينشئ مرجعياته العقلية والأخلاقية الرديئة المطابقة والملازمة. فعلى الرغم من العقم الواضح للنظام الثقافي في حقبة ما بعد 2003، إلا أن هذه الحقبة، بما تحمله من طغيان للفساد الشامل، ومن غياب تام للأمن، ومن ارتفاع غير مسبوق في وتائر العنف وأساليبه ومحيطه، لم تكن بخيلة تماما، أو أمّا عاقرا. فقد تمكنت من إطلاق إرهاصات ولادة نماذجها الخاصة ايضا، المعبرة عن خصائص الواقع. فعلى صورة "المخبر السري" السياسية انتجت الصحافة "الرقيب السري"، الذي يبث أفكاره الكيدية على هواه، وعلى صورة المقاتل الميليشياوي الملثم ظهر الصحافي المقنع، المتلون الذي لا تعرف الى أي فريق ينتمي ولمصلحة من يكتب، وعلى صورة الحزبي الذي يجمع بين المتناقضات العقلية والسلوكية كلها ظهر الكاتب ذو الوجوه والأقنعة المتعددة. إن شجرة السم تزهر أيضا في ربيعها الخاص، لكنها لا تزهر سوى أوراد قاتلة.
ملامح تيار الواقعية القومية ورموزه
ما طبيعة المناخ الثقافي السائد في عراق الحقبة الديكتاتورية؟
للاجابة عن هذا السؤال سنتوقف هنيهة في منطقة مهملة، لم يتمكن النقد في العراق من إضاءتها على نحو كاف، بشكل علمي على ضوء مناهج علم النفس وعلم الاجتماع، ونعني بها منطقة تبادل الأدوار بين الرقباء: الرقيب الطوعي والرقيب الرسمي الحكومي. إن إهمال بحث هذه الجوانب من حياة النص والكاتب والمجتمع الذي أنتج فيه النص، علامة خطيرة من علامات الوجود السلبي للمثقف والمتنور، تعزز سلطة السياسيين ومن يصاحبهم من ممارسين ثقافيين سلطويين أو مصانعين، وتديم سيطرتهم على مصير ومحتوى الثقافة. لم يزل النقد الثقافي يقف عند سطح الظواهر، متحصنا دفاعيا خلف متراسي التسقيط أو التمجيد، جاعلا من أي اقتراب نقدي من منطقة التشوهات النفسية دعوة عدائية مباشرة، تهدف الى التسقيط السياسي الشخصي. وللخلاص من ورطة الضمير والمسؤولية المهنية والأخلاقية جرى إلغاء عنصر الإرادة الفردية والذاتية للكاتب إلغاء تاما، حتى كاد النص، لدى البعض، ينتج نفسه بنفسه، أو تنتجه قوى خفية، لا علاقة للكاتب بها. أما الكاتب فقد بدا كما لو أنه سائر في نومه، لا يرى سوى الصور التي يعرضها شريط الأحلام على وعيه الباطن.
هذا الدفاع السلبي - الإلغاء التام للذات- أحد أعظم منجزات الثقافة القهرية في حقبة الحروب والاستبداد، وأحد أبرز مظاهر العبودية الثقافية: صناعة المثقف المختصر، مسلوب الإرادة.
من أنتج أدب الحرب وثقافة حقبة الحرب؟ عدا صدام، لا نعرف أحدا!
حينما اندفع السؤال الوجودي الكبير الى السطح، في حقبة قادسيات صدام، نتيجة لتناسل الحروب، ونتيجة لتسميد الأرض بالجثث، ظهر الجواب الشافي ثقافيا. حينذاك تفتق عقل الشاعر والصحافي جواد الحطاب فكتب هجاء لاذعا للقنابل. ولم يكتف بذلك، بل طالب بمحاكمتها ومعاقبتها، فهي المسؤولة عن موت البشر!
وفي مجال النقد الأدبي ظهر متخصصون في مجال استنطاق مناطق "الصمت" أو كشف "ما هو مقصود لذاته" و "ما هو غير مقصود لذاته". كوّن هذا الفريق الأساس الرقابي الداخلي، البديل من الرقيب الرسمي الحكومي، ووسيلة الرصد الطوعية، الأكثر بشاعة ومكرا، في منظومة القمع الثقافية القائمة آنذاك.
إن حراسة الصمت - صمت الكلمة وصمت الذات- هي المهارة الداخلية، الذاتية، الأكثر مضاء اجتماعيا وسياسيا، التي تستند عليها مجتمعات الخوف كافة. لأن الصمت هو التعبير الضمني عن الخوف الوجودي.
هذه المهمة الشائنة سلوكيا وأخلاقيا، والقاتلة سياسيا، تولاها "الرقيب المثقف"، الذي كان يحصن نفسه من طريق إظهار تفانيه في خدمة الحقيقة السلطوية، بكل الطرق والوسائل، لكي يحمي نفسه، ويديم فترات بقائه حيّا، ويعزز وجوده ثقافيا. ومن هذه الوسائل الحوار باعتباره سيفا ذا حدين قاتلين، يلعب فيه المحاور دور مكتشف الأماكن المحرّمة والمثيرة، غير المرئية أو المسموعة. وهي في الأعم مناطق تضع المشمول بالحوار في موضعين قاتلين: الأول، دفعه الى إدانة نفسه بهدف إذلاله واستصغاره. والثاني، إشعاره بأنه مكشوف، أو في طور الانكشاف، وأنه في منطقة الخطر الدائم. أي إخراج الصمت من إشاراته الدلالية المكبوته، وتحويله الى إشارات معبِّرة، تخرج من حدودها الكامنة الى الخارج، الى ما يحيلها مستندا توثيقيا، ويقرّبها حسيّا من أن تكون دليل اعتراف جرميا ينطق به مرتكبوه. إن الهدف من هذا معروف للجميع، يتلخص في عبارة واحدة: الابتزاز النفسي التحقيري، الآلية الأكثر بشاعة في منظومة القمع الروحي. أي ابتزاز الكاتب علنا، أمام الجمهور، من أجل عصره سلطويا - أمنيا- ودفعه الى إيجاد "من" و"ما" يحميه من نقمة الأجهزة إذا غضبت. إن سحق كينونة الفرد المبدع بكسر إرادته واستقلاله وتدمير حصاناته الداخلية الذاتية علنا، أمام الملإ، مرة واحدة والى الأبد، وظيفة تخصص بها الرقيب الطوعي، المثقف، وليس الرقيب السلطوي السري، الموظف الحكومي، الذي يعمل في الخفاء أمنيا. إن الموضعين، غير المبهجين، السالفين يضعان صاحبهما- المراقـَب - في موقع محدد: طمسه أكثر فأكثر في مستنقع السلطة، وارتهان وجوده النفسي والسلوكي والثقافي، وحتى الجسدي، لمبدأ الخوف من المجهول المعلوم، وإدامة عناصر الرعب الداخلي فيه. هذه المهمة البغيضة مارسها بإتقان وشيطنة، اسموها فطنة وشطارة، حزبيون محترفون لأغراض دعائية كبيرة أو كيدية شخصية، وساهم فيها بحماس عال عدد كبير من الكتاب الذين "تمسحوا" بالحزب، ولم يكونوا حزبيين مبرزين، أو موضع تقدير خاص من قبل أجهزة الحزب، لأسباب تتعلق بنواقص ما في الشخصية، أو لأسباب أخرى كثيرة مجهولة، لكنها معروفة لذوي الأمر. أما محركات هذا السلوك فتنبع داخليا من مشاعر الاستقواء، التي يوفرها نظام القوة الحاكم لمريديه الضعفاء والأقوياء على حد سواء، بهدف تسهيل مهام تفعيل وممارسة الدوافع العدوانية، ومنحها شرعية مكفولة سلطويا، في هيئة تلذذ علني بمخاوف الآخرين. وهي مخاوف حقيقية، قاتلة في أحيان كثيرة، يتم استحضارها في هيئة عروض فنية هدفها إذلال وتطويع المجتمع كله، باسم الأفراد، لا سيما صناع الفكر والوعي. إن الضغط النفسي باسم الثقافة والثقافي لا يخلق ضحية وجلادا حسب، في هيئة مثقف رقابي ذي ميول سادية وضحية مغلوبة على أمرها تسعى الى التأقلم مع وسط مليء بالأخطار والمحظورات، بل تمتد الى ما هو أبعد من ذلك على المستوى الإجتماعي. فالممارسة الفردية تقود بشكل حتمي الى خلق مناخ اجتماعي قائم على تقبل سحق الآخر برضا تام، وفي أحوال كثيرة بلذة مفتعلة أو حقيقية. وهنا يكمن عنصر التخريب الروحي الذي تخلـّفه تقاليد القمع في نفوس الناس. إن الانتقال من حاضنة الى حاضنة، ومن مضافة سلطوية الى أخرى، والقفز من نهج الى آخر، قد يبدو طبقا لهذه القاعدة ضربا من المهارة والفهلوة والشطارة، وهو أمر صحيح الى حد بعيد على المستوى الفردي. لكنها مهارات وبائية، لأنها تصنع المزاج النفسي والسلوكي للمجتمع عامة، الذي يعتاد الحركة والتنقل من طور الى طور، من دون حاجة الى إعادة تقييم ذاته. ففي الانقلابات الكبيرة والعنيفة تفضل الذات البريئة القفز على التاريخ كله، والتمتع بلحظة أمان نفسي واجتماعي تنسيها معايشاتها الكابوسية السابقة كلها دفعة واحدة والى الأبد. بيد أن نسيان الكابوس السياسي ليس محض رغبة ذاتية، خاضعة لمبدإ التمني، بل هي ضرورة نفسية واجتماعية، لا تزول بزوال مسببها، بل على العكس تظل تفعل فعلها بطرق أكثر تعقيدا. فقد ينجح الممارس الثقافي العدواني في عملية القفز من مشهد الى نقيضه، وهو يفعل ذلك دائما بجدارة في المجتمعات المفككة ثقافيا، مقتنصا فرصا جديدة لتوظيف وبيع مهاراته العدوانية لمشتر جديد. هذه العملية تمنح صاحبها حقين متلازمين ومكافأتين مترابطتين: أولا، الانتفاع بالمهارات من طريق تسويقها، وثانيا تطمين الذات من طريق إرضاء المشاعر المَرضيّة المكبوته، وتفريع شحناتها، وتحقيق ما يلازمها من لذة ومتعة شعورية ونفسية ضرورية. إن الظهور الفردي بمظهر سلوكي جديد لا يعني سوى أمر واحد: مضاعفة حجم المهارات العدوانية، بإضافة مهارات جديدة الى سابقاتها. أما المجتمع فلا يفعل ذلك في الأعم، رغما عن رغبته القوية في تنفس هواء جديد ينسيه ويلات الماضي. إن السلوك الاجتماعي الجماعي يميل في هذه الحالات الى كبت انكساراته النفسية ومخاوفه العميقة، وإخفاء ما يقابلها من نزعات عدوانية قاسية تمت ممارستها في حقب سابقة. وهذا الأمر يقود في نهاية المطاف الى درجة تراكمية نوعية من الكبت، لا تفضي إلا الى الانفجار التدميري. بيد أن مظاهر ممارسة النشاط الثقافي الاستحواذي تختلف في صورها وأشكالها، من حقبة الى أخرى. ففي ظلال منهج "الواقعية الاشتراكية القومية"، في مرحلة تزعم عزيز السيد جاسم مناخ الثقافة التنافسية، استخدم هذا النهج للتمييز بين المثقفين وحصرهم في قطبين: الميل نحو الاتجاه الشيوعي (الواقعية الاشتراكية)، أو الميل نحو السلطة الحاكمة (الواقعية الاشتراكية القومية)، ووضع القطبين معا في مواجهة ما عرف آنذاك بـ"القوى الرجعية العميلة". ولم تمض سوى سنوات قلائل، بعد تثبيت سلطة البعث الثانية أقدامها، حتى وجدنا المصطلح يتم اختصاره، لمزيد من التمييز والحصر، فيصبح (الواقعية القومية). لقد ذاب في بوتقة هذا التيار جل القوميين العرب السابقين، الذين خالفوا البعث سياسيا وآيديولوجيا، وذابت معهم شرائح من المستقلين، تعود جذور الكثير منهم الى أصول شيوعية. إن كشف مهام هذا الفريق ليست أمانة تاريخية بحثية حسب، بل هي ضرورة حياتية لازمة. فهذا الفريق مثل الطاقة، لا يفنى ولا يُستحدث. فهو مشروع أبدي يفعل فعله حالما يجد أمامه فرصا لاستخدام فنون القهر في المجتمع، بصرف النظر عن طبيعة هذا القهر وهويته وأغراضه.
من خلال استقراء النصوص نجد أن هذا الفريق، ذا الطبيعة الخاصة جدا، سلك سلوكا متميزا ضمن الإطار الايديولوجي العام للمنظومة الثقافية الحاكمة وشبكتها الثقافية والإعلامية المتنوعة. انخرط في هذا التيار كتاب ذوو مكانة عالية في جهاز السلطة والحزب والممارسة الثقافية كحميد سعيد، وآخرون أقل مرتبة، أو أهمية، كباسم عبدالحميد حمودي ونجم عبدالله كاظم وسليم عبدالقادر السامرائي ومحسن الموسوي، وعلي حسن فواز وغيرهم كثير. ساهم هؤلاء في ظهور أجيال متتالية من "الكاتب الرقيب"، في حلقات وراثية متسلسلة، لا تنقطع تناسليا. (قام كثيرون منهم بتحوير أسمائهم وسيرهم الشخصية من طريق الحذف أو الإضافة!)
لقد سلطنا بعض الضوء على جزء من هذه الأسماء في كتبنا (ثقافة العنف في العراق) و (من يصنع الدكتاتور) و(المجتمع والثقافة تحت أقدام الاحتلال)، وتوقفنا برهة عند خصوصية هذه الشريحة الثقافية. لعل أخطر مواطن الخصوصية والتميّز في هذا الفريق أنه لا يكتفي بمهاجمة الأعداء والخصوم، بل يركز، في أحوال كثيرة، اهتمامه فيما يعرف بالحلفاء، أو الموالين، بمن فيهم كبار البعثيين، الذين يُراد ابتزازهم، لسبب أو آخر، يوجبه المناخ والصراع السياسي والحزبي في لحظة معينة. وقد استخدم عدي صدام حسين بعضا من هؤلاء في معاركه الخاصة والعامة. أما أبرز مهام هذا الفريق فهو الاستفراد، والانقضاض، والقنص، من طريق التصويب على المناطق الرخوة في تكوين الخصم، واستخدام سوط التقصير، أو الخلل، أو ضعف التلاؤم مع نهج "الواقعية القومية"، باعتباره معيارا تقديسيا، يتم به صياغة هوية ومستقبل ووجود الآخر، وإثبات إخلاصه المطلق من عدمه. إن سحق الكرامة، والتفنن في صناعة وسائل هتكها، هي مادة هذا الفريق، حيث تنتهك ذات الخصم انتهاكا بارعا، مدروسا بعناية، لكي يكون صاحبها ضحية دائمة، ورهينة أبدية، خاضعة طوعا لسيطرة الجهاز القمعي أينما حلّ أو ارتحل. أما أخطر ما في هذا النهج فهو قدرته على الاستمرار مهما تقلبت الأحوال وتبدلت الوجوه والسياسات. فهو كما أسلفنا أبدي الوجود، وأزلي الفعالية الداخلية، ذاتي التشغيل، لا يحتاج الى معاونة خارجية، يقوم بتفعيل ذاته بذاته، بما يحمله داخليا من طاقة احتراق جاهزة للتشغيل، تتمثل في موت الضمير الدائم، والاستعداد العدواني لنهش الآخر وتدميره. وكل تلك المواهب محض خصال عصابية في جوهرها، تبدو للبعض، تجاوزا أو جهلا، كأنها شطحات فنية وثقافية جريئة ومارقة. إن هذا النمط من الشخصيات، بطبيعته القائمة على التخطيط التخيلي القبلي، واصطياد الأفكار وإعادة صياغتها، يمنح صاحبها موهبة عالية في التلصص والترويج والتسويق، مما يجعلها أقرب الى مسامع الجمهور، وأقرب الى أفهامهم أيضا، وأكثر الأصوات حضورا في فضاء التلقي. من أبرز مخاطر هذا الفريق أنه لا يُعاقب على سلوكه اللاإنساني، واللاأخلاقي، بل يخصص له في الغالب موقع ما حتى في حال تغيير السيد القديم ومجيء سيد جديد، يخالفه شكلا، لكنه يتفق معه جوهرا. وفي ظروف نادرة جدا تتم إدانته مؤقتا، بطريقة ملطـّفة، حينما يُكتفى بأن يـُنعت بـ "عدم القيمة" و "اللاأهمية" و ربما بـ "السطحية"، أو حتى "التفاهة". وهنا تكمن خطورة هذا الفريق، الذي سرعان ما نجده في طليعة المكرمين، بل في مقدمة الفائزين. وتلك واحدة من طاقات هذا التيار العضوية، التي تمده بالديمومة والتأثير، والسيطرة، وخلق جماعات الأتباع الواعية وغير الواعية، وفرض صوته على مساحة فسيحة من الواقع الثقافي والمواقع الثقافية.
مثلما توجد مناطق خفية في النص، ومناطق مجهولة في حياة الروائي والشاعر والمبدع عامة، توجد مناطق خفية في ضمير ووعي من يستكشفون مناطق الآخرين الخفية. تتسع مساحة المناطق الخفية بالتناسب العكسي مع قوانين الحرية، ومقدار الإيمان بها والإخلاص لها. تتسع كلما ضاقت آفاق الحرية، وتتضاءل باتساع مساحة الحرية التي يعيشها الكاتب والمجتمع. ففي مقابلة من هذا الضرب الرقابي قام بها الشاعرعدنان الصائغ في مجلة (حراس الوطن) مع الشاعر رشدي العامل - مناضل، شيوعي، في وضع صحي متدهور بسبب مرض جسدي- استقصى في بعض أسئلتها " فترات من الصمت مرت في حياة رشدي العامل"، طالبا من الشاعر الإفصاح عن منطقة صمته:"هل تستطيع أن تسلط لنا ضوءا ولو خفيفا على تلك المرحلة؟". (نظرا لأننا نحلل لغة الصمت، يتوجب أن نسجل هنا أول ملاحظة رقابية، تتعلق بالطبيعة الاحترافية، القائمة على الاستبطان العدواني في عبارة "ولو قليلا!!". لأن المحاور يدرك تماما أن أقل من القليل، ربما كلمة واحدة حسب، كافية لتحقيق الغرض: الابتزاز الوجودي) (1). كان جواب العامل، مشابها تماما لجواب التكرلي عند سؤاله عن أسرار روايته (الرجع البعيد): إنكار تام لوجود "منطقة صمت" معدة للنبش الرقابي. قال العامل: " ليست هناك فترات من الصمت مرت عليّ أبدا". كان العامل كاذبا كذبا صريحا، كما لو أنه قال: نعم، لم أصمت حسب، بل غرقت في الصمت تماما. فقد أرغمته صدمة انتهاء التحالف مع البعث، وقيام الحرب، ومرضه، ومطاردة السلطة لقواعد الحزب الشيوعي على الإنكفاء، وبات في وضع يشبه العجز الشعوري، أفضى الى صمته المؤقت.
هذا ما أسميناه قواعد ومهارات الهجوم والدفاع وفق قانون حق البقاء، وقوانين الاصطفاء النوعي الوراثي، التي تخلقها الذات لنفسها في ظل حياة مليئة بالمخاطر والفخاخ والعدوانية. بهذه الطريقة تحمي الذات كيانها المهدد، وتحصّن - كما تظن- نفسها في مواجهة عدو شرير يسعى لإقلاق أمانها الشخصي، وتدمير وجودها الفردي، بعد أن سمم النظام المناخ النفسي للمجتمع عامة، وأجهز على قواه الحيّة.
حازت هذه المقابلة الذكية على الجائزة الأولى في مسابقة نقابة الصحفيين العراقيين عام 1988. كل شيء له ثمنه في مملكة الصمت!
هذه الحوارات الاستقصائية، حوارات نجم عبدالله كاظم مع التكرلي أو مع عبدالرحمن مجيد الربيعي، ومناقشات محسن الموسوي لجمعة اللامي، وحوارات عدنان الصائغ، لا تختلف عن حوار المعلم حميد سعيد مع يوسف الصائغ عقب إشهار الأخير قصيدة حبه الفاشل. هذه النماذج، لمحات خاصة "خفية" من آليات الهجوم والدفاع، التي تتدرب عليها الذات البشرية، ويمارسها طرفا معادلة العنف: الضحية والجلاد. ففي وسط ثقافي مشحون بالقسوة المفرطة والضغينة والدسائس، يتبادل الضحايا والجلادون الأدوار. إن العنف النفسي، وما يتطلبه من مهارات خاصة وخطط طويلة وقصيرة الأمد، يتعلمها الفرد كجزء من غريزة حب البقاء، أكثر خطورة، وأعمق أثرا، من مظاهر العنف الجسدي والحسي، وأدعى الى صناعة مرض الإدمان الرقابي. وهو مرض تظل فريسته تحمل جرثومته المعدية، حتى في حال غياب مسببات المرض المباشرة.
فإذا غضضنا الطرف عن مقدار انحياز الناقد للسلطة القمعية الحاكمة، وحجم دفاعه عن حروبها الكارثية، وعن نهجها الإقصائي وعدائها للمختلفين، واعتبرنا ذلك جزءا من وجهة نظر سياسية أو حزبية خاطئة وجائرة وقسرية أو إرغامية، فإن بحث الفعالية النفسية للناقد باعتباره متفحصا لعقل وأداء وطرائق تعبير الآخرين، تحيلنا الى ما هو أكثر قسوة وعدوانية من مجرد نهج سياسي وإيمان حزبي بمعتقد، والى ما هو أكثر بشاعة من الناحية السلوكية. فالنقد لدى بعض كتاب "الواقعية القومية" يبحث في مواقع الآخرين الخفية، التي يرى أنها مرّت على الرقيب الرسمي، ولم يتمكن من رصدها. إنه صياد الطرائد الهاربة من الموت! يلعب الدور نفسه، الذي تلعبه فرق الإعدام الخاصة، التي تقف خلف القطعات العسكرية المحاربة، لاصطياد الجنود الهاربين والمتخاذلين أو المنكسرين والخائفين. الرقيب الايديولوجي يصحح بوصلة الرقيب الحكومي. التنافس هنا، في مجال الفعالية النفسية والسلوكية، لا يتعلق باختلاف المهارات والمسؤوليات في مجال تفحص المادة المنقودة، بل يتعلق بدرجة أساسية وجوهرية بسبل وطرائق عمل الذات الناقدة بصورة تخصصية، وأشكال صلتها بالعالم المحيط. أي يتعلق بالدوافع العصبية، المكونة والمحركة للنشاط النفسي. إن استنفار الدوافع العدوانية الى حدها الأقصى هو الركيزة الأساسية لعمل الناقد الايديولوجي. فهو يتجاوز حدود التلصص والتصيّد، الى ما هو أبعد، الى الإيذاء الممنهج، العلني والمباشر والمتخصص، من طريق الحض على إقلاق أمان الآخر، وتوجيه اللوم، وصولا الى اصطياد الخصوم. أي أن الفعل النقدي هنا يتجاوزحدود وجود صمت يتوجب توضحيه وإشهاره في شخصية (رشدي العامل)، أو وجود نقص في المحتوى "الثوري" يجب أن يُستكمل في رواية (الأيام الطويلة)، أو وجود استطالة لا تتوافق مع نقاوة الحزب في رواية (الرجع البعيد) لفؤاد التكرلي، أو وجود أمور مقصودة لذاتها أو غير مقصودة لذاتها في (الرجع البعيد) أيضا (2)، أو وجود انحراف في "تمثل" الشخصية "الثورية" في رواية عبد الرحمن مجيد الربيعي ( الأنهار)، أو حتى وجود انحرافات في سلوك الحيوانات (نسر حميد سعيد في كتابه أوراق الحرب)، أو في سوء سلوك القنابل (جواد الحطاب)، أو سوء مزاج الصواريخ (حميد سعيد) (3). إن شحذ الفعالية العدوانية في رصد الآخر تصل أحيانا حدودا تفوق الخيال، حينما يتماهى السلوك النفسي للناقد تماهيا مطلقا مع سلوك السلطة الاستعبادي، فلا يكتفي بمصادرة حرية الكاتب في التعبير، بل يذهب الى حد مصادرة ما لم يتم التفكير فيه بعد. ففي قوانين العبودية الثقافية يفضي استعباد الحاضر الى استعباد المستقبل. في نصوص أدب الحرب النقدية، نجد من يضع شروطا في هيئة نصائح نقدية على ما لم يكتب بعد، كما جاء في مقالة " أدب الحرب ... ما كتب وما سيكتب" للناقد نجم عبدالله كاظم ، الذي سنخصه ببحث واف منفصل، باعتباره أحد نماذج تيار "الواقعية القومية" النقدي!! لقد أشرت في كتابي "ثقافة العنف في العراق" الى أن هذه الظاهرة أخذت تبرز بقوة بسبب الطبيعة السطحية لأدب الحرب. فرغما عن طول الحرب - الحروب- لم ينتج مطبخ السلطة نصا واحدا يستحق الاحترام فنيا أو فكريا. هذا الإخفاق الثقافي شجع "القائد" على امتشاق قلمه والشروع في كتابة الرواية النموذجية، المنتظرة، التي تطابق الشروط النقدية لمنهج "الواقعية القومية". لقد كتب صدام رواياته تحت مشاعر النقص في أدب الواقعية القومية، وتحت تحريض حراس هذا التيار.
إن ممالك الخوف والاستبداد لا يصنعها قائد فرد، مهما كانت موهبته وجبروته، بل يصنعها تضافر الإرادات الضعيفة، والمريضة، والشريرة، التي تمتهن حرفة تقديس مواهب المستبد وأفعاله.
فالمستبد مهما كان باغيا، لا يستطيع أن يرسي قواعد طغيانه على جثث الضحايا من دون أن يجد عونا من رجال مستكبرين، قساة، يجعلون من أنفسهم سوطا بيد الجلاد الأكبر، أو من صغار مذعورين، يخافون حتى من ظلالهم، أمثال حمزة مصطفى، الذي يرى في المستبد "رسالة المستقبل" و"الفرادة والاستثناء" على سبيل المثال لا الحصر، ومن دون معاونة غازي العبادي، الذي يجعل من "حروب صدام قدر الأمة العربية"، ومن دون إسهام محمد الجزائري، الذي يجعل من المستبد "قائد المنازلة قائد الحياة" ومن "الصمت ما يقتل أيضا"، ومن الحرب "خطابا مستقبليا"، ومن دون توصيف طراد الكبيس، الذي يرى في الطاغية "مهندس الثورة وقائد خطواتها نحو الانجازات والانتصارات"، ومن دون إيمان باسم عبد الحميد حمودي بالمستبد باعتباره "رجل التاريخ والمبادئ"، ومن دون أن تسمو به عالية طالب (الجبوري!) فتصيّر حياته " منهل عظيم للابداع"، ومن دون أن يصنع علي حسن فواز من حقبته الدموية "ثورة التنمية الثقافية القومية"، ومن دون ان يتواضع به فلاح المشعل فيرى فيه " حلم الفقراء"، ومن دون أن يبالغ فاروق سلوم بمدحه فيحيل وجهه "غبشا"، و"قمر العراق"، و"سيد الناس"! ولا تكتمل صورة الطاغية من دون أن يختتمها فاتح عبد السلام باكتشاف "العناصر العملية في الفكر العسكري لصدام حسين".
من يصنع من؟ إن صناعة الطغيان مسؤولية مشتركة، أما صناعة ثقافة الطغيان فهي جزء من مهارات المثقف الأخضع وحده، المثقف الذي يستمرئ الذل ويجعل منه أسلوب حياة، وسلوكا شخصيا، ينذر نفسه لتدريب المجتمع على تقبله وممارسته.
وكما أسلفنا، ربما تكمن أخطر أشكال مرض التطامن النفسي والروحي في زمن الطغيان في ظهور نزعة الناقد الصياد، الذي لا يكتفي بالمديح الفج، السافر، بل يذهب بعيدا في مهماته الرقابية، الى احتراف الحفر في خفايا الآخرين، ولا سيما المواقع التي لا تتمكن أجهزة القمع السلطوية الرسمية من وضع اليد عليها بيسر. إن ظهور المُخبر الثقافي التخصصي درجة عالية من درجات الإيغال في العنف النفسي والأخلاقي، تجسد تعمّق مشاعر كره الإنسان للإنسان، والاندماج الشعوري التام في نزعة الإيذاء الشامل، مارسها صناع الوشاية السياسية في ثوبها الثقافي والفني. هؤلاء هم حماة المملكة الثقافية الأنقياء والأوفياء، الذين ينقلون المعارك الدموية من الخارج، من الجبهات والسواتر، الى أعماق النفس البشرية. لهذا السبب قام بعض المتورطين في هذا الفن بتحوير أسمائهم أو حتى تواريخهم، بغية التخلص من الأدلة غير المستحبة التي تربطهم بثقافة الاستبداد والعنف، وقد اعتبر هذا البعض أن تحوير الأسماء أو الخطاب أو تغيير مشتري الخطاب، أو تدمير الوثائق، سبب كاف ومقنع، في الظروف العراقية، لتحقيق مبدأ التغيير والنقد الذاتي. وهذه الظاهرة تعكس سوء فهم مُركـّب لدى هؤلاء وغيرهم فيما يتعلق بالمراجعة الثقافية التاريخية. يقابل هذا الإجراء الدفاعي إجراء مضاد، يتمثل بفضح مظاهر صناعة الثقافة الاستبدادية من طريق التوقف عند الأسماء والأحداث، من دون المضي أبعد من ذلك. وكلا الاتجاهين يفرّغان المراجعة من مضمونها باعتبارها نقدا للذات، يتحتم أن يقود الى نقد التاريخ. فأي نقد للذات لا يتم عبر وسائط مجتمعية تفاعلية مشتركة يظل نقدا فرديا معزولا وخاطئا، ليس بسبب كونه غير قادر على إنتاج إدراك جماعي عميق للمشكلات وطرق حلها حسب، بل لأنه يفضي أيضا، في أحوال كثيرة، الى وقوع المُراجع الصادق في العزلة والتكبيت والانكسار الروحي والعداء المضاعف، حينما يرى المصانعين يتسلقون علنا جدران أعلى المؤسسات الثقافية بيسر تام، بينما يغرق هو في تعنيف الذات العبثي. وقد عكس القاص عبدالستار ناصر هذا الشعور المحزن في مراجعاته الذاتية الفريدة والنادرة، على الرغم من تعدد تأويلاتها وأسبابها. إن المبدأ الجوهري للمراجعة الذاتية يقوم على قاعدة محددة، هي التصالح مع الذات أولا، باعتبارها خطوة حتمية تقود الى التصالح مع المجتمع. بيد أن هذه الخطوة المشروطة لا تتم إلا بوعي الذات، وبإدراك طبيعة الدور الذي لعبته في ظاهرة صناعة ثقافة الاستبداد، سواء أكان دورا صغيرا أم كبيرا. حينما تنسى الذات مساهمتها في صناعة ثقافة الاستبداد والعنف، تلجأ حتما، وبأسرع مما يظن المرء، الى الوقوع في ورطة صناعة مستبد ثقافي جديد، وعبادة طوطم قهري جديد. ولعل أخطر ما تواجهه المراجعة الثقافية في مجال النقد الذاتي هو تحقير الذات التبريري. وهي عقدة ذنب تتصف بـالميل الى "المسكنة" في ظاهرها، تستخدم الضعف وسيلة لتحقيق القوة، واصطناع الفضيلة وسيلة للتستر على الشر. لكنها في جوهرها تعبير عن أحاسيس مركبّة من مشاعر الإذلال والكره والاحتيال والانتقام، تستند الى قدر عال من جرعات تخدير الضمير وتنويم العناصر الحية في الذات. في مراحل الطغيان الطويلة يكون المُستذَل أمهر من يمارس معاقبة الخائفين، وأمهر من يعرف مواطن قهرهم، وأفضل من ينتخب وسائل تدمير مراكز الثقة في دواخلهم. لذلك يستثمر هذا الفريق طبيعته المستذَلة، عند انتهاء حقبة القمع، ويعود للظهور بمظهر المستضعف، أو المستذل الضحية. ولهذه الظاهرة فوائد نفسية واجتماعية تعود بالنفع على الشخصية العدوانية. تبرز هذه الظاهرة حينما يتم تصغير أو تتفيه حجم ونوع وكمية الإسهام في صناعة العنف، من أجل تبرئة الذات، والمواصلة في سلوك المصانعة من دون الالتفات الى الوراء. هؤلاء، رغما عن جمود وضمور مشاعرهم، وإصرارهم على إظهار مقدرتهم على رفض النظر الخلف، بدعوى أنهم ألقوا الماضي كله خلف ظهورهم، إلا أنهم أكثر من سواهم انشدادا طوعا أو كرها، بالتبعية أو الخوف أو التستر أو المنفعة، لسلطة الماضي وما تحمله من كوابيس وبشاعات وحض على إعادة تكرار الأفعال الخاطئة. إن الادعاء الشائع القائل إن ثقافة الاستبداد والعنف قائمة على المصانعة، وتاليا فإنها ثقافة زائلة وزائفة وغيرحقيقية، وأن مجترحها يعي حجم خطلها وخللها وكذبها من طريق ممارسته لها، أمر أشد خطورة من الايمان الحقيقي بهذا الخلل والخطل والكذب. لأن الذات المصانعة تقوم بتحويل المصانعة من وسيلة للتغلب على كوابح معايشة كريهة الى مبدإ للتفكير ومنهج للسلوك. أي تصبح المصانعة آلية ضاغطة، قسرية، تمارسها الذات في مواجهة الآخر. إن ظاهرة توارث فن المصانعة، حيث المصانعة تقود الى المصانعات، تعني أن نقد المصانعة فعل متكلف أيضا، وجزء من عادة المصانعة التي تربى عليها المصانع وألفها حتى غدت طريقة راسخة للتفكير والفعل. وهذا يعني أن الاعتراف بتكلف الولاء للمستبد جزء من آليات الكذب على الذات وتضليل المجتمع، وليس نقدا للذات بهدف تطهيرها أو تغييرها نحو الأفضل. إن نقد الذات عملية أكثر عمقا من مجرد تبرير الخطأ، أو اكتشاف ذريعة تبيح وتجيز ارتكابه والاستمرار في فعله. إنها الوقوف الصادق أمام مرآة الحقيقة ومواجهة المجتمع والحياة عامة على أساس واحد: الاخلاص للحقيقة، باعتباره ضمان أمن الذات الداخلي، وضمان حرية الإرادة، التي تشكل الأساس الفردي والعياني لأمن وحرية الجماعة البشرية التي نحيا في كنفها.
ولكن، حتى في صفوف الكتاب المعارضين للعنف والاستبداد نجد من يخطئ في تقدير حجم وطبيعة الأخطار التي يخلفها الطغيان السياسي في نفوس الأفراد والجماعات. فالأضرار لا تقتصر على الايذاء الجسدي والمادي وما يلازمهما من آلام ومعاناة وفقد، ولا تتوقف عند التأثير النفسي وما يخلفه من أمراض مستعصية، طويلة الأمد، بل يتعداها الى ما هو أكثر خفاء، الى منظومة القيم الاخلاقية للفرد والمجتمع. وهنا يخطئ كثيرون ممن يعتقدون أن سقوط نظام استبدادي ما يقود بصورة شرطية الى تغيير جذري في منظومة القيم، ينتقل فيها البخيل الى الكرم، والمتزمت الى التسامح، والكاره الى محب. إن مثل هذه التقاطبات المتناقضة لا تحدث في ذات الإنسان بسهولة ويسر، ولا تحدث البتة في ظل الحقب السياسية المضطربة والغامضة الأبعاد والاتجاهات. ففي منظومة القيم، ربما يحدث ما هو غير متوقع، وما هو خارج حسابات المنطق البشري السليم. ومن الأمثلة التي أوردتها سابقا ما عرف في الغرب بالتعري الروسي، "الستربتيز الروسي". وهو تعبير ساخر أطلق على نشاط قام به أحد الروس بعد سقوط الاتحاد السوفيتي، واشتهر في الغرب لشذوذه الأخلاقي والمهني وخطورته العالمية. فقد قام الرجل بتأسيس شركة "فنية"، متخصصة بتدريب الفتيات الروسيات على مهارات الإغراء وفنون الدعارة، وتصديرهن الى بلدان العالم. يتم اصطياد الفتيات من البيئات الريفية المعزولة، ومن التجمعات السكانية الدنيا، أو من الفتيات المغامرات واليائسات. بيد أن أغرب ما في مشروع التعري الروسي هو أن مؤسسه عمل في جهاز الرقابة الحزبية. ووفق روايته يقول إن فكرته التجارية ولدت أثناء جلوسه في غرفة الرقابة على الممنوعات. هذه الحادثة قابلها في بولندا، بعد سقوط النظام الشيوعي، تحول مسؤول دائرة الإعلام والدعاية في منظمة الحزب في شمال بولندا الى أكبر ناشر للمجلات الإباحية! إن القيم الأخلاقية لا تتطور من طريق الانتقال التقاطبي من قيمة الى نقيضها، بل تجري عمليات تطورها وفق تعقيدات كبيرة تفرضها طبيعة الفرد والظروف الجديدة المحيطة به. فالفرد يبحث عن تغييرات من طريق التلاؤم بين دوافعه الشخصية وبين ممكنات الواقع المحيط به. إن الإدمان على الرقابة، والتلصص على الآخرين باسم القيم العليا، والوشاية، والتربص شرا بالآخر، وفقدان الثقة بالآخر، وطأطأ الرأس لمن هو أقوى، وفقدان الإرادة الحرة، لا تتحول الى نقيضها، ولا تكف عن العمل، أو تزول من تلقاء ذاتها. بل على العكس تنشط بقوة من أجل الحصول على فرص جديدة لإعادة تظهير نفسها، وإعادة تشغيل الفعالية النفسية والأخلاقية الكامنة فيها، كجزء من قانون البقاء، ولكن بثوب جديد وأشكال جديدة، مُحسّنة.
الرقابة من الفعل الى النص
هل ترك الهوس الرقابي الحزبي أثره على النص الأدبي والثقافي، أم أنه ظل حبيس الذات، نلمسه من طريق التعامل الشخصي مع حامل هذه الأمراض؟
إن دراسة النص الأدبي لحقبة الاستبداد تبين على نحو جلي وساطع أن هذا السلوك وتلك القيم كانت القاعدة العقلية والأخلاقية التي طبعت النصوص بطابعها. إن استعراض بعض منجزات ما يعرف بتيار "الواقعية القومية" من خلال بعض رموزها، يكشف لنا أن تقاليد الكتابة ومنظورات المعالجة كانت تتم بمنهاجية دقيقة، تجمع بين السلوك الشخصي للإفراد وبين نهج النظام السياسي في وحدة مترابطة بنيويا، لا نستطيع فصل أحدها عن الآخر.
وإذا كان عزيز السيد جاسم يمثل ويتزعم نظريا، لفترة محددة، تيار ما عرف بـ "الواقعية الاشتراكية القومية"، الذي هو مزيج غير مطبوخ جيدا من ستالينية مبتذلة، ونهج شوفيني سلطوي، ودعاية رومانسية لفظية، فإن حميد سعيد يمثل جانبه الحسي والتنفيذي والإجرائي بتبنيه وإعلائه نظرية التربية الواقعية القومية، المسماة "المسألة القندرية"، بكل ما تحويه من زيف القوة، وزهو التخويف، وجرح الكرامة، وضحالة العقل السياسي. وهنا، في هذا المثال، نجد أن التمايز البعثي ضروري تاريخيا عند دراسة الشخصيات الثقافية. فعزيز السيد جاسم كان قريبا - من الناحية الشخصية، وليس من الناحية السلطوية، التي كانت تتصل بطارق عزيز وصدام- من عبد الخالق السامرائي، بكل ما حمله الأخير من أمل - صادق أو موهوم - لتجاوز أحقاد الماضي والتوجه نحو لون من الاشتراكية الرومانسية. أما التخريج الدعائي الذي أورده محسن جاسم الموسوي لأخيه، بعد حقبة البعث، والقائل بأن عزيز "يجمع التصوف بالماركسية" فهو افتراء محض. لأن "ماركسية" عزيز لم تكن سوى ابتذال ستاليني مطعّم بشوفينية قومية خالصة، وهي الطابع المميز لفكر وسلوك حزب البعث العراقي عامة. أمّا حميد سعيد فقد نما شخصه في سلم العمل الحزبي في كنف سفاح البعث التاريخي ناظم كزار، حيث عمل الى جواره وتتلمذ على يديه. إن اختيار حميد سعيد الوسيلة المثلى: "القندرة" للتحاور مع المثقف العربي، لم يكن سهوا لفظيا من شاعر، أو سوء فهم واجتزاء، كما يُشيع الآن الكتاب الرقابيون، بل كان فعلا نابعا من تقاليد ثقافية وحزبية مجربة ومعروفة، تعبر عن محتوى هذه الشريحة، التي تحل الحط من كرامة الإنسان بديلا من الإقناع، وتحل أشنع الوسائل التحقيرية، السوقية، محل العقل والاختلاف. ولم يكن الموقف اللاأخلاقي -الفعل- وحده هو ما يثير مشاعر الاشمئزاز في هذه الحادثة، بل كان توثيق وإشهار وتسجيل الفعل باسمه الشخصي، كبراءة إختراع، هو الأكثر إثارة للعجب من الناحية السلوكية والنفسية. ولم يكن ذلك موقف حميد سعيد وحده، فقد وقف الموقف ذاته من "المثقفين العرب"، الذين رفضوا تأييد حروب صدام، كتاب كثيرون منهم محسن الموسوي وباسم عبد الحميد وسليم السامرائي وماجد السامرائي، ولكن بعبارات أقل سوقية. ومن باب الإخلاص للمثل الرقابية، بعد سلسلة الكوارث التي لحقت بالمجتمع، لم يزل تيار "الواقعية القومية"، حتى هذه اللحظة، يتحمس بإخلاص الى مثل هذه الأفكار والمواقف، وينصّب نفسه محاميا للدفاع عنها (4). فلم تزل هذه الأفكار الشريرة والمتخلفة تمارس من قبل بقايا النظام السابق، وفي أحوال كثيرة باسم النظام الجديد، أو باسم بعض عناصره المتنفذة. وهذا يعني أن "المسألة القندرية" ليست طرفة لا أخلاقية حسب، يتم ترديدها للذكرى أو للدعابة والمناكدة، وليست حدثا عابرا يستخدمه المتخاصمون للابتزاز الشخصي، بل هي نهج ثقافي، يمثل جوهر النظام السياسي وعلامته السلوكية المميزة. لقد أوردت هذا الحادثة في كتابي "ثقافة العنف"، لهذا السبب حصريا. بيد أن بعض القمامين راح يعيد تكرارها على أنها طرفة ثقافية، أو سابقة مسليّة، ولم تكن كذلك على الإطلاق. وهذا الأمر يحتم قيام مراجعة ثقافية شاملة، لا تعني بتغيير الهويات، بل تعنى بالبحث في أعماق النظام السياسي وما خلفه من موروثات عدوانية ووبائية كامنة في نفوس الآخرين، وبأشكال تجلياتها المتنوعة في عقول القوى المختلفة. (5 )
لم يزل تراث العنف بأمراضه النفسية والسلوكية حاضرا في وعي مثقفي وكتاب الحقبة السابقة. لم يزل هذا الإرث حيا، يفعل فعله في العقل وفي النشاط اليومي وتحت جدران الوعي واللاوعي. ولم يتوقف تأثير هذا التيار على الداخل، فقد أظهر هذا الاتجاه وحدة تعبوية منظمة، أبعد ما تكون عن العفوية، للسيطرة على مساحات من الواقع الثقافي العراقي في المغتربات والمنافي. ولا يقتصر الأمر على تمجيد المستبد من قبل أدباء معروفين كعبدالرزاق عبد الواحد وعبد الرحمن مجيد الربيعي، بل يذهب آخرون الى تمجيد رموز ثقافية لا تملك رصيدا فنيا حقيقيا، بقدر ما تملك شهرة سلطوية، كحميد سعيد، الذي لم يزل محطة رمزية للتمجيد والتقديس من قبل كثيرين (جواد الحطاب، أمجد محمد سعيد وغيرهما كثير) ولا يتوقف الأمر على تمجيده كرمز سياسي وفني، بل يذهب بعضهم الى الدفاع عن أحط أفعاله السياسية والثقافية والسلوكية، كما فعل نجم عبدالله كاظم في دفاعه عن موضوع "المسألة القندرية"، حينما وجد أن فضح السلوك اللاإنساني للنظام الديكتاتوري "اجتزاء" و "عدوانية"!! (6) لأن المساس بحرمة الطغيان المقدس، وبإهانة البشر، ضرب من "العدوانية" والكفر، في نظر هذا الفريق.
لم يتورع بعض بقايا الشيوعيين، ممن عملوا في خدمة الاحتلال، كابراهيم أحمد، عن الدفاع عن رموز أقل شأنا كفاتح عبد السلام، بحجة الدفاع عن المقاومة الداخلية الخفية (!!)، القابعة في قلب النظام الديكتاتور!؟ ويأتي تمجيد عزيز السيد جاسم من قبل كثيرين، من دون نقد أو تحليل، ضمن هذا التوجه الثقافي أيضا، أي ضمن ظاهرة إعادة إنتاج قيم العنف والطغيان. وقد وصل الأمر ببعض المواقع الطائفية، التابعة للقوى الحاكمة الجديدة، أن قامت بتمجيد المجرم الشهير ناظم كزار، تحت ذرائع طائفية ملفقة. إن الأهداف الثقافية الشريرة تجد دائما مشتركات تجمع بين أطرافها المتناقضة ظاهريا، أو المتصارعة وقتيا.
إن ضعف الجانب المهني والثقافي للقوى الحاكمة الآن، وقلة احترامها لدور وأهمية الثقافة، وعدم وجود فارق نوعي حقيقي بين ثقافة النظام الديكتاتوري وثقافة القوى الطائفية والعرقية والمناطقية قلص الفجوة بين السلطة وتيار تمجيد الحروب والديكتاتورية، ثم ما لبث أن تحول الى أفضلية مهنية وثقافية، في ظل تصاعد مناخ الاحتراب الداخلي وطنيا والتمزق السياسي العنيف قوميا. فلم يعد الدفاع عن الفكر والممارسة الثقافية العدوانية في عهد الطغيان مثلبة، على العكس تحول جل هؤلاء الى ضحايا، ثم ما لبثوا أن احتلوا مواقع لم يكن جلهم يحلم بها في زمن الديكتاتورية.
ففي البيئات المضطربة والمتخلفة يفقد المجتمع أجهزة الرقابة على العقل والمنطق العام، ويصبح السلوك الفردي اجتهادا خاصا، يشبه الألهيات السوقية، يستمتع به أفراد مغشوشون يجيدون لعبة صناعة عالم بديل، مسرحي، يلغي ضرورات الواقع ويحل محلها صراعا عقليا وفكريا مخلوقا بقوة انحطاط الواقع وبمعاونة وسط اجتماعي مؤهل نفسيا وعاطفيا لتقبل وتداول المنافع المغشوشة. سنوات الحرب الطويلة، ومعايشة الاستبداد، وضياع أفق القوى البديلة، أفقد المجتمع عامة المقدرة على إعادة تقويم نفسه، وأطلق طاقات البعض الحرة في إظهار مواهب تجاهل الحقيقة التاريخية القاضية بضرورة تحقيق المراجعة النقدية، باعتبارها خطوة تأسيسية أولى في سلم إعادة ترتيب الذات الفردية والذات الاجتماعية الكبيرة.
من الظواهر الجديدة التي برزت في نهاية سنوات حكم النظام الاستبدادي ومرحلة الإعداد لغزو العراق، قوائم الأسماء المؤيدة والمعارضة. وقد استخدمت أجهزة السلطة القمعية تلك القوائم بطريقتها الماهرة الاحترافية لتحقيق أهداف مزدوجة، واستخدمتها أيضا القوى الموعودة بحصة في الحكم الجديد، سواء أكانت قوى عميلة عمالة مباشرة للأميركان، أو قوى يسارية وأخرى طائفية وعرقية. وفي كتابي (من يصنع الديكتاتور) أشرت الى أن هذه اللعبة التي يمارسها الجميع ضد الجميع، في ظل مناخ الغفلة التاريخية واليأس الجماعي، التي يعيشها المجتمع، سلاح ذو حدين، هدفه النهائي الإيغال في تدمير الذات الوطنية، وتمزيق الوحدة الاجتماعية وقواعد المنطق والعقل. ففي حقبة النظام الدكتاتوري نشبت سجالات ونزاعات ثقافية عديدة، غذاها مناخ ما عرف آنذاك بمعركة الداخل والخارج. أحد هذه النزاعات التي شهدتها صحيفة "الزمان" نشب بين عاملين في الوسط الثقافي المسرحي، هما فاضل سوداني وأروك علي. بدأ الخلاف نظريا خالصا حول مفهوم بـ"البعد الرابع " في المسرح، ثم انزلق الى السياسة حينما لجأ ثانيهما الى قوائم صدام لإثبات أفضلياته الثقافية على غريمه فاضل سوداني:"أسألك هل ورد اسمك كباحث أو كمثقف أو كمعني في أمر من أمور الثقافة العراقية أو العربية في هذه القائمة؟" (الزمان – 6 شباط 2001- العدد 840) ورد هذا السؤال تحت عنوان "صور من الخراب الثقافي بصوت عال"، وكان بحق يمثل ذروة تصاعد حدة الخراب في الثقافة والروح الوطنية العراقية. وهنا، لا نريد أن نقف مع أي من الطرفين، لأن سجالهما كان مشروعا وصائبا كمناقشة ثقافية تتعلق بعائدية نصوص وكتابات تتطلب التوضيح، وربما الجدل الحاد أيضا. بيد أن ما يهمنا هنا هو أن أحد الطرفين لجأ الى وثيقة يراد بها النيل منه شخصيا، استخدمها كدليل اثبات للنيل من خصم لا ينافسه على الإطلاق في حقوقه الشخصية والاجتماعية والمهنية أو السياسية. هذا المثال يعني أن المراجعة الثقافية ضرورة تاريخية حتمية لمجتمع عاش سنوات الحرب والاستعباد الطويلة، وأن غيابها يقود المجتمع الى البحث عن طرق غير سوية لتسوية خلافاته واحتقاناته وحتى مشكلاته الشخصية والعامة، بما فيها خلافاته الفنية.
في ظل هذا المناخ تطورت آليات البحث عن بدائل للنقد الذاتي وللمراجعة الثقافية، واستعاض عنها الجميع ببدائل مغشوشة، لكنها قابلة للتمرير اجتماعيا، بحكم شدة اضطراب مكونات الواقع والوعي، وتفكك الذات الوطنية، وغياب النقد. فبدلا من أن يقدم الأديب نقدا لتجربته الطويلة في خدمة مؤسسة الحرب نراه يستخدم قوائم السلطة، لكي يحولها بطريقته الحاذقة من قوائم تهديدية على الورق، الى مشهد حسي يتحدث عن فرق للإعدام تجول في شوارع أوروربا لاصطياده. ثم يتحول الخيال الى واقع حينما تهتبل صحف أجنيبة الحدث المثير فتحوله الى عنوان أمني من العيار الثقيل في مجتمع يبحث عن إثارة. ثم ما يلبث صيادو الفطائس، المتحاصصون، أن يؤسسوا تاريخا وسيرا شخصية على ضوء الحدث، موثقة بأقلام ومرجعيات أجنبية ومحلية مضللة أو مستهبلة. هذه السلسلة الطويلة من الغش السلوكي، ومن صناعة ضحايا وهميين، لا يلغي فرص قيام مراجعة ثقافية حسب، بل يؤسس الى قيام بديل فعال يلغي أية بارقة لقيام نقد أو مراجعة ثقافية. إن مثل هذه المهارات لا تتوفر للجميع، لكنها متوفرة لدى محترفي الحقب الاستبدادية بكثرة، ومتوفرة في مجتمعنا العراقي بكثرة مثيرة ومحيرة.
ومن الأمثلة الحية على هذا ما نشره موقع "شبكة العراق الثقافية" تحت عنوان
"قائمة بأسماء شخصيات عراقية تستعد فرق الموت لاغتيالها"، جاء فيه:
في ظل عمليات الاغتيال والاختطاف والاعتقال التي تمارسها فرق الموت
والمليشيات الصفوية أصدرت هذه المليشيات قائمة جديدة بأسماء عدد من
الشخصيات الثقافية والأدبية والسياسية والفكرية و العلمية والتي تعتبر
بالنسبة لها مشاريع للقتل لاتهامها لهذه الوجوه العراقية المثقفة بالارتباط
مع جهات خاصة ، وتاليا القائمة الكاملة التي صدر الامر باغتيالها، كما
حصلنا عليها من مصادر خاصة، اليكم القائمة و الله يحفظكم و يحفظ أمة محمد من هالمصايب"
وقد ذيل النداء باسماء أكثر من سبعمئة اسم اختلط فيها الحابل بالنابل، لأهداف واضحة، منها: أولا، تطويل حجم القائمة. ثانيا، تلويث عدد كبير من الأدباء والكتاب ممن لم يساهموا في أدب الحرب وثقافة العنف من طريق حشر اسمائهم مع كتاب النظام الديكتاتوري ونشطائه. ثالثا، استدرار العطف واظهار البعض بمظهر الضحايا والأبرياء. والقائمة، لمن تابع أمرها، لم تكن سرية الى حد يستوجب " الحصول عليها من مصادر خاصة"، لأنها حرفيا لا أكثر من القائمة المسماة بقائمة د. ساهر الهاشمي، المنشورة على مواقع الانترنيت كافة، تحت عناوين كثيرة منها "سباق المداحين أمام الطاغية" و"خراب العراق" وغيرها. بيد أن أغرب ما أظهرته تلك القوائم هو أن بعض الأسماء الواردة فيها استخدمت في زمن صدام "لفضح فرق الاعدام الصدامية التي تطارد المعارضين"، ثم ظهرت بعد سقوط صدام لفضح فرق الاعدام الصفوية، التي تطارد "الضحية" عينها. والأمر الثاني هو استثناء، لأسباب مجهولة، عدد كبير ممن اشتهروا بتمجيد سياسة القمع علنا، المعروفين بشدة تزلفهم للطاغية وحروبه. وقد فسر الأمر على أن الاستثناء السريع هذا جزء من سياسة ملء الفراغ العاجلة، التي لجأت اليها قوى المحاصصة الطائفية والعرقية في المجال الثقافي، موظفة مهارات هذه الاسماء لغرض التمجيد الدعائي للنظام الجديد. فبطرفة عين ينتقل مؤلف الى تأليف "سمفونية المقابر"، ويتسابق اليه المتحاصصون من اليسار الى أقصى اليمين، متناسين أهازيجه الثورية! ونظريته المساة: "صدام حسين... الاقتحام الأول"، التي تمجد سياسة المقابر والمحارق الجماعية. بهذه الطريقة البشعة ينتقل التاريخ العراقي من مقبرة الى مقبرة، مقابر للتمجيد ومقابر للنحيب، والممجد والمنتحب والبائع والمشتري واحد.
ولم تكن هذه القوائم مجرد لوائح بالأسماء، فقد تحولت فور صدورها الى مسلسلات من الوقائع الأرضية، التي تناقلتها أجهزة الإعلام، بما فيها الأجنبية، تتحدث، على لسان أبطالها، عن فرق للإعدام تتجول في الشوارع، باحثة عن هذا الاسم أو ذاك. وقد أوردنا ما نشرته الصحافة السويدية عن أخبار انتظار فرق الإعدام للشاعر عدنان الصائغ قرب منزله في مدينة مالمو السويدية! تحت عناوين مثيرة:" شاعر عراقي يرفض الخوف (لا يخشى) من فرق الإعدام"، و" مراقبة مشددة على عملاء النظام " من قبل الشرطة السرية السويدية "سيبو". (اريك ماغنسون- سيدسفنسكان – 25 ايلول 2000)، وأعيد تكرار الأمر بعد أعوام (سيدسفنسكان - 25 ايار 2002)، ثم تكرر مرات ومرات. استخدمت قوائم "الاسماء" من قبل طرفي المعادلة الثأرية، النظام وبعض أطراف المعارضة، كوسيلة للتخويف والابتزاز. لكنها سرعان ما انقلبت الى مسلسلات من الشائعات والأكاذيب راح البعض يروجها لتسويق نفسه، والتي أخذت بعد فترة وجيزة من الزمن تخرج من إطار الخبر والشائعة وحتى الحدث الملفق، وتغدو سيرة حياة نضالية موثقة. حينما صدر ديوان الشاعر عدنان الصائغ "تأبط منفى" عن "دار المنفى" لابراهيم أحمد، تضمن الديوان سيرة مقتضبة للشاعر، تؤرخ لحكم الإعدام الصادر بحقه على أنه حقيقة غير قابلة للطعن، موثقة بأمر قضائي!
عند هذه النقطة لم يعد الخبر يتعلق بقائمة أسماء. لقد أضحى سيرة شخصية بطولية وشهادة تاريخية، تلغي أي حديث عن أمر تافه اسمه مراجعة أو نقد ذاتي، أو صحوة ضمير، أو تصالح مع الذات، وغيرها من الترهات. هنا يتحول الاعدام الوهمي من خبر الى إشاعة عن فعل في طريقه الى التنفيذ، ثم الى أمر قضائي محقق. وهنا يظهر الاحتراف جليا في موضوع استخدام الصحف الأجنبية أو اللغة الأجنبية وسيلة لتمرير المغشوشات. لهذا وجدنا صدى فرق الاعدام الجوالة يظهر بعناوين عالية الإثارة بلغات أجنبية، وحتى السيرة الخاصة للشاعر عدنان الصائغ المزورة مثلا، التي جعلته هاربا بسبب حكم بالاعدام صادر بحقه، لم تظهر في النص العربي، بل حصرت بالنص السويدي. نحن هنا أمام تسويق ثقافي احترافي، تحت واجهة التحاصص السياسي. إن فقدان المراجعة الثقافية تيسر من عملية تلفيق وصناعة سير وتواريخ، بدلا من أن يتم تمحيص التاريخ والوقوف ضد جانبه المضلل والفاسد، لكي يتجنب المجتمع- ومعه الفرد - أخطار إعادة إنتاج الأخطاء التاريخية من جديد.
قد يبدو هذا السلوك في ظاهره فرديا، وربما بدا مهارة تسويقية شخصية جيدة وناجحة. وهذا صحيح الى حد ما. لكنه فعل جماعي منظم، يرتبط باسم هذا الفرد أو ذاك، لكنه يُجير لمصلحة قوى سياسية تتجاوز حدود الأفراد. إنه جهد استثنائي، فريد في مهاراته وأخيلته ونتائجه. وهو في عين الوقت مكابدة نفسية حقيقية مؤلمة نفسيا واجتماعيا لأصحابها ومعايشيها. إنه صراع عنيد، لكنه صراع ضد حركة الواقع الطبيعية، وضد ضرورات التغيير الثقافية، الاجتماعية والشخصية، الرامية الى إعادة الكرامة والارادة المسلوبة للانسان عامة، وللكاتب والفنان خاصة، وإعادة بناء الذات الوطنية على أسس المواطنة العادلة، والحرية في التفكير والتعبير. هذه الوقائع الحسية لا تعني سور أمر واحد: إن مقاومة النقد الذاتي الشرسة والعنيدة التي يبديها البعض، ومقاومة التغيير بشقيه الفردي والاجتماعي، والوقوف ضد المراجعة الذاتية والجماعية، قد تعود بالنفع لبعض المسوقين الثقافيين المحترفين، لكنها تغدو وبالا على الجمتمع عامة. إن أبرز اخطار مقاومة النقد الذاتي والمراجعة والمكاشفة لا تكمن في حرف النضال الرامي الى تطبيع الحياة، وإلهاء المجتمع بأمور لم تعد صالحة للحياة حسب، بل منح الآخرين، ممن عاشوا الحالة نفسها، جرعات موهومة من الأمل الزائف، أو تخويفهم من مخاطر الانجرار وراء "مكيدة" تنقية الذات والتخلص من تراكمات الماضي واضطراباته السلوكية والعقلية، ومن مشاعر القلق وفقدان الأمان الداخلي، وتراكم الكراهية ومشاعر الثأر والانتقام المكبوتة. فهذه "المكيدة" تهدف الى كشف المناطق الرخوة من الذات، تتيح للعدو - الحقيقة - سرعة افتراسهم. إن اللجوء الى التزوير، ببساطة شديدة، نضال عنيد وبديل أيضا، لكنه نضال يضع الوهم بديلا من النقد والمراجعة الذاتية والجماعية، نضال يتجاهل تماما حقيقة أن طريق الوصول الى الحقيقة أكثر استقامة من هذا الدرب الملتوي، وأكثر قصرا من هذه الدورات المعقدة من التسويق الشخصي والسياسي الأناني المفضوح. إن تكلفة الفرصة البديلة في تحقيق النقد الذاتي والمراجعة الطوعية أقل مشقة من هذا الكفاح الطويل المرير ضد الحقيقة، وضد عملية إعادة تطبيع الحياة وتخليص الذات من حمولاتها وموروثاتها الضارة والكابحة، الكابوسية.
صدرت هذه القائمة في تشرين الثاني من عام 2004، بعد ما يقرب من عام على احتلال العراق. لقد مضى عقد ونصف العقد على الاحتلال، ولم ير أحدٌ فرقَ الإعدام تتقدم صوب هؤلاء، بل على العكس تماما رأينا مؤسسات "دولة فرق الموت الصفوية!" ترعاهم، وتمنحهم ما لم يحلموا به في زمن الطاغية. رأينا كاتبا متواضعا، قام بكتابة تعليقات متواضعة، في نشرة متواضعة، في أفقر مدينة جنوبية، يصبح الرأس الأكبر للصحافة العراقية. رأينا مادحا بائسا في زمن الديكتاتورية يجلس في قمة هرم الاتحاد العام للأدباء في زمن سقوط الديكتاتورية. ورأينا هتّافين وممجدين سطحيين يتبوؤن أعلى المراكز في كبريات صحف "دولة المليشيات الصفوية!". ومنهم من انتقل من مجرد كاتب مجهول في فيلق الحرب الى متحكم بأمر أكبر المجلات الثقافية! ورأينا مقدم فواصل إخبارية صغير يتحول الى نجم إعلامي وثقافي كبير. رأينا أستاذا جامعيا واشيا، متملقا، يصبح أستاذا عابرا للقارات! بعضهم وصل الى ما هو أبعد وأعلى، في قائمة المكرمين. ما المنطق الذي يحكم هذه الظاهرة، ويحكم الواقع الثقافي العراقي؟ أين موقع الخلل؟ من يجرؤ على نقد هؤلاء؟ من منحهم القدرة على اختراق قوانين المنطق؟
أطراف عديدة أسهمت في صناعة هذه الواقع. لأن الفساد المادي والاقتصادي والاجتماعي له وجهه الروحي والأخلاقي والسلوكي ايضا.
لم تتوقف ظاهرة المؤازرة والتعاطف مع هذا التيار على مريدي النظام الديكتاتوري، بل تعدت ذلك الى شرائح متنوعة، أبرزهم نشطاء الاحتلال الأميركي من بقايا الشيوعيين، أمثال عزيز الحاج و إبراهيم أحمد، اللذين تفانيا في الدفاع عن هذا الفريق، في تسابق محموم من أجل التعجيل في كسب هذه الشريحة الى صف تيارهم. ووصل الاسفاف بثانيهما الى حد طمس محاولات النقد الذاتي الجريئة، التي قام بها بعض كتاب أدب الحرب، كمحاولة عبد الستار ناصر الرائدة في مجال فضح الطبيعة الارتزاقية للثقافة الديكتاتورية من دون أن يغفل نصيبه الشخصي فيها.
إن تحليل محتوى وآفاق النهج الثقافي لتيار سياسي معين، يتطلب البحث عن نقاط التقاطع والصدام وعناصر التوافق المحورية فيه. ففي هذا الجانب نعثر على توافقات وصدامات قد تبدو خالية من المنطق في ظاهرها، لكنها لا تفسر في نهاية المطاف إلا بطريقة واحدة: التوافق على تمجيد الخطأ والشر، والتوحد فيه وحوله. فعلى الرغم من أن شخصيتين مثل عزيز الحاج وإبراهيم أحمد، يشتركان عمليا مع قيادة الحزب الشيوعي في تأييد العمل مع حكومة الإحتلال، إلا أن الحزب الشيوعي وتاريخه - لا يشمل القيادة الحالية- خُص بنقد شديد وتجريحي من قبل الكاتبين. على الرغم من هذا التجريح القاسي إلا أن الكاتبين لبثا يحظيان بتقدير خاص، لا ينحصر في مأثرة تأييد الاحتلال فقط، بل يتعداها الى الدفاع عن رموز ثقافة العنف الديكتاتورية. فقد كانت اعتراضات إبراهيم أحمد على نقد ثقافة العنف تقابل بترحيب، وبترويج دعائي مبالغ فيه من قبل الحزبيين الشيوعيين. ومن يتصفح مواقع الانترنيت يجد سيلا جارفا من هذا التأييد والمعاضدة، ممهورا باسماء كتاب يعتقدون سهوا أنهم شيوعيون مخلصون. نقطة الالتقاء هذه، لم يقلل من أهميتها كون الكاتبين يعرّضان الشخصية الشيوعية العامة الى أنواع عديدة من ضروب المهانة الأدبية والضحالة الثقافية. نقاط الالتقاء تثبت وحدة الاتجاهين، بصرف النظر عن أشكال الخطاب وأساليب ظهوره، وبصرف النظر عن ارتباطاتهما التنظيمية وغاياتهما الحزبية والسياسية. لأن الوحدة العقلية تتجاوز حدود الأطر التنظيمية. وفي مراحل الفوضى العقلية تتجاوز هذه الوحدة الحواجز المنطقية والعقلية، وتغدو ضربا من النهلستية الأخلاقية، التي تجعل كل ما هو نافع صائبا ومشروعا وحتى عادلا وجميلا. ( لا نعني هنا النهلستية بمعناها الفلسفي والثقافي أو السياسي كحركة تاريخية)
ولم يكن موقف الكتاب الحزبيين المتعصبين، المرتبطين بالحزب الشيوعي أقل سلبية. فقد دعموا جل أفراد وممثلي ثقافة العنف، واستقبلوهم باعتبارهم معارضين، على أمل كسبهم الى حظيرة الحزب. وتصدى الكتاب الحزبيون أيضا، بطرق مباشرة وغير مباشرة، على مدى عقدين، للنقد الذي سعى الى تسليط الضوء على الثقافة الديكتاتورية، وللدعوة الى مراجعة ثقافية شاملة وجذرية. وقد أثبتت الأيام أن ممثلي ثقافة العنف عسيرون على الهضم، لا تسهل عملية ابتلاعهم بيسر، وأنهم الأقدر على ابتلاع الآخرين.
إن الالتباس الثقافي والسياسي الذي أحدثه تجاهل قيام مراجعة نقدية شاملة تربوية وحقوقية ومهنية وثقافية وسياسية وتشريعية قاد الى خلق أمر واقع معقد أفادت منه القوى السياسية كافة، من دون استثناء، لمصالحها الذاتية الضيقة والأنانية. وربما يكون أخطر ملامح هذه الظاهرة هو أن المشمولين بها كانوا على وعي تام، بشكل مطلق، بما يفعلون. ولعل أطرف موقف سياسي يتعلق بإشكالات موضوع المراجعة نجده في التنويه، الذي كتبه موقع يساري عراقي، في 19 كانون الأول 2017، والذي يمثل تجسيدا دقيقا ونموذجيا يصور ويفسر هذه الظاهرة من داخلها: " كلما اقترب مجموع أصدقاء صفحة اليسار العراقي من ال 5000 نقوم بحملة تطهير للصفحة من المندسين أتباع النظام البعثي الفاشي المقبور، والمرتزقة أتباع تجار الطائفية والعنصرية ما بعد احتلال العراق في 9 نيسان 2003، ومن خونة الشيوعية ودماء الشهداء البريمريين إضافة الى الشيوعيين العدميين تجار شعار تفتيت العراق". ويختتم التنوية بالقول: " التطهير يفسح المجال لضم الأصدقاء الجدد"! هذا التنويه "الفطري" يعكس على نحو واضح اختلاط الأوراق والتباس المواقف، وشدة ضغط موروثات الماضي السلبية على الواقع الراهن.
لقد تمتع مريدو ثقافة العنف الديكتاتوري ومن يحيط بهم بشبكة من الحماية المهنية، وبمظلة من الحركة، لم تحظ بها شريحة ثقافية في العراق من قبل، وربما لم تحظ بها أية شريحة في تاريخ الثقافة العالمية. فقد تفوق ما حظي به هذا التيار على هامش الحرية الذي تمتع به بعض أفراد "المثقفون العراقيون المستقلون" في حقبة النظام الديكتاتوري. ولم يقترب من مكانتهم في الحصول على الدعم والانتشار سوى بعض فئات العسكريين، الذين دفعت الحاجة الأمنية الملحة، وعمليات الشراء الحزبي، الى إعادة استخدامهم في مختلف الجبهات، وفي أحوال كثيرة في جبهات متعارضة، حيث امتدت رقعة نشاطهم من "داعش" حتى الجيش العراقي الرسمي، وجيوش قادة الفرق والكتل السياسية. إن تمزق الإطار الجامع للمؤسسة العسكرية، بالترافق مع اختفاء سلطة حزب البعث الحكومية، وحاجة المنطقة الى العنف اليومي المحتدم، أعاد الاعتبار للكثير من عناصر المؤسسة العسكرية، باعتبارهم قوة تشغيلية تخصصية. بيد أن قدر العسكريين كان ظالما، مقارنة بقدر الكتاب والمثقفين، الذين لم يرغموا على الاصطفاف في معسكرات متقاتلة حتى الموت. فلم يتم المساس بأي فرد من أفراد هذا التيار روحيا أو جسديا أو قضائيا. ومن جانب آخر لم يقدم أحد منهم، سواء أكان صغيرا أم كبيرا، على التضحية والقتال ضد المحتل. فلم يتسلح أحد منهم قط حتى بحجر صغير دفاعا عن النظام المنهار، الذي تبادلوا معه الخدمات طوال أربعة عقود.
إن الحاجة التي دفعت الى الافادة من خبرات العسكريين من قبل جميع الأطراف المتحاربة، دفعت في الوقت عينه جميع الأطراف السياسية، العراقية والعربية، الى اعتماد هذا التيار وسيلة لملء المقاعد الفارغة في عربة الاحتراب الداخلي والعربي والإقليمي المتصاعد عنفيا في كل مكان. فقد أفاد هذا التيار مهنيا من القوى الإسلامية الشيعية والسنية على حد سواء، وأفاد من دعم هذه القوى وهي في السلطة وخارجها، وحينما تكون على رأس الحكومة، أو حينما تعود الى مقاعد مجلس النواب كشريك في مغانم الحكم. شمل هذا جبهة واسعة، متنوعة ومتناقضة، لم يعرف التاريخ مثيلا لها في سعة تناقضاتها وتنوعها، امتدت من القوميين الكرد الانفصاليين حتى التيارات الطائفية، ومن المدنيين حتى بقايا القوى البعثية أو التي تمتد جذورها التاريخية الى البعث، ومن العراق الى أكثر الدول الخليجية عدوانية، ولم تنعدم هذه الإفادة أوروبيّا وعالميا. هذه الشبكة الواسعة جعلت من هذا التيار الفريقَ الأعلى حظا في قائمة الاستثمار، مكـّنه من بناء شبكة عظيمة السعة من العلاقات، التي تبدو مبعثرة في الظاهر، لكنها متحدة في أمور جوهرية، أبرزها الإخلاص للقيم الرقابية، و المقدرة العالية على وضع الخبرات الشريرة في موضع الفعل، واستثمارها حيثما وجد مستثمر متحمس. وإذا كان فريق المستقلين العراقيين أفاد من صدام الكتل المتصارعة وتكسراتها من دون عدوانية أو تفريط أخلاقي، فإن هذا الفريق أفاد إفادة مطلقة من مناخ الحرب الشاملة، الدائرة في جسد المجتمع العراقي والعربي في حقبة ما بعد الاحتلال، واستثمر بشكل ناجح شيوع سياسة ومفاهيم فوضى الحرية. ففي واقع الأمر إن رفض المراجعة الثقافية جزء عضوي من سياسة الفوضى الخلاقة، التي أطلقت طاقات العنف والاحتراب وما يرافقها من فكر وقيم وخطاب عنفي ومشاعر انتقامية وأحقاد. لأن سياسة الفوضى مشروع خارجي ممنهج، مرسوم من أعلى، مفروض بقوة السلطة الدولية الأكبر، المسيرة لأقدار المنطقة. وهذا الأمر يعيدنا الى المقارنة التاريخية الداخلية مجددا. في الانتفاضة الشعبية عام 1991 قوبل البعث حزبا وأفرادا ومؤسسات بمشاعر انتقامية غاضبة وعفوية، لكنها صادقة، تعبر عن الخزين المكبوت على مر السنين في نفوس المجتمع. ممارسات الانتفاضة العفوية، ذات الطبيعة الانفجارية، قابلتها محاكمات صورية لرموز النظام، اختتمت بنهايات طائفية حاقدة ومشينة، أفقدت المحاكمة القضائية التاريخية ضرورتها الأخلاقية والثقافية والاجتماعية ودورها التربوي.
كلتا الظاهرتين قادتا الى نتائج متشابهة. الأولى بفورتها الصادقة ومشاعرها المعلنة، ولكن غير المرشّدة، وغير السوية، كحل إجتماعي يتوجب أن يقوم على مبادئ العدالة واحترام حقوق الأفراد والجماعات، بمن فيهم المخالفون والمخطئون، والثانية بمسلسلاتها القضائية الطويلة، المملة، السحطية والهزيلة الأغراض والنتائج، التي اختتمت بمشد انتقامي طائفي مثير للاشمئزاز. فإذا كانت الإنتفاضة أطلقت مشاعر الغضب فإن مشروع الاحتلال، الذي قام بكبت وكظم المشاعر الحقيقية، لجأ الى الاحتيال الإعلامي بمحاكماته الشكلية، التي تفتقد الى المعايير التربوية والمهنية والثقافية ذات البعد الاجتماعي التاريخي، والتي أريد بها أن تكون بديلا من المراجعة التاريخية المطلوبة والضرورية.
ماذا قدم هذا الفريق للثقافة عامة؟ لم يقدم أية إضافة خاصة، مميزة، تستحق الاحترام على المستوى الفني والجمالي والعقلي. سبب هذا العجز ليس لأنه غير مؤهل لذلك حسب، بل لأنه تيار تخصصي تولى مهمة تاريخية محددة تتمثل بالدفاع عن حقبة الحروب والاستبداد، ولم يختزن من تجاربها سوى الجانب العدواني، إرثه الوحيد وخبرته الأثيرة. ماذا قدم هذا التيار للنظام الاستبدادي الذي عمل في خدمته؟ لم يقدم شيئا يصلح للبقاء أو يدعو للتقدير. وهو الآن يفعل الأمر عينه. عدا نقل الخبرات الثقافية المرضية، التي يضعها في يد المستهلكين والمستثمرين. لا شيء جديدا، سوى المستثمر. بيد أن هذا اللاجديد أضحى فاكهة الربيع العربي الجديدة، المشتهاة، والمطلوبة في سوق التداول الثقافي، القائم على الخطاب التضليلي، ونزعات التدمير وصناعة الكراهية بين الشعوب والقوميات والطوائف.
من غير اللائق أن نرى النقد الثقافي يقف عاجزا أو عازفا عن متابعة هذه العودة العلنية لتيار كان من اللازم أن يُقبر عند سقوط النظام الذي أنتجه. لقد سجل الأدب الروائي العراقي لمحات من نشاط هذا التيار الرقابي، سابقا النقد في توثيق ظاهرة "الإدمان" الرقابي وعبوره من مكان الى آخر، ومن حقبة الى حقبة. ففي رواية (مياه متصحرة)، لحازم كمال الدين، يصف بطل الرواية امتدادت السلوك الرقابي التاريخية بدقة فائقة قائلا: "هل تراني أكذب أم أستبق الأحداث؟ هل أعاني من عقدة الرقيب الذي زيّف فيلمي أيام الطاغية وعاد فاحتل موقع الرقيب مجددا في الزمن الأمريكي؟". (7)
الواقعية القومية في التطبيق:
في ظل منهج "الواقعية القومية" يتم رسم الفرد في هيئة سياسية وأخلاقية نموذجية، مفصلة على مقاس المناضل الحزبي "النقي". فحينما يحاور ناقدٌ من تيار "الواقعية القومية" الشاعرَ عبدالأمير معلة حول إنسانية "محمد الصقر" (صدام)، فإنه لا يرى عبد الأمير معلة، بل يرى من يقف فوق رأس عبدالأمير، يرى "الصقر" الباطش. وحينما يتحاور مع التكرلي حول شخصية "عدنان"، وحول ما هو "مقصود" و"غير مقصود"، فهو لا يرى التكرلي أو نصه، وإنما يرى صورة القائد في شبابه، ويرى في المشهد كله صورة الحزب القائد في عرس "ثورته".
النزعة النقدية التعبوية هذه مارسها نجم عبدالله كاظم أيضا، باسم "الواقعية القومية"، في تقييمه لرواية (شقة في شارع ابي نؤاس)، حينما حصر الميل البعثي في شخصية "سامي"، جاعلا منه شخصية محايدة في جريمة اغتصاب المرأة الكردية "نعيمة" من قبل القومي "عداي"! أي انه مارس الدور نفسه الذي طلب من التكرلي أن يفعله مع "عدنان". وهو التفسير ذاته الذي يمارسه التكرلي حينما يُسأل، بعيدا عن الإعلام، عن شخصية "عدنان". وهو عين ما نراه في (الوشم)، ولكن مقلوبا رأسا على عقب، حينما أشاعوا تعميما تدنيسيا ضد المجتمع العراقي بأكمله، جاعلين تجربة سقوط "كريم الناصري" السياسية والأخلاقية "القاسية والسلبية إنما كانت تجربة مجتمع بأكمله"، تيمنا بعبارة عزيز السيد جاسم القائلة "الوشم قصتنا جميعا". (8) وهو تعميم تدنيسي، لا يوازيه سوى أمنية تحقيرية مماثلة، أطلقها حميد سعيد في مقدمة كتابه ( أوراق الحرب) ممجدا فيها القائد الذي : " حرص على أن تكون لكل عراقي قصة في ملحمة قادسية صدام". هذا التوارث المنهاجي الخفي، الذي لا يرى بيسر، عند تجزئة النصوص والقراءات، هو ما يعنينا عند الحديث عن امتدادات ثقافة العنف في العقل الثقافي الراهن واستمرار حضورها وفعلها، على الرغم من سقوط أساسها السياسي والسلطوي. " وعندما جاءت الحرب اصطادت الذهن في تلك اللحظة، لحظة الانفتاح على التغيير". "جاءت الحرب"، هكذا يعبر محسن الموسوي في تقويمه لأدب الحرب عن واحدة من أبشع وأطول وأغبى حروب التاريخ المعاصر. تعبير "جاءت" رأيناه يتكرر مرارا على ألسنة مناصري الاحتلال، في هيئة " عندما دخلت الدبابة الامريكية"، و "حينما حضرت القوات الأمريكية"! نحن أمام حروب تأتي بنفسها، ودبابات وجيوش تزحف من تلقاء ذاتها. هذا التوارث الشعوري والعقلي هو الأساس الجوهري المشترك بين النقائض: موت العقل وموت الضمير الوطني. بين قطبي النقد الرئيسين، التنزيه الحزبي والتدنيس الوطني، كان العنصر الوحيد الرابح في المعادلات النقدية هو الثقافة الاستبدادية، والشخصية الحزبية المتسلطة، الممثلة لنظام القمع. وهذه نتيجة غير سارة وطنيا وثقافيا.
مثل هذه الفخاخ السياسية الرقابية، الخطيرة، التي ترتدي ثوب النقد، ظهرت كثيرا في الحقبة الديكتاتورية، وتعمقت في تربة القسوة والعنف والحروب. لكنها عادت مجددا في حقبة سقوط حكم صدام حسين، فغدت نهجا جماعيا وعنوانا لمرحلة فوضى الحرية، تمارس على يد حراس الصمت السابقين، أو على يد هواة يتفتحون فنيا وعقليا في ظل سياسة الفساد المادي والروحي المتواصلة، بصرف النظرعن موقع وجودهم الحزبي والسياسي.
لقد تكرر الحوار الحزبي الاستقصائي ذاته، المكتوب على ضوء المنهج النقدي عينه، منهج البحث عن هنات وهفوات عقائدية وفنية تتصادم مع النموذج البعثي "المثالي". مثل هذا الحوار النقدي، الذي يضع الكاتب في مواجهة ذاته المقموعة، وفي مواجهة السلطة القامعة، جرى تنفيذه من قبل نجم عبدالله كاظم مع عبد الرحمن مجيد الربيعي، عندما أطلق الناقد أسئلته المجيرة لمصلحة الرقيب السلطوي. هل كان سفر "كريم الناصري" في (الوشم) يعني أنه "قد ضاع"؟ أي أنه تخلى عن وعده لـ "جابر الموصلي" بالعودة إذا عاد البعث الى السلطة!! ولماذا "هبط" الربيعي في (الانهار) ولم يتمكن من "تمثيل الواقعية الاشتراكية القومية"؟ في هذا الموضع لم يجد الناقد النقاء القومي والبعثي المطلوب في شخصية بطل الرواية. فلا أثر في شخصية (صلاح كامل) لـ" الإنسان القومي الثوري الصحيح أو، وكما أعتقد أن الكاتب يقصده، البعثي الثوري الصحيح". (9)
إن تجميع المشاهد النقدية والروائية السابقة يضعنا أمام حقائق جديدة، لم نفكر فيها من قبل على نحو عميق. لقد غرق نقدنا في لجة البحث عن علاقات حسية تربط الكاتب والفنان بالنظام الديكتاتوري، في هيئة انتماء الى حزب البعث، أو العمل في منظومته الإعلامية والحزبية والسياسية والحربية المباشرة، أو البحث عن كلمات وجمل تتحدث عن القائد وعن الحزب ومشاريعه السياسية والحربية. إن هذا الحد المتواضع من النظر الى الواقع الثقافي، والى المنتج الثقافي، هو الذي سوغ القبول بتنازلات كمية ونوعية في المجال الثقافي والعقلي، تتمثل بمنح شهادات براءة ذمة مجانية تبرر أخطاء هذا أو ذاك، واعتبار هذا التنازل المعادل التام لما يعرف بالمراجعة الثقافية. إن المراجعة الثقافية الحقيقية تقوم على فهم ما وراء ظاهر النص، والى فهم العلاقات الداخلية البنيوية، التي انطبعت في المشاعر والأحاسيس والممارسات وطريقة انعكاسها فنيا وفكريا في نتاج وفي وعي أربعة أجيال. إن الاكتفاء بالسطح استتبع بالضرورة القبول بمرحلة القفز على المراجعة الثقافية كاملة، لأنها أعتبرت تحصيل حاصل، بعد سقوط الحقبة الديكتاتورية وتشتت وتبعثر قوى السلطة بعد انهيارها التاريخي أمام الغزاة الأميركان. إن كشف علاقات النص الداخلية سيظل العنصر الجوهري في أية مراجعة، أو أية إعادة تحليل لشبكة العلاقات النفسية والفنية التي سيطرت على الواقع الثقافي العراقي. وهذا الأمر لا يتأتى من طريق الاستغراق في النظر الى سطوح الظواهر. فحينما ننظر الى اعتراض نجم عبد الله كاظم على النصوص السابقة، باعتباره نموذجا مجتهدا، حرص على الالتزام بمعايير النقد "الاشتراكي القومي"، نعثر على نمطية داخلية عالية الدقة، تقوم على خطوط منهجية صارمة، تتحدد في كلمة واحدة حسب، هي كلمة "النقاء"، بكل ما تحمله هذه الكلمة من مضامين شوفينية عقائديا، في إطار الفكر القومي والاستبدادي. فشخصية "عدنان" في رواية (الرجع البعيد)، على سبيل المثال، تقاس فنيا بمقدار خضوعها لـ "التطويل". أي يتوجب إدخالها في سرير "بروكوست" للنقاء الاستبدادي، لكي تكون مطابقة لنقاء "الثورة". (10) وحتى حينما يتم ابتزاز كاتب بعثي مشهور - اعتبره باسم عبد الحميد حمودي صاحب "النص الرائد في الرواية البعثية" - مثل عبدالأمير معلة، فإنه يوضع في مواجهة لحظة النقاء الخالصة، ممثلة في زبدتها الصافية، شخصية "محمد الصقر"! وحينما يتم البحث عن مغتصب في رواية (شقة في شارع أبي نؤاس) يتم تأويل شخصية "عداي" المغتصِب على أنه قومي، أما "سامي" البريء من التهمة المباشرة، فهو بعثي. هنا يقوم النقد، بمعيارية صارمة، بعملية دفاع عن نقاوة "الثورة". وهو عين ما عبّر عنه محسن الموسوي وصاغه في عبارة دقيقة عظيمة الدلالة: "العفة الثورية"! (11) هذا الجانب أغفله كثيرون ممن انشغلوا بهجاء الحقبة الديكتاتورية أو بتنزيهها، حينما لجأوا الى ايجاد علاقات شكلية وقرائن حسية خارجية لتفسير مضامين النصوص. إن قوانين ومبادئ "النقاء" العقائدي في الحقب الاستبدادية، خطوط حمر، لا تظهر في الأعم في الكلمات، وإنما تنبث في مضامين الأفعال، وفي البعد الفكري للعمل. لذلك هي أخطر بكثير من الدعوات الآيديولوجية التحريضية المباشرة والصريحة. لكنها ربما تظهر صريحة أحيانا، كما حدث في نقد رواية عبد الرحمن مجيد الربيعي (الأنهار)، التي يقول عنها نجم عبدالله كاظم: " بداية أوضح بأنه قد يكون تعاملي معها قاسيا، وأنا لا أدري بالضبط لِم َ أجد في نفسي هذه القسوة كلما وقفت عند هذه الرواية". لكنه سرعان ما يميط اللثام عن سبب القسوة، حينما يقول:" لا أجد في شخصية (صلاح كامل) الانسان القومي الصحيح أو، وكما اعتقد ان الكاتب يقصده، البعثي الثوري الصحيح". لقد أنتجت حقبة الاستبداد الطويلة والقاسية قارئها وكاتبها وناقدها الأخضع، الذي يستمتع بإذلال مزدوج: إذلال نفسه، وإذلال الآخر.
البحث عن المستبد الطاهر
لم يكن البحث عن "النقاء" النظري والعملي مجرد أداة معيارية للقياس والتقويم، بل كان منظورا وهدفا حزبيا، اتفق تيار "الواقعية القومية" على مضمونه، لكنهم اختلفوا في طريق وأشكال التعبير عنه. فإذا كان محسن الموسوي يراه في "العفة الثورية"، ويجده نجم عبد الله كاظم في مقارنات النصوص بمثال السيد القائد أو صورة "الثورة" الناصعة، فإن باسم عبد الحميد حمودي، يستخدم مصطلح "الالتزام" لابتزاز "اللاملتزمين"، حينما يضعهم أمام حائط الاتهام. يجد المرء هذا في نقده السلبي لإبرز كاتبي قصة قصيرة في العراق: محمد خضير وفؤاد التكرلي، اللذين خصعا لمحاولات تنقية ايديولوجية، بعد أن ثبتت شهرتهم الفنية وطنيا، رغما عن أنف أصحاب نظرية الالتزام. فقد انفرد باسم عبد الحميد حمودي بموقفه الملتزم في مواجهة "بعض النقاد"، الذين أعلوا من شأن مملكة محمد خضير السوداء. يقول حمودي عن قصة "المملكة السوداء": " وفي المملكة السوداء لا نلمس شيئا واضحا.. صبي أو شاب يأتي لبيت عمه مطالبا بما تركه والده المتوفي فتعطيه عمته بعد ممانعة صندوقة يقلب محتواياتها محتفظا بصورة والده ويخرج. واذا كان هذا التلخيص يفقد القصة طعمها فإنها لا تطرح أكثر من ذلك رغم اصرار بعض النقاد على فهمها بانبهار" (12)، وحينما يصل الناقد الى أكثر القصص حساسية "التابوت" يشهر الناقد معايير النقاوة الثورية: " إن روح التشاؤم تغلب على هذه القصة فلا شيء فيها سوى السلب بحيث يبدو الموتى الشهداء كأنهم لم يؤدوا شيئا عظيما" (ص 155). وفي النتيجة يضع الناقد قصص محمد خضير في أبرز مجموعة قصصية في تاريخ العراق الحديث أمام معيار النقاء النقدي الحزبي: الالتزام. يقول حمودي ملخصا وجهة نظره في الفن القصصي العراقي بعد منتصف الستينيات وأوائل السبعينيات:" هي فترة اتخذت الأقصوصة العراقية في بدايتها مسارا إشكاليا يشكل في أساسه احتجاجا رومانسيا على أوضاع سياسية بعينها، كانت تطفو على البنية السياسية آنذاك ولكن هذا الاحتجاج اعطى القصة القصيرة مجالا للتمطي واختراق كل الأسس وطفت باسمه او نتيجة له مجموعة قصص فجة نرجسية، بنت جدرا سميكة عالية من كراهية الجموع والالتزام بينها وبين القارئ والناقد" (ص 148). خلاصة القول: " ان محمد خضير يفجر في داخل القارئ الكثير من الدهشة والاحتمالات ولكنه قطعا (!) لحد الآن (!!) لا يفجر فيه إلا العزلة والمراقبة من الخارج مع مراقبة الداخل بحرص واذا كان هذا (خطأ) - الأقواس للناقد- محمد خضير المستمر (!!) والوحيد فإنه يردمه بتلك القدرة العالية على امتلاك لغة توصيل رائعة" (160). يتضح جليا هنا أن عيب محمد خضير- ذا اللغة التوصيلية العالية، أي الذي يعرف كيف وماذا يكتب، لكنه يمارس اللؤم الفني- حتى تلك اللحظة، أنه لم يدخل في حظيرة الالتزام القومي بعد، كما يتمنى كتاب السلطة.
إن سعة الاستحسان الفني، التي قوبلت بها قصص محمد خضير والتكرلي من قبل الاجماع النقدي العراقي، لم تمنع باسم عبد الحميد حمودي من البحث عن لحظات قنص ممكنة، في هيئة أخطاء فنية، لا تطابق معايير النقاء الثوري: الالتزام، يتم بها وضع النصوص في مواجهة ايديولوجية السلطة، لجعلها متهمة بجريمة الخروج على شروط "الالتزام". هنا يكون الالتزام وسيلة الضبط الحزبي، ووسيلة التأديب الفني، التي تـُرفع في وجه الأديب غير "الملتزم".
ومن هذا المنطلق والمنطق حاكم حمودي بعض قصص التكرلي، مشهرا في وجهها سوط الالتزام بالمعايير القومية أيضا:" لا تعطي - قصة سمباثي- صورة الواقع المتحول كاملة بل تعكس جانبا من وجه سلبي له فقط، لادانته ورفضه"، وخص عبدالله عبد الرزاق بنقد مماثل بسبب "كتابة هذا النوع من التجارب الضارة، التي لا تضيف شيئا سوى الرغبة في تجاوز المألوف".
أما يوسف الصائغ فقد خصت قصته "المسافة"، وهي أوضح نصوصه السياسية، وأكثرها تبشيرا بسقوط المناضل أمام جبروت السلطة القامعة، بنقد عال ورفض صريح، يقول حمودي:"ان المسافة في احسن احوالها منشور سياسي مضاد لكل ايجابي في حياتنا الجديدة، وهي بالتالي تسقط في خانة اية رواية رجعية اخرى رغم المنحى الفلسفي الذي حاولته بابقاء العلاقة متوترة بين الجلاد والمناضل المنهار والمناضل الصامد". (ص 63). ومن طرائف التاريخ المبكية أن يدان نموذج يوسف الصائغ الأدبي، وفي عين الوقت يتم تمجيد سقوطه الشخصي. فالالتزام هنا لا يعني سوى أمر واحد: التوجه الى الحاضنة السلطوية والاستسلام عند أقدامها متضرعين باكين. لقد تكرر هذا المصير، القدري، المتناقض، ولكن مقلوبا رأسا على عقب، مع أبرز ممثلي تيار "الواقعية الاشتراكية" عزيز السيد جاسم، الذي انتقد سقوط المناضلين في شرك الايمان الديني أو الإدمان، وذهب هو نفسه الى البقاع التي حرم على الآخرين ارتيادها، ثم انتهى الى مصير شديد في قسوته، شديد في مذاق خذلانه، شديد في قلة الوفاء والشهامة فيه.
حينما نتأمل المسافة بين الجلاد والضحية، ولكن خارج إطار لعبة الزمن، وخارج تأويلاتها وتحويراتها الأيديولوجية، نجد أنها تبدو أحيانا مسافة افتراضية، أكثر منها مسافة واقعية. الذهاب في الاتجاهين أمر ممكن دائما. نعم، إنه طفرة في تبادل المواقع، لكنه في النتيجة لا يُبقي في المشهد سوى دم الضحية وخيبة الجلاد تلطخ أرضية الوطن- السجن. إن الرابح الوحيد في هذا القدر المرعب هو المستبد، القدر الشرير، سواء أكان مستبدا نقيا أو ملوثا، قطريا أم قوميا، إقليميا أو دوليا، جديدا أم أزليا، عارضا أم أبديا.
ربما لهذا السبب لم يتوقف حمودي عند حدود "القطر العراقي"، بل ذهب أبعد من ذلك وأصرّ على تعميم معايير "النقاء" الرقابية قوميا: " وهذا التمثيل يجعل الناقد العربي الذي نريد انسانا يمتلك وعيا سياسيا ملتزما اضافة الى امتلاكه وعيه الحضاري" ( ص14) ، ويختتم " إن ذلك يدفع بالناقد العربي لأن يمتلك الحق في أن يعترض على أي أدب سيئ المضمون، أدب يخدم التوهج الداخلي الفردي للفنان على حساب هموم الأمة..." (13)
إن البحث عن النقاء "البعثي الصحيح" لم يتوقف عند حدود تجريم " التوهج الداخلي الفردي للفنان"، بل امتد على يد حميد سعيد فتجاوز حدود مملكة البشر، وراح يفرض شروطه على مملكة الحيوان أيضا، فكان النسر، رمزا وكائنا، ضحية هذا النقاء. ففي كتابه (أوراق الحرب) يتحدث عن إحدى مآثر صدام اللغوية و"البيولوجية"، حينما اكتشف القائد سرا عجيبا مؤداه أن النسر يأكل الفطائس!! وبما أنه حيوان خال من صفة "النقاء" النوعي، تقرر حذف اسمه من شعارات القوة الجوية العراقية. فطبقا لنظرية "الواقعية القومية" لا يعتبر النسر حيوانا ملتزما التزاما مشرفا، لذلك عوقب بصدور مرسوم عسكري يعيد تسمية القوات الجوية بـ "صقور الجو" بدلا من "نسور الجو"!! (13) لقد حاكم صدام النسرَ انطلاقا من معدته، فهو آكل للجيف. لكنه نسي أن النسر يرتبط بـ"القمة الشمّاء"، وأنه رمز تاريخي لشعوب وأعراق وجماعات مختلفة على مر التاريخ، نجده في الأعلام والرايات والجداريات والمنحوتات والعملة والطوابع. ولجهل صدام، ومعه حميد سعيد، فإن النسر رمز عراقي تاريخي، وجد منقوشا على فخاريات وجداريات ونصب يعود بعضها الى آلاف السنين قبل ولادة صدام. وهو رمز لأحد آلهة العراق القديم، وهو رمز بارز في ثقافة مدينة الحضر. ثقافة صدام هنا تقف في مواجهة التاريخ الثقافي الوطني وتراثه، وهذا أمر طبيعي، يجسد التصلف المقرون بالحمق. أما وظيفة مثقف السلطة فلم تكن تصحيح حماقة القائد وتنويره، وفتح مداركه الضيقة، المبنية على ثقافة الشقاوات، بل تثبيتها على أنها مأثرة ثقافية، وأنها ابتكار عقلي يتوجب أن يخلد في بطون الكتب، أي أن يخلد ثقافيا!! ما هو أعجب من هذا هو وصول أوامر صدام حسين القاضية بتغيير تعبير "نسور الجو" الى أعداء صدام، الى قيادة القوات المسلحة في نظام ما بعد 2003، التي تنادت الى تبني التسمية في مرحلة ظهور المقاتلين التكفيريين. ما الوسائط الخفية، التي نقلت أوامر صدام الى خصومه، وكيف؟ هنا، في هذه اللواقط الخفية، تكمن واحدة من حقائق ما نسميه بالمراجعة الثقافية، التي يخلطها البعض بالمصالحات العشائرية، أو بما يعرف بالمصالحة بين المكونات والطوائف.
البعد الخارجي والداخلي للمراجعة
من أجل فهم الأهمية التاريخية لموضوع المراجعة الثقافية ودورها في إعادة بناء الذات الوطنية، يتوجب البحث، قبل كل شيء، عن أعداء المراجعة الثقافية الرئيسيين؟
يتفق الجميع على أن هدف الغزو الأميركي للعراق عام 2003 هو الاحتلال، بصرف النظر عن تفسير كلمة احتلال، التي جعلها أنصار الحل العسكري وما يرافقه من عواقب وخيمة تحريرا، بينما أطلق عليه معارضو الحل العسكري وما ينجم عنه من كوارث تسمية احتلال. بيد أن الواقع القريب والبعيد يثبت، يوما بعد بوم، أن الإحتلال لم يكن هدف المشروع الأميركي الأساسي، بقدر ما كان وسيلة الى غاية أبعد وأعمق. لم يخف الأميركيون إعلاميا وسياسيا وعسكريا تلك الأهداف. فقد ظلوا يرددون طوال عقد كامل عبارة "الشرق الأوسط الجديد"، باعتبارها الهدف الأول في مشروعهم السياسي والحربي التاريخي. والشرق الأوسط الجديد ليس تعبيرا جغرافيا خالصا، بقدر ما هو تعبير جيوسياسي تاريخي، يعني خروج منطقة الشرق الاوسط من دائرة الولاء أو التردد، التي عاشتها في مرحلة الصراع بين الاشتراكية والرأسمالية، وخلوص خضوع المنطقة عسكريا وسياسيا واقتصاديا، وحتى ثقافيا، الى تبعية القطب الأوحد المنتصر. من دون شك هذا يذكر بمفهوم إعادة تقاسم العالم، الذي شاع في الحروب العالمية كافة. لكن التقاسم الاستعماري الجديد لا يحمل الصفات التقليدية التي حملتها تقاسمات الحروب السابقة, فهو وليد عصر جديد، تغيرت فيه أساليب نظام القوة، التي أحلت التفوق الجوي والحرب عن بعد بديلا من السيطرة الأرضية المباشرة، وأوجدت تجحفلا دوليا مرنا وفعالا من طريق المشاركة التكاملية في المعركة على أساس التنوع والتخصص، بحسب قدرات الدول المشاركة، ووسعت من حيز الخصخصة في صنوف عسكرية عديدة مرتفعة الأثمان ومربكة عسكريا وأمنيا تطلبها الاحتلال في ثوبه السابق، مثل الإمداد والتموين والاستطلاع والمهمات الخاصة والهندسة والسجون وغيرها. ولم تعد للفرق الأجنيبة المرافقة للقوات الغازية أهمية قصوى وحاسمة في ظل ظهور بدائل في هيئة فرق المرتزقة الدوليين والمحليين ومعسكرات الإمداد الحربي الدائمة وخزانها المحلي الثري: معسكرات اللاجئين والمهجرين. كل هذه المعطيات قللت من أهمية الاحتلال العسكري المباشر كهدف وحتى كوسيلة لتحقيق هدف أبعد. فمنذ قيام الحرب العراقية الإيرانية شهدت المنطقة العربية وما جاورها توترا إقليميا طويل الأمد، رافقه تدفق هائل للسلاح وللنفوذ الدولي. وحينما حلّ الغزو العراقي للكويت أنهت الولايات المتحدة فصلا تاريخيا قديما، وشرعت بالسيطرة المباشرة على ممرات المنطقة المائية وسمائها وأرضها من طريق التحالفات والقواعد العسكرية المباشرة وشركات الحماية. لهذا السبب لم تكن أميركا ترى في الاحتلال أو "التحرير" سوى وسيلة لتحقيق هدفها الأبعد، ألا وهو تغيير الهوية التاريخية السياسية للمنطقة، بالتناسق مع ظهور مكونات الواقع الدولي الجديد. إن السؤال الأكثر جوهرية في هذا الموضوع لا يكمن في البحث عن الفرق بين الاحتلال والتحرير، أو البحث عن كون الاحتلال وسيلة أو هدفا. إن السؤال الأهم هو: ما صيغ إنجاز الهدف؟ ما الصورة التي يختزنها عقل القوة المنتصرة لكيفية تحقيق الهدف؟ حينما نعود الى أدبيات تلك الحقبة الايديولوجية والعسكرية والسياسية، وحتى الدعائية والبلاغية منها، نجد تركيزا واضحا، فيما يتعلق بالعراق حصريا، على ناحية واحدة: إعادة تأسيس المنطقة. وهو تصور عسكري ذو جذور دينية أسطورية، يعني إعادة الخلق. لكنه تصور يقترب كثيرا من حدود الأماني المبهجة، التي سرعان ما أدرك المنتصر أنها لم تكن سوى فكرة خرافية، ووهم أكثر من كونها واقعا قابلا للتحقق. فقد أبى الواقع أن يستقبل هذا الوهم، على الرغم من حجم الدمار الذي عصف بالمنطقة ثقافيا واقتصاديا واجتماعيا وإنسانيا. " تحرير العراق سيتم بعملية قيصرية"، "سنعيدهم الى العصر الحجري": شوارتزكوف. "سنحيلهم دخانا": جورج بوش الابن. سلسلة العبارات البلاغية هذه تترجم فكرة الهدم وإعادة التأسيس ترجمة دقيقة. لقد تم اختيار العراق لغرض البدء بعملية الهدم وإعادة التأسيس لأسباب تاريخية، وأخرى خاصة، تتعلق بموقع العراق وبطبيعته الداخلية. لكنها تتعلق أيضا بأمر آخر، أكثر نفعية وحيوية لتحقيق الأهداف العدوانية بطرق مريحة، أي تتعلق بنظام الحكم فيه، الذي كان يمنح المعتدين طوعا ومجانا، الحقوق الشرعية وغير الشرعية للغزو والتدمير من دون خشية من عقاب دولي أو رد محلي. وتلك كانت أضعف جوانب شخصية صدام حسين، التي أفاد منها الأميركيون إفادة مطلقة، دفعتهم الى محاصرته في حفرة مظلمة، بينما كان شعراؤه يرددون أغاني النصر المؤز، وكتابه يحللون ستراتيجيات الفوز المبين.
لقد وضع ممجدو الفكر الاستبدادي الثقافة الوطنية بين حدين متطرفين، بين المهزلة السلطوية المستمرة منذ عقود وبين المأساة الكبيرة المنتظرة والمحتمة. ثمّ فجأة حُلّ الحزب الخالد بأمر عسكري أجنبي، وحلّ الجيش العراقي بأمر مماثل، وحلت أجهزة الدولة العراقية، بما فيه شرطة المرور، بأمر عسكري أجنبي. لقد عُطلت القوانين المدنية، وأطلقت طاقات العنف المذهبي والديني والقومي والمناطقي والعشائري، وحتى الفردي الإجرامي. لقد فتحت مخازن السلاح للنهب في العراق كافة، وفتحت معابر الحدود من شمال الى جنوب العراق ومن شرقه الى غربه، واستبيحت سيادة الأرض والسماء والماء والثروات. إن ما حدث كان ترجمة حسيّة لتعبيري "إعادة العراق الى العصر الحجري" و "نحيلهم دخانا" البلاغيين الفنيين، تـُطابق على نحو تام هدف الاحتلال الأول "إعادة التأسيس". لهذا السبب لم تكن المراجعة الثقافية جزءا من مشروع إعادة التأسيس، ولا يمكن لها أن تكون كذلك. لأن فكرة المراجعة تتعارض في جوهرها بشكل مطلق مع قوانين فوضى الحرية، التي هي الهدف الآيديولوجي الأول لعملية الهدم وإعادة التأسيس. من هنا نرى أن القوى الحاكمة التي إئتمرت بأمر المحتل لم تكن معنية من قريب أو بعيد بمعضلات إعادة تأهيل المجتمع ثقافيا ونفسيا وتربويا. أما مريدو النظام السابق وممجدو حقبة ثقافة الحرب والاستبداد فقد وجدوا في هذه الهدنة الثمينة ملاذا آمنا يعيدون فيه ترتيب أوراقهم وخططهم الشخصية والمهنية.
حينما وجد الأدباء والمثقفون الألمان بلدهم يخرج من جحيم الحرب العالمية الثانية ممزق الروح، تنادوا الى ما عرف بـ "مرحلة الصفر الثقافية". مرحلة إعادة تدوير العداد الداخلي للأفراد، لكي يتم بواسطته إعادة تدور العداد العام ، الاجتماعي والروحي والثقافي.
ماذا حدث في الجبهة العراقية؟
"استجابة لنداء السيد الرئيس القائد" تبلورت فكرة عقد ندوة عن رواية الحرب في 15 شباط 1989. جمعت وثائق الندوة في كتاب حمل عنوان " ذاكرة الغد". استقي العنوان من عبارة وردت في كلمة وزير الثقافة، تحدد آفاق الندوة، وتطلعها الى الغد وما سيحمله من آمال عظيمة يجعلنا نكون " مقبلون على تحول ابداعي خطير في منحى حياتنا الثقافية العربية". ومن هذا السياق نرى بضوح تام أن التعويل كله كان منصبا على الغد، وكما يقول المثل العربي: الغد لناظره قريب.
بتاريخ 11 تشرين الثاني 2000، نشر الشاعر رشدي العامل قصيدة في صحيفة (الزمان) جعل عنوانها " الحسين يكتب قصيدته الاخيرة"، والتي ربما كان يعني بها نفسه. يقول العامل:" أروع ما تفعل يا ولدي، أن تغفو في الزمن القحط، وتستيقظ في القرن الحادي والعشرين".
ربما يجهل الشاعر رشدي العامل أننا اليوم في قلب القرن الحادي والعشرين. نحن في أتم حالات اليقظة. غسلنا وجوهنا بصابون الاحتلال، وجففنا أيادينا بفساد مجلس الحكم وما لحقه من حكام جهلة وفاسدين. باختصار تام، نحن الآن في قلب الغد، الأمنية الحربية الجميلة، التي أريد لها أن تكون ذاكرة تخبر البشر عن جذور وأسباب " التحول الابداعي الخطير في تاريخ الأمة العربية". مضت ثلاثة عقود على انتهاء الحرب، تلتها حروب، وتلتها معارك متواصلة يعجز عن وصفها القلم على امتداد خارطة الوطن. ماذا تحقق من تلك النبؤءة الحربية الجميلة، المتفائلة؟ وكيف قابل أدباؤنا تاريخهم الملطخ بالدماء والآلام والخراب؟
لم يفعل أدباؤنا سوى عكس ما فعله الكتاب الألمان تماما. راحوا يعيدون تلوين العدادات؛ وراح بعضهم يزوّر أرقام العدادات. ومنهم من اكتفى بنقل ملكية العدادات ومواقعها. إن المجتمع العراقي، أكثر من غيره، مدعو الى مرحلة الصفر الثقافي، مرحلة تصفير العدادات الفردية والجماعية، وصولا الى خلاصات تاريخية تربوية، تعيد بناء الذات الوطنية، على أسس منهاجية متوازنة وشاملة. لكن ذلك لم يحدث على المستويين الجماعي والفردي على حد سواء. فلم نر مراجعات حزبية سواء لحزب السلطة، أو رموزه الثقافية العليا، أو شركائه وحلفائه الدائميين والمؤقتين. لقد صمم الجميع على ابتلاع التجربة بقضها وقضيضها. وعلى المستوى الفردي ربما تمكن بعض الأدباء من تعديل بعض عناصر العداد الايديولوجية، تحت شروط خاصة ممكنة، أبرزها النقد الذاتي النادر الحدوث، أو الصمت الجماعي. إلا أن تصفير محتوى العداد النفسي والسلوكي، وتغيير شروط الذات الانفعالية والعاطفية، لم يزل معضلة الأدباء الكبرى. لأن البناء النفسي والعادات تتسم بالثبات النسبي والبعد الداخلي العميق، لذلك تحتاج الى علاج أطول ومكابدات أقسى، لكي تتمكن الذات من تخفيف حدة احتقاناتها، ثم تحقيق توازنها الطبيعي المنشود.
ما النتيجة العملية لفقدان فرصة المراجعة الثقافية التاريخية؟ ثلاثة عقود ونصف العقد من الثقافة الاستبدادية، أعقبها عقد ونصف العقد من ثقافة التضليل والنأي بالنفس عن المراجعة الوطنية الناقدة، مصحوبة بفكر تكفيري، وسيطرة قوى سياسية متخلفة وطنيا، وفساد شامل يضرب المجتمع كله من رأسه حتى أخمص قدميه.
في هذا المناخ الكابوسي ذهب عبد الرزاق عبد الواحد الى رب رحيم وعداده لما يزل يحتفظ بكل شحناته العاطفية والنفسية: الإذلال التام، وإدمان السجود لسيد الجحور، و"إله المستنقعات"، قائد الهزائم الكبرى. وفي المناخ نفسه نسي حمزة مصطفى أن يقوم بتصفير عداده الشخصي، فظلت الصور ة التي رسمها للقائد، تحمل العنوان ذاته: "رسالة المستقبل" و"الفرادة والاستثناء"، وظل عداد غازي العبادي يرى كوارث حروب صدام على أنها " قدر الأمة العربية"، ولبث عداد محمد الجزائري لا يؤشر إلا الى "قائد المنازلة قائد الحياة"، حتى وهو يقبع في حفرته الضيقة، التي تشبه القبر السياسي. شاركه في هذا باسم عبد الحميد حمودي، الذي لم يزل عداده متوقفا عند أرقام "الانجازات والانتصارات" التي اجترحها "رجل التاريخ والمبادئ". أما عالية طالب، فقد شغلتها اللعبة النيابية المسلية، فنسيت أن تصفــّر عدادها، ولبثت تعبّ من "منهل القائد الإبداعي العظيم". عداد فلاح المشعل زرع "الأمل في نفوس الفقراء" جميعا، ولكن من على رئاسته لكبرى صحف النظام الجديد هذه المرّة. عداد علي حسن فواز، الحداثي، لم يزل ينتظر بفارغ الصبر "ثورة التنمية القومية"، التي سيحققها الرئيس القائد، في المستقبل القريب، إن شاء الله! فاتح عبد السلام، الأقرب من حيث الإقامة الى الفكر الليبرالي والانفتاح الإعلامي، لا يخبرنا إذا كان قد صفـّر عداده، وكفّ عن اكتشافاته العبقرية لـ"العناصر الستراتيجية في فكر صدام العسكري"، أم أنه شرع باكتشاف عبقريات محمد بن سلمان والبارزاني وغيرهما؟ إن غياب المراجعة الثقافية أصابت عداد حميد سعيد بالشلل التام، فجعلته يتوقف عند رقم واحد، لا شريك له: إعادة تلميع "قندرته" صباح مساء، على أمل أن يلتقي، يوما ما جميلا وقريبا، المثقفين العرب المعارضين للحرب، لكي ينهال بها على "رؤوسهم الخاوية"!
(ملاحظة: العيّنات المذكورة جمعت بشكل عشوائي. لكنه تجميع ينطوي قدر من سوء الحظ، أوجتبه ضرورة وجود أمثلة حسيّة للمقارنة، لتثبيت فكرة النقاش منعا للتعميم، ولضرورة تنويع مادة الخطاب بمصادر متباينة المشارب والتخصصات والهويات، على الرغم من مقدار الضرر الذي قد يُلحق بهذه الأسماء، جراء تخصيص التركيز عليها، الأمر الذي اقتضى التنويه، واقتضى التأكيد على أن هذه الأسماء لا تحمل دلالات خاصة في بابها، أكثر من سواها. وفي هذا عبرة للجميع، وحض على الذهاب الى الطريق الوحيد الذي يعيد السلام والأمان والوفاق الى الذات الفردية والجماعية، الى المكاشفة والمصارحة.)
إن المراجعة الثقافية لا تُعني بالأسماء ولا بالتعابير أو الأفراد، بل تعني بالعلاقات الداخلية المكونة لخصوصية الحياة الروحية عامة والعقلية على نحو خاص، وبشبكات اتصالها وتفاعلاتها السرية، التي تفرض شروطها على الوعي الاجتماعي في حقبة تاريخية محددة. وإذا كان غرامشي بحث عن المثقف العضوي في صفوف اليسار، والذي يعني المثقف التفاعلي، المُحفـَز، أو على حد تعبير لينين، المثقف "الطبقي" الذي يجمع بين النظرية والتطبيق، إلا أن العنف والاستبداد يخلق ثقافته العضوية ومثقفه العضوي أيضا، ولكن في هيئة "حرس قومي" ثقافي.
أين موقع هذا الحرس اليوم؟
من يرى الفساد محصورا في مجال الثروة والحكم، هوأعمى أو منافق بامتياز. إن الفساد الأعظم هو فساد الجانب العقلي والروحي، الذي شكل القاعدة الأخلاقية والسياسية والثقافية، التي جوّزت ومنحت الشرعية للحروب والاستبداد والاحتلال والتكفير والنهب العلني للثروات. إنه الرحم الدائمة الخصوبة، الجاهزة لولادة ما هو قادم من ألوان الظواهر اللاإنسانية المحتملة، والكوارث الوطنية المؤكدة.
الأول من كانون الثاني 2018
# مقدمة الفصل التاسع من كتاب قيد النشر.
(1) مجلة حراس الوطن - العدد 12 - كانون الثاني 1987.
(2) الرواية في العراق- نجم عبدالله كاظم- دار الشؤون الثقافية العامة – بغداد – 1987– ص 246 .
(3) أوراق الحرب- حميد سعيد- دار الشؤون الثقافية – بغداد- 1990- ص 62.
(4) مجلة الكلمة - نجم عبدالله كاظم- العدد 80 كانون الأول 2013.
(5) ثقافة العنف في العراق- سلام عبود- دار الجمل- كولون- 2002
(6) مجلة الكلمة - نجم عبدالله كاظم- العدد 80 كانون الأول 2013
(7) مياه متصحرة – دار فضاءات- عمان – 2015- ص 17.
(8) الوشم- عبد الرحمن مجيد الربيعي- الدار العربية للكتاب- ليبيا، تونس- 1977- ص 108.
(9) الرواية في العراق- نجم عبدالله كاظم- دار الشؤون الثقافية العامة – بغداد – 1987– ص 260.
(10) الرواية في العراق- نجم عبدالله كاظم - دار الشؤون الثقافية العامة - بغداد – 1987 – ص 260 .
(11) الاعمال الروائية- المؤسسة العربية- بيروت – 2004- ص 13.
(12) رحلة مع القصة العراقية- دار الحرية – بغداد 1980- ص 152.
(13) أوراق الحرب- حميد سعيد- دار الشؤون الثقافية – بغداد- 1990- ص 15.
(14) الرجع البعيد- فؤاد التكرلي- دار ابن رشد- بيروت- 1980,
(15) ذاكرة الغد – دار الشؤون الثقافية – وارد بدرن محمد حياوي، حمزة مصطفى- بغداد – 1990- ص 7.