محمود طاهر لاشين رائد القصة القصيره المنسى 2/2
فتحى سيد فرج
2017 / 9 / 20 - 07:05
شجعتى الصديق د/ على الشخيبى على التعرف على واحد من أهم رواد القصة القصيرة فى مصر، وكان له دور كبير فى تحفيزى للكتابه عنه، اتمنى ان أكون قد وفيت له وللمهتمين بالفن القصصى فى التعرف عن هذا الرائد المتميز .
المدرسة المصرية الحديثة فى فن القصص القصيرة : منذ ما يربو على 100 عام، ظهر فن القصة القصيرة بشكله الفني المتكامل في أدبنا الحديث، مع محاولات كتاب "المدرسة المصرية الحديثة في كتابة القصة" أحمد خيري سعيد، والأخوان عيسى وشحاتة عبيد، ومحمود تيمور، ومحمود طاهر لاشين، ويحيى حقي وغيرهم، هؤلاء هم آباء القصة القصيرة في أدبنا المعاصر، مارسوا كتابتها بوعي واستيعاب لشكلها الفني الجديد الوافد عليهم من الغرب، ولولا هذه المحاولات والإسهامات المؤسسة، ما كان لفن القصة القصيرة أن ينطلق ويزدهر بعد ذلك، ويظهر عشرات الكتاب بل مئات تركوا تراثا رائعا من القصص والأعمال المهمة .
يقول يحيى حقى : " كانت المدرسة الحديثة فى القصة القصيرة تضم أشتاتاً من الخلق، ما بين الموظف والصحفى والطبيب والمهندس. كان بينهم أيضاً من يعمل فى محل سمعان يتحفنا بقص القصص، ثم ينصرف إلى عماله ليشرف على قص القماش. كانوا جميعاً من الهواة لا من المحترفين، مخلصين لفنهم، لم يسعوا إلى الشهرة، ولا إلى الكسب المادى. ولا أحسب أن أحداً منهم قد دخل جيبه قرش من عرق قلمه، كانوا يعملون وليس بجانبهم نقاد، وإن مثابرتهم على الإنتاج فى هذه العزلة الخانقة عن النقد، وعن المجاوبة بينهم وبين جمهور القراء لتعد إحدى العجائب" كانوا يلتقون فى الشوارع، وعلى المقاهى، وفى إحدى غرف بيت إبراهيم المصرى، يمضون الساعات الطويلة فى القراءة والمناقشة، وكانت جريدة السفور الأسبوعية التى أصدرها عبد الحميد حمدى فى 1917، هى المجال الذى نشر فيه أدباء المدرسة الحديثة إبداعاتهم .
وقد أحدث صدور "السفور" ـ على حد تعبير مصطفى عبد الرازق ـ رجة مذكورة فى القطر المصرى، وبخاصة لأن اسمها السفور قد صدم الذوق العام، وأثار حفيظة جمع كبير من دعاة الإصلاح الدينى، فحسبوا أن جماعة السفور يدعون إلى الإلحاد فى دين الله، بل لقد زعموا أن من ورائهم يداً قوية للمبشرين المسيحيين تحرضهم وتؤيدهم .
كان أفراد المدرسة الحديثة يقرءون بلزاك وديكنز وتولستوى وفلوبير، والملحق الأدبى لجريدة "التايمز"، ومجلة "جو أو لندن" و "الأثينيوم" والـ "نيشن" واعتبر أفراد المدرسة أنفسهم أبناء لجى دى موباسان وبلزاك وديستويفسكى وتورجنيف وتشيخوف وتولستوى، وكما يقول حسين فوزى، فإن أفراد الجماعة لم يخرجوا من ثوب زينب، ولا من حديث عيسى بن هشام، وإنما من ترجمات محمد السباعى والمنفلوطى وأحمد حسن الزيات وأنطون الجميل والمازنى، ومن الأصول التى ترجم عنها أولئك .
تضافرت مع المدرسة الحديثة، موسيقا سيد درويش، وتشكيليات جيل الرواد، والمسرحيات التى ناقشت هموماً مصرية حقيقية، كان الهدف الذى يجمع جماعة المدرسة الحديثة هو الهدم والبناء، هدم كل ما هو قديم ومتخلف، وبناء الجديد والمتقدم، حتى الرقص كان له من بين أعضاء المدرسة الحديثة أنصار جدد، يعملون على النهوض به من شهوانيته وفحشه، أما الصحيفة التى أصدروها، فقد جعلوا شعاراً لها : لا للتقليد والمحاكاة ! نعم للأبقى والأرفع !، وتحددت اهتمامات المدرسة فى العناية بالعلوم الحديثة والفنون الجميلة والآداب، والنهوض بالفن القصصى، وكتب أحمد خيرى سعيد " فلتحيا الأصالة، فليحيا الإبداع، فليحيا التجديد والإصلاح " وكتب "حى على الابتكار! حى على الخلق! حى على التجديد والإصلاح!، مثلنا الأعلى ألا نكون عالة على أحد، لا على القدماء ولا على المحدثين، فسيّان أن تضيف نفسك إلى القدماء من أجدادك، أو تلصقها بالمعاصرين من الغرباء .
ناظر المدرسة : أطلق يحيى حقى على "أحمد خيرى سعيد" لقب ناظر المدرسة، فهى تدين له بالريادة والأستاذية، يحب تلاميذه محبته لأبنائه، ويستطرد حقى : كان واسطة عقدنا، هو الذى علمنا جمال حرية الرأى، وثقل الفقهنة، وسماجة التعصب، وسخف العداء بين الأشخاص لاختلافهم فى المذهب، علّمنا أن أثقل داء هو الغرور، وكيف ينبغى أن نقر بجهلنا، ونحترم الأساتذة الكبار، هو الذى كان يردنا من التطرف إلى الاعتدال، ومن الغلو إلى القصد، ومن البهرج إلى المعدن الأصيل، يحب المناقشة وإثارتها ودفعها إلى درجة الاشتعال، ولكنه هو وحده القادر على أن يطفئ نارها بكلمة تستخرج الحق البسيط الواضح من كل هذا العجاج والضجيج .
وعلى حد تعبير حسين فوزى فأن ناظر المدرسة عاد من فلسطين، بعد أن انتهت مهمته كطبيب عسكرى لفرق العمال المصريين المصاحبين للجيش الإنجليزى، كان قد عايش أحوال العمال القاسية فى الطريق إلى بير السبع وبيت المقدس، هجر دراسة الطب، وانشغل بالكتابة فى صحف الحزب الوطنى، أما أغزر أفراد المدرسة إبداعاً، وأوفرهم موهبة، فهو محمود طاهر لاشين، والمدرسة الحديثة جزء من حركة إبداعية مصرية، حرصت أن تكون وليدة البيئة، وتعبيراً عن المصرية الخالصة " خلقت أدب مصرى محلى صادق فى تعبيره، لا يقتبس أخيلته من الصحراء، ولا من الغرب ".
وفى تقدير يحيى حقى أن أعضاء المدرسة الحديثة مروا فى مرحلتين : الأولى مرحلة اتصالهم بالأدبين الفرنسى والإنجليزى، قرأوا لشكسبير وثاكرى وموريسون وكارليل وسكوت وستيفنسون وديكنز وكورنى وراسين وموليير ولافونتين وبلزاك وهوجو ودوماس الأب والابن وفلوبير وموباسان، ثم قرءوا لأسماء أخرى: جوته وأوسكار وايلد وإدجار ألان بو وبول فيرلين ورامبو وبودلير وبيرانديللو ودانتى ومارك توين، وكان من النادر أن تسمع باسم الجاحظ أو المتنبى، ثم انتقل أعضاء المدرسة الحديثة إلى المرحلة الثانية ـ يسميها حقى مرحلة الغذاء الروحى ـ قرءوا الأدب الروسى، وبهرهم جوجول وبوشكين وتولستوى وديستويفسكى وتورجنيف وأرتوباتشيف وجوركى، فهذا الأدب يتحدث بحرارة وانفعال شديد عن الاعتراف والنزعة إلى التطهر والفداء، والبكاء على مآسى الحياة، والإيمان بالقدر والثورة عليه فى وقت واحد .
يقول حسين فوزى "كنا أبناء جى دى موباسان وبلزاك وديستويفسكى وتورجنيف وتشيكوف وتولستوى، ربما حقت علينا كلمات واحد من الروس العظماء، وأظنه ديستويفسكى، حينما قال : كلنا خرجنا من معطف جوجول، ويضيف حقى أن أعضاء المدرسة الحديثة كانوا فى أغلبهم "يعتنقون حرية الفكر، المقدسات لا ترهبهم، وأحياناً لا تقنعهم، وقد اقتصر اهتمامهم على الهموم المعيشية الأرضية، وتصوير العلاقات الاجتماعية بين الناس، أو وصف أنماط شاذة مضحكة من البشر، فلا تجد فى إنتاجهم آثار القلق إزاء لغز الوجود، وقدر الإنسان، والصراع بين الخير والشر، وحاجة النفس إلى الوصول للطهر فى محراب الجمال ".
فى دراسة بموقع نادى البيان للأدب والفكر عن "الواقعية وتشكل الرؤية" بدون ذكر لكاتبها، يمكن الاستفادة من مبحث مستقل عن القصة القصيرة "كان من البديهي وفقا للمألوف في الدراسات القصصية العربية أن نجعل مبحثا مستقلا عن القصة القصيرة الرومانسية، إلا أننا لم نفعل ذلك لأن الرؤية الرومانسية في القصة القصيرة اقترنت بمرحلة البدايات الأولى، وكانت هذه الرؤية كثيرا ما تحدث خللا بين التشكيل الفني والرؤية الفكرية، لأن الكاتب يطرح قضية واقعية ويعالجها معالجة رومانسية، ومن ثم يحدث تناقض بين الرؤية والأداة، ولعل عدم نجاح الرؤيا الرمانسية في قصص العديد من الكتاب يرجع إلى أن فن القصة القصيرة فن أدبي ارتباط منذ نشأته الفنية الأولى في أوائل القرن العشرين بقضايا الواقع الحياتي المعيش، وبخاصة قضايا الطبقة المتوسطة، وارتباط صدقها الفني بمدى تعبيرها عن الواقع، بل أن ارتباطها بالواقع كان سبب نجاحها وتطورها".
وعلى ذلك جاء اهتمامنا بالقصة الواقعية، لأنها شكلت ملمحا بارزا في مسيرة القصة القصيرة، امتدت من أوائل العقد الثالث من القرن العشرين، وحتى نهايات العقد السادس منه، وذلك في مصر وبلاد الشام. وهذا الإمتداد الزمني خير دليل على نجاح القصة القصيرة الواقعية وعلى ارتباطها بقضايا الواقع، ومن هنا تمركز اهتمامنا حول القصة القصيرة الواقعية .
وكانت بداية النزعة الواقعية فى مصر على يد محمود طاهر لاشين، الذى لم يقتصر على عرض المشاكل التي تعتري المجتمع، لكنه توغل في داخل المجتمع المصري وصولا إلى الطبقة الشعبية فأحد أبرز القصص المتفردة للاشين وهي من المجموعات المتقدمة والتي عنونها "بيت الطاعة" تعكس قدرة وموهبة الكاتب في التغلغل إلى الطبقات الشعبية في مصر وتحاول عرض مشاكلها وتأصلها، كما ترسم شخصيات القصة بإحساس واقعي وعناية في الوصف والتحليل والحوار، أن عمل محمود طاهر لاشين فى مصلحة التنظيم أتاح له إمكانية الاختلاط بكل فئات الشعب وطبقاته، والاحتكاك بميادين ومجالات متباينة، والتعرف على أدق مكونات الحياة المصرية. كان مهندساً، تنقل ـ حسب طبيعة عمله ـ من حى إلى حى، جاس خلال الأحياء الشعبية، وخالط أولاد البلد وصغار التجار وأصحاب القهاوى، واطلع على أحوالهم ومشكلاتهم ونوازعهم ومآتمهم وأفراحهم، فانكشف له ـ على حد تعبيره ـ " المستور وراء الجدران ووراء الأبدان، وعرفت من الحقائق ما يزيف الظاهر، ويهتك الطلاء عن المرئى لنا نحن المبصرون " وبلغ اهتمامه بالمشكلات الاجتماعية حد اتهام يحيى حقى له بأنه " وقع فريسة سهلة لإرهاب الفكرة القائلة بأن الأدب مرآة للمجتمع، فكلف نفسه أن يفرد قصة لعلاج كل عيب من عيوبنا الاجتماعية، فهذه قصة عن بيت الطاعة، وقصة عن تعدد الزوجات، وقصة عن الزواج بالأجنبيات وجنايته على الأولاد، وقصة عن البخل، وأخرى عن أولياء الله الزائفين وخطرهم، وكان من الطبيعى ان يستمد أغلب موضوعات قصصه من مشاهداته مِن واقع الحياة؛ استمدها أولا من القصص الأجنبي عن طريق الاقتباس أحيانًا، وإن كان هذا في نطاق ضيق؛ كاقتباسه أقصوصة "الانفجار" من أقصوصة لتشيكوف، ترجمها المرحوم محمد السباعي بعنوان "زوبعة منزلية"، وقد سار لاشين مع تشيكوف خطوة خطوة في القصة، وإن كان قد أعطاها جوًّا مصريًّا خالصًا، ثم عكف على الكتابة من الواقع الحقيقى لحياة الناس خاصة البسطاء من المصريين فى الريف والمدينة .
عوامــل تطور القصة القصيرة : هناك عوامل عديدة أدت إلى تطور القصة القصيرة صوب الواقعية، منها عوامل فنية وسياسية واجتماعية، وحضارية وثقافية .
• يأتي العامل الفني في مقدمة هذه العوامل، فالقصة القصيرة منذ الربع الثاني من القرن العشرين بدأت تتحدد ملامحها وتكتمل أسسها وتنضج رؤيتها، وهذا النضج الفني جعل الكتاب يطورون أدواتهم الفنية، لأن القصة الواقعية تعد مرحلة متطورة عنها في مرحلة الريادة الفنية، ولعل تمرد بعض الكتاب على الأدب القديم جاء نتيجة عدم رضاهم عن التقليد والمحاكاة للآداب القديمة أو المترجمة، وتطلعهم إلى فن حقيقي يحاكي الواقع محاكاة حقيقية، فالعمل الفني كي يكون جديرا بالحياة، يجب أن يتخلص أولا وقبل كل شيء من قيود الرجعية، التي تعرقل كل تقدم في هذه البلاد، ويجب أن يكون خالصا من التأثير الأجنبي بعيدا عن التقليد، صادقا في التعبير عن مشاعرنا، جريئا في إظهار نقائصنا، ولذلك وجدنا الأدباء يجددون في مجالات اللغة، فتخلصوا من الأساليب البيانية، واعتمدوا على لغة واقعية تعبر عن نبض الحياة وواقعها، وتعبر عن الممارسات الحياتية اليومية .
• تمثل العاملان؛ السياسي والإجتماعي في التغيرات التي طرأت على بعض البلاد العربية، عندما ازدادت الحركات الوطنية التي تنادي بالإستقلال، الأمر الذي جعل الكتاب يستهلون الواقع المعيش ويعبرون عنه بصدق فني، نجد ذلك في القصة القصيرة في مصر وبلاد الشام والعراق، ويقول محمود تيمور أحد الكتاب المعاصرين لمرحلتي الريادة والواقعية "لا خلود لأدب إلا إذا كان صادق التعبير عن الإنسان مصورا لأعمق خوالجه وأشيعها في كل مكان ".
• وتمثل العاملان؛ الحضاري والثقافي في اطلاع الأدباء على المذاهب الأدبية الأوربية في ألمانيا وفرنسا وأمريكا وروسيا، وخاصة المذهب الواقعي، وقد كان انفتاح المثقفين العرب على الأدب الروسي في طليعة الآداب الأوربية التي تأثر بها كتاب الواقعية في أدبنا الحديث. فقد اطلع عدد كبير من الكتاب العرب منذ الثلاثينيات على كتابات جوجول، و بوشكين، وتولستوي، و ديستويفسكي، و ترجنيف و مكسيم غوركي، وتتسم كتابات هؤلاء بالسمات الواقعية. كما كانت بعض الجرائد مثل وادي النيل، والبلاغ الأسبوعي، والسفور، والفجر، تنشر روائع الأدب الروسي في أواخر العشرينيات من هذا القرن. وهذا بدوره ساعد الكتاب على التأثر بالأدب الروسي الواقعي. فضلا عن توافق هذا الأدب مع النزعات الثورية، التي ينادي بها أصحاب الحركات الوطنية التحررية للخلاص من القوى الإستعمارية، الأمر الذي جعل أصحاب المدرسة الحديثة مثل أحمد خيري سعيد، وعيسى عبيد، وشحاته عبيد، وطاهر لاشين ينادون بضرورة تعبير القصة القصيرة عن حقيقة الواقع المعيش .
عصر انتشار القصة القصيرة : مع بدايات القرن التاسع عشر بدأ انتشار الصحافة وانتشر معها الفن القصصي، ودخول القصة معترك السياسة أعطاها حيوية ومضيًّا كسلاح لا يُفَلّ، ودخلت في الصراع الاجتماعي والديني حتى أصبحت مناضلة تتنفس بالشكوى والتمرد، وتصارع مع البسطاء قسوة الحياة وغلظتها، وإذا كانت الصحافة لعبت دوراً كبيراً في تقديم القصة القصيرة للقراء وانتشارها على مساحة جغرافية وثقافية واسعة فإنها حولتها إلى فن محكوم بصياغة محددة، بل رفضت عدداً معيناً من الكلمات؛ كي تناسب مساحة محددة قررتها الصحيفة سلفاً. وقد حدث ذلك في فترة مبكرة في عدد من الصحف الغربية، بل إن ثمة تزامناً تقريبياً بين نشأة الصحافة وانتشار القصة القصيرة، وإن كلاً منهما قد خدم الآخر، ففي الوقت الذي نجد أن الصحافة لعبتت دوراً كبيراً في توسيع رقعة قراء القصة القصيرة وزيادة انتشارها على مساحة جغرافية أكبر ومستويات اجتماعية وثقافية مختلفة، فإنها في نفس الوقت فرضت عليها مقداراً كمياً محدداً،نظراً لمحدودية الزوايا والصثفحات، واتخذت الصحافة من القصة القصيرة بدلاً عن الرواية، التي كانت تنشرها مسلسلة، لكنها حين رأت أن القارئ ليس بمقدوره المتابعة اليومية أو الأسبوعية الدائمة تحولت إلى القصة القصيرة حيث وجدت فيها البديل الأفضل المناسب للصحيفة السيارة المقروءة في ذات اليوم .
ويكفي أن نذكر أسماء ذات اعتبار لندرك كيف أن القرن التاسع عشر هو قرن القصة القصيرة (موباسان، تشيكوف، إدجار آلان بو، جوجول، أوسكار وايد، دوديه، هوفمان) وملخص القول في هذه القضية ما يؤكده الناقد الأدبي د. عبد المنعم تليمة (الأستاذ بكلية الآداب - جامعة عين شمس) أن المصريين لم يتخلفوا عن ركب القصة القصيرة؛ لأننا أبدعنا في هذا المجال في عصر موازٍ للإبداع الغربي، ودعوى سبق أوربا لنا لا تقوم؛ لأن الفارق الزمني بيننا وبينهم لا يتعدى عشرات من السنين، وهذا -في رأيه- ليس زمنًا طويلاً ولا عصرًا كاملا، فالفرق بين بداية كتابة "جى دى موباسان" للقصة القصيرة، وبداية "طاهر لاشين" لا يتعدى عقدين من الزمان .
جسدت المدرسة المصرية الحديثة أغلب عوامل تطور القصة القصيرة وخاصة فى معناها الواقعى، ولعل أفضل من كتب عن هذه المدرسة الكاتب الروائى "محمد جبريل" ففى دراسة ضافية له تحت عنوان "المدرسة الحديثة .. جيل ما بعد الريادة" بتاريخ 6 / 8 / 2007 -ورغم اننى اختلف معه حول قوله "ما بعد الريادة" - حيث ان المدرسة المصرية الحديثة فى الفن القصصى كانت رائدة ولم يسبقها إلا بعض الترجمات والأقتباسات عن القصص القصيرة الأجنبية، ولم تتخلف كثيرا عن ركب البداية كما أكد ذلك د . عبد المنعم تليمة، ولكننى اتفق مع ما أضافه حول تاريخ المدرسة، فقد أضاف الكثير حول الأسلوب، والعلاقة مع القديم والجديد، وارتباط المدرسة مع ثورة 1919 .
فجبريل يقول " أفلحت المدرسة الحديثة فى تخليص فن القصة والرواية والنثر بعامة من لغة المقامة كما فى حديث عيسى بن هشام للمويلحى، ومن الاتجاهات الوعظية كما فى النظرات والعبرات للمنفلوطى، ومن التمصير الذى يختلف فى لغته وأحداثه وشخصياته عن الأعمال التى نقل عنها كما فى ماجدولين والشاعر وغيرها، فقد حرصت إبداعات أبناء المدرسة الحديثة على اللغة البسيطة، السهلة، المطعمة أحياناً ببعض المفردات أو التعبيرات العامية، أو بالحوار العامى. وقد أجمع النقاد على أن محمد تيمور هو منشئ الأقصوصة المصرية، ومبتكر التصوير الواقعى للحياة الاجتماعية الحديثة، بل إن البعض يعتبر قصة فى القطار هى البداية للقصة القصيرة المصرية. ويذكر المستشرق الألمانى "ا. شادة" أن السنوات الثلاث التى أمضاها محمد تيمور فى باريس حرضته على إيجاد أدب مصرى حديث، تنعكس فيه صورة الشعب المصرى بجميع مظاهره .
ويقول حسن محمود فى تقديمه لرواية حواء بلا آدم " لعل أكبر نعم الأدباء المجددين على الأدب فى عصرنا هذا، هو الأسلوب الذى بدأ ينمو على قواعد جديدة، ويقوم على أسس صحيحة، فقد ذهب الزمن الذى كان الكتاب فيه لا يطمحون إلى غير بلوغ مرتبة كاتب من الكتاب الأقدمين، ويحاولون عبثاً محاكاته بالتقليد، فإذا ما بلغوا شيئاً من ذلك اعتبروا أنفسهم فى مرتبة الأدباء، أو اعتبرهم الناس. أما اليوم فنحن نفهم غير هذا، على الأقل كتاب الشباب، فالغرض الذى يقصدونه هو الابتكار لا التقليد، وهم يقرأون الكتب القديمة لا على أن يتخذوها مثالاً، بل على أن يقفوا منها متفرجين، لأنها تمثل عصراً ذهب وانقضى، وتمثل زمناً كانت وسائله محدودة، وحضارته مهما قيل فيها، فهى لم تبلغ قط مبلغ الحضارة التى نعيش فى كنفها الآن" .
وثمة ملمح مهم يجدر بنا أن نتوقف أمامه، فإذا كان البعض من أدباء المدرسة الحديثة قد أسرف فى نقد التراث العربى، والتأكيد على غثاثته، حتى لقد دعا إبراهيم المصرى الأدباء الجدد لأن " ينبذوا ظهرياً ثقتهم العمياء بصلاحية الأدب العربى البالى، وأن يقبلوا على ينابيع المعرفة الحقة، فلا يكتبوا إلا بعد ثقافة أوروبية طويلة.. إذا كان هو رأى البعض من أدباء المدرسة الحديثة، فإن العديد من الآراء، بل والأعمال التى صدرت لخيرى سعيد وطاهر لاشين ومحمد تيمور ومحمود تيمور وغيرهم من أدباء الجماعة تشى بأن النظرة إلى التراث العربى ـ فى تقدير ناظر المدرسة وأعمدة رئيسة فيها ـ لم تكن رفضاً مطلقاً، فرفض التقليد والمحاكاة الذى حرصت عليه المدرسة الحديثة، لم يقتصر على رفض التراث العربى مقابلاً للحفاوة بالإبداعات الغربية، وإنما كان الهدف " خلق أدب مصرى محلى صادق فى تعبيره، لا يقتبس أخيلته من الصحراء، ولا من الغرب ".
يقول أحمد خيرى سعيد " كانت نظراتنا الأولى موجهة إلى ذاتنا، إلى عالمنا الداخلى، إلى استكناه الفطرية النفسية. فالجامعة التى كانت بيننا جامعة إصلاح وحركة تطور وانقلاب، مدفوعين باختلاجات قوية، وثورات باطنية، للخروج على القديم، وها هى عملية الهدم تطرد، والثغرة فى أسوار القديم تتسع وتنفرج، وسندخل المدينة ظافرين، أما الهدف فهو " أن يكون لمصر أدب مصرى، وفن مصرى، وتفكير مصرى. ننكر التفكير بعقول الغير. وسواء عندنا الذين يفكرون بعقول الغربيين، والذين يفكرون بعقول الجاهليين أو العابثين، فكلهم مقلّد، وكلهم بوق لا يحس الحياة، يضيف أحمد خيرى سعيد "غير منصف هذا الذى يرفض القديم كله، وغير منصف ذلك من يرفض الجديد كله، ولا نكران فى أن القديم به الكثير مما يجب رفضه، لكن أكثره صالح، والجديد خاضع للناموس الذى خضع له القديم".
إن حسين فوزى أشد أعضاء الجماعة رفضاً لكل ما هو شرقى، وإقبالاً على كل ما هو غربى كما أكد ذلك فى كتابه سندباد عصرى أضاف إلى ثقافتنا العربية حديث السندباد القديم، الذى يعتمد على كتب التراث العربى بصورة أساسية، لم يكن خيرى سعيد إذن، ولا المدرسة الحديثة، ضد الأدب العربى، لكنه كان ضد ما لا يلائم العصر منه، ضد النقلية واعتبار كل خير فى اتباع من سلف، وكل شر فى اتباع من خلف " مثلنا الأعلى ألا نكون عالة على أحد، لا على القدماء، ولا على المحدثين. مثلنا الأعلى أن نطرح التقليد إلى الأبد" .
ودعا سعيد إلى " أدب مصرى، وفن مصرى، وتفكير مصرى أصيل، ننكر التفكير بعقول الغير، وسواء عندنا الذين يفكرون بعقول الغربيين، والذين يفكرون بعقول الجاهليين، فكلهم مقلد، وكلهم بوق لا يحس الحياة، فالمدرسة الحديثة جزء من حركة إبداعية مصرية، رفضت التقليد والمحاكاة، وحرصت أن تكون وليدة البيئة، وتعبيراً عن المصرية الخالصة، وخلق أدب مصرى محلى صادق فى تعبيره، لا يقتبس أخيلته من الصحراء، ولا من الغرب كان الهدف شروعاً فى نهضة، وأسس النهضة هى تلاقى الروافد، واكتمال الخطة .
أصدر أحمد خيرى سعيد مجلة "الفجر" لسان حال لتلك الدعوة الأدبية، التى كانت وقتئذ شعاعة تائهة فى أفق يكسوه الضباب. وما هى إلا سنوات قصار، حتى صحا الأفق، وسطعت الفكرة، وتجلى طه حسين وتوفيق الحكيم والمازنى والعقاد وشوقى، يدعمون الفن القصصى، ويقيمون صرحه، بما أولوه من عناية وتقدير، فاتسقت للقصة المصرية مكانة مرموقة، جذبت إليها ذلك السيل الدافق من الأدباء القصصيين، وأصبح القراء يتلقفونها فى كل صحيفة ومجلة وكتاب، حتى لقد صارت كلمة " القصة " عنواناً جذاباً للكتب ".
المدرسة الحديثة وثورة 1919: إن يحيى حقى يجد فى معطيات المدرسة الحديثة تعبيراً عن ثورة1919فى أحضان الثورة نشأت موسيقا سيد درويش، ونشأ أدب المدرسة الحديثة، وكلاهما منبعث عن حاجة ملحة لإيجاد فن شعبى صادق الإحساس، لأدب واقعى، متحرر من التقليد، واقتباس الأخيلة من الغير" حيث كانت عودة الروح محاولة لتأكيد الشخصية المصرية، فى الوقت الذى كانت فيه تلك الشخصية تحاول أن تجد ذاتها، وأن تؤكدها .
وفى هذا المجال يقول توفيق الحكيم "كانت القضية الفكرية الشاغلة للعقول بعد ثورة 1919، هى الشعور بالشخصية القومية، وبعث الروح المصرية، بعد تسلط أجنبى دام فترة طويلة من الزمن، استكانت فيها الأمة، حتى زعم الأجانب المتسلطون أنها جنس دون جنسهم، وليس من شأنها، ولا من طبيعتها، أن ترقى رقيهم، ففكرت فى أن أدحض هذا الزعم، وأثبت أن الروح كامنة، وهى روح عظيمة، ولابد أن تعود، وأن الشعب الذى صنع الحضارة القديمة، والتفت العالم الغربى نفسه إلى ما كان لهذه الحضارة من شأن عظيم بعد كشف حجر رشيد، وفك رموزه ودلالاته، على ما كان من حضارة ليست أقل من حضارة الإغريق، وحرت فى وسيلة التعبير، ثم اهتديت إلى أن الأليق بى أن أعبر عن ذلك فى رواية، برغم ميلى واتجاه نفسى إلى كتابة المسرحية، لأنى وجدت أن المجال الروائى الرحب هو الملائم للموضوع، فكانت رواية عودة الروح" .
ومنذ أواخر الثلاثينيات، كانت رسالة المدرسة الحديثة قد اكتملت، ولم يبق منها فى أواخر الأربعينيات إلا ذيول ولعلى أذكّر بكلمات يحيى حقى عن محمود طاهر لاشين " نحن مدينون للمدرسة الحديثة بالشيء الكثير، هى التى جاهدت من أجل أن يكون لدينا أدب أصيل، نابع عن كياننا، وأسلوب متحرر من التكلف والميوعة، هى التى ثبتت لفن القصة قدمه، ووطدت سمعته، وبشرت بالمذهب الواقعى، فخلصتنا من نهنهة الرومانسية، وهى التى حاربت الظلم والفقر والجهل والتخلف والنفاق ورفعت مقام الفلاح ورجل الشارع، ونادت بالتكافل الاجتماعى، ومهدت لتطور الحركة الوطنية وروح المجتمع بصفة عامة .