حول مسألة الشريعة و تطبيقها
مولود مدي
2017 / 8 / 19 - 22:41
منذ و أن سقطت الخلافة العثمانية, ظهرت العديد من الدعاوي في المجتمعات المسلمة بالعودة الى تطبيق الشريعة, و ظهرت الكثير من الأحزاب السياسية الاسلامية, تحمل شعار " تطبيق الشريعة ", و أكثرهم تأثيرا حركة الأخوان المسلمين, حتى خرج من عباءة هذه الحركة من يدّعي أن الشعوب الاسلامية هي شعوب كافرة و جاهلة ملحدة لأن شرع الله غير مطبّق فيها, لكن المشكلة هي عندما تسأل المسلم ماالذي يقصده بتطبيق الشريعة .. و هو لن يجيبك على السؤال أبدا, لأن المسلم لديه مشكلة مع المصطلحات, فهو أولا لا يسمّي الأشياء بمسمّياتها, و ثانيا لا يعرف ان هناك علاقة بين الظروف التاريخية و المصطلحات, فالكثير من المصطلحات اندثرت و انقرضت من واقعنا لأنها لا تليق الا بالزمان و المكان الذي ظهرت فيه, فقبل أن نحاول فهم مالذي تعنيه " الشريعة " علينا أن نضبط المصطلح أولا و تعريفه و تحديد معناه, و الا غرق المصطلح في الاضطرابات و يضيع في متاهة من المعاني.
لفظ " الشريعة " لم يظهر فقط في القرأن, فقد عرفه العرب قبل الاسلام, وقد عرفته الديانة اليهودية و الديانة المسيحية, وهذا يعني أنه علينا أن نعرف ما مفهوم الشريعة عند أهل الكتاب و المعنى الذي قصد منه, لكي نعرف ما قصد به في القرأن, و نحن مؤمنين أن القرأن لم يأتي لينقض جوهر المسيحية و اليهودية, فالاسلام جب لما قبله, لكن القرأن أتى لبيان التحريف البشري لهذه العقائد و دخول الأهواء البشرية فيها, مما حوّلها من أديان سماوية الى أديان أرضية.
في التوراة لفظ الشريعة ورد بالعبرية حوالي مائتي مرّة, ولو نعرض نصوص التوراة لفهمنا أن الشريعة في الديانة اليهودية هي تطبيق ارادة الله و لم تعني أن الشريعة عبارة عن قانون, ( هذه هي الشريعة التي وضعها موسى أما بني اسرائيل / سفر التثنية 4: 44 ), ( هذه هي فريضة الشريعة التي أمر بها الرّب / سفر العدد 1:19 ), ( جاء الرّب من سيناء و أشرق من سعير و تلألأ من جبل فاران و أتى من ربوات القدس و عن يمينه نار شريعة لهم / سفر التثنية 1:33 ), و الشريعة هنا في التوراة كما قلنا لم تعبّر عن قانون, و انما قصد بها الطريق أو السبيل لأداء فريضة دينية معيّنة.
في الديانة المسيحية ورد في العهد الجديد أي الانجيل نصّا يبين الهدف الحقيقي للسيد المسيح وراء رسالته لبني اسرائيل, اذ يقول الانجيل: ( لا تظنّوا أني جئت لأنقض الناموس أو الأنبياء, ما جئت لأنقض بل لأكمل / انجيل متى 5: 17 ), يعني أن السيد المسيح أراد ان يقول أنه لم يأتي ليغيّر جوهر شريعة النبي موسى, بل عدّل بوصلتها و غيّر معناها فنقلها من التشدد و التزمّت الشديد و طغيان الجانب المادي عليها, و بدّل أساسها, و جعل معناها الحب و أصبح أساسها القلب أي النيّة يقول المسيح عليه السلام ( تركتكم أثقل الناموس: الحق و الرحمة و الايمان / انجيل متى ), و لقد قصد السيد المسيح بكلمة الناموس الشريعة الموسوية , و نلاحظ أن المسيحية قد ركّزت على الانسان و جعلته موضع الاهتمام و نددت بالكهنوت الا أنها لم تقضي عليه قضاء تاما.
في القرأن الكريم لفظ الشريعة لم يذكر كثيرا, بل ذكر مرّة واحدة فقط, (ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَىٰ شَرِيعَةٍ مِّنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ / سورة الجاثية ( 18 )), يعني جعلناك يا محمد على طريقة وسنة ومنهاج من أمرنا الذي أمرنا به من قبلك من رسلنا, ان اشتقاق لفظ الشريعة هو اللفظ اكثر ذكرا في القرأن, (أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ /( 21) الشورى ), و لفظ الشريعة أصلا في اللغة العربية يعني مورد الماء و المكان الصالح للنزول اليه, و هناك أغنية بغدادية قديمة تقول ( بشريعة النواب يسبح حبيبي ) وهي موضع مشهور على نهر الدجلة عند مروره بغداد, وحتى الى الأن في الفلسفة الصينية يتمّ اعتبار معنى لفظ الشريعة الطريق و السبيل, فمعنى الشريعة لا يعني لا في اللغة العربية ولا في النص القرأني المقدّس التشريع و لا القانون, الدليل الفترة المكّية للقرأن أي قبل نزول التشريع نزلت الأياتين ( شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ / 13:42 الشورى ) و الأية ( لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا / المائدة 48:5 ), ان فترة التشريع في الاسلام كانت في المدينة و لم تكن في مكّة.
قبل ستّة الاف سنة من ميلاد المسيح بيّن المؤرح اليوناني بلوتارك أن النبي ادريس عليه السلام, أو اوزيريس كان ملكا على مصر, دعى اهلها الى عقيدة التوحيد, علمّهم السياسة المدنية, و كتب لهم مجموعة من القوانين لتكون قوانينه هي الأولى في التاريخ البشري و كان يطلق, و هذه القوانين لم تدوّن بل تم تناقلها شفهيا, ثم اصبحت من عادات المجتمع المصري و طبائعه, و يمكن استحضار روح هذه القوانين باستحضار خلق المصريين القدماء, لكن ما ميّز هذه القوانين هي التماشي مع الواقع و الابتعاد عن التجريد, و يعني أن كل لفظ في قوانين أوزيريس عليه السلام تعني معنا واحد لا يحتمل التأويل, فكان النبي ادريس رمزا للخير, و كان أخوه ست رمزا للشر, و كانت " ماعت " رمزا للحق و الاستقامة, ثم أصبح المصريون القدماء يستعملون لفظ ماعت الذي يعني العدل و الاستقامة و الحزم و الحق, و بعد خروج النبي موسى عليه السلام من مصر, كانت قبيلة اللاويين المصرية هم حملة التراث المصري و الذين سيصبحون كهنة بني اسرائيل, وهكذا تغلّب الفهم المصري على التوراة و الشريعة و نقلوا لفظ ماعت الى التوراة فحصل اضطراب بين مفهوم التوراة الذي يعني الارشاد و التوجيه القانوني, و ماعت الذي يعني كما قلنا العدل و الاستقامة, فأصبحت كلمة الشريعة تعني القانون الذي لا ينسخ و لا يتغيّر.
في الفقه الاسلامي ورد اصطلاح الشريعة للدلالة على القانون الاسلامي, و تتألف هذه الشريعة حسب الفقهاء من مصدرين هما الكتاب و السنّة, لكن في الحقيقة القول بأن الشريعة هي كتاب و سنّة لهو قول غامض, فهناك من يقول بأن الشريعة هي الكتاب و السنّة و القياس و الاجماع و غيره وهناك من لا يعترف بالاجماع و هناك من لا يعترف بالقياس بل و هناك من لا يعترف بالحديث أصلا, ان هذا الغموض هو في الحقيقة نتاج خلط الفقهاء بين الدين الذي مصدره القرأن و الفكر الديني الذي مصدره اجتهادات البشر, ولا يمكن أبدا المساواة بين الدين و الفكر الديني, و من هذا الخلط يبدوا لنا ان الذين يدعون الى تطبيق الشريعة, هم في الحقيقة لا يقصدون معنى الشريعة في القرأن, و انما يقصدون الى تطبيق الفكر الديني الاسلامي الذي ظهر في القرن الثامن ميلادي.
ان الذين يدعون الى تطبيق شريعة فقهائهم أو الشريعة التاريخية يجب أن يفهموا أن الشريعة يجب أن تتواصل مع المجتمع و أن تراعي ثقافته و أعرافه و هذا هو أفضل تطبيق لها, فالشريعة الاسلامية لم تنزل دفعة واحدة و من دون أسباب واضحة, فقد كانت تتفاعل مع الحياة و تنسجم مع الواقع والا فلماذا نزل القرأن في ظرف ثلاث و عشرين سنة عوض أن ينزل دفعة واحدة ؟, و هي لم تكن منقطعة الصلة بالماضي, بل أخذت من قواعد المجتمع و عوائده, قاطعة بذلك الطريق على السلفيين المتخلّفين الذي يريدون محو ثقافات البلدان بحجة تطبيق الشريعة, فلا هم طبّقوها ولا هم تركوا البلدان التي غزوها تعيش بسلام.