كيف تأثر الفقه الإسلامي بالعقلية العربية البدوية؟
مولود مدي
2017 / 8 / 17 - 21:28
1)- العقلية العربية البدوية هي عقلية صدامية لا تعرف الوسطية في الحياة فهي إما أن تكون مع نفس رأي زعيم القبيلة أو تكون ضدّه، لذا الصراعات القبلية هي صراعات حياة أو موت، لذلك قسوة الطبيعة جعلت رؤية البدوي للموت شيئًا اعتياديًا، فإذا كان ظرفه يجعله مقاتلًا كي لا يموت جوعًا، وأن استمرار حياته لا يكون إلا بموت غيره، فما أهون الموت في شؤونٍ أعلى أو أدنى، والفقه الإسلامي تأثر بهذه العقلية كثيرًا وخاصة أهل الحديث القريبين من أهل المدينة، فجميع الفقهاء المسلمين لا يمانعون من إعمال السيف في المسلم قبل غير المسلم، العقلية الفقهية الإسلامية هي استنساخ للعقلية البدوية الصحراوية، وهي الخلاف وإعلان الحرب على المخالف لأتفه الأسباب، فالمسعودي المؤرخ المسلم يقول (إن شهر صفر سمّي بهذا الاسم لأن بيوت العرب كانت تصفر أي تخلو من الناس لخروجهم جميعًا لغزو بعضهم البعض)! فقد كانوا يقتلون بعضهم البعض لمجرد أي اختلاف بسيط قد يفوق قدراتهم العقلية، فيكون السيف هو الحل الوحيد القادر على حسم المشاكل، ولنا في حرب «داحس والغبراء» خير مثال حيث تقاتلت قبيلتان عربيتان لمدة 40 عامًا بسبب سباق خيل وكان سبب النزاع هو فرسا رهان، غلب أحدهما الآخر في إحدى أسواق العرب في الجاهلية!.
2)- على المستوى الثقافي، العقلية البدوية متأثرة بتقديس الأشخاص والمبالغة في تبجيلهم، لذلك عقلية «السلف الصالح» لم تظهر بظهور المذاهب الإسلامية، بل جذورها تعود إلى الفترة ما قبل الإسلامية والتي يسمّيها المسلمون بالجاهلية، ففي الجاهلية ترتبط القبيلة قرابيًا وتنتسب لسلف صالح واحد يرونه خير أب لخير خلف، فالقبيلة من دم واحد وعنصر واحد وسلف صالح واحد وهو ما يجمعها ويربطها ببعضها ومنه تستمد القداسة لذاتها بالتعبد له، مما يُحوَّل الجد البعيد بمرور الزمن وتباعده من مقدس مُبجل إلى إله، وليس هناك اختلاف في الفترة الإسلامية، ففي كتاب «الفتاوى الكبرى لابن تيمية» يقول: (والأفضل للناس أن يتّبعوا طريق السلف في كل شيء، فلا يقومون إلا حيث كانوا يقومون / ص 49)، ومن هنا نأخذ فكرة عن مفهوم البدعة عند الفقهاء المسلمين، فالبدعة عندهم ليست في الخروج عن الأطر العامة للاجتهاد في الإسلام، وانما البدعة هي أن تفعل ما لم يفعله السلف أو الخروج عن أقوال الأئمة، فمثلًا كان النظام القبلي البدوي لا يسمح بوجود أي اختلاف بين رعيته فكلهم نمط عسكري أحادي التكوين والرؤية والقرار، تأثر الفقه الإسلامي بهذه العقلية، فلا اجتهاد يخرج عن اجتهاد الصحابة، ولا تأويل للنص يخالف تأويلهم، ومن يتجرأ في القبيلة البدوية على التمرّد على زعيمها يتم نفيه للصحراء وحيدًا حيث يموت وحيدًا أو ينضم لمجتمع الصعاليك والذؤبان المطرودين من حماهم، وهو ما يعادل التكفير في الفقه الإسلامي، فتحول الدين من رسالة عالمية موجّهة لجميع البشر إلى وسيلة للقتل والقمع وتم اختزاله في الفتاوى وأقوال السلف، لذا السلفيون زعموا أن العودة إلى أقوال وأفعال السلف كفيل بصنع المجتمع الأخلاقي متناسين أن المجتمع الأخلاقي لا يأتي إلا بترسيخ التديّن العقلاني وليس التدين التاريخي المبني على أفعال البشر الغابرين، فالإنسان هو كائن ناقص غير منزه عن الخطأ لذا ما قاله أو فعله لا يصلح دائمًا لكل زمان أو مكان، لقد تناسى السلفيون أن الادعاء أنه بتقليد السلف سنعود إلى عصر المدينة الإسلامية الفاضلة – التي لم تتحقق أبدًا – يعني تسليمًا ضمنيًا بأن الإسلام هو دين جامد لا يتطور مرتبط فقط بمؤسسيه وبالبيئة التي ظهر فيها، وهذا لا يعزز إلا حجة اللاديني الذي يقول أن الدين هو منتج بشري وأن لكل دين علة، وبهذه الفرضية يستنتج أن الدين ينقرض فور انقضاء العلة وبالتالي لا مبرر لوجود الأديان، فتصبح تصرفات السلفيين ضارة بالإسلام أكثر من نافعة، ففي كل مرة تصبح أفعالهم سببًا في تدمير أنفسهم وفي تشويه صورة الإسلام.
3)- بسبب الظروف الطبيعية القاسية التي عاش فيها الإنسان البدوي، لم تسنح له الفرصة لكي يكون له باع طويل في العلم في الطبيعة الصحراوية القاسية حيث تندر الحياة ومظاهرها في كل المجالات ويطغى الموات والسكون والرتابة، وحيث يكون هم ساكنها تدبير قوت يومه مما تمنحه إياه هذه البيئة القاسية، الفاعلية الأولى وربما الوحيدة للعقل هي صياغة الكلام، وهذا ردّ صريح على من قالوا بأن للعرب دور كبير في العلوم والصناعات، فإن الدارس لتاريخ المجتمعات العربية يخرج بنتيجة أن الظروف التي كان يعيشها العرب من بيئة بدوية صحراوية قاحلة واقتتال دائم بين القبائل العربية والنقص الشديد في الغذاء والماء لا تسمح أبدًا بأن يكون للعرب دور كبير في العلوم والاختراعات، فإنّ أغلب من ساهموا فى هذا المجال أشخاص غير عرب، وقد خصّص ابن خلدون فصلًا لهذا الموضوع تحت عنوان (فصل فى أنّ حملة العلم فى الإسلام أكثرهم عجم)، ومع ملاحظة أنه استخدم اللفظ العربى (عجم) ومعناه فى قواميس اللغة العربية (بهائم)، ولكنه كان شديد الموضوعية عندما كتب أنّ السبب فى ذلك أنّ العرب لم يكن عندهم علم ولا صناعة، حتى إنّ علم النحو (العربي) وضعه سيبويه الفارسي.. إلخ، كما خصّـص أكثر من فصل عن أنّ العرب (أبعد الناس عن الصنائع) وإذا كان العرب لهم إسهامات فى العلم كما زعم العروبيون أيام حكم جمال عبد الناصر في مصر، فلماذا أمر عمر بن الخطاب بمحو علوم فارس وعلوم الكلدانيين والسريانيين وأهل بابل وعلوم القبط؟، كما كان ابن خلدون صريحًا عندما وصف العرب بأنهم أبعد الناس عن العلوم والصناعات وأن همهم الأول هو السيف وغزو البلدان لأجل الطعام فقط، ولما فتح العرب -أي احتلوا- أرض فارس ووجدوا فيها كتبـًـا كثيرة، كتب سعد بن أبى وقاص إلى عمر بن الخطاب يستأذنه فى شأنها وتلقينها للمسلمين (العرب) فكتب إليه عمر: (أنْ اطرحوها فى الماء، فإنْ يكن ما فيها هدى فقد هدانا الله بأهدى منها وإنْ تكن ضلالًا فقد كفانا الله، فطرحوها فى الماء أو فى النار (فى بعض الروايات))، فذهبت علوم فارس ولم تصل إلينا، ولحل المشكلة، ابتدع الفقهاء المسلمون ما أسموه بالعلوم الدنيوية والعلوم الدينية أو الإلهية، متناسيين أن كل فكر يصيغه البشر هو فكر بشري لا علاقة للرب به، ومن المناسب هنا توضيح أصول ودلالة مسألة تقسيم العلوم إلى دينية (وهي علوم الكلام والحديث والفقه)، بمعنى العلوم التي تتعامل مع الكلام بعمومه والنصوص الشفهية أو المكتوبة والتي تبدأ وتنتهي باللغة العربية (والعربية فقط) وتملك أسرارها وتُعزى هذه العلوم لأصحاب اللغة المتمرسين فيها ومن حالفه الحظ بتعلم أسرارها من غير أهلها بالاستعراب والتعرب، أما العلوم الدنيوية أو الصنائع (الفيزياء والرياضيات، الطب ..إلخ)، فهي من اختصاص الأعاجم أو الموالي -وغيرها من المصطلحات العنصرية، بالإضافة إلى (علوم الأقدمين) بالذات الفلسفة والفكر اليوناني والتي جابهت من الرفض والمقاومة والتبخيس ما جابهت.
4)- بعد سقوط الخلافة العثمانية، وحدوث صدمة الحداثة عند المسلمين، أدركوا مدى الفارق الحضاري بينهم وبين الغرب، فقامت مجموعة من النخبة العربية بترجمة الأعمال الغربية ونقل المفاهيم الجديدة التي لم يسمع بها المسلمون طيلة عزلتهم عن العالم في ظل الحكم العثماني، مثل الحداثة والتنوير والمواطنة، ومبدأ المواطنة من أحد أكثر المبادئ التي جوبهت بردّ عنيف من الفقهاء المسلمين لحد نسب هذا المبدأ إلى الوثنية إذ يقول حسن البنا عن المواطنة: ( إننا نعتبر حدود الوطنية بالعقيدة وليس بالتخوم الأرضية والحدود الجغرافية، فكل بقعة فيها مسلم وطن عندنا، والإخوان المسلمون لا يؤمنون بالقومية ولا بأشباهها فيقولون فرعونية وعربية وفينيقية وسوريا ولا شيء من هذه الألقاب التي يتنابز بها الناس ). لكن لهذا الموقف جذور بدوية قديمة، فالقبائل العربية لم يسبق وأن عرفت هذ المفهوم بل استبدلته بما يسمّى «الحمى» وهو شيء غير محسوس مُبهم يمثل ويدل على توحد القبيلة والتحامها ببعضها يتحرك معها أينما يمَّمت ويمتزج بها وبأفرادها، وهذا المبدأ القبلي الذي تأثر به الفقه الإسلامي هو ما ساعد على انتفاء فردانية الإنسان المسلم وسيطرة «النحن» على تفكيره، إذ لا يستطيع حل مشاكله دون تدخّل الآخر، ولهذا غابت نزعة «الأنا» عند المسلم.