العولمة بكونها سبباً للنكوص إلى عصر القوميات؟
معتز حيسو
الحوار المتمدن
-
العدد: 5604 - 2017 / 8 / 8 - 22:55
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
لا تنحصر أسباب تصاعد دور الأحزاب القومية اليمينية في أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية ودول أخرى، بكونها رد فعل على التمدد «الداعشي» وأخواته. فهي إضافة لذلك تتعلق بالأزمات المالية وتدهور الأوضاع الاقتصادية وازدياد معدلات البطالة، وارتفاع منسوب الاستقطاب الاجتماعي، وأيضاً الخوف على الهوية من التحلل نتيجة ارتفاع أعداد المهاجرين. وجميعها يرتبط من حيث المبدأ العام بتحولات سياسية دولية وإقليمية تؤسس إلى مناخات أخرى مختلفة. وتتزامن التحولات المذكورة عربياً مع تناسل أصوليات جهادية «داعشية» تتنافس على تدمير المشهد الإقليمي والشرق أوسطي. وذلك في سياق تراجع دور الأحزاب القومية والقوى والحركات والتيارات اليسارية والعلمانية.
أما فيما يخصُّ مستقبل النيو ليبرالية العولمية. فمن المبكِّر وضع تصورات نهائية لها بناءً على المتغيرات المذكورة، وأخرى تتعلق بوصول دونالد ترامب للبيت الأبيض وما سيتركه من تأثير على السياسات الاقتصادية الأمريكية الداخلية منها والخارجية. ولذلك علاقة بالتباين بين تصريحاته الإعلامية، وموقعه الطبقي المتعيِّن في إطار مصالح الشركات الكبرى، يضاف إلى ذلك طبيعة المؤسسات الأمريكية وإشكالية علاقاتها المحكومة بأوضاع الكارتيلات والتروستات، لوبيِّات المال والأعمال والإعلام، المجمَّع الصناعي العسكري، والاحتياطي الفدرالي الأميركي.
لكن الواضح إن ثمة تقاطعات تربط الميول الترامبية بالميول اليمينية المحافظة في غير دولة أوروبية. ويتجلى ذلك في سياق الميل للتقوقع على الذات والركون إلى زعماء حركات قومية محافظة، والعمل على إحياء عصر القوميات. ويتم تأطير وتوضيب التحولات المذكورة في إطار يتراجع فيه بريق مقولة العالم قرية عالمية صغيرة، مقابل استعادة دور الدولة الحمائي للحد من تغوُّل رأس المال المتفلت من القيود والضوابط. هذا في وقت يدِّعي فيه ترامب العمل لاستعادة حلم ليبرالية القرن التاسع عشر« تحجيم الدولة إلى وظائفها الدنيا، خصخصة الأمن والدفاع وتقليص الخدمات الاجتماعية، إزالة كافة العوائق السياسية والاقتصادية والجغرافية أمام تبادل السلع والبضائع وحركة رؤوس الأموال».
ومعلوماً إن ما يطرحه ترامب بهدف استعادة الحلم الليبرالي، لا يخرج عن السياق العام للمبادئ النظرية التي وضع مداميكها الأساسية ميلتون فريدمان، وفريدريك هايك… واشتغل على تنفيذها بالتنسيق مع الشركات العملاقة رونالد ريغان ومارغريت تاتشر. علماً إن عدداً من زعماء السياسية ورجال المال بأربعة جهات العالم يناصرون النيو ليبرالية الاقتصادية، لكنهم وكذلك ترامب يتمسكون بسياسات قومية شوفينية. وبذلك فإنهم لا يختلفون في جوهر تفكيرهم الحالي عن نمطية تفكير زعماء الشمولية العربية القهرية وبنيتهم الذهنية، وآليات اشتغالهم.
ونشير في السياق المذكور إلى أن التحولات القومية اليمينية في أوروبا والولايات المتحدة ودول أخرى. تُمثِّل نتاجاً طبيعياً للعولمة، وتأتي كرد فعل على تعميق العولمة للاستقطاب الاجتماعي، ودكّها حصون السيادة الوطنية وأنظمة الحماية. وجميعها عوامل أسهمت في زيادة التصدُّع الاجتماعي، وغموض الرؤية المستقبلية، وتراجع الاستقرار الاقتصادي. ما يؤكد إن انفلات رأس المال المالي والتجارة الحرة من الضوابط، إضافة لارتفاع معدلات النهب، فاقم من تدهور الأوضاع المادية لفئات اجتماعية واسعة، وعمَّق من تناقض الاقتصاد العالمي. وجميعها يكشف عن نزوع رأس المال المعولم إلى تحطيم الحدود والقيود.
رغم ذلك مازال دعاة الليبرالية ينظرون إلى ما نشهده من ارتكاسات للقومية الشوفينية على أنه انقلاباً على «قيم العقلانية والحرية الليبرالية»، وليس تعبيراً عن التناقض الكامن في بنية وتركيبة النيو ليبرالية المعولمة.
ومعلوماً إن العولمة في ظل حماية الدول العظمى لها. فتحت لترامب وغيره من كبار أصحاب الرساميل والشركات العملاقة أبواب العالم وحدوده كافة، ليغرفون ما يشاؤون من ثروات الشعوب ومواردها.
أما عن دعوات ترامب لتسوير حدود بلاده أمام الهجرة «غير الشرعية»، وللحد من حرية انتقال الأموال والسلع. فإنها تخالف ألف باء العولمة، وتتعارض مع مصالح الشركات التجارية الكبرى التي يُعتبر شخصياً أحد أركانها.
ويعلم هو وغيره من أنصار العولمة الأمريكية. «إن أزمة البطالة وسياسات الإفقار وتفاقم ظاهرة الاستقطاب الاجتماعي، وتراجع الإنتاج المادي الحقيقي، وارتفاع معدلات الهجرة وهروب الرساميل وانتقال التكنولوجيا» إضافة لما نشهده من حروب معولمة، يساهم في تعميق الانقسامات والصراعات العمودية: الإثنية، المذهبية، العرقية، والقومية الشوفينية … وفي تحطيم سلطة الدولة المركزية وبنيتها. ويُعبِّر عن مفاعيل وبنية العولمة الداخلية، وحركة رأس المال، وميوله المعبِّرة عن توجهات الشركات العملاقة العابرة للجنسية والحدود.