العولمة والحرب


حافظ عليوي
2006 / 2 / 7 - 12:04     

لقد كشف واقع السنوات العشر الأخيرة أن الخطابات المعسولة عن الحرية وحقوق الإنسان التي تصف بها الإدارة الأمريكية العهد الجديد الذي افتتحته بعد انهيار الاتحاد السوفييتي , ليست أكثر من ورقة التين التي تغطي على الأطماع الأمريكي للتحكم المطلق با لعالم .
لقد استطاع الشكل الجديد للنظام العالمي المسمى ب "القرية العالمية " ,ان يختصر المسافات بين الدول , وافسح المجال أمام التبادل التكنولوجي والتجاري والثقافي .غير ان العضوية في هذه "القرية العالمية "تقتصر على الشرائح الاجتماعية العليا التي تصل نسبتها إلى 20% من البشرية , أما الأغلبية الساحقة التي تبلغ 80% فقد بقيت خارج الدائرة الأمر الذي يعني فقدانها مصدر رزقها (Luttwak, p.122).
ولك رغم الإحباط الذي ينتاب هذه الأغلبية الفقيرة وعديمة الحقوق , إلا أنها لن تستطيع الوقوف طويلا موقفا سلبيا إزاء ما يحدث في العالم , خاصة أنها ترى الامتيازات التي ينعم بها أولئك الذين دخلوا القرية العالمية المتطورة والغنية على حسابها .
وليست هناك وسيلة لإقناع الشعوب بالقبول بهذا الظلم والخضوع للقوانين الرأسمالية الجديدة , سوى باستخدام الجبروت العسكري . وفي هذا ما يفسر ازدياد وتيرة الحروب والصراعات التناحرية منذ انهيار الاتحاد السوفييتي , نتيجة تزعزع الاقتصادية .
وأصبح على الدولة التي تريد الانضمام للقرية العالمية , ان تنتج العنف وتبدي كامل استعدادها لخدمة الشركات المتعددة الجنسيات التي تعتبر مديرة القرية والجهاز الذي يملك ان يحيي ويميت مستخدما لهذا الغرض الوكالات المصرفية العالمية مثل صندوق النقد الدولي والبنك العالمي .

حرب الخليج لم تكن الأخيرة

العهد الرأسمالي الجديد لم يبدأ باهازيج السلام بل بحرب مدمرة شنّتها امريكا الاوروبيون والعرب على العراق . وكانت المشاركة العربية شبه الكاملة في هذه الحرب تعبيرا عن ولاء الانضمة العربية للمهيمن الامريكي الجديد الذي فرض ارادته على الشرق الاوسط , بعد طول امتناع عن التدخل العسكري المباشر في المنطقة نظرا لقوة الردع السوفييتية .
لقد كان العراق كبش الفداء الذي من خلاله علمت امريكا العالم درسا جديدا مفاده ان " امريكا هي القوة العظمى الوحيدة في العالم " , وسيكون مصير العراق نصيب من يعترض لمصالحها الحيوية , وخاصة المتعلقة بمصادر الطاقة النفطية في الخليج .
وتدرك الشركات النفطية الامريكية تماما حقد الشعوب العربية على ملوك وامراء الخليج , حماه المصالح الغربية والمسؤلين عن تدفق النفط الرخيص للغرب وتوفير الرفاهية لمواطني القرية العالمية الغنية هذا في حين تغرق الشعوب العربية في الفقر المدقع والتخلف . وقد ازداد هذا الحقد على الانظمة العربية والعداء لامريكا جراء حرب الخليج الثانية (1990_ 1991) والحصار المضروب على العراق منذ تسع سنوات باسم "الحرص على حقوق الانسان ". وتدرك الشعوب ان الهدف الحقيقي من الحملة الامريكية ليس الدفاع عن الكويت بل حماية المصالح والارباح الغربية .
وقد يتساءل المرء لماذا تلجأ امريكا للحرب في حين تعلن عن افتتاح عهد المنافسة الاقتصادية الحرة وانطلاقة النظام الديمقراطي بعد انهيار الاتحاد السوفييتي ؟ ويمكن الجواب في طبيعة الاقتصاد الرأسمالي العالمي نفسه .فمن اهم سمات الاقتصاد المعاصر هو الاستغلال "الحر " للموارد الطبيعية والطاقة البشرية ,واقتحام البضائع للاسواق المحلية دون ان تعترضها القيود الجمرقية التي كان هدفها في السابق حماية الاقتصاد المحلي .
لنأخذ على سبيل المثال العامل المكسيكي الذي يعمل في شركة امريكية ,ولنتساءل كيف يمكن اقناعه بالاكتفاء بخمسة دولارات لليوم ,في حين انه يعلم ان الحد الادنى للاجور في الولايات المتحدة يبلغ 5،75 دولار للساعة ؟ وكيف تقبل العاملة الفليبية ان تتلقى ثلاثة دولارات لليوم ،وهي تعلم كم يتلقى نظيرها الامريكي ؟وحتى تتمكن الشركات الامريكية من المضي في هذا الاستغلال البشع ،وتدعم الانظمة التي تقمع حقوق العمال والانسان ،على غرار نظام سوهارتو الذي حكم اندونيسيا30 عاما.

السعي الى عزل وتفكيك روسيا

ان شعور شعوب الدول الفقيرة بالعداء تجاه الغرب الرأسمالي الذي يحرمها من الديمقراطية ومصدر الرزق ,لايكفي للاطاحة بالنظام الجديد. فهذه الشعوب استوعبت الدرس من مصير العراق, وادركتان موازين القــوى ليست في صالحها ولاتمكّنها من التغلب على امريكا. ان مصدر المواجهة مع هذا النظام موجود في مكان آخر ، وهو في سعي امريكا المحموم لعزل روسيا الاتحادية والصين الشعبية عن القرية العالمية .
وقد أعدّت امريكا عدتها لتنفيذ هذا التوجه ، فأدخلت تغييرات جوهرية على حلف الاطلسي ( ناتو ) ، والذي تشكّل بحجة حماية الغرب من الكتلة الاشتراكية المتمثلة بحلف وارسو . ولكن تفكّك حلف وارسو مع انهيار الاتحاد السوفيتي لم يتبعه تفكك في حلف الاطلسي الذي ازداد توسعا في التسعينات وضم دولا اضافية منها دول كانت جزءا من حلف وارسو وهي بولندا والمجر وتشيكيا .
وصرّحت قيادة الاطلسي بنيتها التدخل العسكري في كافة انحاء العالم لفضّ ازماته ، في اشارة الى انها استبدلت عمليا دور الامم المتحدة ، ولكن بفارق اساسي واحد وهو ان الحلف لا يعرف الا اللغة العسكرية ل " حل " الامور.
ان مبرر وجود حلف بهذه الضخامة والقوة ليس تهديد دول مثل يوغوسلافيا او العراق ، بل قوى عظمى تتمتع بقدرات تكنولوجية لا تقل عن تلك التي يمتلكها الغرب . والمرشحة لهذا الهدف روسيا التي بمقدورها تحدّي الهيمنة الغربية المطلقة على العالم .
الحرب التي شنّها حلف الاطلسي على يوغوسلافيا في ربيع 99 ، وأدت الى تدمير دولة اوروبية متطورة للمرة الاولى منذ الحرب العالمية الثانية ، لم تكن موجهة ضد الزعيم الصربي سلوبودان ميلوشيفيتش او " صدام الجديد " ، كما يحلو للاعلام الغربي تسميته ، بل كانت موجهة ضد روسيا . والدليل على ذلك ان الحرب لم تنته في يوغوسلافيا ، بل انتقلت في صيف 99 الى منطقة بحر قزوين في القوقاز الغنية بالموارد النفطية ، حيث تقاتل القوات الشيشانية بدعم من امريكا للانفصال عن روسيا .
النزاعان في البلقان ومنطقة بحر قزوين ، هما محاولة امريكية خطيرة لعزل روسيا وابقائها خارج السوق الرأسمالية العالمية ، الامر الذي يهدد بحرب عاملية جديدة .
مخطط عزل روسيا ليس جديدا ، فقد بدأ منذ مطلع التسعينات عندما حظيت الادارة الامريكية بحرية العمل على تفكيك الاتحاد السوفيتي المنهار ، مقابل توفير الدعم لنظام يلتسن وتمكينه من الاستيلاء على المرافق الاقتصادية الحيوية ، وتسخيرها في خدمة ارباح عائلته والمقرّبين . وكانت النتيجة ان اعترفت روسيا باستقلال الدول التي كانت جزءا منها في منطقة البلطيق واوكرانيا وجمهوريات منطقة القوقاز وآسيا الوسطى واصبحت حقل نفط امريكي جديد ، اما روسيا نفسها فبقيت بلا رأسمال تستثمره لاعادة بناء اقتصادها على الاسس الرأسمالية ، بعد ان هرّب المقرّبون من النظام اموالهم للبنوك الغربية .
ان تفكك الاتحاد السوفيتي لم يرافقه تفكك مواز للتحالف الذي جمع الولايات المتحدة واوروبا واليابان ، بل بالعكس . فنجاح التحالف الغربي في منع انتشار النظام الشيوعي الذي منع توسع السوق الرأسمالية ، زاد شهية الاحتكارات الغربية لابتلاع الاسواق الروسية والصينية الضخمة .
ورغم اعلان روسيا كفرها بالشيوعية وايمانها الجديد بالرأسمالية ، الا ان امريكا لاتزال تضع شروطا تعجيزية امام ضمها هي والصين الى منطقة التجارة العالمية ( WTO ) التي انبثقت عن مؤسسة GATT . وتجدر الاشارة الى ان GATT تأسست عام 1948 مع بداية الحرب الباردة ، وكانت جزءا من التحالف الرأسمالي في مواجهة المنظومة الاشتراكية . ولكن رغم انقضاء الحرب الباردة بسقوط الاتحاد السوفيتي ، ورغم تعاظم دور منظمة التجارة العالمية ، تواصل امريكا منع روسيا من الانضمام اليها .
والسؤال لماذا تُمنع دول عظمى ، مثل روسيا الاتحادية ، من الانضمام للقرية العالمية والمشاركة في تطوير الاقتصاد العالمي ؟
يكمن الجواب في ان السوق الرأسمالية العالمية آخذة بالانكماش ، وليس فيها متسع لدولة ذات قوة تكنولوجية وانتاجية كبيرة مثل روسيا . كما ان تفاقم الصراع داخل المعسكر الرأسمالي نفسه على تقاسم خيرات العالم ، يدفع امريكا الى رفض ادخال روسيا كشريكة متساوية الى نادي السوق الرأسمالية ، كيلا تضطر لاعادة تقسيم كعكة المصالح مجددا .
من هذا يتضح ان وعود الدول الغربية بتقديم المساعدات للنظام الروسي " الديمقراطي " الحديث من اجل بناء دول على النمط الغربي ، وتوفير الحريات للمواطن الروسي الذي " عانى من الاستبداد الشيوعي خلال 70 عاما " ، كانت شعارات جوفاء غطت على الهدف الحقيقي ، وهو استغلال السوق الروسية الضخمة لزيادة ارباح الشركات الغربية ، وتفكيك الكتلة الاشتراكية والاتحاد السوفيتي نفسه الى دويلات صغيرة تابعة مباشرة الى امريكا .
المعادلة بالنسبة للصين الشعبية بسيطة جدا : فإما ان تتحول الى سوق ضخمة تستهلك المنتجات الغربية الغالية ، مما سيحلّ لفترة طويلة نسبيا مشكلة المنتجات الغربية التي تعاني من النقص في الاسواق ؛ وإما ان تقوم الصين باغراق الاسواق العالمية بمنتجاتها الرخيصة ، الامر الذي سيضرب الاقتصاد الغربي ، واليابان تحديدا .
يعتبر التعداد السكاني الهائل اكبر موارد الصين ، ويشكل هذا تهديدا خطيرا على الغرب الذي لا يستطيع منافسة اليد العاملة الرخيصة والمتوفرة بكثرة . وتحاول الادارة الامريكية تدجين الحكومة الصينية للقبول باملاءات الشركات الغربية ، تارة من خلال الاغراءات ، وتارة اخرى من خلال تهديد الحكومة الصينية بالعقوبات بحجة انتهاكها لحقوق الانسان .
وقد تمكنت الولايات المتحدة اخيرا من التوصل الى اتفاق تجاري مع الصين يسمح للشركات متعددة الجنسيات بالاستيلاء على المرافق الاساسية في الاقتصاد الصيني وخصخصتها . وستؤدي سياسة الخصخصة الى اغلاق الكثير من المنشآت الصناعية الامر الذي سيقضي نهائيا على احد اهم الاركان الاجتماعية للنظام الصيني وهو ضمان العمل لكل مواطن . اما بالنسبة للزراعة فسيؤدي استيراد السلع الزراعية من الولايات المتحدة للصين الى خروج عشرة ملايين صيني من دائرة الانتاج الزراعي والتحول الى عاطلين عن العمل ، الامر الذي يعني حدوث كارثة اجتماعية حقيقية .
السياسة الامريكية المتبعة تجاه الصين تختلف عن تلك المتبعة تجاه روسيا . فالصين هي اشبه بدولة ريفية غير متطورة ، بينما تتمتع روسيا بقدرات تكنولوجية ونية تحتية صناعية تمكنها من منافسة الولايات المتحدة على المستويين الاقتصادي والعسكري على النطاق العالمي . وتسعى الولايات المتحدة من خلال دمج الصين في منظمة التجارة العالمية الى عزل روسيا ومنع توحد هاتين الدولتين العظيمتين ضدها .

املاءات المؤسسات المالية العالمية

الانكماش المستمرفي السوق العالمية دفع الشركات المتعددة الجنسيات لاتباع طريقة الدمج للحفاظ على نسبة ارباحها . وتؤدي هذه الطريقة الى تقليصات في الايدي العاملة , وارتفاع مستمر في نسبة البطالة في المراكز الصناعية الغربية. استخدام النهج الجديد اكبر شركات تصنيع السيارات في المانيا وامريكا والشركات النفطية الضخمة والبنوك ، وتحول الغرب بذلك الى كتلة موحدة في مواجهة بقية العالم .
ان سياسة العولمة التي اصبحت الشكل الجديد للنظام العالمي ، تتطلب تقييد سيادة الدول والحد من حريتها في القضايا الاقتصادية المحلية ، مثل فرض الضرائب ودعم الصناعة المحلية فيها او اتباع سياسة مرنة في موضوع نسبة العجز في ميزانيتها سعيا لتطوير اقتصادها المحلي .
ان ما يطلبه المستثمرون اليوم كشرط لاستمرار رساميلهم في اي بلد ، وهو الا يتعدى العجز في ميزانية هذا البلد ال 2% من الناتج الاجمالي . ويضع هذا الشرط معظم الدول الفقيرة امام احد امرين : اما اجراء تقليصات مؤلمة في الخدمات الاجتماعية التي توفرها لمواطنيها حتى لا يتعدى العجز في الميزانية النسبة المسموح بها ؛ وإما رفض الامالاءات المجحفة ، ودفع الثمن بالتعرض للعزل والعقوبات والمقاطعة في السوق العالمية .
وتنتهج الدول الفقيرة ( بينها دول شرق اوروبا ) الموجودة باغلبيتها في ازمة اقتصادية بسبب عبء الديون الخارجية ، سياسة نقدية صارمة وتفرض نسبة فوائد مرتفعة . ويحرم هذا الامر الصناعات المحلية من تلقي القروض الانمائية ، ويعيق بالتالي النمو الاقتصادي . هذا في حين تستفيد الشركات المتعددة الجنسيات من عدم وجود منافسة محلية ، الامر الذي يسهل عليها احتكار الاسواق في هذه الدول الفقيرة .

غياب دور الامم المتحدة

ان الاطار القانوني الذي يمكّن الشركات المتعددة الجنسيات من فرض املاءاتها على دول العالم ، هي منظمة التجارة العالمية ( WTO ) التي تأسست عام 1994 وتقودها الاحتكارات الغربية . وأضحت قرارات هذه المؤسسة المرجعية الجديدة لكل الدول الاعضاء فيها ، الامر الذي يعني تقادم الزمن على الامم المتحدة ومجلس الامن والمؤسسات الدولية ، مثل منظمة العمل الدولية ومنظمة الامم المتحدة للتجارة والتطوير ، ووثيقة حقوق الانسان الدولية .
من دور الوسيط بين الكتلتين الاشتراكية والرأسمالية ، اصبح دور الامم المتحدة اليوم التغطية على الاهداف العدوانية لحلف الاطلسي . وقد يبرز دور امين عام الامم المتحدة عندما تشتد الخلافات بين الحلفاء ، كما في قضية العراق مثلا ، ولكن تأثيره يبقى هامشيا لان الخلافات بين الحلفاء ثانوية ، والدليل ان الحصار لازال مفروضا على العراق حتى انتهى بالاحتلال .
وقد شكّلت الحرب الاخيرة على يوغوسلافيا الضربة القاضية على دور الامم المتحدة . فقد استُثنيت تماما من اتخاذ القرارات التي انتهت باعلان الحرب . وانفرد الرئيس الامريكي بالقرار ، ونفّذ حلف الاطلسي القرار بحذافيره ، وعلى مرأى من العالم كله وبالبث الحي والمباشر ، دمّر يوغوسلافيا بشكل منهجي .
واذا كان المبرر الذي استخدمه مجلس الامن لاباحة الحرب على العراق هو مسّ العراق بسيادة الكويت الغضو في الامم المتحدة ، فقد كان دوره على الاقل مناقشة هجوم الاطلسي الواسع النطاق على سيادة يوغوسلافيا التي هي ايضا عضو في الامم المتحدة ، ويعتبر اقليم كوسوفو جزءا لا يتجزأ من اراضيها . ولكن شيئا من هذا لم يحدث .
الجبروت العسكري ، اذن ، حلّ محل المنظمة الدولية التي كانت مسؤوليتها ايجاد الحلول السلمية للازمات . واصبح اليوم العمل الدبلوماسيّ الشكل العسكري المضمون مقتصرا على توجيه احد المندوبين لابلاغ اطراف النزاع بتعليمات واملاءات الادارة الامريكية ، وفي الوقت نفسه توجيه التهديدات بالعقوبات الاقتصادية والحصار والهجوم العسكري إن هي رفضت الانصياع .
قد يبدو هذا الاسلوب الجديد ، لاول وهلة ، قادرا على ترتيب العالم بطريقة افضل واسرع من السابق ، غير انه في الحقيقة يقود الى مزيد من من العنف والازمات . هذا ماثبت في البلقان والخليج وفي النزاع الاسرائيلي الفلسطيني . ولكن الاخطر من ذلك هو النموذج السلبي الذي يعكسه هذا النوع من السياسة . فالهند وباكستان , مثلا , تعلمتا ان حل النزاع بامل ةينهما لا يكون الا بالتهديدات النووية المتبادلة , الامر الذي يهدد البشرية بكارثة شاملة .
ان هذه السياسة الجديدة هي ذاتها التي شجعت اسرائيل على قصف البنية التحتية في بيروت في حزيران (يونيو) 1999, ردّا على هجوم حزب الله , وهي التي تشجعها على التمسك بالورقة النووية للحفاظ على تفوقها الاستراتيجي والاقتصادي في المنطقة . ان عدم التزام اسرائيل بقرار الامم المتحدة المتعلقة بالنزاع العربي الاسرائيلي , هو ترجمة دقيقة للسلوك الذي فرضته الولايات المتحدة على العالم . وجاء اختفاء دور الامم المتحدة ليحرر اسرائيل تماما من التزاماتها الدولية . واستبدال اتفاق اوسلو قرارات الشرعية الدولية المتعلقة بمكانة القدس وعدم شرعية الاستيطان وحق اللاجئين بالعودة , وطرح شروطا جديدة تشبع حاجات اسرائيل الاستيطانية وتحرم الشعب الفلسطيني من حقوقه الوطنية .
بعد انتهاء الحرب العالمية الاولى لجأت الدول الرأسمالية لاقامة عصبة الامم , بهدف حل النزاعات بالحوار لا بالحروب , بعد ان ثبت ان الحرب لا تقود للدمار فحسب , بل تهدد اركان النظام الرأسمالي ذاته بخطر الاشتراكية التي بدأت اثناء الحرب العالمية الاولى في روسيا , و انتشرت بعد الحرب العالمية الثانية الى شرق اوروبا والصين ووصلت حتى مشارف الولايات المتحدة , في كوبا 1959.
وتم تشكيل الامم المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية لتكون صمام الامان الذي يحافظ على توازن المصالح بين الكتلة الاشتراكية الآخذة بالانتشار رغم الحرب الباردة ، الحاجز الاكبر امام وقوع حرب عالمية جديدة يمكنها ان تهدد البشرية جمعاء بكارثة كونية ، خاصة بسبب تطور السلاح النووي .
ولكن ما كاد النظام الرأسمالي يتحرر من القيود التي فرضها الاتحاد السوفيتي ، حتى كان قد دمّر صمام الامان الذي منع تدميره الذاتي ، وذلك بسبب طبيعته العنيفة واطماعه المتزايدة في تحقيق الارباح . ويزيد هذا الوضع من قلق المفكرين الليبراليين الذين يسعون للحفاظ على النظام الرأسمالي ، ولكن بشكلة المعتدل . وباتوا يصفون الوضع الراهن بالفوضى التي تقود لازمات اجتماعية قد تؤدي الى تقويض اركان النظام الديمقراطي نفسه .
ان تحقيق الارباح من خلال انتهاج سياسة عدوانية مؤسسة على التفوق العسكري ، هو علامة بارزة على ان النظام العالمي الجديد يقترب من نهايته . ان التلويح بالحرب هو دليل على ان هذا النظام فقد قدرته الاقتصادية والاخلاقية على اقناع الشعوب بايجابياته .
ان احتداد التناقضات بين الكتل المختلفة ، وتحديدا بين روسيا والصين من جهة وامريكا واوروبا من جهة اخرى ، يبشر بانهيار النظام الرأسمالي ، لكنه لا يكفي لضمان الفرج للبشرية . فليس هناك بين هذه الاطراف المتناحرة من يحمل برنامجا اقتصاديا سياسيا بديلا للنظام الرأسمالي العنيف ، فهي جميعا تتنافس على اساس اعادة تقاسم السوق فيما بينها على السس الرأسمالية المعروفة .
لقد نجحت العولمة في توحيد العالم في سوق رأسمالية واحدة هي " القرية العالمية " ، ولكنها من جهة اخرى أبقت على الدولة كجهاز قمعي هدفه الحفاظ على المصالح الاقتصادية للبرجوازية التي يمثلها . والدولة الرأسمالية بطبيعتها مؤسسة على النزاعات القومية والعداء للقوميات الاخرى ، خاصة اذا شعرت بان مصالحها مهددة . وفي هذه الحالة لا يبقى امام الطبقة العاملة الا ان تختار بين اعتناق النزعة القومية ، أي تأييد معركة البرجوازية في السيطرة على السوق الرأسمالية ، وبين اتباع البرنام الاشتراكي كبديل وحيد لتوحيد العمال ضمن سوق اشتراكية عالمية تخدم القيم الانسانية ، وتقضي نهائيا على الطبقة البرجوازية التي اوصلت الانسانية الى شفا الكوارث والحروب .