السمو بجسم المرأة العاري تحت أبصار الحداثة الجاهلية في الأَعمال الأخيرة ليوسف عبدلكي
حسان خالد شاتيلا
2016 / 12 / 22 - 22:08
كان عرب الجاهلية "ما قبل الإسلام" يئدون أطفالهم من البنات من جراء العار الملازم للمرأة من حيث هي تُناك ولا تنَيك ما دامت أقل مرتبة من الرجال في مسلسل الطبيعة والمجتمع. لكن الإسلام "حرَّر" المرأة وأعاد إليها "كرامتها". هذا ما يزعمه مؤَرِّخو الإسلام، كي ما يرمون إلى القمامة كل ما من شأنه أن ينافس الدين الجديد ويطمس إعجازه، بدءاً من النثر الجاهلي الذي لا يخلو من "إعجاز" مماثل للمعجزات الدينية، إن لم يتفوَّق عليه. "الغزوات" ما بين القبائل مردُّه، حسب الإسلام الرسمي، افتقاد الجاهلية للمعايير الأخلاقية وعبادة الأصنام. في ما هي حروب ما بين القبائل للسيطرة على طريق التجارة العالمية التي كانت تقع تحت سيطرة "قريش". ها هنا يكمن تشويه "جاهلية ما قبل الإسلام"، باستثناء "المعلَّقات العشر".
مقابل هذه الجاهلية المتقدِّمة التي شوِّهَت خصائصها، فإن الجاهلية المتأخرة، حداثة الجاهلية، هي حداثة المستقبل عبر الماضي البعيد ممثلا بسوق عكاز والمعلَّقات العشر ووئد النساء. فالإسلام السياسي والآخر العسكري يفرض، منذ قيادة أسامة بن لادن للحرب المسلمة ضد الاتحاد السوفياتي في أفغانستان، "الخلافة" بالرغم من أن المسلمين في أمرهم مختلفون، متصارعون، بل وإنهم متحاربون. كما يفرض على المرأة الاختيار ما بين الحجاب والقتل. علما أن سبي النساء واغتصابهن و"غزوات" القبائل والحضر، واستباحة كل ما يقع تحت أيدي الغزوات، يمليه المستقبل الماضي الذي يعود منذ العقد الثامن من القرن العشرين ليحتل حيِّزا فعالا في إيديولوجية الحياة اليومية.
ملخص هذه المقاربة للجاهلية ما قبل الإسلام، وحداثة الجاهلية، تَكشف عنها أعمال الفنان التشكيلي المبدِع يوسف عبد لكي، في معرض لأعماله يقام في دمشق ما بين 17/12/2016 و15/1/2017. فقد انبرى المثقفون، يساريون وليبراليون، للتنديد بلوحات فنية تشكيلية لنساء عاريات تٌعرض بين أعمال للفنان. الأمر الذي يُعتَبَر بأنظارهم منافيا ل"البرنامج الإيديولوجي والسياسي" لثورة الخامس عشر من آذار للعام 2011. إذ أن فنانا، على حد قولهم، يلتفت جماليا نحو المرأة ليعريها، في ما تسير مئات الألوف من النساء السوريات ممزقة الثياب في طريقها إلى المهجر المفروض على ثلث الشعب السوري. ثم كيف يحق له، برأيهم، أن يرسم نساءً عاريات في ما الشوارع والأزقة ملأي بالقتلى ومشوَّهي الحرب، من رجال ونساء وأطفال وشيوخ.
نعم، تُوْقِن شرائح من المثقفين، أن عليه لزاما أن يرسم نساءً ملقاة أرضا وقد مَزَّقت القنابل والبراميل ثياب بعضهن، أو بترت أثداءهن. حينئذ، وحينئذ فقط، يستعيد يوسف عبد لكي بأعينهم صفة "الفنان المبدِع" التي مُنِحت له في العام 1978 ، ضمن أول ملصق جداري لحزب سياسي في سورية، والذي صَدَر ونُشر آنذاك عن "رابطة العمل الشيوعي"، للدعوة إلى النضال "لإطلاق سراح الفنان المبدع يوسف عبدلكي وجميع المعتقلين في سجون السطلة السورية". هذا الملصق الجداري ينقل لوحة من الحفر كان فناننا رسمها على المعدن. هذه اللوحة ترسم يدين مكبلتين بالقيود تقاوم بقوة مستمدَّة من النضال الشيوعي، قوة تتبدى عبر الانسياق المنساب لخط عريض، بيد أنه قاس، حاسم، وقاطع. العمل التشكيلي في هذا الإطار يعتمد على تجسيم الواقع موضوع الرسم، كاليدين المكبلتين، والتي تحتل أكبر مساحة من اللوحة. هنا، ومنذ تلك المرحلة المتقدِّمة من أعماله، يُثبت الخط القاسي والمنساب على امتداد الحركة والحياة والمقاومة في أعماله، متانته الإبداعية.
كانت أعماله في السبعينات ومطلع لثمانينات من القرن الماضي يغلب عليها أسلوب الواقعية الاشتراكية. في تلك الفترة، أي في نهاية السبعينات، كان يوسف معتقلا في السجون السورية. ثم غادر البلاد بعد إطلاق سراحه إلى فرنسا، حيث أقام بباريس قبل أن يعود مجددا بصورة نهائية إلى دمشق في العقد الأول من القرن الواحد والعشرين. خلال الثمانينات كان الفنان مضطرا لنشر رسم كاريكاتوري يوميا في الصحف العربية، ليتعيش منها رفقة الفنانة السينمائية هالة العبد الله وابنتهما ليلى، خريجة الفلسفة من جامعة السوربون. يوسف، لدى مجيئه إلى باريس كان يتردَّد على المشاغل في مدرسة الفنون الجميلة، كما حاز أيضا على رتبة دكتور في الفن التشكيلي.
في نهاية مرحلة النحت في المعدن عَرفت أعماله تطورا جديدا ناجما عن أعماله الكاريكاتورية. ثم انتهت هذه المرحلة بعشرات اللوحات المحفورة، والتي كان عبدلكي الشيوعي يهزأ فيها من البنيات العليا للمجتمع والسلطة، من جيش وشرطة وأمن، وسلطة، ومؤسسات. هذه المرحلة لم تستمر طويلا. فخلال النصف الثاني من الثمانينات تظهر لديه سمكته الشهيرة التي اصطيدت وماتت مائة مرة لكن عينها ما تزال تنبض بالحياة. كما ظهرت بين أعماله سكينه ذائعة الصيت. سكين قديمة بخط قاطع لا يساوم، ينبع منها نور باهر استعدادا منها للقتل أو الدفاع عن النفس، ولم لا الدفاع أيضا عن الرفاق. هي سكين الحق المغدور. هذا الحق الذي كان والده، العامل الشيوعي، وأمه المدافعة عن حقوق المرأة، يدافعان عنه. أهم أعماله في منتصف الثمانينات العمل المحفور لرأس حيوان متوحش أشبه ما يكون إلى الحصان، وقد برزت أسنانه استعدادا للهجوم أو الاعتداء. عنوان اللوحة "الدولة". عمل معلَّق اليوم في أحد المتاحف الأوروبية. الدولة وأيديولوجية العنف والقمع والاستبداد تتخطى إطار اللوحة وتًمثُل بحضورها أمام أنظار المشاهد.
انتهت مرحلة الحفر لتبدأ مرحلة الرسم في مطلع العقد الأول من القرن الواحد والعشرين. ثمة شغف في أعماله اعتبارا من هذا التاريخ للتعبير عن الطبيعة المادية التي لا تعرف الموت، تتطور وتتغير في ما هي ترجح الحياة على الموت. في أعماله، الكرسي على سبيل المثال، ليس طبيعة ميِّته، أو طبيعة جامدة، إذ إن هذا الكرسي له تاريخ، من جهة، ويُذكرَّ، من جهة ثانية، بالإنسان الذي يرسمه. كارل ماركس كان يهزأ ممن يُعجب بالكرسي، لكنه ينسى النجار الذي رسمه ثم أنتجه. لدى الفنان عبدلكي يبدو استمرار الحياة أو الطبيعة المادية ماثل عبر اللوحة التشكيلية، ثم لدى الانتهاء من النظر إلى العمل الفني. الطبيعة المادية، في جميع المراحل التي تؤرِّخ لأعماله، تكشف عن انتصار الحياة على الموت، وانهزام العبودية والاستسلام أمام التمرد والثورة، وبزوغ النور الساطع في عالم يسيطر عليه، من حيث مساحة اللوحة، السواد، إلى أن يستعيد بصيص من الضوء سيطرته على مضمون اللوحة.
صديقي الفنان يوسف عبدلكي ، فنانا تشكيليا عالميا. هو أعظم من أن يناله النقد اللاذع والتجريح الرزيل. هذا كلام موجَّه لنخبة من شرائح مثقفينا. إن هذا الفنان التشكيلي يبلغ في عالم الإبداع عتبة المطلق، والانفراد بمخلوقاته الطبيعية المادية انفرادا لا مثيل له في عالم الفنون التشكيلية، أو لدى غيره من الرسامين التشكيليين في سورية والعالم. اسمعوا وعوا. المرأة العارية في أعماله ما بعد ثورة الخامس عشر من آذار، تخلو من الخط الملتوي والمبعوج الذي يظهر لدى عظام الفنانين التشكيليين، ممن يبحث عن الإغراء الجمالي الجنسي في جسم المرأة. فلا هو ينظر إلى الثدي، ولا هو ينحني لفخذين طازجين من العجين الأبيض والساخن. المرأة العارية في أعماله الأخيرة، والتي تظهر لديه لأول مرة، بعد مضي أربعة عقود وأكثر من الخلق والإبداع، ذات جسم يكشف بجموده وانتصابه عن صمودها ومقاومتها أمام الحياة ومتغيِّرات الطبيعة المادية وتحوُّلاتها. تباً لكم وتب.. . المرأة العارية في أعمال يوسف عبدلكي في السنة السادسة على الثورة تفقع عين المسلم السياسي والعسكري. صحيح، إنها تلقى التأييد من العلمانيين في سورية، سطلتها ومجتمعها. بل وإن سماح السلطات السورية، بما في ذلك الثقافية منها، بعرض صور لنساء عاريات ما كان له أن يرى قبولا في ظل الائتلاف والهيئة، وشرائح من النخبة المنتخبة من أنصاف المثقفين وأشباههم، ناهيكم عن المسلم السياسي والعسكري. هذا وإن احترام حرية الفنان في اختبار مضمون وشكل عمله الثقافي وأيديولوجيته، إن هي لم تر النور حتى غاية اليوم بأنظار هؤلاء وأولئك، فإن عليهم في هذه الحالة أن يقبلوا بعبوديتهم للحداثة الجاهلية، وانسياقهم تحت نعال الستالينيين. فكأن الإسلام المتقدِّم لم يقضِ على جاهلية أبى لهب الذي يصبح مثالا يحتذى به في الإسلام المتأخر، إسلام الحداثة الجاهلية. تحرَّوا إذن وراء أعماله، فإنها اخترقت الأيديولوجيات لتجدِّدد الط