إنّهم يتحاصصون الحسين!
سلام عبود
2016 / 11 / 23 - 22:06
إنـّهم يتحاصصون الحسين!
للحسين وجوه عديدة.
وجوه الحسين ترسمها ضمائرنا وعواطفنا.
ضمائرنا الخيّرة وعواطفنا الفطريّة الصافية ترسم وجه الحسين الأبهى والأقدس: الحسين ثائراً وشهيداً.
لكنّ ضمائرنا الشرّيرة وعواطفنا المبتذلة تلفـّق وجه الحسين الآخر: الحسين مجردا من مآثر استشهاده وإيثاره وثورته، الحسين رمزا للندب واللطم والتطبير، الحسين المثير للفتن، الحسين الدعائيّ، الحسين المستعبَد، المستذل، الحسين الرهينة المهان في عقول ونفوس ملوك الطائفيّة الشيعة والسنة معا، من دون تمييز.
هناك حسينان: حسين التاريخ وحسين الطائفيّة السياسيّة.
حسين الحق والحرّيّة والخير وحسين سياسة الانحطاط وألاعيبها.
حسين للمؤمن البسيط الصادق، وحسين لبائعي الصكوك الدينيّة وسارقي لقمة ومصير البشر المغلوبين على أمرهم، حسين الحكّام الطائفيين سنة وشيعة.
الحسين، يا حسين، حسينان.
لا بدّ من الاعتراف بهذه الحقيقة المرّة، كمقدمة لأيّة مقاربة عقليّة ممكنة في عراق العجائب والكوارث.
# # #
المعركة بين الحسينين معركة أزليّة، لا نهائيّة، بدأت عند الطـّفّ الأولى، وستستمر حتّى الطـّفّ الأخيرة، حينما ينفق آخر طائفيّ على وجه البسيطة.
# # #
الخبر الذي نشرته صحيفة "الشرق الأوسط" السعوديّة أعاد التقسيم الحسينيّ الى الواجهة مجددا، بطريقة مثاليّة في فظاظتها وعريها. طريقة مثاليّة الى حدّ أن الحسين التاريخيّ أضحى الضحيّة الأولى والأخيرة، وأن المنتصر بالضربة القاضية كان اتحاد الطائفيين السنة والشيعة وأعوانهم. فقد تقاسم الفريقان جسد الحسين، وتقاسما باحتراف دعائيّ رخيص مآثر الشهادة والثورة، وأعادا تحاصصها بعدالة إعلاميّة وإسلاميّة مذهلة وإعجازيّة.
لنتوقف أوّلا عند الخبر، كما صاغته صحيفة "الشرق الأوسط"، ونحلل بعض عناصره المرجعيّة والتوثيقيّة.
المصادر: منظمة الصحّة العالميّة. لماذا؟ لأنها هيئة دوليّة مستقلة، غير مسيّسة، تعنى بشؤون الإنسان الصحيّة، بما في ذلك طبعا سلامته الجنسيّة. إذا، نحن أمام مصدر لا طعن في حياده البتـّة، وما علينا سوى الاستسلام له.
التوثيق: مصدر الخبر الثبوتيّ لم يكن توصيفا، بل كان إحصاءً رسميّا، بُني على أرقام عظيمة الدّقة: 169 حالة حمل، وليس 168 أو 170. إذاً، نحن أمام حقائق رقميّة دامغة، لا تقبل الجدل.
أسباب الحالة: حيامن منويّة قادمة من أعضاء تناسليّة غير عراقيّة، غريبة قوميّا، أو بمعنى أدقّ عدوّة، وبدقـّة أكبر: إيرانيّة. وهذا أمر معرف للجميع. لأنّ زواج المتعة أضحى الصرعة الإعلاميّة الشائعة والمحببة في الفضائيّات العربيّة.
دوافع الحالة: الاحتكاك الفوضويّ، الذي تسببه سوء إدارة الحياة المدنيّة والروحيّة. وهنا لا أحد يجهل فساد السلطة. ولمّا كان الفساد شاملاً، لماذا لا يضرب المواقع الجنسية أيضا!
التوقيت: الزيارة الحسينيّة. الضحيّة الأبديّة!
المؤثـّرات الفنية: صورة كبيرة لجنديّ عراقيّ مصاب بالصدمة والترويع.
المؤثـّرات الحسيّة: النشر في الصفحة الأولى، كخبر رئيس.
المؤثـّرات اللفظيّة: تحذيرات أمميّة!
المؤثـّرات العقلية: ذُيـّلت صورة الجنديّ العراقيّ بتوضيح يقول: جنديّ عراقيّ مصاب بالذهول جرّاء هجوم للدولة الاسلامية على الجيش العراقيّ.
خلاصة: في الداخل يمارسون الرذيلة الحسينيّة والمتعة، وعلى جبهة الحرب تصيبهم ضربات جيش الدولة الإسلاميّة بالذهول.
هذه خلاصة تحليليّة للعقل الذي صاغ مفردات الخبر، وللطريقة التي أراد بها رسم صورة الواقع إعلاميّا من طريق الطقوس الحسينيّة.
لن نتوقف عند الأرقام والمصدر والتوقيت. ولكن سنتأمّل طريقة تناقل وسائل الإخصاب الجنسيّ. فالخبر لا يشير الى ذلك بوضوح، بل يترك لخيالنا حرّيّة اختيار الصورة التي نحبّذ رسمها لمشهد حدوث الحمل والتواصل الجنسيّ. هذا الجزء من المشهد فيه قدر عال من البراعة الديمقراطيّة الفنيّة السعوديّة، مرسومة بريشة محليّة عراقيّة محترفة، تغترف أخيلتها من تقاليد العنف الثقافيّ، الموروثة من خبرات الزمن الجميل: زمن الطاغية.
هذا هو الحسين سعوديّا ووهابيّا، الحسين تحيط به الحوامل والمنتهكات جنسيّا.
لقد قرأت الخبر مرارا وتكرارا، لكني لم أهتد الى أمر واحد: هل تريد الجهات "الأمميّة تحذيرنا" وإعلامنا بعدد الحوامل، من باب التوثيق، أم من باب العفـّة؟ هل يريد "التحذير" أن نبحث عن منتهكيهن؟ هل يريدون منا قتلهن أو مساعدتهن، أو ماذا؟ للمرّة الأولى أقرأ خبرا على الصفحة الأولى من جريدة ولا أعرف ما الغرض المباشر منه باعتباره حقيقة معلوماتيّة، بصرف النظر عن قيمته وعن طبيعته، سواء أكانت أخلاقيّة أو جنسيّة أو غير ذلك. وهذا في تقديري أعمق تناقضات الخبر.
ففي قلب هذه البراعة الاحترافيّة العالية في ترتيب جزئيّات الخبر - المصدر، الأرقام، الأسباب- تكمن براعة أخرى، أكبر منها في الحمق والدونيّة وأعلى مرتبة. تناقضات صياغة الخبر: التضاد بين هامشيّة وضآلة الخبر وطرافته، كواقعة، حتّى لو كانت حقيقيّة، وبين ضرورات النشر في مقدمة الصفحة الأولى وما يرافقها من أهمية إخباريّة. تناقض أهميّة الخبر مع موضع نشره يدلّ دلالة قاطعة على اتحاد غير إرادة، متعددة الرؤى والمنابع، تتفق على هدف تدنيسيّ انتقاميّ واحد، بثوب طائفيّ سياسيّ مدروس التفاصيل.
خبر اجتماعيّ ممتع كهذا كان الأجدر فنيّا أن يوضع في ركن التسالي أو الطرائف الاجتماعيّة. ولو نـُظر اليه كمأساة كان الأجدر أن يوضع في حقل الدراسات أو الموضوعات الاجتماعية والتعازي، لا أن يتصدر الجريدة مدعوما بصورة من أرض المعركة. هنا يكمن الخلل والخبل المهنيّ الطائفيّ. لقد تقاسم الخبر طرفان، مختلفان في الوظيفة والأداء، متـّحدان في الإرادة والغرض. فريق كتبَ وكذبَ، وفريق نشرَ وكفرَ. فريق وهابيّ تكفيريّ متزمّت وحاقد، وآخر ينتمي الى عقل إرتزاقيّ، منتقم، متحلل خلقيّا ووطنيّا وعاطفيّا ومهنيّا.
إنّه الاتحاد المرعب ذاته، الذي يلتفّ على رقابنا في الحقب كافة.
هؤلاء هم بقايا جيش الوشاة، الذين قدّسوا القادسيات، والذين جرى تنظيفهم في حقبة العراق الأميركيّ الطائفيّ الحرّ، ثم تمّ تسويقهم عربيّا الى "الشرق الأوسط" وغيرها من وسائل الإعلام، ليعودوا مجددا الى ممارسة دورهم المعهود كجيش للوشاة، ولكن بيد الأجنبيّ هذه المرّة، وبيد عدو طائفيّ حاقد في هذه الحقبة الخطيرة.
على من نلقي اللوم ونحن نرى دورات العنف تتجدد، وحلقات موت الضمير تلتف حول أعناقنا جيلا بعد جيل، على يد حاكم فاسد وكاتب يدمن ثقافة الوشاية وبيع الضمير!
بعض المنجـّمين العطوفين تاهوا في رحلة البحث عن السبب الأوّل والسبب الثاني. لا أسباب منفصلة هنا. هنا يوجد سبب واحد، سبب لقيط، اسمه توظيف الخبرات الشرّيرة وبيعها لمشتر جديد.
وفي المقلب الآخر، مقلب السلطة وأعوانها، فجأة هبّ الإعلام الحكوميّ وتوابعه من نومه عقب صدور الخبر، كما لو أنّ القيامة قد قامت. لم يكن الدفاع عن الجنديّ المصاب بالذهول هو ما أثارهم، ولا ضربات داعش المذهلة، ولا السياسة الإعلاميّة المعادية، التي مارستها وسائل الإعلام السعوديّة ودبلوماسيتها ومرتزقتها ومأجوروها من عراقيين وعرب على مدى السنوات الماضية، من دون انقطاع أو توقف. لم يفزعهم ذلك، ولم يوقظهم من سباتهم، ويجرهم من خدرهم. لقد أفزعتهم فكرة التلقيح الجنسيّ للعراقيّات بحيامن إيرانيّة! لقد أفزعهم القصد الرمزيّ، استفزّهم البعد التخيّليّ، والصورة الفنيّة، ولم يفزعهم سخام وخراب الواقع، وسواد الوجوه.
ماذا يقول الحسين لو خيّرناه بين أمرين:
أن تذهب طائرات القوّة الجوّيّة العراقيّة في مجال الإسعاف والنقل والحماية للتحليق فوق قطعاتنا العسكرية في جبهة القتال، أو أن تذهب لحماية زائر بطر، لا يملّ عاما بعد عام، من تفريغ منغّصاته الشخصيّة وخيباته العاطفية في دروب الحسين؟
خمسة وأربعون ألف عسكريّ! لماذا يحرسون شعائريّا مصابا بهوس الزيارة ولا يحرسون ظهر القوّات المقاتلة والعوائل النازحة والمحاصرة؟
ارسلوهم الى الحويجة أو عانة وهيت ومحيط الأنبار لتحريرها، ولا تتركوا عدوا ينشط خلف ظهور المقاتلين، إن سُمح لكم!
ما الفرق بين معركة الطـّفّ ومعركة الموصل؟
بأيّة طريقة نعبّئ مجتمع المعركة ثقافيّا وروحيّا وميدانيّا؟
أمن طريق تعبئة مشاعر وأحاسيس النادبين والنادبات، أم من طريق تعبئة الروح الوطنيّة الجامعة؟
ماذا سيختار الحسين نفسه، لو قُدّر له أن يفاضل بين أن نمنح 170 مليون وجبة غذاء ( الأرقام طبقا لما نشرته صحافة النظام من أعداد) لزائر لا تنقصه الحاجة الى الطعام والأمان، أم نمنحها لطفل وشيخ في أرض النزوح في المناطق المحرّرة ومناطق القتال المشتعلة والمطوّقة؟
يا أبا عبدالله! مَن أولى بالعناية الطبيّة والصحيّة والماء والدواء والكساء، زائر يريد تفريغ مكبوباتته الدينيّة والعاطفيّة باسمك، أم مقاتلون ينزفون أرواحهم على أرض المعركة وعوائل عصفت بها نيران الحرب؟
يا أبا عبدالله! شيعتك وسنتك ينتهكون عرضك وكرامتك ويدنّسون دمك!
لنقلب المعادلة يا أبا عبدالله: ماذا يقول الشيعيّ الطيّب لو أنك سألته وأنت تقاتل وحيدا في معركة كربلاء: لمن تقدم الدواء والعناية والنصرة العسكريّة وحتّى المعنوّية، لي ولأهل بيتي المحاصرين بالموت، أم لنادب ولطـّام ، مهما كانت نيّاته ودوافعه؟
لمن؟
سيرد عليك خطيب "برلمانيّ" رقيع قائلاً: سل الجنديّ الجريح نفسه، ماذا تراه يؤثر؟
أعرف تماما أنك ستقول لنا من دون إبطاء: هذا الشهم، المضحّي، سيؤثر الزوار على نفسه، سيفديهم بروحه.
نعم أنا واثق جدّا أنك ستقول ذلك.
ولكن، هل تصل بنا النذالة حدّاً أننا نسرق من الجريح ومن مشروع الاستشهاد روحه وحياته وتعبه وإيثاره، لكي نثبت حمقنا وجهلنا وضلالنا وأنانيتنا؟
نحن لسنا في حاجة الى موتى جدد، ومعاقين جدد، وضحايا جدد، وسبايا جدد، لكي نثبت شهامتنا الطائفيّة الكاذبة على حساب الآخرين، وعلى حساب دمك.
هل نحن ضعيفو الإدراك الى هذا الحدّ المرعب، الذي نسأل فيه أسئلة لا يقبل بها حتّى الحمقى من البشر؟
لا أملك ثقة كافية تجيز لي افتراض خلاصة خطيرة ووقحة تجيب عن هذا السؤال البشع.
لكني أستطيع أن أقول بثقة، من خلال تجوالي الإرغاميّ في بقاع الأرض كلّها:
نحن شعب أميّ سياسيّا.
نحن شعب أميّ عاطفيّا.
نحن شعب أميّ وطنيّا.
نحن شعب "يضحك علينا" حتّى ملوك البعران.
###
يا أبا عبدالله!
الخبرات الشرّيرة ستظلّ تطاردك الى أبد الآبدين. الخبرات الشرّيرة لا تضمحلّ ولا تزول. الخبرات الشرّيرة مثل الأفاعي تغيّر جلدها كلـّما دعت الضرورة الى ذلك.