(بغداد الأزل بين الجد والهزل)
حسن قاسم محمد
الحوار المتمدن
-
العدد: 5287 - 2016 / 9 / 17 - 09:42
المحور:
الادب والفن
إعداد: قاسم محمد
أخراج: قاسم محمد
سنة العرض: 1974
اسم الفرقة: فرقة المسرح الفني الحديث
مكان العرض: بغداد- مسرح بغداد
مصادر العرض:
1- البخلاء للجاحظ.
2- الحيوان للجاحظ.
3- البيان والتبيين للجاحظ.
4- كتاب التربيع والتدوير للجاحظ.
5- كتاب فخر السودان على البيضان للجاحظ.
6- رسائل الجاحظ جمع وتحقيق عبد السلام محمد هارون.
7- الجاحظ حياته وادبه للدكتور طه الحاجري.
8- الجاحظ لشارل بلات ترجمة الدكتور ابراهيم الكيلاني.
9- المقامة الدينارية لبديع الزمان الهمداني.
10- المقامة الثالثة الدينارية للحريري.
11- العامة في بغداد لبدري محمد فهد.
12- اشعب امير الطفيليين لتوفيق الحكيم.
13- الشعراء الصعاليك في العصر العباسي الاول للدكتور حسين عطوان.
14- الظرفاء والشحاذون في بغداد وباريس للدكتور صلاح الدين المنجد.
15- مقطع من مسرحية (المنتظر) لعبدة بدوي.
16- المورد مجلة تراثية فصلية تصدرها وزارة الاعلام العراقية العددان 3-4-1972.
الممثلون :
1. سامي عبد الحميد بدور القاص والحيقطان.
2. خليل شوقي بدور البخيل.
3. يوسف العاني بدور اشعب.
4. مي شوقي بدور زوجة جابر والجارية رشا.
5. قاسم محمد بدور ابو الشمقمق.
6. فاروق فياض بدور العيار.
7. فاضل خليل بدور طفيل بن ذلال والراوي الاول.
8. صلاح القصب بدور بنان.
9. عقيل مهدي بدور التاجر البدين والحارس ورجل من العامة.
10. عبد الجبار عباس بدور الشحاذ العواء وطفيلي.
11. غانم بابان بدور احمد بن عبد الوهاب ومرافق المخطراني.
12. فاطمة الربيعي بدور الامة السوداء.
13. ناهدة الرماح بدور الراوي الثاني.
14. فوزية عارف بدور الراوي الثالث.
15. حسين اللامي بدور ابن جابر الكرخي.
16. جواد الاسدي بدور العيار ومرافق المخطراني.
17. وليد العبيدي بدور التاجر والشاعر المداح وقاريء الكف.
18. علي ياس بدور الحمال والشحاذ المزيدي.
19. عبد الكافي لازم بدور بائع الصابون والشحاذ المستعرض.
20. عدنان يوسف بدور الرجل والشحاذ المخطراني.
21. سلام دوحي بدور بائع الملابس.
22. فلاح جابر بدور المنادي والشحاذ الاسطيل.
23. قاسم علوان بدور بائع اليانصيب والشحاذ الكاغاني.
24. ممتاز سعيد بدور المنادي وبائع الفرارات.
25. ماهر ججان بدور بائع الطعام.
26. حسن حنيص بدور الحارث بن همام وشداد الحارثي ومرافق التاجرالبدين.
الحكاية:
تدور اغلب أحداث المسرحية حول (أشعب الطفيلي)، والطفيلي في اللغة "هو الداخل على القوم من غير ان يدعى، والكلمة مأخوذة من الطفل وهو إقبال الليل على النهار بظلمته، يريدون ان امر الطفيلي يظلم على القوم، فلا يدرون من دعاه ولا كيف دخل عليهم"( )، ومغامراته من اجل الحصول على لقمة العيش ولاسيما مغامراته مع (البخيل الكندي)، فضلاً عن شخصية (الشاعر الصعلوك) (أبو الشمقمق) و(العيّار) الذي كان يمارسه التجار.
مسرحية (بغداد الأزل) عبارة عن مشاهد منفصلة تروي شتى سبل الحياة، والصراع القائم فيها على مختلف أنواع الظواهر الاجتماعية في السوق البغدادي، لذا فلن يجد متلقي المسرحية حكاية تحوي على بداية ووسط ونهاية وحل، بل سيجد مواقف متنوعة كل موقف قائم بذاته كما هو اتجاه المسرح الملحمي.
اخذ (قاسم محمد) المعد شخوصاً عديدين من أوساط اجتماعية ذات امتدادات زمانية ومكانية متباينة وبعيدة عن بعضها، فلم يجتمع (الحيقطان) بـ(احمد بن عبد الوهاب) و(أبي الشمقمق) بـ(البخيل الكندي) من قبل ابداً جمعهم (محمد) ووضعهم في سياق واحد خارج عن الزمن الذي عاشه كل واحد منهم للضرورة المسرحية، ولإعطاء الظاهرة الاجتماعية تأثيرا أقوى وعمقاً اشمل.
جمع (محمد) اوجها وشخصيات عدة كانت تمتليء بها بغداد في نقل انتقائي للتراث مما جعله مادة ثورية ترادف معطيات الواقع (آنذاك)، وتعكس في شمولها العام وخصائصها النفسية والاقتصادية بعض جوهر ظاهرات المجتمع والعصر، فان القيمة التحريضية في النص التي تجسدت في مفاهيم (العيّار)، وأشعار (ابي الشمقمق) ومجابهة زوجة (جابر الكرخي) كانت سمة بارزة في الانتقاء، الى جانب توظيف الكوميديا في خدمة النقد الاجتماعي اللاذع البناء للواقع وسلبيات التقاليد.
ولان وضوح الرؤية الطبقية في فرز الشرائح الاجتماعية من المجتمع العباسي والمجتمع البغدادي القديم، وتوليف المشاهد والشخوص وطرحها داخل حلبة الصراع في مسرح السوق او السوق المسرح داخل بنية من التكوينات المسرحية، تشكلت عموماً، وبانت وهذا الرصف لا النمو الدرامي الموحد يخلق في النتيجة مسرح مواقف وإدانات عبر مناظرات تنطوي على اكثر من موضوع واكثر من شخصية، بل اكثر من قضية، وبهذا المعنى تصبح المسرحية اشبه بما يسمونه في السينما والتلفزيون بـ(عملية المونتاج) أي ربط صور مختلفة في سياق منطقي واحد كي تعطي تأثيراً محدداً لدى المتلقي.
ولعل هذا ما جعل الباحث يعتقد بان الصيغة الدرامية التي تجلت في التجربة اقرب ما يكون الى ما يعرف في المسرح الروسي بـ(الاوتشرك) الدرامية لموضوع او لقضية من القضايا عن طريق الشخصيات التي يتضمنها الموضوع، او تمسها هذه القضية، وعبر المواقف المختلفة التي تدخل فيها وبهذا المعنى تكون المسرحية (ريبورتاجاً) مسرحياً عن السوق البغدادي القديم بحكاياته وشخصياته وعلاقاته وأفكاره وانفعالاته وجوه النفسي ومناخه الاجتماعي القديم.
قدم (قاسم محمد) عبر هذا (الريبورتاج المسرحي) نوعاً من البانوراما المتحركة الحافلة بالعديد من الشخصيات الطريفة التي تحمل كل منها نكهة خاصة بها وسمات مميزة لها، فاحيا لنا عالم العيارين، والشحاذين، والشطار، والتجار، والطفيليين، والبخلاء، ولكن بمنظور تاريخي جديد وبمقترب فني تدرك فيه مدارس الإخراج، ويضفي عليها جميعا مسحة العصر وجو الحاضر فينقذ التراث من خطر الانحلال ويمزج حياة الناس من اكثر من الف عام بحياة الناس في حاضر ملموس معاش ويخلط لغة المقامة الدينارية بلغة عامة بغداد.
جمعُ النقيضين ليس من الامور السهلة وعلى الاخص في مجال اللغة المحكية على المسرح، فيروي (ابن المغازلي) الإحداث بالعربية الفصحى وهو صوت التراث وصوت التاريخ المجسد بجانب صوراً من سوق الهرج، او الأرصفة القريبة من مواقف باصات علاوي الحلة اذ يزدحم باعة صابون ابو الهيل مع ابو اليانصيب، الى جانب بائع الملابس المستعملة، وابو الفشافيش وابو الفرارات.
عمد (محمد) الى جعل الحوار المسرحي يسير وفق خطين اللغة العربية التراثية الفصحى المنقولة حرفياً، واللهجة الدارجة، ويبدو ان مزج هذين الخطين محاولة جادة لمزج عصرين اولا، ولجعل العمل المسرحي مقبولاً من قبل المتلقي ثانياً، أي انه يعمد الى تكسير نمطية حوار المقامة والنثر العباسي على الرغم من ظرافته بالحوار العامي، انها اشبه بعملية ايقاظ المتلقي من غفوته التاريخية في اعماق السوق العباسي.
العرض:
يبدا العرض في سوق بغدادي صمم له المنظر المسرحي الفنان (كاظم حيدر) بشكل معاصر، عبارة عن أقواس إسلامية وبغدادية قديمة منحت الخشبة تشكيلاً متصاعداً يعتمد البناء على حواشي المسرح معتمداً على مخارج وفراغات محكمة تساعد على حركة الممثلين على الرغم من حشدهم، وضع (حيدر) توازناً لديكوره مستوعباً عصر وزمن تراثية المسرحية، فمنح عبر الأقواس والشناشيل والمعمار الفني مناخاً لماضي بغداد، وحاضرها الشعبي، استعمل (قاسم) (المخرج) جميع اجزاء المنظر المسرحي في توزيع شخصياته.
يبدا المشهد الاول بهرج ومرج في السوق البغدادي وأعداد من المتسولين والباعة والمتطفلين بأزيائهم المختلفة التي تدل على مستواهم المعاشي ووضعهم الاجتماعي.
احدهم/ اصرف ما في الجيب يأتيك ما في الغيب
بائع اليانصيب يا نصيب يا نصيب
بعدها يتحدث (الراوي) (سامي عبد الحميد) عن بغداد قديماً، في حين يجلس بالقرب منه ثلاث شخصيات بازياء عصرية (فاضل خليل، ناهدة الرماح، فوزية عارف) في وسط صخب السوق يدخلون الرواة الثلاث يقدمون صيغة العرض وما سيحدث فيه بطريقة مباشرة، في حين يتوقف الممثلون عن الحركة، فيشيرون الى مظاهر التسلية التي كانت تعم بغداد والاشكال الاخرى الغريبة من المسرح، وان هذا العرض المسرحي لا يبحث عن قصة، ولا عن موضوع، ويتحدثون عن اشهر الرواة والقصاصين في بغداد كـ(ابن ذلال) و(ابن العطار) وراوي المسرحية (ابن المغازلي):
فاضل خليل/ في عرضنا المسرحي اليوم لا نبحث عن قصة
ناهدة الرماح/ ولا عن موضوع
فوزية عارف/ ولا عن بداية ووسط ونهاية
ناهدة الرماح/ لان كل شخصية راح تشوفوها قصة وكل موقف موضوع، وكل كلمة مسرحية جمهورنا الكريم سوق من اسواق بغداد الازل
فوزية عارف/ وقاص من القصاص يحكي لعامة بغداد عن الجد والهزل
ثلاثتهم/ مع القاص البغدادي المعروف ابن المغازلي
يتحدث الراوي عن وجه من وجوه بغداد يمثله العامة والفقراء المحشورون في الازقة المظلمة، في حين تدخل شخصية يبدو عليها الفقر والجوع فيعرفها الراوي:
الراوي/ انه مروان ابن محمد ابو الشمقمق الذي يعد من اعظم شعراء الفقراء في عصره وادقهم تسجيلاً لصور الجماعات الدنيا
يتحدث (ابو الشمقمق) (قاسم محمد) عن حاله وحال عياله، فيضع الفوارق بين الفقراء والتجار الذين لا يهمهم سوى تشييد قصورهم وبناء حدائقهم وجمع الاموال، مهما كان السبيل لها حتى وان كان على حساب الفقراء، واستغلال الطبقة المعدومة ومصادرة املاكها.
ومن ثم يدخل ثلاثة من خدم الامير يعلنون عن افتتاح حديقة سيدهم في بغداد، ويطلبون من الرعية تعليق الزينة في الاسواق وعلى البيوت، وان يلبس العامة اجمل الثياب ويتزينون بالحلي بمناسبة الانتهاء من انشاء الحديقة التي كلف انشاءها خمسة ملايين درهم، تتقدم (مي شوقي) لايقاف هذا الاعلان فتصرخ:
- لهف نفسي على قصور ببغداد وما قد حوته من المعاصي
وخمور هناك تشرب جهراً ورجال على المعاصي حراصي
تعرف بعدها بنفسها انها زوجة (جابر الكرخي) الرجل الذي قتلته فيلة الامير من اجل بناء الحديقة، في مشهد كان أفضل شاهد على دفاع المرأة العربية عن حقوقها وصعد فعلاً البناء الدرامي، وتفاعل معه الجمهور في القاعة.
هذا الأمر الذي مهد لسريان النار في الهشيم وقاد الى ظهور (العيّارين) الداعين للثورة، ثورة تعذر الظالمين ان يتقوا الله في الفقراء، فيتقدم (رائد العيّارين) (فاروق فياض) بوصفه رمزاً من رموز الثوار والمتمردين على هذه الأوضاع فيدعو الى التغيير.
العيّار/ احذروا صولة الكريم اذا جاع واللئيم اذا شبع
الأسلوب الأدائي الذي اتخذته (مي شوقي) و(قاسم محمد) و(فاروق فياض) ينم عن اداء جمع فيه الممثلون قوة التأثير بالتعبير الصوتي، مع قوة الأداء الواضح في إيصال الخطاب الجمعي، فضلا عن ما كان مخطط له من قبل المخرج حينما حاولوا إيجاد وشائج صلة بينهم وبين المتلقي عن طريق التحدث معهم بوصفهم جزء من العرض المسرحي، وسرى المفهوم على جميع الممثلين وعلى كل زمن العرض المسرحي، أصبح الجمهور مشاركاً بالحدث ومتأثراً به عن طريق ما يسمع من ردود أفعال.
ابرز ما افرزه السوق البغدادي نموذجين يدعوان الى التأمل كثيراً هما نموذج (اشعب الشره) ونموذج (البخيل الكندي) ويشير (الراوي) بعصاه تجاه بابه في جانب المسرح الأيمن وفوقه قطعة صغيرة مكتوب عليها (غرف للايجار للعائلات فقط) على انه باب بخيل من بخلاء الجاحظ، فيعرف الراوي به ويقدم له، فتتداخل القصص وتمر ثلاث مشاهد متتالية: الأول بين (البخيل) (خليل شوقي) و(ابو الشمقمق) هذا المشهد ينتج عنه طرد (ابو الشمقمق) من الدار بسبب عدم قدرته على دفع مبلغ ايجار احدى الغرف، والثاني مع (اشعب الطفيلي) (يوسف العاني) الذي يدخل فيصافح الراوي ويتحدث مع الجمهور بشكل مباشر، والثالث مع (اشعب) واحد المؤجرين.
استطاع (خليل شوقي) ان يجد لنفسه طبقة صوتية ناعمة تدل على التواضع الممزوج بالمكر والحيلة معا رافقها استخدام عدة انواع من الإيماءات والإشارات التي تؤكد فكر الشخصية وبخلها، فظهر متمكناً من دوره حينما حاول بصدق ان يقدم الشخصية دون تقمصها، عن طريق محاولات عدة منها تحدثه مع الراوي ومع نفسه وعرضه للموضوع بصيغة الغائب، اما (يوسف العاني) استعمل الحركة الخفيفة والسريعة (وان يكون أفاض بها في بعض الأحيان)، واستعمل طريقة الثبات في وضعية جسمانية متغيرة على الدوام، فاتسم أداءه بالإيقاع غير المنظم والمتغير على الدوام من دون ان يقدم للشخصية او يتقمصها.
في مشهد (البخيل) مع (الحمال) (علي ياس) وعلى الرغم من مروره سريعاً، الا ان (الراوي) الجالس على كريسه يشرب الاركيلة يتدخل اكثر من مرة في الحوار الدائر بينهما، يخرج الراوي فيبدا مشهد وجبة العشاء الذي دار بين (اشعب) و(البخيل) والذي اوضح براعة (العاني) التي تضارعها براعة (شوقي)، فوراء الضحك الذي يحملنا عليه تصرف (أشعب) نلمس شخصية (يوسف العاني) الجادة في معالجته شخصية (أشعب) فهذه الشخصية التي ظلمها التاريخ طويلاً، اذ قدمها مجمع نوادر ومخزن ظرف وتفكه (اشعب) نموذج بشري ساعد على ظهوره ما في المجتمع من جشع وتكالب وبخل وفساد وافراط وتفريط، وعلى الرغم من ضحك المتلقي من كلام الرجل الشره الاكول يسمع صوت الناقد اللاذع:
اشعب/ شوكت يصدرون قانون يشبع الجوعان
في هذا المشهد ابدى (العاني) مرونة جسدية عالية فكان حواره متطابقاً مع حركته، اما طريقة الاكل السريعة فقد دلت وبوضوح على جوع وحاجة، عكس طريقة (البخيل) البطيئة التي دلت هي الاخرى على البخل.
المشهد الذي جمع (طفيل بن ذلال) (فاضل خليل) مع (الراوي) ومجموعة من الطفيليين يبدا بانشاد المجموعة مع (الراوي) و(طفيل).
لذة التطفل دومي واقيمي لا تريمي
انتي تشفين غليلي وتجلين همومي
بعدها يعرف (الراوي) بـ(طفيل)
الراوي/ هذا طفيل ابن ذلال الذي نسب اليه الطفيليون كان اول من تطفل وابوه اول من ذل لذلك سمي طفيل بن ذلال
يقيم (طفيل) حلقة دراسة لاتباعه يعلمهم اصول الحرفة، على شكل درس الكتاتيب البغداديين القدامى ويقاطعه أتباعه ويسألونه (استاد ليش)، ادى
(فاضل خليل) الشخصية بطبقة صوتية مبحوحة وحركة اشبه بحركة الانسان القديم القريبة من حركة القرد، محني ظهره يرتدي ازياء عبارة عن صوف او فروة لحيوان، وكان يشير الى مصدر أحاديثه.
- راجع كتاب التطفيل صفحة 74.
يقدم (خليل) طريقة جديدة في الأداء تتراوح بين التقليد والتمثيل بصيغة الفرجة امام المجموعة، فينجح في تقديم صيغة من صيغ الأداء الذي يخل من فن التقمص وكسر الاندماج، ينتهي مشهد (طفيل) بنفس الأنشودة التي ابتدأ بها بعد ان ضبط إيقاعها (الراوي) بعصاه.
راوية اخر هو (الحارث بن همام) في مشهد مع (ابي الشمقمق) يتداخل معهم (الراوي) لاكثر من مرة ويوميء للمتحدث بعصاه فيعطيه اشارة البدء بالحوار:
- فرق الحارث بن همام لابي الشمقمق وقال له (يوميء اليه بعصاه)
- فتنهد ابو الشمقمق ثم انشد وقال (يشير اليه بعصاه)
يمكن القول هنا ان (محمد) استخدم اسلوباً جديداً مع اكثر الشخصيات فيتحول الممثل الى راوي ومن ثم يعود الى شخصيته وهي صيغة تقترب من تغريب الشخصية التي سعى لها بريخت وقد جرى هذا المفهوم كما يلاحظ على معظم الشخصيات.
تشترك مجموعة الطفيليين في هذا المشهد بعد اخراج (الحارث) للدينار، فيصف (ابو الشمقمق) (قاسم محمد) الدينار بحركة عريضة، وكثيراً ما يشير بهذه الحركة الى اعلى فالدينار بعيد وصعب المنال، بعد إسقاط (الحارث) للدينار على الأرض تتحرك المجموعة صوبهما وتتوقف عن الحركة مع حوار (ابي الشمقمق):
- هاي الدينارين مو ملك احد منكم ملكي اني
واني حر التصرف بيهه، اريدهه تبقه هنانه
على الارض مع التراب ومع الزبالة، اريدهه
تبقه هنانه تحت اقدامي (يدوسها بقدميه) شكد
تعذبت من وراكم شكد جعت من وراكم شكد انذليت.
المشهد التالي مشهد العشق بين (اشعب) والجارية الحسناء (رشا) (مي شوقي)، التي تقدم دوراً جديداً يختلف تماماً عن الدور الذي قامت به في بداية المسرحية، فاجادت المشهد بطريقة ادائية الغت ما قبله، فتحولت من المراة الساخطة المضطهدة الى جارية لعوب اذ تطلبت منها الشخصية الاولى تلك الحدة الكبيرة في الحركة والاداء، في حين كانت الشخصية الثانية ذات حركة مفتوحة واداء مرح، ظهرت (مي شوقي) بشخصية بغدادية قديمة وباسلوب بسيط، اما اسلوب (العاني) فينم عن قدرة وموهبة انطلاقا من رغبة في ان لا يتاثر المتلقي به وان يحرك عواطفه، وذلك ما يريده المسرح الملحمي، استعمل الممثلان حركات أدائية وايماءات متعددة بالايادي والوجه والوضعيات ما يجعل المتلقي يشعر بعمق الفكرة.
المشهد الاخير من هذا الفصل سوق صاخب باصوات الباعة يعلنون عن بضاعتهم وتوسلات الشحاذين:
- صدقة تدفع البلاء والقضاء
- المال مال الله والصخي حبيب الله
تتوقف المجموعة عن الحراك مع صرخة من عمق المسرح:
- يا قوم احذروا صولة الكريم اذا جاع واللئيم اذا شبع
يعرف الراوي بهذه الشخصية والمجموعة ساكنة من غير حركة:
- هذا عيار من عيارة بغداد اذا لم يكن السوق البغدادي القديم لا ولا الحياة البغدادية القديمة ملكاً للتجار والمخادعين والطفيليين والشحاذين، بل كان هناك قسم من الفقراء لم يرض بما كتب له من الشقاء فتمرد وثار وراح يدعو الى التغيير وهؤلاء هم العيارين الذين وجهو جهودهم لاستخلاص حقوق الفقراء من التجار الاثرياء الذين اثروا لكثرة ما استغلوا وتلاعبوا باقوات الفقراء.
فيدور حوار بين تاجر جشع من تجار بغداد و(العيار) ينتهي به الفصل الاول من المسرحية، حينما يضع (الراوي) (سامي عبد الحميد) قطعة من (الخوص المحاك) كتب عليها كلمة (استراحة).
يمكن القول ان الفصل الأول اتسم بعدة تفاصيل يمكن أجمال بعضها هنا لغرض الدراسة، منها:
1- استخدام منظر مسرحي واحد ليشمل كل بغداد بوصفه اشارة للتعميم على كل اسواقها،
2- ادخال عدة شخصيات في الفصل الاول لبيان حال اهالي بغداد وتنوع شخصياتهم وبالمقابل تنوع مشاكلهم الاقتصادية والسياسية والاجتماعية
3- سرعة اداء الفعل المقدم وتداخل بعض المشاهد مع بعضها دون وجود فاصل فالرابط الواضح هنا هو الرواة بكل اشكالها وتنوع الشخصيات فالاضاءة هنا لعبت عن طريق العزل دوراً في فصل المشهد الحالي عن المشهد اللاحق. وعدم استخدام الموسيقى كان احد الظواهر المهمة في هذا النتاج المسرحي.
يبدا الفصل الثاني بعودة الى السوق وما فيه من شحاذين وباعة ويبدو (اشعب) وكانه يبحث عن شيء فيسال (الراوي) فيؤمي له بعصاه تجاه شحاذ من الشحاذين (بنان) (صلاح القصب)، فيدور بينهما حوار حول حيلة لاستخلاص وجبة عشاء من (البخيل) عن طريق تاجير غرفة وهمية من غرف بيته، وهو مشهد تمهيدي لمشهد سياتي في ما بعد.
ينادي الراوي بدخول (التاجر البدين) (عقيل مهدي) يستقبله الشحاذين بأنشودة يكون قائدها (الراوي) مستعملاً عصاه كأنها عصا قائد الاوركسترا:
- المال مال الله والصخي حبيب الله ينطيكم يخليكم يعافيكم شيء خمسة شيء ستة شيء عشرة.
امتاز المشهد بتداخل اللغة العربية الفصحى باللغة العامية، واستطاع (عقيل مهدي) ان يستعمل القاءاً وخصوصية حينما تعمد ان (يلثغ) بحرف (الراء) ليبين سمة تميزه عن الشخصيات الاخرى، كما حاول وبطريقة خاصة في كسر الاندماج طعمها ببعض الحركات والوقفات الكوميدية واستخدم نوعاً من السخرية مع شخصيات المتسولين (البصق)، والذين كانوا يتقبلون منهُ كل ما يصدر تجاههم على امل الحصول على قليل من المال.
يستخرج (التاجر) درهماً، ويشترط على الشحاذين شرطا لكي يحصل احدهم عليه:
التاجر/ كلمن يتقن عمله بشكل جيد ياخذ الدرهم
الراوي/ وراح كل شحاذ يستعد لتقديم شخصية شحاذ اتقن تمثيلها وتقديم عرض في فن الشحاذة.
ثم يقدمهم (الراوي) ليؤدوا ادوارهم امام (التاجر)..الشحاذ المخطراني.. والشحاذ الكاغاني (المجنون)..ومن ثم يقدم الشحاذ العواء بغنائيه (طور بغدادي):
- العواء الذي يسال بين المغرب والعشاء، وربما طرب ان كان له صوت حسن وحلق شجي
الاسطيل...المزبدي..والمستعرض الذي يبالغ في استعطاف التاجر فيرد عليه التاجر:
- يكفي لا تندمج هكذا
ثم يطلب منه (الراوي) ان يخبر المشاهدين بالمصدر:
الشحاذ المستعرض/ المصدر المحاسن والمساويء للبيهقي صفحة 624 وما بعدها
فادى الشحاذون أدوارهم أمام (التاجر) في عرض مسرحي (المسرح داخل المسرح) في محاولة لكسر الايهام. يجلس (التاجر) مكان (الراوي) الذي يغادر الخشبة (كانت شخصية "الراوي" "سامي عبد الحميد" داخل المسرحية اساسية، فهو راوية الأحداث وشاهدها فضلاً عن دوره الاساس في احداث حالة التغريب في العرض لذا يرى الباحث ان انسحابه من المسرح للقيام بدور (الحيقطان) في مشهد قادم، كان له اثره الواضح على ترك فراغ ما لدى المتلقي، حدث ان انسحب قبل ذلك، ولكنه انسحاب يحمل مبرره (الدرامي) يخرج (التاجر) للمرة الثانية درهماً ويطلب ان يشاهد شحاذين يتشاتمان، فيورط في مباراة الشتائم والسباب هذه (اشعب) وصديقه (بنان)، فلم يترك احدهما على الاخر ستراً الاهتكه من اجل الحصول على الدرهم الذي سيعطى لمن يفوق صاحبه بالسباب:
بنان اشعب
- يا قراد القرود يا بوذا اليهودي يا فكهة الاسود يا عدماً في وجود
- يا كلباً في الهراش يا قرادا في الفراش يا قرعيه بماشي يا اقل من لا شيء
- يا دخان النفط يا صنان الابط يا هلال الهلك يا زوال الملك يا وحل الطريق يا ماء على الريق
- يا برد العجوز ويا كربة تموز ويا وسخ الكوز ويا درهما لا يحوز
- يا سمك البوسي يا كوكب النعوسي ويا وطيء الكابوس ويا تخمة الرؤوس
- يا دودة الكنيف يا فروة في مصيف ويا نحنح المضيف اذا كسر الرغيف المصدر يا مولانه المقامة الدينارية لبديع الزمان الهمداني صفحة 23
وفي نهاية المباراة يرفض التاجر اعطاء الدرهم لاحدهم بحجة ان هذه المباراة انتهت بالتعادل.
يغادر الجميع خشبة المسرح ويدخل (الراوي) (فاضل خليل) بملابسه المعاصرة، يذكر ما كتبه (الجاحظ) في كتابه (فخر السودان على البيضان)، فتدور محاوره بين (شدّاد الحارثي) (حسن حنيص) وهذه ثاني شخصية يقوم بادائها، و(الامة السوداء) التي ادتها (فاطمة الربيعي) ومن ثم يذكر اهم شخصيات السود الذين ذكرهم (الجاحظ) كـ(بلال الحبشي) و(لقمان الحكيم) والشاعر الحكيم (الحيقطان) (سامي عبد الحميد يجلس الحيقطان وحوله (امراة) و(الامة السوداء) و(العيار) ومن ثم (الراوي) بعد ان يلبس جلباباً ابيض فوق لباسه:
الحيقطان/ ثلاثة لا تعرفهم الا عند ثلاثة الحكيم عند الغضب، والشجاع عند الخوف، والاخ عند حاجته
يدخل (احمد بن عبد الوهاب) (احمد بابان) ممتعظاً من الحكيم بسبب لون بشرته تعرف به (الامة السوداء) فتاخذ دور الراوي:
- هذا احمد بن عبد الوهاب شخصية اخرى معروفة من شخصيات الجاحظ تجدونها في كتابه الشهير التربيع والتدوير
فيحدث سجالا بين (الحيقطان) و(احمد بن عبد الوهاب) يخرج على اثره الثاني مشهد (اشعب) و(بنان) الساعين للحصول على وجبة عشاء من (البخيل) واشباع بطونهم وشرب الخمر ومن ثم الهرب، بعد العشاء يسكر الثلاثة، فيتحول المشهد الى اغراق في الكوميديا، مما اثر على انساق علاقات الصراع في المسرحية، فلم يضف هذا المشهد عميقاً جديدا لمسار المسرحية، فالتغير الذي حدث في نفسية البخيل وتحوله الى الكرم عقب سكره لا يمكن ان يعتبر كشفاً لدخيلة النموذج، اذ عولجت هذه الشخصية في عدة مسرحيات، كما ان الاستغراق الطويل الذي استمر به المشهد وطبيعته الكوميدية المحضة عملا على سرقة احاسيس المتلقي وتوجيهها لفترة بعيدا عما خلقته المشاهد السابقة من استئنافات فكرية لديه، اللافت للنظر في هذا المشهد ان (اشعب) يطلب من (بنان) في حوارين منفصلين عدم الاندماج في اداء شخصية المستاجر:
- لا تندمج بالتمثيل الاندماج شيء مضر
- انته ممثل انته ممثل مو مستاجر
وهي محاولة في كسر المألوف وتصب حتماً في موضوعة التغريب.
المشهد الأخير من العرض حاول فيه (قاسم محمد) ان يدخل جميع ممثليه على خشبة المسرح موزعين على شكل نصف دائرة، يلقي عدد من ابطال المسرحية جملاً تتعلق بالفكرة الأساسية ومن ثم يتقدم (العيار) ليقدم بصيغة خطابية موقفاً ثورياً ضد قوى الظلم، لقد كان النص الشعري التحريضي الذي القاه (العيار) خطاباً سياسياً برشتياً واضحاً، وكان جواب المجاميع بترديد واحد:
- كلمات.. كلمات..كلمات
ادانة للكلام والبحث عن الفعل الثوري الذي ينتج بالضرورة عن المعاناة والتعسف والضغط الاجتماعي، والواقع المزري الذي كان يعيشه الطفيليين والشحاذين والصعاليك، والفقراء الذي عرضته المسرحية.
ومن ثم يتقدم (الراوي) (سامي عبد الحميد) يؤرخ زمان ومكان تقديم العرض، واهمية التراث في بناء الدراما.
لقد فرض (محمد) في هذا العرض خطاً داخلياً ينم عن روح الثورة او التغيير للتعاطف مع الضحايا ولكنه فرض من خلال شخصية (العيار) (فاروق فياض) الا ان نهاية المسرحية قد افرزت هذا التوجه بشيء من المباشرة كسرها (قاسم محمد) بـ(الراوي) (سامي عبد الحميد).
(قاسم محمد) معد ومخرج العرض المسرحي (بغداد الازل) وبسبب حبه الشديد لمادة التراث والبحث في المصادر التي اشار لها في دليل المسرحية، كانت اقتباساته تصل لدرجة النصية والتي غالبا ما تتجسد عند محققي وجامعي وشارحي التراث، وعلى الرغم من معاملته لاقتباساته بحب الا انه لم يعط شخصية (العيار) التي كانت مركزية وهامة في توضيح الخط الثوري للمسرحية وصراعاتها لم يعطها الخير الكافي فكانت فقيرة من الناحية الدرامية، اذ كانت (الرمز) لم تكن الحياة، لذا ظلت مهمة الممثل قائمة على قدرته الإلقائية والإيماءات التي تخلقها كلماته، صحيح ان (قاسم) (المعد) جعل الفتى (ابن جابر الكرخي) امتدادا ثورياً داخل المستقبل لنموذج الثوري عبر التنظيم والقاعدة الجماهيرية الموجودة في كل زمان ومكان حين جعله ينتمي الى جماعة العيارين، ويردد نفس اقوال العيار في نهاية المسرحية، لكن القطع حتى في نهاية العيار (هناك مشهد اعتقال العيار بعد تحريضه للجماهير في نهاية المسرحية كما هو مثبت في النص والذي الغي في العرض) يكون مخافه السقوط في افتعال المواقف والاحداث، وربما بسبب التخوف من اطالة وقت المسرحية مما يؤدي الى الضجر وتبخر عنصر الفكاهة الذي ارتكزت عليه المسرحية.
لقد كان بامكان (محمد) تطوير شخصية (العيار)، وجمع المعلومات عنه وعن سلوكياته، وبعض افعاله الثورية التي كان من الممكن توظيفها في محور درامي تتشكل بقية المشاهد والمناظرات لاغنائه، وتوفير القناعة بمناخ ذلك العصر عبر طموح العرض لان يقدم تداخلاً زمنياً مع عصر العرض واستشراقاً للمستقبل حتماً.
لان المخرج نفسه معد المسرحية فكان على فهم واضح لحدودها وابعادها، بدا هذا الاول وهلة في حسن توزيعه لادوارها، وفي قدرته لان يعطي كل شخصية من شخصياته (او بتعبير ادق) كل نمط من انماط خصاله المحددة خصوصا ان الفرقة التي قدمت العمل هي (فرقة المسرح الفني الحديث) التي كانت تمتلك كادراً متقدماً في القطاع المسرحي والفني، ولها جذورها الراسخة وجمهورا العريض وتقاليدها، ان روح الجماعة هي السيد في هذه الفرقة على خشبة المسرح.
كان مستوى التمثيل في (بغداد الازل) عالياً، فقد كان الممثلون جميعاً يتحركون بشكل حي ومدروس في الوقت ذاته، حتى الشحاذ الصامت الذي كان صمته وصمت جسده وحركته احتجاجاً حادا على الواقع.
اقترب الشكل المسرحي لمسرحية (بغداد الازل) من الملحمية كثيراً، فقد تعاملت مع المتلقي كجزء مهم بوصفه مشاركا في العرض حينما حاول اكثر الممثلين توجيه عباراتهم نحو الصالة، فضلاً عن استعمال الراوي، وتوظيف الحكاية، وتمثيل الممثل لأكثر من شخصية فيكون راويا للحدث وممثلا في ان واحد.
استعمل ممثل (قاسم محمد) في هذا العرض اسلوباً جديداً في كسر الايهام حينما كان يعطي المصدر المأخوذ منه كلامه او ما يصطلح تسميته في عالم البحث بالهامش اسم الكتاب ومؤلفه والصفحة.
اتسم الاداء بصورة عامة بالخفة والسرعة والحركة الواسعة وتغير الحالة وتحويل الشخصية من حال الى حال بقفزة او حركة كانت اجساد الممثلين تفصح عن لغة إيمائية يحدثها الممثل عن طريق حركة (الرجل-اليدين-الكتف-الوجه) لإظهار الروح الكوميدية للممثل، لاسيما وان الشخصيات كانت وسيلة للتعبير عن فعل اجتماعي معين، لذا كانت حركة الجسد للممثل حرة وواعية لهذا كان الاسترخاء الجسدي العضلي والعصبي واضحاً عن طريق افعال وحركات وتوزيع الممثلين في الفضاء المسرحي.
هوامش :
(1) ابن منظور: لسان العرب، مصدر سابق، ص 600.